السيد حسن إسلامي(*)
مقدّمة
لا يحظى التحقيق اليوم بالمكانة المناسبة التي تليق به في الحوزة العلمية، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت حتى الآن، ما زال بالإمكان التحدث عن هذا الخلل الموجود، واستـناداً إلى ما تمتلكه الحوزة العلمية من تاريخ عريق، والمؤلفات الكثيرة للروّاد والعلماء الأخيار أيضاً، إلاّ أنه لا يمكن تغطية هذا النقص الحاصل كذلك. وأحياناً يشير بعض الأجلاء إلى هذا الضعف، وأحياناً أخرى يصرحون به ويقدّمون حلولاً ومقترحات لذلك، إلاّ أنّ مرور الأيام يكشف عن عدم جدوى هذه الحلول، وبعض هذه الحلول تجيز إقامة دورات حول أساليب التحقيق أو مناهج التأليف، وقسم آخر منها تقترح إقامة بعض المهرجانات، من قبيل: اختيار الكتاب المرشح للحوزة العلمية، وتكريم الباحثين. وعلى الرغم من كل ذلك ما زلنا نشهد التراجع المتزايد لثقافة البحث والتحقيق في الحوزة العلمية.
وقد تطرق مدير الحوزة العلمية المحترم في مدينة قم المقدسة السيد حسيني بوشهري في مراسم بداية العالم الدراسي للحوزة العلمية 1380 هـ ش (2001م) إلى هذا الموضوع، وأكد على واجبات الحوزات العلمية، وما يحتاجه المجتمع ويطالب به، قائلاً: «نحن نعيش في عصرٍ نتحمّل فيه عبئاً ثقيلاً، وينبغي علينا أن نجد آلياتٍ جديدة، سواء في ميدان التعليم أو ميدان الأبحاث، وكذا في المجال الإعلامي؛ لكي نلبّي طموحات المجتمع ومتطلباته، مع الاحتفاظ بالموروث أكثر والعطاءات الكبيرة السابقة، ولذا تقع على عاتق المسؤولين والمتصدين في الحوزة العلمية الدينية مسؤولية جسيمة وعظيمة. وهم مطالبون بذلك من قبل الجميع، فهناك من يقول بأنّ المناهج الموجودة في الحوزة العلمية لا تفي بالغرض، ويقول آخر: يجب علينا أن نقوم بعمل جاد في مجال البحث والتحقيق، وغير ذلك من الأقوال، وخلاصة القول: إنّ المطلوب كثيرٌ، سواء من الطلبة الشباب أو من المجتمع الذي يمثل الجمهور الذي تخاطبه الحوزة العلمية اليوم»([1]).
وبعد ذلك يرى سماحته ضرورة تحقق أربعة عناصر، لغرض تلبية متطلبات المجتمع والإجابة عن تساؤلاته، وهذه العناصر الأربعة عبارة عمّا يلي: جدّيّة الطلبة، خبرة الأساتذة، الدعم المستمر والحثيث للمراجع، وسماحة القائد، وأخيراً التخطيط ووضع البرامج من قبل المسؤولين ورؤساء الحوزة العلمية([2]). إذ يؤكد بوشهري في ما يتعلق بالعنصر الثالث قائلاً: «ولحسن الحظ فإنّ هذا الدعم ما زال موجوداً ومستمراً حتى الآن»([3]).
ومن ناحية أخرى فإنّ الطلاب أيضاً هم من ضمن المطالبين والمنادين، ويؤيدون من الناحية العملية كل جهدٍ وعملٍ يصب في توسيع وتعميق ثقافة البحث والتحقيق، ولذا لم يبقَ سوى عنصر واحد، وهو عملية التخطيط من قبل المسؤولين، حيث تمّ في هذا الإطار أيضاً استحداث مركز إدارة الحوزة العلمية الذي يواصل عمله من خلال امتلاكه للإمكانيات والصلاحيات القانونية اللازمة، ولكن على الرغم من توفّر هذه العناصر الأربعة، إلاّ أنّنا ما زلنا نشهد التراجع في ميدان البحث والتحقيق.
ومن الممكن الادّعاء أن هذه العناصر لم تتهيّأ بشكلها الكامل والمثالي، ولو كان الأمر على ما يرام لأصبح من المؤمل تجاوز هذه المشكلة، وفي هذه الحالة يجب أن نشهد ازدهار وتطور ثقافة البحث والتحقيق بنفس تلك النسبة التي توفرت فيها هذه العناصر. وهذا ما لم يحصل. ومن هنا يبدو أنه من الأفضل أن نقيّم هذه المسألة بشكل أدق ونتدارسها بشكل أعمق؛ لأنّ العناصر التي سبق أن طُرحت لا تمثل في الحقيقة سبب هذا الضعف، ويجب أن نذهب إلى البحث عن السبب أو الأسباب في مكان آخر.
ولكن في ظل هذه الأجواء، وعلى الرغم من الكثير من المشاكل المتعددة، لا نستطيع أن ننكر هذه الحقيقة، وهي أننا ما زلنا نشهد تقديم الأبحاث القيّمة في الحوزة العلمية، وما زال المحققون يضحّون بكل ما يملكون ـ حسب تعبير ويليام فاكنر ـ وينضحون عرقاً خدمةً منهم للثقافة الدينية لهذه الأرض المعطاء، ويضيفون تراثاً ثرّاً غنياً لتراث المحبين لآل محمد‘، ولابد أن نقول كما قال الشاعر:
من ضمَّ قولاً على قول قلّل قطرةً من دم قلبه
وبناءً على ذلك من الأفضل الاستمرار بهذا البحث، من خلال تحديد أهداف هذه المقالة.
القائمون على البحث العلمي في المعاهد الدينية
ويمكن تقسيم الأبحاث في الحوزة العلمية، من حيث القائمون بها، الى أربعة أقسام:
1ـ الأفراد المستقلون.
2ـ مراكز الأبحاث.
3ـ مؤسسات التعليم العالي.
4ـ النظام التعليمي للحوزة العلمية.
1ـ الأفراد المستقلون
في ما يتعلق بالنوع الأول ليس لنا من قول سوى الاعتزاز بأولئك الذين وقفوا شبابهم وحياتهم من أجل نشر المعارف والعلوم الدينية، ورحلوا عن هذه الدنيا بكل تفانٍ وإخلاص. وهؤلاء الأشخاص كانوا موجودين دائماً وما زالوا، ولا يمكن حصرهم بالماضين فقط، ولكن الذي يدعو للأسف أنّ الحُجب حالت بيننا وبين معاصرة هؤلاء الأشخاص، ولم يعد بالإمكان معرفتهم إلاّ نادراً، أو عن طريق الصدفة، وأغلبهم لا تعرف مكانتهم ومنزلتهم إلاّ بعد الموت. ومن الضروري أن نركّز على ملاحظة مهمة بشأن هؤلاء الأشخاص، وهي روح التقصّي والبحث لديهم. والظاهر أن خصلة العصامية والنشأة التلقائية تبدو ظاهرة للعيان أيضاً حتى في أهمّ مفصل من مفاصل الحوزة العلمية، أي التدريس، ويعبّر الشيخ مكارم الشيرازي، بصفته رئيس الهيئة العليا لشورى الحوزة العلمية، عن هذا الأمر، بقوله: «نحن لا نملك في الوقت الراهن شيئاً باسم إعداد المدرسين للحوزات العلمية، ويجب على المدرسين من أصحاب الخبرة والتجربة العمل على نقل خبراتهم إلى المدرسين الجدد»([4]).
ويؤشر الشيخ أستادي أيضاً على هذه الحقيقة بهذه الصورة: «حقيقة الأمر أنّ أساتذتـنا كانوا كلهم مندفعين ومتحمّسين بشكل تلقائي»([5]).
ويؤكد الشيخ مصباح اليزدي أيضاً على هذه المشكلة قائلاً: «عندما يكون منهجنا التعليمي غير مشجع، فإنّ خريجينا إمّا أنهم لا يصلون، أو أنّ القليل منهم يصل إلى تلك الأهداف التي يجب أن يصلوا إليها، فما بالك بأن تقوم بإعداد أفرادٍ يكون بمقدروهم ممارسة التدريس؟ ومعنى ذلك أنّ هذا الهدف أسمى… ولم يكن لدينا بالأساس أي برنامج لإعداد هؤلاء، وإعداد الأساتذة كان أمراً ذاتياً»([6]).
وعندما يكون وضع التدريس بهذا الشكل يمكن أن نقتـنع وبكل بساطة بأنّ الباحثين قد تمّ إعدادهم وتأهيلهم بشكل ذاتي وتلقائي، فقد قام هؤلاء وبدافع الحميّة الدينية بتعليم أنفسهم، وخوض هذا المعترك الصعب بدون الاعتماد على غيرهم، واهتدوا إلى هذه الديار بجدّهم واجتهادهم، ويمكن القول بأنّ هذه المقطوعة الشعرية هي خير من يصف حالهم:
لم يرشدني طيرٌ إلى هذه الديار
أنا الذي تحرّرت
من هذه التربة
كإحدى الشقائق النامية
دون تدخل الفلاح
من رطوبة النهر([7]).
وبناءً على ذلك ليس لأحدٍ فضلٌ ولا منّة على هؤلاء، بل إنّ الآخرين مدينون لهم، ولا نتحدث هنا عن هذا النوع من التحقيق، ولن نتطرق إليه.
2ـ مراكز الأبحاث
كما يتم أحياناً إنجاز بعض الدراسات والأبحاث في الحوزة العلمية، وتقدّم أنّ المشرف عليها هو مراكز الدراسات والأبحاث، ويوجد اليوم حوالي مئتي مركزٍ للأبحاث في مدينة قم المقدسة، والتي تواصل أعمالها في مخلتف المجالات، كالتصحيح، ونقد النصوص، وترجمة النصوص المهمة، وغيرها من الخدمات التحقيقية والدراسات الأساسية والمتقدمة، ويعمل في هذه المراكز نخبة من المحققين المهنيين من ذوي الخبرة، على شكل نصف دوام أو دوام كامل، ويبذلون ما في وسعهم على طريق نشر المعارف الدينية، وهم مشكورون على سعيهم هذا. ولن نتطرق إلى هذا النوع من الأبحاث أيضاً، ولا شأن لنا به.
3ـ مؤسسات التعليم العالي
ظهرت بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران مجموعة من مؤسسات التعليم العالي في مدينة قم المقدسة، بشكل تدريجي، بجهود نخبةٍ عن رجال الدين من ذوي الحصافة وبُعد النظر، والتي تواصل أعمالها الآن بشكل أكاديمي، والدروس التي تُعطيها للطلاب الجامعيين أو الجامعيين ـ الحوزويين تحظى بموافقة وإقرار نظام التعليم العالي في البلاد. ويدرس في هذه المؤسسات في الغالب الطلبة الذين تلقّوا دروساً في الحوزة الدينية، ثم يواصلون دراستهم الجامعية في هذه المؤسسات، ويخضعون لجيمع ضوابطها الدراسية، بما في ذلك تقديم المقالات التحقيقية والرسائل الجامعية. وعلى هذا فإنّ هذه المؤسسات تساهم من الناحية العملية في تطوير عملية البحث والتحقيق في الحوزة العلمية، ويقدّم خريجوها رسائل جامعية قيّمة إلى الأوساط العلمية في البلاد. وليس لنا في هذه المقالة شأن بهذا النوع من التحقيق أيضاً.
4ـ النظام التعليمي للحوزة العلمية
أمّا النوع الرابع من أنواع التحقيق، وهو التحقيق النابع بشكل مباشر من النظام التعليمي للحوزة العلمية، ولكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الحوزة العلمية تلعب دوراً مهماً وبأشكال متعددة في أنواع الأبحاث الواردة آنفاً، وكمثال على ذلك: نجد أنّ الباحثين المستقلين أو الذين يعملون في مراكز الأبحاث هم من طلاب العلوم الدينية، ونالوا قسطاً من علوم الحوزة العلمية، أو أنّ المسؤولين في المراكز العلمية التحقيقية والتعليمية هم في الأغلب من العلماء والفضلاء، إنّ طلبة مراكز التعليم العالي غالباً ما يدرسون في الحوزة العلمية دروس العلوم الدينية إلى جانب الدروس الجامعية، ويواصلون أحياناً دراستهم على هذا المنوال في الحوزة العلمية، ولذلك ليس بمقدورنا أن نغض الطرف عن هذا النوع من التعاطي العلمي.
وليس هناك أدنى شك في ما قلناه. ولكن الحديث هنا هو أنه لو افترضنا أنّ مراكز الأبحاث هذه والمؤسسات التعليمية لم تكن موجودة، ولم يتصدَّ أحد من تلقاء نفسه بشكل متحمّس لخوض غمار البحث والتحقيق، فإلى أي حدٍّ كان بإمكان النظام التعليمي للحوزة العلمية المساهمة في تطوير عملية البحث والتحقيق في هذه الحالة؟ وهل كان بإمكانه أساساً رعاية ثقافة التحقيق في الحوزة العلمية أم لا؟ وبتعبير آخر: هل باستطاعة النظام التعليمي للحوزة العلمية أن ينسب لنفسه كل ما يصدر عن الحوزة العلمية تحت عنوان البحث والتحقيق ـ على افتراض صحة المنهج والنتيجة والإتقان العلمي ـ، وأن يعتبر ذلك نتيجة لنظامه التعليمي، أم أنّ مثل هذا الادعاء يعدّ أمراً غير مقبول؟
ولو أننا تأملنا قليلاً في هذا الأمر فسوف نتلقى إجابةً غير مرضية، فالحديث لا يدور حول ضعف ثقافة البحث والتحقيق في النظام التعليمي للحوزة العلمية. بل إنّ القضية التي تواجهنا هي أنّ منهج البحث والتحقيق لا يوجد له موقعٌ في هذا النظام، وخلال ندوةٍ أُقيمت لمناقشة معوقات التحقيق في الحوزة العلمية، وشارك فيها عددٌ من المحققين والفضلاء، تحدث الشيخ أميني، الذي يتصدى شخصياً لمسؤولية أحد مراكز الأبحاث عن هذا الموضوع، قائلاً: «إذا لم تكن لقضية الأبحاث مكانة واضحة في مؤسسة الحوزة العلمية، مع الأخذ بنظر الاعتبار ذلك الهدف الذي ينعكس عليه تأثيره، يمكن القول بأنّ مشكلتـنا الأساسية ستكمن هنا، فالنظام التعليمي في الحوزة يسير على هذا النحو، حيث يحضر طلبتـنا لمدة عشر سنوات تقريباً في دروس السطوح. والعلامة الفارقة في مرحلة السطوح تتمثل في وجوب إكمالهم لبعض الدروس، وأن يدرسوا مضامين هذه الدروس مع بعض الأساتذة، وبعد ذلك ينتقلون إلى مرحلة البحث الخارج، حيث إنّ الغرض من هذه المرحلة أيضاً هو القيام بإجراء أبحاث أكثر تعمقاً ـ ليس بشكل مكتوبٍ ـ على هامش النشاط العلمي للأستاذ، بحيث لو قمنا بإجراء تقييم نسبي لهذه الفترة أيضاً لوجدنا أنّ فترةً بحدود عشر إلى خمس عشرة سنة يمضيها طلبتـنا في النظام التعليمي للحوزة خلال مرحلة البحث الخارج. إذا كنا نعني بمفهوم البحث ذلك الشيء المكتوب، أو البحث المتعلق بهدف معين يُراد له أن يُعرض خارج نطاق الحوزة العلمية، فالمعلوم أنه لم نشهد بحثاً بهذا المعنى في بنية الحوزة العلمية، ولكن قضية التعميق والتطبيق والأبحاث ضمن نطاق الأبحاث التي يطرحها الأستاذ في البحث الخارج يعد من الأمور الرائجة والمتداولة في الحوزة العلمية منذ القِدَم، وانطلاقاً من هذا الأمر يبدو أنّ هذه القضية جديرة بالدراسة، وفي كل الأحوال فإنّ أرضية الأبحاث والدراسات غير واضحة للعيان في النظام التعليمي للحوزة العلمية، وبالشكل الذي يكون فيه مندكّاً في القسم التعليمي للحوزة العلمية، بمعنى أنّ الطالب من بداية دخوله إلى ما نعبر عنه بمرحلة البحث الخارج وإلى الانتهاء من هذه المرحلة لا يجد أمامه مسؤولية القيام بالأبحاث…، وإذا حصل أحياناً بعض التشوق لديهم لهذا الأمر فإنّ ذلك ينطق من دوافعهم الشخصية بشكل كامل تماماً»([8]).
وبناءً على ذلك فإنّ مقولة البحث والتحقيق غير واضحة في نظام الحوزة العلمية، وكل ما نراه في نطاق الأبحاث نابع من الجهود الفردية للباحثين، وينطلق من غيرتهم الدينية وإحساسهم بالمسؤولية، بمعنى أنّه بالإمكان أن نفترض أنّ الشخص الذي يدخل الحوزة العلمية لمواصلة دراسته، ويطوي جميع المراحل الدراسية بالتوفيق والنجاح، قد لا يؤدي أي عملٍ تحقيقي مكتوب ـ حتى لو كانت مقالة بحدود خمس صفحات ـ، ولا يكون الطالب قد انتهك بذلك قاعدةٍ معينة، ولا الحوزة العلمية تكون قد تخلّفت عن أداء واجبها.
ولا يمثل هذا الافتراض مجرّد افتراض خيالي، بل من الناحية العملية هناك الكثير من الذين ينتسبون إلى هذا النظام، وواصلوا مسيرتهم على هذا المنوال. إنّ النظام التعليمي للحوزة العلمية مبنيٌّ في الأساس على المنهج الشفهي، وليس لثقافة الكتابة من مكانةٍ مناسبة فيه، ولا نقصد هنا الدعوة إلى مناقشة ودراسة النظام التعليمي للحوزة العلمية، ولكن لكي يصبح هذا الادعاء أكثر وضوحاً نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نشير إشارة عابرة إلى الموضوع.
إنّ الشخص الذي ينخرط في نظام الحوزة العلمية يجب عليه أن يدرس بعض المناهج والعلوم، ومنها: الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان، وبشكل رئيسي الفقه والأصول، ويتم تلقّي هذه الدروس بعقد حلقات دراسية، ويجب على الطالب أن يدرس نصوصاً محددة بشكل جيد، وأن يبيّن مستواه العلمي في الامتحانات التي تجرى بشكل تحريري أو شفهي. ولغرض تحقيق النجاح في هذه الامتحانات يكفي أن يتمتع الشخص بقابلية متوسطة؛ لكي يحفظ ما يقرأه في ذهنه، ويتمكن من استعادته لاحقاً. وتدرّس هذه الدروس على مرحلتين، أي مرحلة السطوح والخارج، أو على ثلاث مراحل، أي المقدمات والسطوح والبحث الخارج. وفي مرحلة السطوح تتم دراسة بعض الكتب الخاصة، وبعد أن يكتسب الطالب الاستعداد اللازم ينتقل إلى مرحلة البحث الخارج، وفي هذه المرحلة يُعيد الطالب دراسة ما تعلّمه في المرحلة السابقة بشكل أعمق وأكثر تفصيلاً، ويكتسب القدرة على الاستـنباط والاجتهاد بشكل تدريجي.
وفي جميع هذه المراحل فإنّ عبء التعليم وصعوبة العمل يقع على عاتق الأستاذ، وهو الذي يجب عليه القيام بتوضيح المطلوب توضيحه، وأن يدافع عن صحة المواضيع، وإذا كان لديه في مكان ما رأي خاص به فعليه القيام بتوضيحه والدفاع عن نظريته، والطالب مجرد مستمع في جميع المراحل، ولكن بإمكانه ـ بطبيعة الحال ـ أن تكون له مداخلات حادّة في هذه المراحل، وأن يقوم بمناقشة أستاذه، وأن يطعن أيضاً في استدلال أستاذه ويقدح فيه بكل جدّية ـ كما هو الحال بالنسبة للبعض منهم، ولهم مشاركة فعّالة في الدروس ـ، ولكن يبقى هذا العمل اختيارياً، وليس إلزامياً على كلّ شخص من حيث المنهج التعليمي، كما يقوم الأساتذة ـ ومن باب الإرشاد والتوجيه ـ بدعوة الطلبة إلى المشاركة العلمية، وبذل الجهد والاهتمام الأكثر بالجانب العلمي، ولا يوجد أي إلزام للطلبة للقيام بهذا الأمر، سوى التزام الطلبة أنفسهم.
وخلاصة القول: لم يؤخذ بنظر الاعتبار شيء باسم الأبحاث الجامعية أو الرسالة العلمية في النظام التعليمي للحوزة العلمية، على الرغم من جميع محاسنه.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنه تمّ خلال السنوات القليلة الماضية ـ وبجهود مركز إدارة الحوزة العلمية ـ البدء بكتابة الرسائل الجامعية، ولكن هذه النقطة هي خارج نطاق هذه المقالة؛ ذلك أنّ هذا النوع من الأبحاث هو من سنخ الأبحاث الموجودة في مراكز التعليم العالي، وغير نابع من النظام التعليمي للحوزة العلمية، ونقصد بذلك أنه لم تلاحظ ضرورة وأهمية مثل هذه الأبحاث في النظام التعليمي للحوزة العلمية، وبإمكان الفرد أن يجتاز جميع المراحل الدراسية، بكل بساطة، بدون تقديم أي نشاط يتعلق بالبحث والتحقيق. والإلزام الموجود بكتابة الرسالة الجامعية يختص أيضاً بأولئك الراغبين بالحصول على وثيقة (شهادة) رسمية من الإدارة المركزية للحوزة العلمية، ولأي سبب كان، بمعنى أن أحد الطلبة إذا أراد وثيقة مصدّقة ومعترف بها من قبل التعليم العالي في البلاد فسيكون ملزماً بتقديم رسالة جامعية تتـناسب ونوع الشهادة الراغب بالحصول عليها، وطبقاً للمواصفات والمقاييس الموضوعة من قبل الإدارة المركزية، وأمّا الطالب الذي لا يريد الحصول على هذه الوثائق، والاستفادة من امتيازاتها، ويكتفي بما يؤديه من امتحانات في المواد التي درسها، فلا يحتاج إلى كتابة رسالة جامعية، وبإمكانه الحصول على شهادة بالدروس التي امتحن فيها بنجاح من الإدارة المركزية. أجل، إنّ الحديث بشأن هذه الوثائق والرسائل الجامعية هو خارج نطاق هذه المقالة، ولكن على أية حال فإنّ هذه الحركة ـ وإن كانت جيدة ـ ولكن يبدو أنها بعيدة عن المنهج المألوف للتعليم في الحوزة العلمية.
والظاهر أنه لا مفرّ من هذا الحديث، وإن كان يبدو مرّاً؛ لأن قول الحق وإن كان مرّاً، إلاّ أن عاقبته ستكون أحلى من الشهد، وكلام إمام المتقين بهذا الصدد ما زال يبدو طريّاً؛ إذ قال×: «إنّ الحق ثقيلٌ مريٌّ، وإنّ الباطل خفيف وبيٌّ»([9]).
إنّ الخطوة الأولى في معالجة المرض تتمثل في القبول بمبدأ وجود المرض؛ لأنّ الذي يُنكر أساساً وجود المرض لن يخطو أية خطوة للتخلص منه، وإذا قام بإجراء معين بتوجيه وطلبٍ من الآخرين فإنّ إجراءه سيأتي في إطار إسكات الآخرين، وبحدود التظاهر بهذا الأمر.
توجيهات القائد الخامنئي في مضمار التطوير الحوزوي
وقد قال قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي خلال سفرة إلى مدينة قم المقدسة عام 1374هـ ش (1995م)، في حديث مفصل لكبار رجال الحوزة العلمية، والذي أشار فيه إلى المشاكل الأساسية للحوزة العلمية: إنّ الخطوة الأولى على طريق المعالجة تتمثل في القبول بهذه الوقائع والحقائق، وأكد قائلاً: «إنّ كل ما يبدو على أنه علاج لهذه الحالات نطرحه بشكل متسلسل:
أولاً: تقبل المرض، إذ لا ينبغي أن ينبري من يقول ما معنى هذا الطرح؟ ويقول: إنّ الشيخ الأنصاري والميرزا النائيني والآخوند والإمام وغيرهم من العظماء قد تربّوا في نفس هذه الحوزة العلمية، وإنك تتحدث بلغة جديدة! فإذا لم نعترف بوجود الخلل فإنّ العلاج سوف لن يكون ناجعاً»([10]).
وكاتب هذه الأسطر يعترف بالفرضية المذكورة أعلاه، وهي أنّ النظام التعليمي للحوزة العلمية الحالية لا يخرّج الباحثين من حيث الأساس، ولا يرى من قيمة ومكانة للبحث والتحقيق، ولذلك فهو لا يبذل جهداً لإثبات هذا الادعّاء أكثر مما هو حاصل فعلياً، ويرى أنّ هذا المقدار يكفي، ويواصل النقاش من خلال اعترافه بهذه الفرضية، بينما لو أنكر الشخص هذه المشكلة من حيث الأساس، وقال: إنّ مئات المحققين قد برزوا من نفس هذا النظام التعليمي، أو قال بعدم مسؤولية الحوزة العلمية عن التحقيق، وادّعى أنّ مسؤولية الحوزة العلمية تقتصر على التدريس أو التبليغ، وليس التحقيق، أو يلقي بمسؤولية ذلك على عاتق جملةٍ من العوامل الخارجة عن نطاق النظام التعليمي للحوزة العلمية، فلا شأن لنا به في هذه المقالة، ويجب أن نقوم بإثبات هذا الأمر له في مكان آخر.
وبعد أن قبلنا بهذا الافتراض فلنرَ ما هو السبيل لمعالجته؟ لقد حاول الكثيرون من خلال اعترافهم بأساس المشكلة أن يجدوا سبيلاً لمعالجتها ويقدموا الحلول المطلوبة، إنّ افتتاح مراكز الأبحاث المرتبطة بالإدارة المركزية للحوزة العلمية، وإضافة الاختصاصات العلمية ـ من قبيل: علوم الكلام، والتفسير ـ، وتدريس بعض الدروس في مجال أصول التأليف ومنهج التحقيق، وإقامة ندوات النقد والتحليل، وضم بعض الدروس العامة في دروس الطلاب، وإقامة احتفالات اختيار كتاب الحوزة العلمية، وتقديم التسهيلات الخاصة للباحثين، وأمثال ذلك، هي من جملة هذه الحلول التي قدّمت حتى الآن. إنّ تقسيم فاعلية وجدوى هذه الحلول هو خارج نطاق مسؤولية هذه المقالة، وقد تحدث الآخرون حول هذا الموضوع، ولذلك لا داعي للتطرق إليه ثانية.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من كل التمهيدات المأخوذة بالحسبان فإنّ هذه العقدة المستعصية ما زالت دون حل، وما زلنا نراوح في مكاننا في مجال التحقيق، ولا يعني هذا الكلام نفي الأعمال والإنجازات المتحققة، أو التـنكّر لها، ولكن المراد بهذا القول أنّ الأعمال المتحققة في مجال التحقيق ما زالت وليدة جهود المحققين المثابرين أو مراكز الأبحاث، وما زال النظام التعليمي للحوزة العلمية غير مندك مع ثقافة البحث والتحقيق. ويجب أن لا ننسى أنّ تقييم المحققين الذين كانوا مغرمين بالبحث والتحقيق ومتـناسين معيشتهم، وشهرة أسمائهم، أمرٌ منفصل عن تقييم النظام التعليمي للحوزة العلمية. فاليوم يُشار إلى اسم العلامة الطباطبائي بكل فخر واعتزاز، ولكن الأمر لم يكن كذلك دائماً، فإنّ هذا الرجل بدلاً من أن يسير في المسار الواضح والمحدد للاجتهاد، والاستفادة من قدراته العقلية في هذا الدرب المكتظ بالسالكين، واتّباعه الشعار المحبوب القائل: «سر على الدرب الذي سلكه السائرون»، نرى أنه قد اختار مساراً آخر، ومن الناحية العملية ضحّى بنفسه على مذبح المعايير الشائعة للمنهج التعليمي للحوزة العلمية، فكان بإمكانه أن يصبح فقيهاً من الطراز الأول، ومرجعاً كثير المقلدين، فاختار طريقاً آخر، واتّجه نحو البحث والتحقيق في الإرث الشيعي اللامع، وأخرج مؤلفات قيّمة، ولكنه دفع ثمن ذلك أيضاً، فلم يتم تقدير هذا الجهاد العلمي لهذا الرجل في حياته، بل إنه امتد إلى حد الاتهام بالأمّية.
وضمن إشارته إلى أنّ بعض العلوم الإسلامية ما زالت لم تأخذ موقعها الطبيعي في الحوزة العلمية، قال الشيخ مكارم الشيرازي بهذا الصدد: «لا يمكن أن أنسى أنّ العلامة الطباطبائي& كان يقول بكل ألم: إني قد بدأت في الحوزة العلمية بتأليف تفسيرٍ لو بدأ به أي شخص لألصقوا به تهمة الأمية؟»([11]).
ولكنه يعرب عن تفاؤله بأننا قد تجاوزنا هذه المرحلة. ولكن يجب النظر إليه بحدود تفاؤلٍ حسن منه إلى بيان حقيقة معينة.
إن تقسيم العلوم في الحوزة العلمية إلى «العلم» و«الفضل»، وعدم الاعتداد بالفضل، هو الجواب الشافي على ما نقوله. وكذا الحال بالنسبة للتحقيق الذي ينظر إليه كنوع من الفضل في أحسن حالاته، وإنّ عدم وجوده لا يلحق ضرراً بأي شيء. ويدعو أحد المحققين في إحدى الإصدارات الصادرة عن الحوزة العلمية بعد إشارته إلى مقولة التحقيق في الحوزة العلمية ومعضلاتها، يدعو إلى اغتـنام الفرصة الذهبية التي توفرت بعد انتصار الثورة الإسلامية، ويتـنساءل قائلاً: هل تمت الاستفادة من تلك الفرصة؟ ثم يجيب بنفسه: «كلنا يُذعن بأنّ جواب هذا التساؤل سلبي، وأنّ البحث والتحقيق في الحوزة العلمية يواجه مشاكل جدّية»([12]).
وعلى أية حال فإنّ هذه التساؤلات والحلول المطروحة تكشف عن نقصٍ لم يعد بالإمكان التعتيم عليه، ولا يمكن تجاوزه أيضاً بسهولة من خلال أحاديث إجمالية.
وعلى الرغم مما تـنطوي عليه هذه الحلول من قيمة ومكانة، إلا أنها على ما يبدو تعاني من نقصٍ أساسي، ولذلك فإنها لم تُجِد نفعاً مرضياً إلى الآن. إنّ القبول بمبدأ وجود المرض يمثِّل الخطوة الأولى والوحيدة على هذا الطريق دون غيرها، ولا يكفي أن نُقدِمَ على معالجة المرض بمجرد رؤيته. فإنّ الخطوة الثانية ـ بعد القبول بوجود المرض ـ تتمثل بمعرفة السبب أو الأسباب المؤدية لذلك المرض. وبعد معرفة السبب في هذا النقص فإنّ الوصفة العلاجية المناسبة يمكن أن تكتب من قبل الحوزة العلمية فقط. وإنّ عدم الاهتمام بهذه النقطة يؤدي إلى أن تُكتب وصفات علاجية قصيرة الأجل، والتي يمكن اعتبارها بحكم المسكّنات والمهدئات، وبدلاً من أن تصبح السبب الحقيقي وراء بروز التحقيق وانطلاقه وازدهاره، فإنها ستُحدث زوبعةً مؤقتة سرعان ما تتلاشى وتـنتهي، ولذلك قبل تقديم هذه الحلول التجريبية، واستخدام منطق الاختبار والخطأ، يجب أن نرى السبب أو الأسباب التي آلت بالتحقيق في الحوزة العلمية إلى هذا المصير، آنذاك سيصبح بالإمكان اقتراح الحل المناسب للتخلص من هذا الوضع.
وانطلاقاً من الملاحظة الواردة أعلاه. فإنّ الهدف من هذه المقالة اتّضح هو الآخر أيضاً. ولسنا هنا بصدد إيجاد حلٍّ معين لمشكلة التحقيق. ويعتقد كاتب هذه السطور بأنّ الحلول المطروحة يمكن أن يكون لكل منها جدوى معينة، ولكن بشرط أن تتمّ معرفة أسباب هذا الوضع القائم، وحينذاك تتضافر الجهود لإزالتها، ومن ثم يُصار إلى الأخذ بهذه الحلول وتطبيقها.
أسباب ضمور ثقافة البحث في الحوزات العلمية
وأعتقد بأنّ الأسباب الأربعة أدناه تمثل الأسباب الرئيسة لعدم ازدهار ثقافة البحث والتحقيق في الحوزة العلمية وإصابتها بالركود:
أـ مركزية الفقه.
ب ـ مركزية النص.
ج ـ مركزية الماضي.
دـ فقدان ثقافة إثارة الأسئلة.
وبالإمكان أيضاً إضافة أسباب أخرى للأسباب الواردة أعلاه، ولكن يبدو أنّه بالإمكان صياغة نموذج معين وفقاً لهذه الأسباب، يكون بإمكانه توضيح قضية التحقيق بشكل مؤثر، كما يمكن أيضاً إرجاع بعض هذه الأسباب لبعضها الآخر، ولكن هناك تحفظ على هذا الأسلوب. ولذلك سنتطرق إلى شرح هذه الأسباب. وسنكتفي هنا حصرياً بما قاله كبار رجال الحوزة العلمية في هذا الباب.
أ ـ مركزية الفقه
الكلمة الأولى والأخيرة اليوم في النظام التعليمي للحوزة العلمية اليوم هي «للفقه». وإنّ الهدف من دراسة أية حصة علمية هو الحصول على الفقه بشكل أفضل، وإذا كان الطالب يدرس في البداية مادتي الصرف والنحو فلكي يتمكن من فهم النصوص الفقهية، وإذا كان يدرس الدراية، والرجال، والعلوم التي من هذا القبيل، فإنما بهدف فهم الفقه بشكل أفضل، كما أنّ الفلسفة الوجودية للحوزة العلمية إنما يتم تبيينها على أساس الفقه، وإنّ العلم الوحيد الذي يستحق أن يفني الطالب جُلّ عمره في طلبه ودراسته هو الفقه لا غير. وإذا اختار الشخص طريقاً آخر يكون بذلك قد أهدر قدراته ومؤهلاته الشخصية، وأنفق سنين عمره في أمرٍ غير مشروع، والآن لنرَ ما هو الفقه؟
الفقه يعني الفهم والاستيعاب، ولكن الفقه كمصطلح له معنىً آخر وتعريف آخر. ومن هذه الزاوية فإنّ الفقه هو عبارة عن «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية»([13]). وبعبارة أخرى: يعني العلم بالأحكام الشرعية العملية المأخوذة عن الأدلة التفصيلية.
ولا يعني الفقه القيام بتبيين أصول الدين أو المعارف الإسلامية، وهذا العمل يجب أن يُنجز في مكان آخر، وبعد الإقرار بهذه الأصول يأتي دور الفقيه؛ لكي يحدد للمسلمين المتوفرة فيهم شروط التكليف ما يريده منهم الشارع المقدس.
وأما بالنسبة للفقه فلا يمكن نيله والحصول عليه بشكل مجرّد، ومن يريد السير في هذا الاتجاه، ويصل إلى نيل أحكام الشريعة، فهو بحاجة إلى علم مهمٍ آخر، وهو علم «الأصول»، بالإضافة إلى اضطلاعه باللغة العربية ـ التي تعتبر مفتاح فهم النصوص الدينية ـ والعلوم الأخرى ذات الصلة ـ والتي ينظر فيها الفقهاء بشكل منفصل ـ. والأغلب عرّفوا علم الأصول بهذا التعريف: «العلم بالقواعد الممهِّدة لاستـنباط الأحكام الشرعية»([14]).
والحقيقة أنّ علم الأصول هو علم المنهج الفقهي وكيفية استـنباط الأحكام، وعن طريق علم الأصول يتعلم الفقيه كيفية فهمه للتقارير، وكيف يرجع إلى الأحاديث؟ وكيف يتخلص من الاختلافات المحتملة بين الأحاديث أو الآيات والروايات؟ ويستخرج منها حكماً منسجماً. وفي حالة عدم وجود دليل خاص في مكانٍ ما كيف يتجه صوب الأصول العامة أو الأصول العملية، ويستـنبط عن هذا الطريق حكم الشارع المقدس؟ ومسائل أخرى من هذا القبيل.
والحقيقة أنه يمكن القول بأنّ الأصول هي منطق الاجتهاد. ولذلك فإنّ الذي يسعى إلى نيل الاجتهاد لا مفرّ له بأي شكل من الأشكال من تعلّم الأصول، ولابدّ له من ذلك. وبناءً على ذلك لابد من تعلّم الأصول وبشكل جيد أيضاً، ولكن الفرق بين الاثنين يكمن في أنّ الأصول لا يمتلك أية استقلالية بنفسه، ومن جهة أخرى فهو ذو مكانة سامية؛ لجهة كونه وسيلة للفقه. ولذلك لو افترضنا أن يتمكن الشخص من استـنباط أحكام الشارع المقدس بدون الحاجة إلى الأصول ـ وفرض المحال ليس بالمحال ـ فلن يحتاج أبداً لتلك الأصول، ولكن المؤسف أنّ الأمر ليس كذلك من الناحية العملية، ولابدّ من تعلم الأصول إلى جانب الفقه، والوصول إلى الاجتهاد من خلال هذا المسار، وإنّ السبب في هذا الاهتمام المتزايد بعلم الأصول يكمن في هذه النقطة، ولذلك يُشار دائماً إلى هذين العلمين بشكل متقارن، ويتم التأكيد عليهما بشكل متساوٍ.
وإذا تجاوزنا هذين العلمين فإنّ أي علم آخر من بقية العلوم الإسلامية لا يمتلك شأناً عالياً ومكانة سامية في الحوزة العلمية حالياً، وإنّ هدف الحوزة العلمية والحوزويين إنما يتبلور على أساس هذين العلمين فقط، وخلال المراسم التي أقيمت بمناسبة يوم الثالث عشر من شهر آبان عام 1374هـ ش([15])، في دار الشفاء، قدّم الشيخ مكارم الشيرازي، رئيس الهيئة العليا لشورى الحوزة العلمية، في كلمةٍ له تقريراً عن الأعمال المنجزة من قبل شورى إدارة الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة. وقد تحدث سماحته بشأن البرامج الجاري تطبيقها، مؤكداً على إكمال التخصصات العملية، قائلاً: «يجب علينا أن ننظر للفقه والأصول نظرةً مستقلة بذاتها؛ لأنّ أساس الحوزة العلمية مشيدٌ على الفقه والأصول، ولهذا بعد إيجاد الاختصاصات العلمية في الفقه والأصول يجب على ذوي القابلية والمؤهلات من الأفراد قراءة المزيد من الكتب وبدقةٍ أكبر»([16]).
وبهذه الرؤية أقرَّت الهيئة العليا لشورى الحوزة العلمية المشروع التكميلي «للفقه والأصول». فقد جاء في البند الأول لهذا المشروع: «على الرغم من أنّ أساس الحوزات العلمية الدينية تم تشييده بالدرجة الأولى على الفقه والأصول، إلاّ أنّ الهدف من هذا المشروع هو أن تتصدى مجموعة معينة للعمل بصورة أكثر جدّيةً ونشاطاً وتـنظيماً في هذين العلمين الشريفين، اللذين يمثلان أساس جميع الأحكام الدينية؛ لكي يبلغوا مرتبة الاجتهاد، ويصبحوا كنوزاً ثمنية للحوزات العلمية والمجتمع الإسلامي»([17]).
وبناءً على ذلك فإنّ الهدف من الدراسة في الحوزة العلمية هو دراسة الفقه والأصول، وأخيراً الحصول على الفقاهة.
ويجيب الشيخ محفوظي في معرض ردّه عن سؤال: «ما هو الهدف من الدراسة الحوزوية؟» بقوله: «من الممكن لأي شخص في الحوزة العلمية أن تكون له أهداف معينة، والهدف الأساسي هو أن يتعرف على المسائل العقائدية والفروع الفقهية، ويكون بإمكانه استـنباط المسائل والفروع، ويصبح فقيهاً»([18]).
ويجيب الشيخ پاياني عن نفس هذا السؤال، مستـنداً إلى الآية المعروفة بقوله: «برأيي إنّ الهدف من الدراسة الحوزوية الدينية قد حددها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122). أتصور أنّ الهدف والغرض من الدراسة في الحوزة العلمية هو التفقه في الدين، سواءٌ في الأصول أو الفروع. تمّ تأليف مجموعة من الكتب في الفروع، من قبيل: شرح اللمعة والشرائع والمكاسب للتعريف بالأحكام الدينية، فالذين يتمتعون بمؤهلات أفضل، ويدرسون بشكل جيد، ينالون مرتبة الاجتهاد، والذين لم يطالعوا أو يدرسوا بجديّة لا ينالون الاجتهاد، وخلاصة القول: إنّ الهدف من الدروس في الحوزة العلمية هو التفقه في الدين».
إنّ عبارة التفقه في الدين مأخوذة من الآية الشريفة، التي استـند إليها الشيخ پاياني. وبناءً على ذلك فإنّ هدف الحوزة نابعٌ من هذا الأمر. ولنرَ الآن ما هو مفاد هذه الآية الشريفة؟
تحدد هذه الآية، المعروفة بين المفسرين بآية «النَفْر»، موقف الإسلام إزاء التربية والتعليم، وأجازت إنشاء مراكز التعليم الديني، وكلمة «نَفْر» تعني السفر أو الحركة لغرض الجهاد، ووردت هذه الآية في سياق الآيات التي نزلت في الجهاد، إنّ الله سبحانه وتعالى، وبعد بيانه لجملة من الأمور حول الجهاد، وتكاليف المؤمنين في هذا الباب، يطالب الجميع بالتحرك نحو الجهاد، ويقول جلّ وعلا بأن لا يتوجه الجميع إلى الجهاد، فلولا تتوجه من كل فرقة مجموعة من الأشخاص إلى رسول الله‘ لكي يتفقهوا في الدين؛ لكي ينذروا قومهم بعد عودتهم إليهم.
إنّ الله سبحانه وتعالى يدعو في هذه الآية الكريمة مجموعة من المؤمنين إلى الجهاد المسلّح، ومجموعة أخرى إلى الجهاد العلمي، وبهذا الشكل يكون جلّ وعلا قد مهّد الأرضية اللازمة لنشر الفهم العميق للدين، وبناءً على ذلك فإنّ المراد بعبارة «التفقّه في الدين» هو الفهم العميق لجميع المفاهيم والتعاليم الدينية، وليس دراسة جانب خاص من الدين، والذي يطلق عليه الفقه.
ويؤكد العلامة الطباطبائي بعد تفسيره للآية بهذا الشكل على جانب الفهم العام والتفقه الوارد في هذه الآية بقوله: «المراد بالتفقه تفهّم جميع المعارف الدينية، من الأصول والفروع، وليس خصوص الأحكام العملية، والذي يعني الفقه الاصطلاحي لدى المتشرعة، والدليل على هذا الادعاء قول الله تعالى: {لينذروا قومهم}؛ لأنّ هذا الأمر إنما يتم عن طريق الفهم والتفهم في جميع أقسام الدين، وهذا الأمر واضح بيّن»([19]).
وعليه فالمقصود من التفقّه في الدين ليس الفقه الاصطلاحي، بل هو أوسع من ذلك، ويشمل جميع جوانب الدين الأخرى.
ويقول الشيخ مكارم الشيرازي بشأن نشر الدين: «إنّ الدين حسب عقيدتـنا أشبه بالشجرة، يمتلك ثلاثة أشياء: 1ـ الجذور؛ 2ـ الأغصان؛ 3ـ الثمر.
وجذور الدين هي المعارف الإسلامية، ويجب على الحوزة العلمية أن تولي المعارف الدينية أهمية استثنائية»([20]).
ويوضح الشيخ مصباح اليزدي هذه النقطة بشكل مفصّل، فيقول: «يشمل الدين مواضيع مختلفة، كالعقائد والأحكام العملية ـ بما للفروع من سعة ـ والمسائل الأخلاقية والروحية والمسائل التاريخية وسيرة الأئمة^ وغيرها. وضرورة هذه الرؤية تكمن في أنه يجب أن تكون لدينا أهداف معينة، من قبيل: إعداد الفقيه، وإعداد المفسّر، والفيلسوف، وغيرهم»([21]).
وعلى الرغم من أنه بالإمكان استـنباط نفس هذا المفهوم الواسع من مقولة الشيخ پاياني، إلاّ أنّه عندما يتحدث شخصياً عن الاجتهاد والفقه فإنه ينظر إليه بذلك المعنى الاصطلاحي المحدود، ولذلك فإنه ينصح أولئك الذين تخلّفوا عن مسار الاجتهاد ـ بمعناه المتداول اليوم ـ بقوله: «أود أن أقول: حتى أولئك الذين يئسوا من حصولهم على الاجتهاد، ويريدون أن يصبحوا مفسّرين أو مبلّغين، ينبغي أن يكون لديهم قدرٌ من الإلمام بالأدب والفقه والأصول؛ لكي يفهموا الكتب الأخرى جيداً، ويفهموا تفسير الآية جيداً، وأن يفهموا الأخبار التي تفسر الآيات جيداً»([22]).
ولكن هناك بعض المعارضين لهذه النظرة الضيقة للدين، وإرجاع جميع أبعاده إلى الفقه، ومنهم على سبيل المثال: السيد كاظم الحائري، الذي يقول بهذا الشأن: «إنّ الاعتماد الأكثر في الحوزة العلمية هو على الفقه والأصول ومقدمات هذين العلمين (كالصرف والنحو وغير ذلك). ولا نقول طبعاً بعدم وجوب الاهتمام بهذه العلوم، بل نقول بالاهتمام أيضاً بالكلام والفلسفة والتفسير والتاريخ التحليلي للإسلام وسيرة الأئمة… وغيرها، إلى جانب الاهتمام بالفقه والأصول»([23]).
النتائج السلبية للمبالغة في مركزية الفقه
ولكن ما زالت الرؤية القائلة بمركزية الفقه هي السائدة من الناحية العملية، ولذلك فإنّ بروزها في كل مكان واضحٌ بيّن، وتعبّر عن سيادتها المطلقة بلا منازع. إنّ هذا النوع من الاهتمام بالفقه، وإعطائه هذه المكانة، أدّى إلى بروز بعض المسائل تدريجياً، ويمكن الإشارة إلى بعضٍ منها كما هو مبيَّن أدناه:
1ـ الإعراض عن العلوم الأخرى.
2ـ عدم التواصل مع العلوم الأخرى.
3ـ الابتعاد عن الحقيقة.
4ـ التوقف والركود.
1ـ الإعراض عن سائر العلوم الدينية
عندما ننظر إلى الدين من خلال الفقه بمعناه الاصطلاحي والمضيّق يتحدد لدينا مصير بقية العلوم الدينية، وإذا نظرنا من خلال هذا المنظار الضيّق للأحاديث الكثيرة التي وردت بشأن فضيلة العلم والتعلم وعلماء الدين، فسوف لن نجد عندها من يسمح لنفسه من طلبة العلوم الدينية بالتخلّي عن فقه آل محمد والتوجه نحو العلوم الأخرى ـ التي تعتبر في نهاية المطاف مجرد نوع من الفضل، وليس العلم ـ إلا ما ندر، ووفقاً لهذه الرؤية سيصبح علماء الدين وورثة الأئمة المعصومين^ فقط هم الفقهاء، وليس أحداً آخر غيرهم؛ لأنهم هم الذين اكتسبوا العلم الحقيقي والواقعي، ولذلك سيصبح بإمكان أيّ فقيهٍ أن يبدي رأيه في أية مسألةٍ، حتى إذا كانت خارج نطاق اختصاصه، أمّا الذين لم يدرسوا الفقه والأصول، فضلاً عن أنهم لا يملكون الحق في إبداء رأيهم بشأن المسائل الأخرى، فإنهم لا يستطيعون الاعتماد أيضاً حتى على ما يمتلكونه من معارف في نطاق اختصاصهم؛ لجهة كونهم مهدَّدين بخطر الانحراف.
ويقول الشيخ معرفت بهذا الصدد: «أعتقد أنه لو اشتغل الشخص بعلم الفلسفة عشرين أو ثلاثين سنة، وبلغ أسمى المراتب في الفلسفة والكلام أيضاً، إذا لم يكن من ذوي الرأي في الفقه، فإنّ أخطاءه في الفلسفة والكلام ستكون كثيرة»([24]).
ولا يحدق هذا الخطر بالفلاسفة والمتكلمين فقط، بل إنه يشمل جميع العلوم، خلا الفقه والأصول، والسبيل إلى حلّ هذه المشكلة يكمن أيضاً في طريقتين: إمّا عدم الإقدام على دراسة العلوم الدينية الأخرى على الإطلاق، أو إذا أراد أحد الأشخاص أن تدخل معرفة جديدة إلى الحوزات الأخرى فيجب عليه أن يصبح فقيهاً أولاً، وأن يصبح صاحب رأي في هذا الاختصاص الجديد، وهذا هو الحال الذي يقدّمه الشيخ معرفت. ومن الممكن حسب رأيه أن يصبح الشخص فقيهاً وصاحب رأي في اختصاص آخر في نفس الوقت، وهذا الأمر ـ وعلى خلاف ما يعتقد البعض ـ ممكنٌ، بل ضروري أيضاً: «لو أمضى الشخص خمس ـ ست سنوات في دراسة السطوح بشكل جيد، وثلاث ـ أربع سنوات أيضاً في مرحلة البحث الخارج بشكل جيد أيضاً، يصل إلى هذه المرحلة. وفي نفس الوقت يدرس علم الكلام أو الأدب أو التفسير أيضاً بشكل متخصص، ويجب أن يضم الاجتهاد أيضاً إلى ذلك، بمعنى أن يمتلك في إحدى يديه شهادة الاجتهاد، وفي اليد الأخرى شهادة الإجازة في إحدى الاختصاصات العلمية»([25]).
وبناءً على ذلك فإنّ المعبر لأي اختصاص هو الفقه، والمعيار في قبول أيّة نظرية سيكون الفقه أيضاً.
وفي معرض إجابته على ظاهرة الاتجاه نحو الاختصاصات العلمية حالياً يشير الشيخ خرازي إلى هذه النقطة بهذه الصورة: «أود أن أشير بشكل إجمالي إلى أنّ العلوم الحوزوية الدينية ترتبط بالكتاب والسنّة من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الفهم الصحيح للكتاب والسنّة أيضاً غير ممكن بدون الاجتهاد، ولذا من اللازم على الجميع مواصلة الدراسة لحين بلوغ مرحلة الاجتهاد، وبامكانهم آنذاك التوجه نحو الميول الاختصاصية»([26]).
وردّاً على قولهم بأنّ هذا الأمر غير ممكن التحقق، فإن الشيخ معرفت اعتبر ذلك ممكناً، وأشار الى نموذجٍ كالشهيد المطهري، بأنه كان فقيهاً ومتخصصاً في مجال آخر أيضاً.
وفي ردّه على هذا القول «بأنه كان من النوادر» أجاب قائلاً:
«كلا لم يكن من النوادر، بل إنه لم يهدر أوقاته…، ولذلك إذا لم نهدر أوقاتـنا ـ أنا وأنتم ـ سنصبح مثله»([27]).
ويقول الشيخ السبحاني بهذا الصدد: «إنّ الرغبة في التخصص في غير الفقه والأصول يجب أن تبدأ قبل إتمام مرحلة السطوح، وبمجرّد أن يتعرف الشخص على كليات المسائل الإسلامية والفقه، ويتعلّم الأصول بشكل مختصر أيضاً، يجب عليه أن يدرس مقدمات رغبته التخصصية، ولا توجد أية ضرورة لمثل هؤلاء الأشخاص لقراءة الكتب الفقهية والأصولية المعقّدة. فالشخص الذي يريد مثلاً أن يصبح متكلماً يجب عليه أن يطّلع على الفلسفة والمنطق والمواضيع الكلامية القديمة والجديدة والمدارس والأفكار الفلسفية والعقائدية في العالم، ويواصل مسيرته بما يوافق العصر؛ إذ لا يمكن دراسة المكاسب والكفاية من جهة، وأن يصبح الشخص صاحب رأي في الكلام والعلوم الأخرى أيضاً. ولذلك يجب فصل المسارات منذ البداية»([28]).
وفي كل الأحوال فإنّ التخصص في العلوم الأخرى إنما يصبح أمراً ذا قيمة بعدما يحصل الشخص على شهادة التخصص في الفقه.
وفي ما يتعلق بارتباط العلوم الحوزوية الدينية بعضها بالبعض الآخر، والتي أشار إليها الشيخ خرازي، هناك ملاحظة جديرة بالذكر، وهي أنّ هذا الارتباط هو من جانب واحد، وليس من كلا الطرفين، بمعنى أنّ السيطرة على بقية العلوم بحاجة إلى الفقاهة، أمّا الفقه فلا حاجة له بالعلوم الأخرى، ولذا من الأفضل أن نفكر في الاستفادة من عبارة أخرى غير تعبير «الارتباط». كما أنّ الشيخ الحائري، الذي يعد من المدافعين عن توسيع دائرة العلوم الدينية الأخرى والاهتمام بها، على هذا الرأي أيضاً، إذ يقول: «يجب أن يدرس الفقه والأصول بشكل مشترك لغاية مرحلة السطوح؛ لأنّ الفقه والأصول يعطياننا رؤية تفسيرية، ورؤية كلامية، وأخلاقية، وغيرها أيضاً»([29]).
ويجب أن لا ننسى أنّ البعض من أصحاب الرأي يخالفون هذه الرؤية، ولهم رأي آخر في هذا الموضوع. وكمثال على ذلك: فإنّ الشيخ مصباح اليزدي يقول بأنه يجب أن يظهر في الحوزة العلمية مجموعة متعددة من المتخصصين، وليس من الضروري أن يكون الجميع فقهاء وأصوليين، وحسب رأيه يمكن التخطيط لإيجاد ثلاث مراحل في الحوزة العلمية، ثم يجري خلال ذلك توجيه الأفراد إلى الاختصاصات المختلفة، طبقاً لما يتمتعون به من قابليات ورغبات. وبعد إتمام المرحلة الأولى يتم في المرحلة المتوسطة: «التفريق بين الطلبة كلٌّ حسب اتجاهه؛ إذ إنّ دروس التبليغ والتاريخ وغيرها تختلف بعضها عن البعض، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يكون الفقيه متخصصاً في الفلسفة و…»([30]).
ومن هنا فإنه يتابع تطبيق هذه السياسة في المؤسسة التعليمية التي يتصدى لمسؤوليتها، ولكن ذلك يعود إلى مكانته بصفته فيلسوفاً، بمعنى أنّ الممارسة في العلوم العقلية أدّت به إلى أن تكون لديه نظرة أوسع وأشمل للعلوم الدينية، ويطبق ذلك في عمله، في حين أنّ السياسة العامة للحوزة الدينية شيءٌ آخر.
ومن إحدى نتائج هذا التوجه التوسع غير الموزون للحلقات الدراسية للفقه والأصول قياساً بالعلوم الدينية الأخرى.
وقد كتب الشيخ عابدي في انتقادٍ له على النظام التعليمي للحوزة العلمية قائلاً: «مما يؤسف له أنّ النظام التعليمي للحوزة العلمية يولي أهميةً أكبر للفقه والأصول، ويوجز القيمة والأهمية فيهما، وأظهرت إحدى الإحصائيات البسيطة أنّ حوالي سبعين في المئة من دروس الحوزة العلمية تختص فقط بالفقه والأصول، وعشرة في المئة بالأدب، وحوالي عشرين في المئة بالتفسير وعلوم القرآن والمنطق والفلسفة والكلام والتاريخ والرجال والدراية والاقتصاد والحقوق والأخلاق والعلوم التربوية وغيرها، فهل هذه عملية متَّزنة؟»([31]).
وهذا يعني من الناحية العملية أنّ تطور الفقه والأصول جاء على حساب العلوم الإسلامية الأخرى.
وبمرور الأيام وصل التركيز على الفقه والأصول حداً لم تعد تدرس أية مادة أخرى سوى هاتين المادتين إلى المستويات الأعلى بشكل رسمي، ولا نريد بذلك أن نُنكر وجود الحلقات الدراسية العميقة للفلسفة أو العرفان وغيرها من هذا القبيل، ومما لا شك فيه أنّ هذه الحقات الدراسية موجودة، ولكنها لا تعد قسماً من النظام الرسمي للحوزة العلمية، وبناءً على ما جاء في كلام الشيخ معرفت: «إنّه نظامنا الذي يسير فقط للحصول على الفقاهة، وإذا أراد الطالب أن يعمل بهذا النظام فقط فإنه سيصبح فقيهاً لا غير، ولا شيء غير هذا الأمر. أما أن يصبح الطالب أديباً أو مفسراً أو عالماً بالتاريخ فإنّ هذه الأمور ليست ضمن منهجنا التعليمي. ولكن هل يتوجب على جميع طلبة العلوم الدينية أن يصبحوا فقهاء بارزين؟ وهل بإمكانهم ذلك؟»([32]).
وليست المواد العلمية الأخرى وحدها التي لا تلاحظ بشكل رسمي في هذا النظام، بل حتى عندما تقام بعض الدروس كدروس عامة، مثل: التفسير أو الرجال أو الدراية أو الملل والنحل أو الفلسفة، من قبل شورى المديرية، بعد إجراء الكثير من المشاورات، ويصبح الامتحان بهذه المواد إلزامياً، نشهد أيضاً عدم القبول بهذه الدروس. وعندما نسأل أحد أساتذة هذه الحلقات الدراسية عن السبب وراء عدم الاهتمام هذا، فإنه يذكر لنا العديد من الأسباب لهذه الظاهرة، وأولها هذا السبب: «أولاً: هو أنّ نظرة الأجلاء والأساتذة لهذه الدروس هي نظرة عارية عن المحبة، والمعروف أنّ الطلبة يتأسّون بالأساتذة»([33]).
والنتيجة الثانية الناجمة عن هذا التوجه التشجيع المباشر وغير المباشر للطلبة على الإقبال على الفقه، والإعراض عن العلوم الأخرى، ولو أمعنّا النظر في حديث الشيخ پاياني فسنكتشف أنّ الطلبة الأذكياء والمثابرين هم وحدهم الذين يفلحون في الوصول إلى مرحلة الاجتهاد، والذين لا يملكون الاستعداد اللازم والكفاءة المطلوبة يُقبلون على التفسير أو التبليغ وما شاكل ذلك، وقد سبق أن قرأنا ما نقله الشيخ مكارم الشيرازي من قولٍ عن العلامة الطباطبائي بأنّ الإقبال على التفسير في الحوزة العلمية يدل على الجهل. ومن جهة أخرى فإنّ التخصص في علم من العلوم بحاجة إلى التخصص في الفقه، في حين أن عكس هذه الحالة غير موجود، ولو وضعنا جميع هذه المقدمات إلى جوار بعضها، فسنصل إلى النتيجة التي مفادها أنه من الطبيعي جداً أن يجعل كلّ همّ الطلبة واهتمامهم في الفقه والأصول، ولو أنهم اختاروا طريقاً آخر لكان ذلك مما يدعو للعجب، وإذا كانت لطالب العلوم الدينية نزعة دينية يقال له: إنّ الدين يعني الفقه والأصول؛ وإذا كانت لديه نزعة دنيوية ـ لا سمح الله ـ فإنّ الحصول على ذلك عن طريق الفقه أيسر بكثير منه عن طريق التفسير أو الكلام وما شاكل ذلك؛ وإذا كانت لديه نزعة التعلّم، فإنّ معيار العلم أيضاً هو الفقه، وليس التفسير؛ لأنّ الذين يفشلون في مسار الاجتهاد يتوجهون إلى التفسير، وإذا كان الطالب يريد أن يرى ثمرة جهوده بسرعة فإنه سيبلغ مُناه عن طريق الفقه أيضاً ـ والفقه وحده ـ بسرعة أكبر.
وبعد كل هذه الفرضيات ففي أيّ تقييمٍ أو مقارنةٍ نقوم بها سنرى أيضاً أنّ الإقبال على الفقه أفضل من التوجه نحو العلوم الأخرى، التي تحفّ بها الكثير من المجازفات من جهة، والذين يخوضون غمارها مهددون بخطر الانحراف من جهة أخرى، فضلاً عن أنها لا تؤدي بالنتيجة إلى نهاية مفرحة.
من هنا أرى أنه على الرغم من جميع تلك الجهود المبذولة من قبل أولئك الأشخاص ـ كالشهيد المطهري، والعلامة الطباطبائي، وغيرهم ـ على طريق التمهيد لتوليف العلوم الأخرى، كتفسير القرآن، والعلوم العقلية، فإنّ الكلمة الأولى في الحوزة العلمية ما زالت للفقه فقط.
والنتيجة الثالثة لهذا المنهج هي عدم وضوح منزلة بقية اختصاصات العلوم الدينية في الحوزة العلمية؛ إذ إنّ الهدف الأساسي للحوزات الدينية الحالية هو إعداد الفقهاء، ولذلك فإنّ الفقيه له تعريف محدد وواضح ومكانة خاصة في ظل هذا النظام. وبناءً على ذلك يجب على كل فرد أن يجدّ ويجتهد؛ لكي يصل إلى مرحلة الفقاهة، فإذا وصل وأصبح فقهياً فبخ بخ ومرحى؛ لأنه نال بذلك رضا المولى تعالى من جهة، وأصبحت له كذلك مكانة وعنوان اجتماعي ودينيّ وثقافي خاصٌّ. ولذلك فإنّ الجميع يسلكون هذا الطريق بشكل طبيعي، في حين إذا اختار أحد طلبة العلوم الدينية اتجاهاً آخر؛ لدوافع ورغبات ذاتية، أو انطلاقاً من شعوره بالمسؤولية، ووصل إلى مرحلة التخصص وما فوق ذلك، فإنّ ذلك يعني بداية مشواره مع المشاكل، فيجب عليه أن يثبت أولاً بأنه كان يملك الاستعداد اللازم لنيل الفقاهة من جهة، وأنّ إحساسه بالمسؤولية الدينية قويٌّ أيضاً، ولذلك فإنه خاض غمار هذا المسار رغبةً منه في أداء الواجبات التي يشعر بأنها ملقاة على عاتقه، وعلى افتراض نجاحه في إقناع الآخرين ففي هذه الحالة ليس بوسعنا أن نتصور طبيعة مكانته وموقعه في درجات العلوم الدينية ومنازلها.
إنّ الشيخ السبحاني ـ وهو أحد الفقهاء، وله مدرسة دينية لمرحلة البحث الخارج في الفقه والأصول، فضلاً عن أنه المسؤول والمنظّر لاختصاص علم الكلام في الحوزة العلمية، وهو اختصاص استُحدث خلال السنوات القريبة الماضية ـ يذكر في أحد اللقاءات هذا الهواجس، ويصفها بقوله: «يجب على طلاب العلوم الدينية أن يدرسوا في الفقه شرح اللمعة بشكل جيد، وإذا درسوا كتاب شرح اللمعة جيداً فإنّ ذلك يعدّ كافياً للمتكلم من الناحية الفقهية، ولكن تعلمون أنّ مستقبل المتكلم يجب أن يكون واضحاً، فعندما يصبح هذا الشخص متكلماً لا يمتلك تلك المكانة التي يتمتع بها الفقيه، وعندما يصبح مفسراً للقرآن لا يمتلك تلك المكانة الاعتمادية، ويجب أن تفكر الحوزة العلمية أيضاً من الآن في المستقبل الذي ينتظر هذا الشخص الذي صار متكلماً ومدافعاً عن الإسلام»([34]).
كما يقول سماحته في معرض ردّه على سؤال حول السبب وراء عدم الترحيب بالدروس العامة في الحوزة العلمية: «لقد بات من الواضح جداً أنّ الحوزة العلمية تهتم كثيراً بالفقه والأصول، ولكن الذي يصبح متكلماً أو فيلسوفاً لا يُعطى أهميةً تذكر، وطالما هناك صفة رسمية للفقه والأصول فقط، وتحظى بالعناية الكاملة، ولا تُعار الأهمية اللازمة للعلوم الأخرى، فلن تُخلَق لدى طلبة العلوم الدينية الدوافع المطلوبة لتعلّم هذه العلوم. وفي ظل النظام الحالي فإنّ حصول هذا النوع من الاختصاصات لدى بعض الأفراد يحمل جانباً عرضياً، ويحصل نتيجةً لجهودهم الشخصية وقابلياتهم الذهنية»([35]).
من هنا أرى أنّ بعض المتكلمين والمفسرين المعروفين يشرعون بدراسة الفقه والأصول أيضاً إلى جانب المادة العلمية التي يحمل في نفسه اهتماماً خاصاً بها؛ لغرض حلّ هذه المعضلة، أو لأي سبب آخر، وهذا نوعٌ من القلق يختلج في صدور الكثير من الساعين نحو العلوم الأخرى، وأحياناً يفصحون عن ذلك بألسنتهم، وأحياناً يخفونه في ضمائرهم.
2ـ عدم التواصل مع العلوم الأخرى
إنّ الإلمام ببقية العلوم الدينية، وحتى الإحاطة بها، كان من الأمور التقليدية بين الفقهاء القدماء، بل حتى كان للبعض منهم ذكاء خاص ونوع من الغلبة على العلوم المحضة، كالرياضيات أو الهندسة. ولم تكن هذه الدراية بعيدة عن فقاهتهم. فقد كانوا يبحثون عن ضالّتهم من معلوماتهم الأخرى؛ لاستـنباط المسائل الشرعية، انطلاقاً من ذكائهم وقابلياتهم الملفتة للنظر، وكمثال على ذلك: فإنّ الشهيد الأول يفتح القاعدة الرابعة من كتابه «القواعد والفوائد» بهذه الصورة: «بما أنه أصبح من الثابت في علم الكلام أنّ أفعال الله سبحانه وتعالى هي أفعال هادفة، وأنه محال أن يكون هذا الهدف قبيحاً، ومحال أيضاً أن يرجع هذا الهدف لذاته، يثبت لدينا أنّ هذا الهدف يرجع للمكلف. ونفس هذا الهدف إمّا أن يكون لجلب المنفعة أو لدفع الضرر، وكل منها إمّا أن يكون دنيوياً أو أخروياً، وعليه فإن الأحكام الشرعية لا تخلو من هذه الأربعة»([36]).
وهنا يستـند أحد فقهاء الطراز الأول للقرن الثامن ـ أي قبل ثمانمائة سنة ـ وقبل القيام بإثبات إحدى المسائل الشرعية إلى ثلاث قواعد كلامية، تأتي في علم الكلام لنقض أو إبرام الكثير من المسائل المختلفة: الأولى: إنّ جميع أفعال الله سبحانه وتعالى تتعلق يحمله من الأغراض، ولا يصدر عن الحكيم فعل اللغو. الثانية: إنّ الفعل قبيح لا يصدر عن الله سبحانه وتعالى. الثالثة: إنّ أي نوع من الغرضية بمعناها المتعارف عليه دليل النقص. وعليه فإنّ هذه الهدفية تصدق بشأن الله تعالى، وإن الله سبحانه وتعالى ليس بصدد تكميل ذاته أو إزالة نقصٍ معين عن ذاته، ولذلك فإنّ كل ما يشرّعه الله تعالى أولاً: له هدف معين، وثانياً: جيد وحسن، وثالثاً: منفعته تعود للبشر. إذاً كل ما جاء في الشريعة، وكل حكم تم تشريعه، يصب في النهاية في مصلحة الناس.
وتستـند هذه المقدمات الثلاث إلى مقدمات أخرى، حيث وردت بالتفصيل في الكتب الكلامية، ومن النادر أن نجد اليوم فقيهاً يعمل على الاستفادة بهذه الصورة في سلوكه الفقهي من العلوم الأخرى، ويبني استـنباطه عليها، في حين نجد أنّ تطور الفقه مرهون بالاستفادة من العلوم الدينية الأخرى، وهذه النقطة تصدق بشكل أكثر بخصوص علم الكلام؛ لأنّ الفقه بكل جوانبه يمتاز أساساً بأنه ذو حكم بنائي، ويشكل قاعدته علم الكلام.
إنّ الحجيّة النهائية للفقه والأصول ـ هذه القضية التي تعتبر من المسلّمات في الفقه ـ يجب أن يتم إثباتها في علم الكلام، ولذلك إذا حدث أدنى خللٍ في هذه الأصول، فسوف لن يبقى أثرٌ ولا مأثور.
والفقه كالقصر، كلما علا صرحه بدون قاعدة الكلام كلما زادت احتمالات انهياره بنفس نسبة علوّ صرحه. والحوزة الدينية الشيعية كانت بالأساس في بدايتها حوزةً كلامية، وليست فقهية. وفي السابق كانت هناك تسمية الفقه الأكبر والفقه الأصغر. والفقه الأكبر هو الكلام، والفقه الأصغر هو الفقه المصطلح عليه اليوم. وقد تطرق السيد القائد إلى إخفاقات الحوزة العلمية في اجتماع له مع كبار رجال الحوزة العلمية وفضلائها عام 1374هـ ش، الموافق لعام 1995م، إذ يرى سماحته: «أنّ العيب الثاني هو عدم حصول تطوّر وانتشار علم الكلام بشكل كافٍ وكما ينبغي، وهذا في الواقع يعدّ فاجعة، والأدهى والأمر من ذلك هو نسيان الكلام. إنّ الحوزة الدينية للإسلام والحوزة العلمية لأهل البيت كانت تمثل بالدرجة الأولى حوزة الكلام، ومن ثم حوزة الفقه. وكان كبار فقهائنا من المتكلمين. انظروا إلى الكلام في حوزاتـنا العلمية سترون أنّ «الكلام» أصبح منسوخاً، في حين أنّ أكثر الحملات التي تُشنّ اليوم، تـنطلق من المواضيع الكلامية. ولكن هناك بعض الأفراد ممن ينتسبون إلى الحوزة العلمية قاموا ببعض الإنجازات القيّمة، وما زالوا كذلك. ولكن هذا الوضع، وضع الحوزة العلمية، لم يخرج بحُلَّته المنظمة بعد، والأعمال الفردية تختلف عن الأعمال المنظّمة، ويجب على نظام الحوزة العلمية أن يلبي الطموحات، فإذا حدث أن برز أحد الأفراد، ودخل في مجال من المجالات، وأنجز عملاً ما، فلا يصح أن نسجل ذلك لحساب الحوزة العلمية. ويجب أن نكون منصفين فنقول: إنّ الحوزة العلمية لا تحرك ساكناً في هذا المجال»([37]).
وفي مقابل هذا التوجه هناك من يواصل الإصرار وبكل قوة على بسط الفقه والأصول، حتى دون الاهتمام بجذور ودوافع هذا الاتجاه، وأحياناً يستدل ببعض الأمور بأسلوب يبعث على الحيرة؛ من أجل إثبات صحة وجهة نظره. وكمثال على ذلك: يدّعي أحد أصحاب الرأي أنّ نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية طالما أنه مقامٌ على «ولاية الفقهية» فيجب أن تُعطى أهمية أكبر للفقه، وأن يصبح هذا العلم متميزاً عن سائر العلوم الدينية الأخرى. والظاهر أنّه حصلت هنا غفلة أو تغافل؛ لأنه يجب تقوية وتعزيز مكانة علم الكلام؛ استـناداً إلى ذات الدليل الذي قام عليه نظام الحكم لدينا، والمستـند إلى نظرية ولاية الفقيه؛ لأنّ نظرية ولاية الفقيه هي نظرية كلامية. وهذا ما صرّح به بعض كبار العلماء الأفاضل، وقاموا بتـنقيح أسس هذه النظرية، فإذا أردنا أن نرفض الجانب الكلامي لنظرية ولاية الفقيه، ونقول بأنّ مكانها الحقيقي في الفقه، فإنّ هذه النظرية ستكون قادرة على الدفاع عن نفسها، بعد أن يتم إثبات بعض الأقوال الكلامية.
وفي كل الأحوال لا نجد أي مبرر لهذا الإهمال تجاه الفقه الأكبر، وهذا التجافي لا يختص فقط بعلم الكلام، بل إنه يطال تقريباً العلوم الأخرى أيضاً.
أمّا النظام الفعلي للحوزة العلمية فإنه ماضٍ في هذا الابتعاد عن بقية العلوم الإسلامية عملياً دون وعي منه لهذه القضية والقضايا الأخرى التي من هذا القبيل، وفق ما خلّفه السلف من موروث، ونتيجة لذلك فهو يسير في طريقٍ محفوفٍ بالمخاطر. إنّ الفقه اليوم، وعلى العكس مما كان عليه في السابق، قطع ارتباطه مع بقية العلوم التي مدّت له يد العون، وساهمت في تطوّره بنحوٍ ما على طول التاريخ، ونسي مراضعه ومشاربه، والأدهى من ذلك أنه فرط عقده مع أسِّه وأساسه ـ أي القرآن الكريم ـ، إلى الحدّ الذي أصبح بإمكان الفقيه أن يستـنبط الأحكام دون مراجعةٍ للقرآن الكريم. وبعد أن يشير المرحوم العلامة الطباطبائي إلى ظاهرة عدم الاكتراث بالقرآن الكريم، وتقديم الأحاديث، بل وحتى الروايات الموضوعة، عليه، وعرض القرآن على الحديث بدلاً من عرض الحديث على القرآن، والانعكاسات المؤلمة لهذه الظاهرة، يشير إلى هذا بكل صراحة قائلاً: «إذا أمعنت النظر في هذه العلوم جيداً فسترى أنها قد صيغت بشكلٍ لا تحتاج معه إلى القرآن الكريم إطلاقاً، حيث إنّ طالب العلم بإمكانه أن يدرسها جميعاً، بما في ذلك الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول من البداية إلى النهاية، وينهي دراسته لها، وأن يصبح فيها خبيراً، ويحصل على المهارة الكاملة فيها، ويصبح آنذاك مجتهداً، دون أن يكون قد قرأ القرآن على الإطلاق، أو حتى مجرّد لمسه»([38]).
وعندما تصبح علاقة الفقه والأصول، والعلوم التي ينظر لها على أنها مقدمة لهما، مع القرآن الكريم بهذه الصورة، فإنّ مصير بقية العلوم الدينية يصبح أكثر وضوحاً. ومن المعروف أنّ السيد الخوئي كان قديراً بتفسير القرآن الكريم في النجف الأشرف، حتى أنه أصدر جزءاً واحداً منه تحت عنوان «البيان في تفسير القرآن»، ولكنه اضطر إلى إيقاف هذا العمل.
والظاهر أنه بمرور الوقت تضيق دائرة العلوم المتداولة في الحوزة العلمية، وتتحدد آفاقها أكثر فأكثر، ويضيّق الفقه والأصول الخناق على العلوم الأخرى. كما قال الشيخ معرفت: «لقد أصبحنا في وضع محدود أكثر مما كنا عليه في السابق أيضاً؛ إذ كانت الكثير من العلوم، من قبيل: الرياضيات والطب واللغة العربية، تعد من العلوم المألوفة في النظام التعليمي للحوزة العلمية قبل أربعين عاماً، وكان طالب العلوم الدينية يصبح أديباً أو شاعراً أو كاتباً ومؤرخاً بعد إكماله لمرحلة دراسية تستمر لعشر سنوات. وكان لديه بعض الإلمام بعلم الهندسة والجغرافيا وقليل من الطب، وتشير نتائج الحوزة العلمية قبل خمسين ـ ستين سنةٍ الماضية إلى أنها كانت تمثِّل مجموعة من علوم ذلك العصر، واليوم لم يقتصر الأمر على أننا لم نجر أية إصلاحات في الحوزة، بل قمنا بحذف الكثير من الكتب، والتي أدت في نهاية الأمر إلى نتائج عكسية»([39]).
إنّ هذه الظاهرة المتمثلة بعدم الاهتمام بالعلوم الدينية الأخرى صبغت الفقه والأصول بصبغةٍ معينة سنتحدث عنها لاحقاً.
3ـ الابتعاد عن الحقيقة
لقد تبلورت ملامح الفقه والأصول وتطورت عن طريق التعاطي والتعامل مع العلوم الأخرى في ظل أجواءٍ من التساؤلات الواقعية، وإنّ نظرة خاطفة على تاريخ هذين العلمين وكيفية تكوّن مسائلهما شاهدٌ على هذا الادّعاء، ولكن منذ أن أهملت هذه الحقيقة واتخذ كلّ من الفقه والأُصول طريقاً مستقلاً على مسار تكاملهما، دون الالتفات إلى دور العلوم الأخرى، وواصلا طريقهما دون الاستفادة من إنجازات العلوم الأخرى، توقفا أيضاً عن الوصول إلى التكامل الحقيقي، وأضعفا علاقتهما مع الحقيقة والواقع. لقد اتسعت آفاق الفقه على أثر إجابته على التساؤلات الواقعية للمكلفين، وتطوّر بنفس المستوى الذي قام فيه بتأدية واجبه في هذا المجال. وأما الفقهاء فقد كانوا بحاجة إلى أسلوب معين يتمكنون عن طريقه من استـنباط حكم الله تعالى؛ للإجابة على التساؤلات الكثيرة التي كانت توضع أمامهم بشكل مطرد، وبعبارة أخرى: يعملون على استـنطاق القرآن والسنّة، وقد تمكنوا من الإتيان بعلم جديد يعرف بالأصول عن طريق التأمل في أقوال المعصومين^، والاستعانة بعلم الألسن وعلم المعاني (علم دلالات الألفاظ وتطورها). والحقيقة أنّ هذا العلم يعدّ علماً مُلفّقاً، ولد من عملية الخلط والربط بين نتائج عدة علوم أخرى، وكلما كان يُصار إلى الاهتمام بهذه الحقيقة والمكانة الأداتية لعلم الأصول كان الفقه يجيب عن التساؤلات الآنية في عصره، ولكن على أثر عدم الاهتمام بهذه القضية والقضايا الأخرى، التي لسنا بصدد تـناولها هنا، فرط الفقه عقده مع هذه الحقيقة.
وكان لهذا التفريط نتيجتان أساسيتان:
1ـ فردية الفقه.
2ـ ذهنية الفقه.
أوّلاً: اكتسب الفقه سمةً فردية قوية؛ إذ إنّ الفقه، الذي كان يجب أن يصدر فتواه للمجتمع الإسلامي، وأن يحدد مسؤولية الأفراد في العلاقات الاجتماعية فيما بينهم وارتباطهم ببعضهم، فَقَد هذه الخصلة، وأخذ يهتم بالفرد وتكاليفه الفردية فقط، واخفق في النظر إلى الجميع.
وقد تحدّث الشهيد السيد محمد باقر الصدر& عن هذه الخصيصة بوضوح، وعبّر عنها قائلاً: «على الرغم من أنّ حركة الاجتهاد اهتمت مبدئياً ـ ومن الناحية النظرية ـ بكلا الميدانين على حدٍّ سواء…، ولكن المسار الذي اختطّه تاريخ الشيعة من الناحية العملية ركّز على الميدان الفردي بشكل أكبر، فالمجتهد يأخذ بنظر الاعتبار الفرد المسلم، الذي يطالب بتطبيق النظرية الإسلامية حول الحياة وسلوكه، خلال عمليات استـنباط الأحكام، وأثناء الإجابة عن الأسئلة المطروحة، ولم يفكر في المجتمع الإسلامي الذي يطمع إلى بناء حياته وعلاقاته على أساس النظرية الإسلامية، وكان لهذا التحديد في الهدف شروطه العينية والتأريخية الخاصة به، واختارت حركة الاجتهاد منذ بداية ولادتها منهج الاعتزال السياسي بين الشيعة تقريباً على أثر نوع الحكومات الموجودة، وكان الفقه الإسلامي مُبعداً عن الميادين الاجتماعية، وقاد هذا الاعتزال السياسي تدريجياً إلى محدودية الهدف الذي كان يسعى الفقه إلى تحقيقه منذ البداية، وأدّى تقادم الزمن إلى ترسيخ هذا الاعتقاد القائل بأنّ ميدان الاجتهاد يتمثَّل بالميدان الفردي فقط لا غير. وبهذا الشكل فقد احتلّ الاجتهاد حيّزه في ذهن الفقيه، بأنه لغرض الاجابة على أسئلة الفرد المسلم ـ وليس المجتمع الاسلامي ـ»([40]).
وتمخَّضت هذه الرؤية الفردية، وعدم الاهتمام بالروح الاجتماعية، للإسلام وأحكامه عن نتائج سلبية لا تبعث على التفاؤل، والتي من مظاهرها وجود الكم الهائل من موارد الاحتياط في الأحكام، والفقيه مطالب ببيان حكم الله تعالى وتوضيح تكليف المكلفين، طبقاً لما يمتلكه من القدرة على الاستـنباط في كل قضية. ولكن في الكثير من الحالات لم يتمكن الفقهاء من التوصل إلى الحكم المطلوب؛ لأسباب متعددة، وما كانوا يتوصلون إليه لم يُدخِل السكينة والاطمئنان القلبي لديهم، من هنا كانوا يسلكون طريق الاحتياط في أغلب الأحوال، ويسعون بهذا الشكل لئلاّ يـبتعدوا عن مسار التكليف. وعلى الرغم من أنّ هذا الأمر يبدو صعباً في بعض الأحيان، إلا أنّ الذين كانوا متمسّكين ومتقيّدين يعملون على تذليل هذه الصعوبة على أنفسهم بهدي الامتثال لأمر المولى جلّ وعلا.
وتظهر الصعوبة الحقيقية لهذا الأمر عندما يريد الفقيه أن ينظر من زاوية واسعة واجتماعية للأحكام، ويوضح تكليف المكلفين. وهنا لا مكان للاحتياط بأي شكل من الأشكال. وفي الحالات الفردية يمكن أن يقال للمكلف أن يجمع بين الحُكمين. وكمثال على ذلك: أن يؤدي المكلف صلاته تماماً وقصراً. ولكن الأحكام الاجتماعية لا تسير وفق هذا المنطق. وإذا أردنا اتّباع هذا الأسلوب في المسائل الاجتماعية فإنّ المجتمع الإسلامي سوف يتصدّع، كما أشارَ إلى ذلك الشهيد الصدر&: «إذا كان الفرد هو المخاطب الذي تقصده الشريعة، وتريد أن تسنّ القوانين للفرد فقط، فإنّ العمل بالاحتياط في الموارد المجهولة أمرٌ معقول جداً. ولكن عندما تريد الشريعة أن تقنن للمجتمع فلا مكان عندها للاحتياط، والفرد قادر بشخصه أن يسلك طريق الاحتياط في أمور الحياة، ولكن المجتمع ليس بمقدوره أن يبني الحياة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والسياسية على أساس قاعدة الاحتياط»([41]).
ويتحدث الشيخ هاشمي رفسنجاني أيضاً ـ بعد الممارسات الحكومية المستمرة ـ عن هذه السلبية التي تمخّضت عن النظرة الفردية للأحكام الشرعية بهذه الصورة: «ولكن الشيء الذي أفصح عن نفسه مبكراً جداً أنه لم يتم إنجاز عملٍ فقهي جاد ومؤثر في البُعد الحكومي، أي على الرغم من تأكيد الإسلام على الاجتهاد الفعّال وعنصر الزمان والمكان ومصالح المسلمين وضرورة الإجابة على متطلبات الناس، فإنّ هذا الأمر قلّما كان يُصار إلى الاهتمام به، ولكن يجب أن نقول: إنّ الفقهاء قد تحمّلوا عناءً كبيراً، وحافظوا على الكثير من الأشياء، وأدوات الاستـنباط موجودة في الروايات وفي الكتب الفقهية أيضاً، ولكن ما يحتاجه المسلمون والحكومة الإسلامية اليوم هو الاجتهاد الشامل والمتخصص»([42]).
ثانياً: إنّ الفقه الذي كان في البداية متمازجاً مع حياة الناس وشؤونهم تخلّف عن ركب الواقعية، وابتُلي ـ بالتدريج ـ بالصفة الذهنية بشكل قوي، وفي الوقت الذي كان يمكن فيه اعتبار هذا العلم في البداية من أكثر العلوم واقعيةً، إلا أنه وقع في شراك توجهاته الذهنية بشكل حاد، بحيث أخذ يزداد ابتعاداً عن الحياة والواقع بمرور الوقت، وقد تركت هذه الخصلة الذهنية تأثيرها حتى على أبحاثه أيضاً.
ويضع السيد القائد، في لقاءٍ لسماحته مع الباحثين والمحققين في مركز الأبحاث العلمية لسكرتارية مجلس الخبراء، إصبعه على موضع هذا الضعف بهذه الصورة: «لا يمكن القيام بإنجاز أي شيء بدون منهج البحث والتحقيق، وبدون التعمق وفتح الآفاق الفكرية الجديدة. لقد كان النقص البادي على عملنا في الحوزات العلمية يكمن في أنّ الأبحاث التي قمنا بها في مجال المسائل الفقهية والأصولية أيضاً ـ وأغلب أبحاثنا ودراستـنا كانت حول هاتين المقولتين بشكل أساسي ـ قلّما أخذنا فيها الآفاق الجديدة بنظر الاعتبار في أغلب الأحيان، وهكذا واصلنا المسير بشكل عميق ونحو الأسفل، وهذه الأعمال التي قام بها الفقهاء العظام ـ وكما تلاحظون ـ أحياناً تبعث على الدهشة، ولكن جميعها على هذا النحو، فهي متعمّقة باتجاه الأسفل، ولا توجد أية سعةٍ في آفاقها، ولا يشاهد الإنسان أية آفاق جديدة»([43]).
وكذا الحال بالنسبة لعلم الأصول الذي يعتبر طريقة للاستـنباط، وكان من المقرر له أن يأخذ بيد الفقيه بأسلوب منهجي، ويجعله سويّاً على صراط الفقاهة، ساهم هو الآخر في هذا التوجه الذهني على أثر ابتعاده عن العلوم الأخرى، ثم استقرّ به المقام فيما بعد في قائمة العليّة، حتى أصبح هو الآخر سبباً في هذه الذهنية، وعلى الرغم مما لهذا العلم من دورٍ في تقوية الذهن، وتمنح الإنسان قدرةً وذكاءً خاصّين، إلاّ أنّ الإفراط في القضايا التي لا مساس لها بالواقع يصبح بذاته سبباً في تعطيل العقل العملي على المدى الطويل.
يقول الشهيد المطهري عن هذا المنهج الأصولي: «في نفس الوقت الذي يخلق فيه الإفراط في النقاش وشيوع علم الأصول نوعاً من القوة والنباهة في أذهان الطلاب، إلاّ أنّه ينطوي على النقص المتمثل في إبعاد طريقة تفكير الطلاب عن الرؤية الواقعية في المسائل الاجتماعية، وبسبب عدم تدريس ودراسة المنطق التعقلي الأرسطي أيضاً بقدرٍ كافٍ، فإنّ المنهج الفكري للطلاب أيضاً ينطوي على جنبةٍ جدلية ونقاشية، ويعدُّ ذلك من أكبر العوامل التي تؤدي بالطلبة إلى عدم امتلاك الرؤية الواقعية في القضايا الاجتماعية»([44]).
وانتهى هذا الانزواء الاجتماعي والرؤية الذهنية إلى توقف الفقه، والذي سأتـناوله الآن.
4ـ التوقف والركود
لو نظرنا إلى الأمور بنظرة واقعية، فسنرى أنّ الفقه قد تخلّف عن أداء رسالته، ولم يفلح في إثبات ادعاءاته. والحديث هنا لا يدور حول الإمكانيات التي يمتلكها هذا العلم بالقوة، فالقضية تتمثل في أنّ هذه القدرة والإمكانية لم تخرج بعدُ إلى الفعل في ظل الظروف الحالية، ووفقاً للمعطيات الموجودة يبدو أنه من الصعب أيضاً الوصول إلى تحقيق هذا الهدف. ولا نقصد بذلك أن ندعو إلى التشاؤم واليأس، بل لتبيين أمرٍ واقع وإن كان مُرّاً، ولكنّ الشواهد الموجودة تؤيد ذلك، وهذه الحقيقة من المرارة بمكان على البعض بحيث إنهم وجدوا ضالّتهم في إنكارها، غافلين عن أنّ الخطوة الأولى في معالجة أي مرضٍ هي في القبول بوجوده. والزهرة التي تُقطع وتُفصل عن غصنها وجذورها سرعان ما تذبل وتيبس، وإن كانت تبدو طريةً نضرة، وهكذا الحال بالنسبة للفقيه أيضاً، فإنه بسبب انقطاعه عن جذوره سيتخلّف تدريجياً عن الإجابة عن متطلبات المجتمع، وتأخذ الهوّة الموجودة بينهما بالاتساع يوماً بعد آخر.
وقبل حوالي أربعة عقود من الزمن تحدث الشهيد المطهري عن هذه الحقيقة قائلاً: «اتجهت المناهج الدراسية للعلوم الدينية مؤخراً باتجاه المزيد من التقوقع، وتم هضم جميع الدروس في الفقه، وسقط الفقه نفسه في ذات المجرى الذي ما زال متوقفاً فيه عن التكامل منذ مئة سنةٍ وحتى الآن»([45]).
لقد انبثقت الحوزة العلمية وتبلورت وظهرت كمؤسسة للإجابة على المتطلبات الواقعية للمجتمع، وطالما بقيت مهتمةً بهذه المسؤولية ومستلزماتها كانت بذلك على جادة التطوّر والسمو والرفعة. وعليه فإنّ الحوزات العلمية السابقة كانت تتمتع بفاعليةٍ وحركة استثنائية، ومن هذه الناحية فقد كانت متفوقة على الحوزات العلمية في الوقت الحاضر، كما قال السيد القائد: «للحوزة العلمية إشكاليتان أساسيتان، لم تكن إحداهما موجودةً في السابق بالتأكيد، وتـنسب إلى الوقت الحالي، والأخرى من المحتمل جداً أن تكون كذلك، وأمّا بالنسبة للإشكالية التي لم تكن تعاني منها حوزتـنا العلمية بالأمس وتواجهها اليوم فهي أنّ حوزة الأمس لم تكن مختلفة عن الزمن الذي تعايشه آنذاك، بل كانت متقدمة عليها كذلك»([46]).
في حين: «أنّ الأمر اليوم ليس كذلك، فاليوم نجد أنّ الحوزة العلمية متخلّفة كثيراً عن زمانها، والقضية ليست بحجم قليل أو شيء يسير، فالأمر مَثَله كمثل شخصين يركب كل منهما جواداً، ويسيران معاً في إحدى الشعاب، وأحدهما جواده أسرع من الآخر، والذي جواده أبطأ يحصل فيما بعد على سيادة، فمن الطبيعي أنّ الذي جواده أسرع لا يستطيع أن يلحق حتّى بغباره. والوضع الآن هو بهذا الشكل. إنّ أمواج الفقه والفلسفة والكلام والحقوق تعمّ العالم في الوقت الراهن. وعندما ننظر إلى أنفسنا نجد أننا بعيدون جداً عن ركب هذا العصر»([47]).
وفي زيارةٍ له إلى مدينة مشهد كان له لقاء مع رجال الدين الخراسانيين، وأعاد التذكير بهذا الموضوع مجدداً: «لقد قلت في حديثي في مدينة قم المقدسة. إنّ الحوزة اليوم وعلى الرغم من أنها قد تطورت عما كانت عليه قبل خمسمئة عام، إلا أنّها ما زالت متأخرة في أمرين: أحدهما: أنّ الحوزة العلمية لم تكن متأخرة عن عصرها آنذاك، وحوزاتـنا العلمية اليوم متأخرة في الكثير من الميادين»([48]).
وإذا لم يحصل للحوزة العلمية سوى هذا الأمر لكان ذلك مما يدعو للعجب. إنّ بقاء أيّة ظاهرة أمرٌ مرهون بالحركة والسعي، والتوقف والركود يوازي الموت، وإنّ أيّ كيان حيٍّ أو مؤسسة اجتماعية بحاجة للترميم والإصلاح والتكامل، ويكون قادراً على المحافظة على بقائه من خلال هذه الآلية فقط. ولذلك فإنّ قضية السعي للإصلاح والنمو بذاتها لا تعدّ توصية أخلاقية فحسب، بل إنها ضرورة حياتية، كما قال الشاعر إقبال اللاهوري:
وحوتٌ أحسن النُصح صغيره حين قال: تعلّق بالأمواج واجتـنب الساحل |
محرّمٌ في ديننا المجيء للساحل |
إنّ عدم الاكتراث بهذه الحقيقة، والاكتفاء بما موجود من إمكانيات، بل وحتى الانبهار بها في بعض الحالات، يعدّ مانعاً جوهرياً أمام التطور والتحرك إلى الأمام. وتُطرح أحياناً بعض وجهات النظر في هذا المجال، وكأنها تريد أن تقول بأنه لا يوجد أي نوع من أنواع الضعف والنقص في هذا الشأن، وإذا كان هناك من نقص يكاد أن يكون جزئياً جداً، وأحد الأحاديث الواردة بهذا الخصوص، يُعدُّ دليلاً على هذا الادّعاء: «لقد تمكنت الحوزات العلمية الغنيّة للشيعة من تقديم أسمى المعارف الدينية للبشرية، وما تزال كذلك بوحيٍ من هذا المنهج القويم، وما تطور علم الفقه العظيم وانتشاره ـ والذي يعدّ أغنى نظام قانوني عالمي ـ إلا جانب من هذا الإنجاز الهائل للحوزات العلمية»([49]).
وهذه الرؤية هي التي تصبح السبب وراء اعتبارنا نقاط الضعف نقاط قوة، وأن ننكر الوقائع والحقائق.
وعندما يُسأل الشيخ اعتمادي عن السبب في تخلّف الحوزة العلمية فإنه ينكر وجود هذه الفرضية، ويقول: «أعتقد بأننا لم نكن متخلّفين»([50]).
كما يجيب الشيخ پاياني بهذه الرؤية نفسها عن التساؤلات التي من هذا القبيل، بقوله: «أنا اعتقد بأنّ الحوزة العلمية ليست متخلّفة عن هذا العصر…، ولا أقول بأنّ الحوزة العلمية متخلفة عن الزمن، فالحوزة العلمية لا تريد أن تخترع آلةً، يجب على الحوزة العلمية أن تجيب على المشاكل الدينية. وأتصور أنّه لدينا أفراداً قادرين على الإجابة على جميع المشاكل»([51]).
وهذه الرؤية تؤدي بطبيعة الحال إلى الاحتفاظ بالمأثورات وتخزينها، ولذلك فإنه يقول أيضاً بخصوص إعادة تجديد النظام التعليمي للحوزة العلمية، وتغيير بعضٍ من النصوص الدراسية، ما يلي: «أنا لا أرى صلاحاً في حذف هذه الكتب، ولذلك فإنّ القيام بتلخيص هذه الكتب، أو تبسيطها أو حذفها، ينطوي على مخاطر، وفيه مسؤولية شرعية، وإذا حذفنا الرسائل فماذا نُحلّ محلّه؟ وبأي شيء نصبح مجتهدين؟»([52]).
وبالنتيجة يصل هو ـ وآخرين، يحملون هذه الرؤية ـ إلى أن نحافظ على كل ما هو موجود لدينا، بل ونضيف عليها أشياء أخرى من هذا القبيل: «هناك نقصٌ جزئي في النظام التعليمي للحوزة العلمية؛ إذ يجب أن يكون بين كتابي شرح اللمعة والمكاسب كتاب آخر»([53]).
وبهذا الشكل فإنّ منهج مركزية الفقه أدّى أوّلاً إلى التضييق على بقية العلوم الإسلامية، وأصبحت هذه العلوم ضعيفةً في بنيتها، ونتيجة لذلك فإنّ أكثر الإمكانيات اهتمّت بالفقه والأصول. ولكن هذين العلمين أنفسهما تخلّفا عن مسار التكامل الواقعي والحقيقي؛ بلحاظ قطعهما لارتباطاتهما بجذورهما. وعلى هذا فقد تعرضت العلوم الأخرى للضرر من جهة، وكذلك علما الفقه والأصول.
ب ـ مركزية الكتاب
والمانع الرئيسي الثاني أمام انتشار ثقافة البحث والتحقيق في الحوزة العلمية هي ظاهرة اعتماد بعض الكتب التي تمت الإشارة إليها والتصريح بها مراراً وتكراراً من قبل أصحاب الرأي والمفكرين. والمعروف أنه تم تأليف الكثير من الكتب في المجالات العلمية المختلفة على طول تاريخ الحوزة العلمية، إلاّ أنّ بعض هذه الكتب تحظى بإقبال خاص، وتُقبل تدريجياً كمنهج دراسي، وتكتسب مكانةً خاصةً. وعلى الرغم من أنّ هذه الكتب لم تكتب في البداية بهدف أن تصبح مناهج دراسية، ولكن يبدو أنّ هذه القضية ليست ذات أهمية، وتدرّس الآن في الحوزات العلمية بعض الكتب في كل علمٍ من العلوم الدينية كمنهج دراسي، ولا يحمل أيٌّ منها أيّة خصوصية من خصوصيات المناهج التعليمية، ويصل عمر بعض هذه الكتب إلى أكثر من ستة أو سبعة قرون، مثل: ألفية ابن مالك، وكتاب مطوّل أو مختصر المعاني، للتفتازاني، وأحدث تلك الكتب يقرب عمرها من قرن واحد، مثل: كتاب كفاية الأصول، للآخوند الخراساني.
إنّ الهدف من أي كتاب تعليمي هو نقل أحدث النتائج العلمية ذات الصلة بأسهل طريقة، ولذا يمكن تقييم الكتب الدراسية على أساس هذه المجموعة من المؤشرات:
1ـ الاستفادة من أحدث ما توصّل إليه علم النفس التربوي، واستخدام ما حققته العلوم التكميلية، كالتربية والتعليم.
2ـ إيصال أحدث ما توصل إليه العلم. وكمثال على ذلك: فإنّ الكتاب الذي يتم تأليفه لتدريس علم الأصول يجب أن يوصل آخر النتائج المقبولة لهذا العلم إلى الطلاب.
3ـ الاكتفاء بالمواضيع الأساسية ذات الصلة بالعلم المعني، والابتعاد عن المواضيع الجانبية أو المختلف عليها.
4ـ استخدام لغةٍ مفهومة ومتينة؛ لكي يحصل الدراسون لتلك المادة على أكبر قدرٍ ممكن من الفائدة بأقل جهد.
ويمكن ـ بطبيعة الحال ـ أن نضيف مؤشرات أخرى على ما ذكر أعلاه، ولكن يبدو أنّ هذه الأربعة مقبولة من قبل الجميع. وأدّت هذه القضية إلى أن يُصار في النظم التعليمية المختلفة إلى إجراء التغيير المستمر في الكتب والمناهج الدراسية، وتـنقيح الكتب الموجودة، وتضاف إليها المستجدات ذات الصلة بالعلم. وكمثال على ذلك: يمكن أن نشير إلى كتاب (مبادىء علم النفس)، لمؤلفه هيلگارد، وهذا الكتاب الذي تم تأليفه بهدف تدريس المفاهيم الأساسية لعلم النفس لطلبة الجامعات في هذا الاختصاص، ولقي ترحيباً واسعاً أيضاً، صدر لأول مرة في عام 1953م، ومنذ ذلك التاريخ كان هذا الكتاب يخضع دائماً لعمليات إعادة النظر فيه، ويخرج بِحُلّة جديدة إلى الأسواق، وتمت ترجمة الطبعة الثالثة عشر منه إلى اللغة الفارسية، بناءً على أساس التـنقيح الثاني عشر للكتاب الأصلي، بمعنى أنّ هذا الكتاب الدراسي أعيد النظر فيه وكتابته اثنتي عشرة مرة بشكل كامل؛ لكي يلبّي احتياجات الطلبة ويفي بالغرض اللازم([54]).
وبقليلٍ من التمعّن في الكتب المتداولة في الحوزة العلمية يمكن ـ بسهولة ـ استـنتاج أنّ أياً منها لا يتمتع بهذه الخصائص، ولذلك ـ وعلى الرغم من كل ما تحظى به من أهمية ـ ليس بمقدورها أن تستخدم كمناهج دراسية وتعليمية. ويقول الشيخ معرفت بهذا الخصوص: «إنّ إعادة النظر في النظام التعليمي والكتب الدراسية أمرٌ مسلَّمٌ به في جميع الجامعات في العالم، ولكن المؤسف أنّ الأمر ليس كذلك في النظام التعليمي للحوزة العلمية، بل أخذنا نعاني المزيد من المحدودية عمّا كُنّا عليه في السابق»([55]).
ولم تؤلَّف هذ الكتب أساساً لأغراض دراسية، ولكن لسوء الحظ أو حسن الحظ ـ وهذا يرتبط برؤية الأفراد ـ عُرفت بأنها كتب دراسية، ولم يتم العثور حتّى الآن على بديل مناسب لها، مع كل الجهود التي بذلت وتبذل في هذا الصدد، ويقول السيد جعفر العاملي حول مصير هذه الكتب الدراسية: «لم يؤلف العلماء، من أمثال: الآخوند الخراساني، والشيخ الأنصاري، وآخرين، كتبهم بهدف تدريسها في الحوزة العلمية، بل صنّفوا هذه الكتب بهدف إدراج نظرياتهم ونظريات الآخرين التي توصلوا إليها في تلك الكتب. ولكن لاحظ الآخرون أنها تحتوي على أفكارٍ تثير الاهتمام، فجعلوا تلك الكتب محوراً لدروسهم وأبحاثهم وتحقيقاتهم، ولذلك أصبحت هذه الكتب ـ وبشكل تلقائي وغير إرادي ـ كتباً دراسية في الحوزة العلمية»([56]).
إنّ كتباً مثل كتاب كفاية الأصول ـ والذي يعد آخر كتابٍ يدرسه الطلاب في مرحلة السطوح، ومدار الدراسة في مرحلة البحث الخارج أيضاً ـ بما أنها لا تمتلك خصال تعليمية ـ فعندما يتم تدريسها بصفة كتب دراسية يبدو أنها تعاني من إشكاليات متعددة. وقسم من هذه الإشكاليات عبارة عن:
1ـ امتلاكها لغة صعبة وتعقيدات لغوية. فالكتاب الذي تمت كتابته بأسلوبٍ يعود إلى قرنٍ سابقٍ، ومخاطَبه ليس من المقرر أن يكون من الدارسين له، من الطبيعي أن يكتب في أجواءٍ خاصة، وتظهر المشكلة عندما نريد أن نجعل هذا الكتاب مادة دراسية.
2ـ امتلاكها مواضيع متفرقة وجانبية، والتي تؤدي أحياناً إلى خروج منهج البحث من أيدي الدارسين.
3ـ عدم امتلاكها للمواضيع التالية لحياة المؤلف. فمع أنّ هذا الكتاب يشتمل على جميع المواضيع الأصولية الموجودة خلال أيام المؤلف، إلا أنه لا يشتمل على المواضيع الأحدث.
4ـ عدم إشارتها للجوانب العملية للموضوع، وعدم إعطائها للتمارين المناسبة.
هذه المشكلات وغيرها أدّت بالتالي إلى انتشار كتابة الشروح وكتابة الحواشي والهوامش في النظام التعليمي للحوزة العلمية، بدلاً من تقديم الكتب الجديدة، أو إعادة كتابة وتـنقيح الكتب الموجودة، وإلى اضطرار الطلاب إلى الرجوع إلى هذا النوع من التعليقات؛ لغرض التخلص من المشاكل التي يعانون منها، وإدراك ما يقصده المؤلف. وكمثال على ذلك: تمت كتابة حوالي ستين شرحاً وتعليقةً على كتاب الكفاية([57])، ولابد من القول بأن الهدف من كتابة الشروح والتعليقات لا ينحصر في هذه النقطة فقط، ولكن أهمّ تلك الكتابات تأتي لرفع الإبهام الموجود، وإيضاح مقصود المؤلف، أو نقد جانب من آرائه.
وهذا النوع من الرؤية للكتب، وإلزام الطلبة بقراءتها، يؤدي من الناحية العملية إلى تضييع الكثير من الوقت على بعض النقاط التي لا علاقة لها بأصل القضية، مثل: فهم وحل الصعوبات اللغوية، وإرجاع الضمائر، وغيرها.
ويؤدي هذا التقيّد بالكتب الخاصة إلى إيجاد تكهّنات معينة في أذهان السالكين لهذا المسلك على المدى البعيد، وإبعادهم عن وادي البحث والتحقيق، وأهم هذه التكهّنات هو أنّ هؤلاء العظماء قد قاموا بإنجاز كل ما يستحق التدقيق والتحقيق، ولم يبق أمامنا سوى فهم آرائهم، وأكبر دليل على قوة رأيهم وصوابه هو هذا الثبات وخلود مؤلفاتهم، ولذلك عندما نسمع كلاماً من هذا القبيل يجب أن نصاب بالدهشة: «إنّ الكثير من الكتب الدراسية والمصادر العلمية للحوزة العلمية تعتبر من أرقى وأكمل النظريات العلمية لتلك العلوم، لغاية زمن التأليف، ومن جهة أخرى فإنّ تأليفها كان على يد أفضل العلماء والنوابغ ليس في زمانهم فحسب، بل إنّ بعضهم لم يكن لهم شبيه أو قرين على طول التاريخ، وإلى جانب ذلك فقد تم تأليفها بأسلوب تحقيقي، شيّد على أيدي الأئمة المعصومين^»([58]).
وتمت الإشارة في هذا الحديث إلى نقطتين: الأولى: إنّ قسماً من هذه المؤلفات تعتبر من أفضل ما أنتجه نوابغ التاريخ، والتي لم يكن لها مثيل في أي وقت من الأوقات.
والأخرى: إنّ أسلوب تأليف هذه الأعمال منبثق عن أسلوب المعصومين، وعلى هذا يجب أن يُصار إلى دراسة هذه الكتب وتعلّمها فقط، ولا ينبغي التفكير في تغييرها.
وقد بلغ هذا الإذعان للكتب القديمة إلى الحدّ الذي يتم الادعاء فيه أحياناً أنه لا يستطيع كتاب آخر أن يحلّ محلّها، ويتحدث السيد اعتمادي، أحد الأساتذة المشهورين في الحوزة العلمية، عن هذا الإرث، مدافعاً عنه، بقوله: «يجب أن نقدّر (المعالم)، وأن نعلم بأننا لو تخلّينا عن المعالم فإننا سنفقد هذا المقدار من علم الأصول المنسوب لنا نوعاً ما، وأنه لمن الحيف إضاعة هذه الكنوز، وسوف لن يكون لها بديل. إنّ رسائل ومكاسب الشيخ، وكفاية الآخوند، تعدّ من كنوز الحوزة العلمية التي لا ينبغي إلغاؤها، كما لا توجد بدائل عنها بالفعل، ومن المستبعد تهيئة بدائل عنها»([59]).
فهو إذاً على هذا الرأي، ويعتقد عن جد بتدريس هذه الكتب، والمضي قدماً على سنّة السلف، ولذلك فهو يعتقد بأنه: «يجب أن تبقى جميع هذه الكتب، وأنا أؤمن بهذه المقولة بشكل كامل»([60]).
كما سبق أن قرأنا أنّ الشيخ پاياني كان يتساءل بأننا لو ألغينا (الرسائل) فكيف سنصبح مجتهدين؟([61]). ويتحدث الشيخ محفوظي عن هذه الهواجس قائلاً: «راجعنا أحد الأساتذة؛ لغرض دراسة كتاب (القوانين)، وقلنا: هل بإمكان طالب العلوم الدينية أن يصبح مجتهداً بدون القوانين؟ فأجاب: وهل أنّ صاحب القوانين سبق وأن درس القوانين فصار مجتهداً؟»([62]).
ويعطي الشيخ مصباح اليزدي جواباً دقيقاً عن هذا الافتراض المسبق، القائل بأنه يمكن الوصول إلى مرحلة الاجتهاد عن طريق هذه الكتب المتداولة فقط وليس غير، وهو جديرٌ بأن يُقرأ، حيث يقول سماحته: «يتحدث البعض بكلمات مليئة بالمغالطات، لا تليق بمكانة رجل الدين؛ إذ يقولون مثلاً: إنّ الامام الخميني& أو الآخرين قد درسوا هذه الكتب، ووصلوا إلى ما هم عليه، ولذلك يجب أن ندرس نحن أيضاً هذه الكتب. ولو كان هذا الكلام صحيحاً إذاً يجب أن نقوم نحن بدراسة نفس ذلك الكتاب الذي درسه الشيخ الأنصاري، فأصبح الشيخ الأنصاري. ويجب أن نقوم الآن بتأليف الكتب التي تقوم بإيصال المواضيع بقوة علمية، ولكن بشكل أسرع إلى طلبة العلوم الدينية»([63]).
وتجدر الإشارة إلى وجود رؤيتين في الحوزة العلمية حول الكتب الدراسية: الرؤية الأولى ـ وهي الرؤية السائدة ـ ترى وجوب المضيّ على ذات الطريق الذي سار عليه السلف السابق وبنفس الأسلوب؛ ويرى أصحاب الرأي الثاني وجوب تغيير هذه الكتب. ويرى الفريق الأول أنّ صعوبة النصوص وإبهاماتها تعتبر في الحقيقة نقطة قوة لها، ويقولون: إنّ التعاطي مع هذا النوع من النصوص، والسعي من أجل فهم مقصود المؤلف، يمنح الطلبة المزيد من القوة والمقدرة العلمية، وعلى هذا الرأي كلما ازدادت صعوبة النص انعكس ذلك أكثر على تـنمية القدرة الذهنية للطالب، وعلى ما يسمى بعملية إعداد رجل الدين.
ويقول الشيخ پاياني مدافعاً عن هذه الرؤية: «المكاسب كتاب جيد بشرط أن يدرس بشكل جيد، فهذا الكتاب يربي رجل الدين. ويقول: إنّ كتاب الكفاية لم يكتب لأغراض التدريس، ولكن في نفس الوقت الذي يعدُّ فيه هذا الكتاب صعباً، إلا أنه احتلّ موقعه، وإذا أُلّف كتاب أبسط منه فمن المستبعد جداً أن يؤدّي الدور الذي يصدر عن هذا الكتاب بسهولة»([64]).
ويرفض العلامة العسكري هذا الادعاء القائل بأنه ينشئ ويربّي رجل الدين، ويرى أنّ هذا الرأي مخالف للمنهج التعليمي للأئمة^، ولذا يقول بهذا الخصوص: «يرى البعض في الحوزة العلمية أنّ الكتاب يجب أن يكون صعباً؛ لكي يزيد من القدرة الفكرية للطالب، وهذا بالضبط على العكس مما كان متداولاً في زمن الأئمة^؛ إذ نرى العكس في الروايات المنقولة عن الأئمة، فالذي كان يجيد العربية ويفهمها يفهم بقية الأمور. ومن خلال دراساتي التي قمت بها توصّلت إلى أنّ هذا النمط من التفكير كان متأثراً بنظام التربية والتعليم اليوناني؛ إذ كان علماء اليونان يرون أنّ العلم يجب أن لا يكون مشاعاً للجميع، ويجب أن يكون العلم لطبقة اجتماعية نبيلة، ولذلك كانوا يستخدمون عبارات غامضة. في حين أنّ الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ إذ إنّ منهج القرآن وأهل البيت كان مفهوماً من قبل الجميع، على العكس مما يراه بعض السادة في الوقت الحاضر. وهذا الرأي مخالف لجميع العقلاء في العالم، ومخالف لجامعات العالم»([65]).
كما أنّ الشيخ مصباح اليزدي هو الآخر من المؤيدين الحقيقيين لمبدأ تغيير الكتب والمتون الدراسية، إلى الحدّ الذي يرى فيه: «أن 99% من الكتب الدراسية ـ إذا لم نقل جميعها ـ يجب أن تُغيَّر»([66]).
ولكن حتى بين المؤيدين لمبدأ تغيير الكتب الدراسية نتلمّس هذا التعلّق بتلك الكتب.
ويرى الشيخ معرفت، في ما يتعلق بضرورة تغيير الكتب الدراسية، ما يلي: «لابد من تغيير كتبنا الدراسية، وأن تخرج عن شكلها القديم المعقّد إلى شكل أسهل؛ لأنّ الهدف هو تعلّم العلم، وليس تضييع الوقت في العثور على الضمير؛ إذ إنّ الطالب يمضي نصف عمره من أجل أن يتوصل إلى معرفة إلى من تعود جمل المبتدأ والخبر، في حين يمكن كتابة الكفاية في إطار أبسط وأسهل»([67]).
ولكن يُظهر في مكان آخر ميله وحُبَّه لقسمٍ من هذه الكتب، وينظر لها بنظرةٍ تميّزها عن البقية: «يجب أن يتم تدريس بعض الكتب بنفس هذا المقياس، مثل: كتاب (المغني) لابن هشام، فهذا الكتاب يجب أن لا يلخّص ولا يوسَّع؛ لأنه يتـناول المواضيع بشكل سلس جداً، ويتـناول مواضيع النحو والأدب بمستوى راقٍ جداً وعلمي، وأن يُصار إلى تدريس نفس هذه الكتب. أما في ما يتعلق بالكتب الأخرى، مثل: كتاب (البهجة المرضية)، فهو جيد، وكتاب ألفية ابن مالك يجب أن يبقى؛ بصفته يمثل قواعد اللغة. وأعتقد بأنّ كتاباً مثل كتاب (المغني) يجب أن يبقى كما هو دون تلاعب فيه، ويجب أن يدرس بشكله المطول»([68]).
ولكن كل ما يمكن قوله في نقد الكتب الدراسية الأخرى للحوزة العلمية، من صعوبة المتـن والإبهامات المتعددة، يصدق قولها بخصوص الألفية أيضاً ـ بالإضافة إلى ملاحظة أخرى أرى أن أتجاوزها الآن ـ، ولذلك ما هي الضرورة التي تدعو إلى تغيير كل تلك الكتب، التي تم تأليف معظمها من قبل فقهاء الشيعة، أمّا المطوّل والألفية فلا. والظاهر أنه لا يمكن أن نسوق سبباً لذلك سوى تعلقه بهما، أو التأثير الزائد عن الحد لتلك الافتراضات المسبقة في ذهنه ووجدانه، وخاصةً أنه يرفض المنطق القائل بجعل الكتب الدراسية صعبة، والرامية إلى تـنشئة الملالي، ويقول: «الوضع الفعلي للعالم يرفض هذا الرأي، فالعالم مليء بالعلماء، وأفنى هؤلاء العلماء جلّ وقتهم في حل القضايا العلمية، وليس في حل العبارات والتعقيدات اللفظية، ويجب أن نتجه إلى حلّ التعقيدات العلمية، وليس التعقيدات الإنشائية، وهو المنهج الذي يتقاطع مع أسلوب جميع العلماء والباحثين»([69]).
وفي كل الأحوال فإنّ هذا التعلّق الزائد أدّى في نهاية الأمر إلى بقاء الكتب الدراسية في الحوزة العلمية لعدة قرون أحياناً، هذا البقاء الذي يؤدّي إلى الإضرار بالبحث وروح المثابرة، ويفقد طلبة العلوم الدينية ثقتهم بأنفسهم وبقابلياتهم تدريجياً؛ بسبب سيادة هذه الكتب، التي تخلّفت عن مواكبة العصر من جهة، وتعاني من العديد من التعقيدات أيضاً، ويهدرون الوقت الثمين، الذي يجب أن يستغلّوه في التأمل والتفكير بما خلّفه لنا الأسلاف من إرث ثمين، ونقدها وتقييمها وإصلاحها وتكاملها، يهدرونه في إدراك وفهم التعقيدات الموجودة في هذه الكتب، وعندما ينتبهون إلى هذه الكارثة يكون الوقت قد تأخر كثيراً، ويتحدث الشيخ مكارم الشيرازي بأسف عن هذه المعضلة: «من المؤسف أنّ هذه الثقافة ما زالت هي الطاغية على الحوزة العلمية، وأنّ الكتاب الأكثر تعقيداً، من حيث العبارات، والأكثر غموضاً، يكون مستواه أفضل، وهذا الأمر هو الذي أصبح السبب وراء إهدار جانبٍ كبير من وقت الطلاب على العبارات الغامضة والمبهمة والمعقدة للكتب، ويظنون أنهم أنجزوا شيئاً ما»([70]).
ويشير سماحته أيضاً إلى هذه المعضلة الثقافية فيقول: «إننا نواجه مشكلة ثقافية، وهي أنّ أغلب طلبة العلوم الدينية يعتبرون تعقيد الكتب، وصعوبة فهم العبارات، دليلاً على علمية تلك الكتب، أي إذا قمنا ـ مثلاً ـ بجعل المبتدأ في مكانه والخبر في مكانه أيضاً، وجعلنا العبارات بسيطة وسهلة، سيقولون: إنه يفتقر للعلمية، وعلى رأيهم يجب أن تكون العبارات معقدة، ويجب أن يحتوي الكتاب على عبارة «فتأمل» بستة أوجه، وعبارة «فافهم»، لكي يصبح ذلك الكتاب ذا مستوىً راقٍ من الناحية العلمية»([71]).
ويجب أن لا يتبادر إلى الأذهان بأنّ المراد بهذه الأقوال الحطّ من قيمة تلك الكتب، وكما قلنا سابقاً، فإنّ المشكلة الأساسية لا تكمن في هذه الكتب بذاتها، بل إنّ المشكلة هي في التعاطي مع هذه الكتب غير الدراسية على أنها كتب دراسية، وهو ما أشار إليه الشيخ مهدوي كني بقوله: «هذه الكتب ثمينة جداً، ويجب علينا عدم التخلّي عنها بشكل كامل. ولكنها لا تـنفع أيضاً للتدريس؛ لأنّ هذه الكتب تعود لعدة قرون خلت، وقد ثبت الآن أنّ التأليف والكتابة بشكل معقد وغامض أمرٌ خاطئ»([72]).
وبناءً على ذلك فإنّ أحد الموانع الأخرى أمام انتشار ثقافة البحث والتحقيق هو سيطرة الكتب الدراسية وتعظيمها إلى حدّ القداسة، من حيث النص والمؤلفين.
ج ـ المبالغة في مركزية الماضي
هناك ترويج لثقافة التمسك بالمنهج المتَّبع والقاعدة السائدة، مع رفع شعار المحافظة على سنّة السلف الصالح واتباعه، ومما لا شك فيه أنهم يتمسَّكون بتلك السنن التي أثبت الزمان جدارتها على مرّ التاريخ، ولكن ليس بالإمكان إبعاد هذه القاعدة عن هذه القضية، وهي أنّ كل ما هو متأصل في الحوزة العلمية تمّ وضعه على محك الأيام والأعصار، وعبّر عن صحته وجدارته. وعلى افتراض أننا قبلنا بأنّ كل ما هو شائع في الحوزة العلمية بعنوان أنه سُنَّةٌ تعليمية قد حصل فعلاً بمرور الزمن، وعلى أثر تراكم التجربة، لا يمكن كذلك التوصل إلى هذه النتيجة المنطقية القائلة بأنّ كل ما أظهر جدارته حتى الآن قادر على إظهار جدارته أيضاً من الآن فصاعداً، حتى إذا كانت التجربة قد أثبتت خلاف ذلك.
أما السُنّة الحالية للحوزة العلمية فهي بشكل آخر، وفي ما يتعلق بمنهج التعليم والتعلّم في الحوزة العلمية فإننا نسمع الكثير من الأحاديث الواردة على النمط التالي: «تتألف أساليب التعلّم والتعليم في الحوزة العلمية من أمور مختلفة، ويشكل بعضها أرقى أشكال وأساليب الدراسة والتعليم، وكيفية استـنباط واستخراج الأحكام من المصادر الإلهية وطرق الاجتهاد، وتمثل جانباً من النظام التعليمي المأخوذ عن الأئمة المعصومين^([73]).
ونتيجة مثل هذا الادعاء معروفة، فعندما يكون الأسلوب التعليمي مأخوذاً عن المعصومين، وتمّ تعميقه وتطويره ونشره من قبل مَن لا نظير لهم ولا شبيه على مرِّ التاريخ، فإنّ العمل الوحيد الذي يمكن القيام به يتمثل في المحافظة على هذه الإنجازات، وفي مثل هذه الأجواء فإنّ الحديث عن الإبداع، إن لم نقل: إنه يعدّ بدعةً، فإنّ الحد الأدنى لما نقوله عنه أنه لا يقدر أن يجد موطئاً له.
ويبدو أنّ هذا الادّعاء يضمر نوعاً من التسامح، إن لم نقل مغالطة. وعلى افتراض أنّ الأسلوب المتداول مأخوذ عن المعصومين^ هل يمكن أن نستـنتج من ذلك أنّ العمل به واجبٌ في كل العصور؟ إنّ الحد الأقصى لما يدل عليه مثل هذا القول هو أنّ العمل بهذه الطريقة مستحب، ولكن لا يمكن إطلاقاً أن نفهم من وجود سُنّةٍ في الماضي ـ حتى إذا كان المعصوم قد عمل بها ـ أنها واجبة، كما أنّ المعصومين^ إذا كانوا قد مارسوا الزراعة فإنهم كانوا يستخدمون المحراث والمجرفة، والآن هل يمكن أن نخرج بنتيجة من هذه الحقيقة التاريخية والسُنّة القطعية بأننا لو أردنا أن نزاول الزراعة اليوم أيضاً يجب أن نستخدم الأدوات اليدوية، ولا ينبغي أن نتوسل بماكنية الحراثة (التراكتور)؟ من المستبعد أن يحتكم شخص إلى هذه النتيجة.
وإذا كان بإمكاننا العمل بهذا المستوى في الميادين الأخرى فلماذا لا نستطيع ذلك في ميدان التعليم؟ ألم يعلِّمنا المعصومون أنفسهم السبيل إلى طلب العلم والحكمة، ولو بثمن الغوص في بحور الدم؟ ألم يقل الإمام علي×: «الحكمة ضالّة المؤمن، فاطلبوها، ولو عند المشرك، تكونوا أحق بها؟»([74]).
ولو أردنا حصر عيوب هذا الادعاء فإنّ الحديث سيطول.
ويقول الشيخ مكارم الشيرازي منتقداً هذا المنهج: «إنّ امتلاك السنّة الصالحة لا يعني أن لا نخطو خطوةً أخرى إلى الأمام؛ من أجل إكمال تلك السنّة، والتكامل يكمن في مسار تلك السنن الصالحة، ولكن عبر القيام بتطويرها وإظهار احترامنا وتقديرنا لها، فإننا في ذات الوقت نضفي عليها الدوام والاستمرارية؛ لكي نصبح مصداقاً لمقولة: «واجعل غدي وما بعده أفضل من ساعتي ويومي». وقد عمل السلف الصالح على تكامل علوم الحوزة العلمية ومعارفها، ونحن أيضاً نتحمل هذه المسؤولية، بأن نسعى على قدر استطاعتـنا إلى أداء هذا الواجب»([75]).
ويرى سماحته أنّ: «هذا النمط من التفكير سيقف حائلاً أمام أية حركةٍ تكاملية، وهذا على العكس من سنّة رسول الإسلام الذي يوصينا بأن يكون يومنا أفضل من سابقه»([76]).
ويثير السيد القائد هذا الإشكال على النظرية القائلة بأنّ السلف أوصلوا نظام الحوزة العلمية إلى حدودها القصوى، قائلاً: «ما الدليل على أنّ فضلاءنا ومحققينا لا يستطيعون أن يضيفوا شيئاً على هذا المنهج وجعله متكاملاً؟… ويجب على المحقق اليوم أن لا يكتفي بتلك المنطقة التي عمل عليها الشيخ الأنصاري& مثلاً، ويتعمق أكثر في تلك المنطقة العميقة، فهذا لا يكفي، إذ يجب على المحقق أن يكتشف آفاقاً جديدة. وحقاً إنّ البعض من علماء هذا العصر، والعصر القريب من عصرنا، ليسوا بأقل من الأسلاف، من حيث القوة العلمية ودقّة الرأي، ولكن لابد من انطلاق هذه الإرادة في الحوزة العلمية. ويجب أن تبرز هذه الجرأة والشجاعة، وأن تقبل الحوزة بذلك»([77]).
كما يجب أن لا ننسى أنّ هذه السنّة الحاكمة هي نتاج الجهود المضنية لأولئك الذين لم يتوقفوا عند السنن الشائعة والمتداولة في عصرهم، ولو اكتفى الشيخ الأنصاري أو الآخوند الخراساني بما حققه الأصوليون في عصرهم لم يكن بوسعهم أن يتوصلوا إلى هذه النتائج التي أصبحت اليوم بحد ذاتها هي سنّتـنا الأصولية المعتمدة لدينا. حسبما أشار إلى ذلك السيد القائد، قائلاً: «لو كان الركود على كل ما تعودنا أن نراه أمراً حسناً لما كان بوسع أصولنا أن تتطور أيضاً، ولما كان بوسع فقهنا أيضاً أن يحقق كل هذه التحولات وعمليات التطوير، منذ ألف عام وحتى الآن، وهكذا هو الحال في جميع شؤون الحياة. والتحجّر يعدّ من أحد أكبر الآفات»([78]).
وقد كرر سماحته هذا المضمون عدة مرات، ولكن يبدو أنّ الحكاية ما زالت باقية على حالها. ولغرض تبيين عدم فائدة هذه السنّة، التي تـنعت بعدم البساطة وعدم تقبّلها للنقد، نودُّ أن نشير الآن إلى إحدى النواقص الموجودة فيها باعتراف الجميع، فإنّ اللغة العربية هي مفتاح العلوم الإسلامية، وبدونها لا يمكن لأي شخص أن يحقق النجاح والتوفيق. ومن جهة أخرى نعلم أنّ الأئمة المعصومين^ كانوا معروفين بفصاحتهم في اللغة العربية، وكانوا يطالبون أتباعهم دائماً وبكل جديّة أن يتعلموا هذه اللغة بشكل حسن، وأن يفهموا الآيات والروايات بالشكل الذي يليق بها، ولكن اللغة العربية هذه يتم تدريسها بالشكل الذي لا يستطيع طالب العلوم الدينية معه أن يكتب العربية بشكل صحيح، ولا يقرأها ولا يتكلم بها. يقول المرحوم الشهيد المطهري بهذا الصدد: «يتم تدريس الأدب العربي في حوزات العلوم الدينية، ولكن بطريقة خاطئة. وبالتالي فإنّ طلاب العلوم الدينية، وبعد سنوات عديدة في دراسة الأدب العربي، وعلى الرغم من أنهم يتعلمون قواعد اللغة العربية، إلاّ أنهم لا يتعلمون اللغة العربية نفسها، إذ لا يستطيعون التحدث بها، ولا يستطيعون استخدام العربية الفصيحة، أو أن يكتبوا بالعربية الفصيحة»([79]).
ويذهب الشيخ مصباح اليزدي إلى أبعد من ذلك، فيقول: «هناك الكثير ممن أمضوا أربع أو خمس سنوات في دراسة الأدب، ويقرأون الألفية عن ظهر قلب، ولكنهم لا يستطيعون أن يقرأوا عبارة عربية واحدة بشكل صحيح، لماذا؟ لأنهم لم يتمرّنوا، وأتذكر شخصياً أنّ أحد المراجع احتاج إلى مترجم للتحدث مع شخص كان قد قدم من إحدى الدول العربية»([80]).
من هنا فإنّ السؤال التالي يفرض نفسه، هل أنّ الطريقة المأخوذة عن الأئمة^ ليست ذات فائدة، أم أنّ هذه النسبة ليست صحيحة، وقمنا نحن بتقديس أسلوبنا الذي اعتقدناه، والذي نرضى به وتعودنا عليه ـ على الرغم من عدم فاعليته ـ، ونسبناه دون حق للأئمة المعصومين^، هذه النسبة التي تزعج أولئك الأطهار كثيراً؟
والحربة الأخيرة التي يُستـند عليها في هذا المجال غالباً، هي أقوال الإمام الخميني& حول ضرورة المحافظة على الوضع التقليدي.
لقد تحدث الإمام الخميني& في مناسبات متعددة عن نشاط الحوزة العلمية ومسؤولياتها، ودافع خلال ذلك بشدة عن الفقه التقليدي([81]). وكمثال على ذلك: يقول في أحد الأماكن: «إنّ الشيء الذي حافظ على الإسلام حتى الآن هو الفقه التقليدي. ويجب أن تبذل جميع الجهود لكي يبقى الفقه سالماً بنفس الوضع الذي كان عليه»([82]).
ويقول أيضاً في موضع آخر: «يجب أن يبقى الفقه التقليدي صحيحاً معافىً؛ لأنه يمثل الإرث الذي خلّفه لنا السلف الصالح، والانحراف عنه يؤدي إلى ضعف دعائم التحقيق والتدقيق، وأن يُصار إلى إضافة التحقيقات الجديدة على سابقاتها»([83]).
كما يؤكد في وصيته أيضاً على أهمية الفقه التقليدي، إلى جانب وصاياه المختلفة للمسلمين، بهذه الصورة: «وأن لا ينحرفوا عن الفقه التقليدي قيد أنملة؛ لأنه يعبّر عن المذهب والرسالة والإمامة، بما فيها الأحكام الأولية والأحكام الثانوية اللذان يمثلان مدرسة الفقه الإسلامي»([84]).
ولكن يمثل هذا أحد وجهي العملة، إذ إنّ الإمام&، إلى جانب إحصائه لمزايا هذا الفقه، يؤكد على جملةٍ من العناصر التي لا يمكن حتى للفقه التقليدي من مواصلة مشواره بدونها. وكمثال على ذلك: فإنه يعطي المزيد من الأهمية لعنصري الزمان والمكان، ويؤكد على دورهما، ولذلك فإنه، إلى جانب دفاعه عن فقه الجواهري، يقول أيضاً: «أنا أؤمن بفقه الجواهري التقليدي واجتهاده، وأنّ الخروج عليه لا أراه جائزاً، فالاجتهاد وفق ذلك النظام أمرٌ صحيح، ولكن لا يعني هذا أنّ فقه الاسلام ليس فعّالاً، الزمان والمكان عنصران مهمان في الاجتهاد… ويجب أن يكون المجتهد محيطاً بمسائل زمانه… والهدف الأساسي هو أننا كيف نترجم أصول الفقه المتينة في عمل الفرد والمجتمع، وأن يصبح بإمكاننا الإجابة عن المعضلات»([85]).
ولذلك فإنه على الرغم من كل هذا التأكيد على الفقه التقليدي نراه يشير بصراحة إلى عدم فاعلية الاجتهاد الشائع في الحوزة العلمية ـ والذي ينطبق تماماً على الفقه التقليدي ـ، ويقول: «إلا أنّ الأمر المهم يتمثل في المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع، والذي على أساسه يقوم الحكم الإسلامي بالتخطيط لما فيه مصلحة المسلمين، حيث إنّ وحدة السياق والعمل أمران ضروريان، وهنا نقول: إنّ الاجتهاد المتداول في الحوزات العلمية ليس كافياً»([86]).
ويبدو أنّ الإمام& عندما يدافع بشدة عن الفقه التقليدي فإنّ ذلك يأتي في الوقت الذي يواجه فيه تياراً يطالب الانفصال الكامل عن الموروث والحوزة والفقه التقليدي، ويقول: إنه لابدّ من الانفصال والانقطاع عن الماضي تماماً، والشروع بخطةٍ جديدة، وهنا ينبري سماحته للدفاع عن الفقه التقليدي، إيماناً منه بقابلياته وقدراته الكامنة فيه بالقوة، معتبراً أنّ أي نوع من أنواع الانقطاع عن الموروث يعد حركةً انحرافية، وأنّ الانحراف عنه غير جائز برأيه، والشاهد على هذا الاستـنتاج هو قوله بعد إشارته إلى ضرورة الاهتمام بالفقه الموروث ـ والذي سبق نقله ـ: «من الممكن أن يقول بعض الأشخاص: إنه لابد من الإتيان بفقه جديد، وهذا يعني بداية هلاك الحوزة العلمية، ويجب أن يصار إلى توخي الدقّة في ذلك»([87]).
وبناءً على ذلك لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نستـنتج من حديث الإمام& بأنه يدفع باتجاه التبعية المحضة لسنّة الأسلاف، والامتـناع عن أي نوعٍ من أنواع الإبداع، من هنا فإنّ أغلب المدافعين عن السلف الصالح يكونون منفصلة حقيقية، كما يصطلح على ذلك في المنطق، ويحددون رؤية الجميع.
وطبقاً لهذه الرؤية إمّا أن تتم المحافظة على جميع هذه السنّة، واتباعها بشكل مطلق، وإمّا أن يُصار إلى التخلّي عن سُنّة السلف عملياً، ولا يوجد هناك سبيل ثالث. في حين أنه بالإمكان المساهمة والعمل على تطوير الموروث مع المحافظة على القديم وتـنقيته وترميمه، إنّ التمسك بفقه الجواهري لا يعني القول بأنّ كتاب الجواهر هو أرقى نتاج بشري، وأن نقول: «هناك حاجة لكتاب الجواهر طالما هناك روحاني يتـنفّس، ولذلك فإنّ بعض الأفكار الحديثة التي تعني أن نضع جانباً ذلك الفقه الذي أخذناه عن المشايخ والعلماء إنما هو فكر خاطئ وغير صحيح»([88]).
إنّ اتباع فقه الجواهري يعني وجوب وجود تلك الدقة في الرأي والمسؤولية لدى الفقيه والمتفقه في الوقت الحاضر. ولو كان المرحوم صاحب الجواهر حياً اليوم لكان قد ألف كتابه العظيم ذاك بشكل آخر بالتأكيد، ويقدّمه بصورة أخرى، ويحذف منه بعض المسائل، ويضيف إليه بالمقابل مسائل أخرى، وعلى أية حال سيتحرك طبقاً لروح العصر وثقافته، وكذا الحال للفقيه اليوم أيضاً، إذا كان يريد أن يتمسك بهذا الفقه من الناحية العملية، ويمارس الفقاهة بهذه الصورة، يجب عليه أن يتصرف بهذا الشكل، لا أن يُبعد نفسه عن تـنسّم عبير الحياة، ويتخذ من شعار الدفاع عن فقه الجواهري ذريعةً للتـنصل عن مسؤولياته.
وفي كل الأحوال فإنّ مسألة التمسك بالماضي تحت شعار اتباع السلف الصالح قد أدّى بحد ذاته إلى بروز رؤية أخرى، أدت بالنتيجة إلى عدم طرح الأسئلة في الحوزة.
د ـ فقدان ثقافة السؤال
العلم نتيجة لتراكم التحقيقات وتـنقيتها، وهذا الابن البار هو وليد التساؤل. وكل علمٍ قائم إنما هو مشيّد وثابت على أساس سؤالٍ أو عدة أسئلة أساسية.
إنّ المؤلفات الخالدة لأفلاطون، والتي بقيت لمدة ألفين وخمسمئة عام تقريباً محوراً لجميع التأملات الفلسفية ـ حتى قال وايتهد: إنّ فلسفة الغرب ليست سوى هامشٍ لفلسفة أفلاطون ـ إنما هي وليدة تساؤلات سقراط، وهذا الفقه الواسع اليوم ما هو إلا نتاج أسئلة المكلفين أيضاً، والفلسفة الإسلامية أيضاً كان لها مثل هذا المصير، بناءً على ما قاله المطهري، بأنّ الفلسفة اليونانية عندما دخلت إلى الحضارة الإسلامية كانت تضم حوالي مئتي سؤال، ولكن المسائل بلغت حوالي تسعمئة مسألة على أيدي الفلاسفة الإسلاميين.
من هنا فإنّ أهل الفلسفة من جهة، وما أضافه المسلمون كذلك، إنما هو وليد التساؤلات المشروعة وغير المشروعة. وعليه إذا تقرر في يوم من الأيام أن لا يثير أحدٌ أي سؤال ولا يسأل، فإنّ بساط العلم سيُطوى آنذاك بلا شك، ويشبّه رسول الله‘ العلم بالخزائن التي مفاتيحها السؤال، ولذلك فإنه يُرغّب المسلمين ويحثهم على السؤال([89])، ويتحدث الشيخ جوادي آملي حول هذا الموضوع قائلاً: «حديث الشيخ البهائي في كتاب الكشكول الذي يتسم بجمالية الأدب بهذا الشكل: السؤال أنثى والجواب ذكر، فالسؤال والجواب تزاوجٌ بين الأفكار، ومن خلال التلاقح بينهما يتولّد الشكل الجميل للكلام الصحيح. وعليه إذاً أصبحت المرأة أُمّاً بدون زوج ـ كمريم العذراء÷ ـ فهذه معجزة، كما أنّ الرجل لا يصبح أباً بدون زوجة، وبناءً على ذلك فإنّ الجواب من غير سؤال «تفكير أحادي الجانب»، ولا يتمخض عن نتيجة علمية»([90]).
وبلحاظ هذه التعاليم من الناحية النظرية بإمكان أيّ شخص في الحوزة العلمية أن يبادر ويسأل ما بدا له، ويجعل التعاليم الدينية، وما أنجزه السلف الصالح، على محك التساؤل، وينتقد كل شيء بروحٍ تساؤلية وموزونة، وينطق بكل ما يدور في ذهنه، ويحصل على الإجابة المناسبة. ولكن الأمر ليس كذلك من الناحية العملية. فعندما يتم شحن طالب العلوم الدينية بالنظرية القائلة بأنّ السلف قاموا بتوضيح كل ما كان صحيحاً، وأنهم أجابوا على جميع التساؤلات، وهذا يستلزم أن يكون الجواب الصحيح والممكن هو ما أعطوه فقط، وأنّ أي سؤال آخر يجب أن يأتي فقط بنيّة الفهم الأكثر لآرائهم.
والنتيجة المنطقية للمعتقدات والتكهنات السابقة تقول: إنّ أي سؤال يطمع لنقد الآراء المقبولة هو نوعٌ من البدعة، وشكلٌ من أشكال القُبح، وليس جهداً من أجل توسيع آفاق العلم، وهنا لا يجرؤ أحد أن ينطق تلك العبارة المعروفة التي تقول: «السؤال بدعة»، ولكن من الناحية العملية الأمر كذلك، وطالب العلوم الدينية يتم تلقينه أنه إذا خطرت في ذهنه مسألة معينة، وكان له اعتراض على رأي من الآراء، يجب عليه أن يشير بإصبع الاتهام لنفسه أولاً، ويتهم مستوى فهمه، وأن يبني على أنّ أيّ إشكال موجود نابع: «من قامتـنا غير المنسجمة العارية». ويتعلّم البعض هذه القاعدة بسرعة، ويجعلونها حلقةً في آذانهم على الدوام، ولكن الذين لا يستسلمون بسهولة لهذه القاعدة سيدركون أحقية هذه النظرية بمرور الأيام وعلى أثر التجارب المرّة.
ومن الممكن أن يُقال بدافع الاعتراض: إنّ أي شخص مجاز في إثارة الإشكالات في دروس كبار العلماء، حتى أنّ بعض الأساتذة لديهم مجموعة من الطلاّب معروفون تحديداً باسم «المستشكل».
ولكن يمكن الطعن بهذا الادّعاء الصحيح من عدة جهات:
أولاً: إنّ الهدف الأساس لإثارة الإشكال هو الفهم الأكثر للنص، وليس النقد الجاد للرأي.
ثانياً: إنّ فرصة إثارة الإشكال في الحلقات الدراسية الكبيرة إنما تتهيأ ـ من الناحية العملية ـ لعدد من الأفراد الذين يتخصصون تدريجياً في إثارة الإشكال بذاته، وهدفهم أساساً من الإشكال هو الإشكال فقط لا غير، والبقية يجب أن يكونوا مجرّد مستمعين. وأخيراً وبعد كل هذه الإشكالات يجب أن يقبل المستشكل بخطئه، ويعترف بصور فهمه وإدراكه.
ثم إنّ هذه الإشكالات تقتصر على الحلقات الدراسية فقط، وأما خارج الحلقات فيجب على الجميع اتباع الضوابط والالتزام بها، وفي غير ذلك فإنّ الشخص الذي يريد أن يطرح ما يفكر به، وتوصل إليه بشكل علمي، فإنه سوف لن يلاقي عدم التشجيع فقط، بل من الممكن أن تُفرض عليه بعض القيود لأسباب معينة، ولذلك فإنه غالباً ما يرجّح جانب السلامة، مع الاعتراف بقيمة التأمل والتحقيق في بحر الفكر، والقبول بوجود المزيد من اللآلئ في هذا البحر المتلاطم. ذلك أنّ:
فوائد البحر كثيرة لا حصر لها وإن رمت السلامة فاعتزل
وهذه الموانع ليست رسمية بأي شكل من الأشكال، إلا أنها تعمل كشبكة غير مرئية في منع جولان الفكر وتحرير الأذهان. وذات مرّة توصّل أحد فضلاء الحوزة العلمية عن طريق التأمل والتحقيق في الوثائق الفقهية في إحدى المسائل، وبشكل علمي، متَّبعاً نفس المنهج التقليدي الشائع للاستـنباط في الحوزة العلمية، توصل إلى نتيجة تختلف عن النتيجة المتعارف عليها بشأن تلك المسألة، وهذه القضية لا تروق للبعض، ثم قام فيما بعد بمراجعة إحدى مراكز الأبحاث والتحقيقات، والتي تمتلك مكتبةً ضخمة، بهدف الاستفادة من البحث والتحقيق، وبسبب حرية العمل في الاستفادة من المصادر الموجودة، واستعارة البعض منها أحياناً، وأخذ نفس الكتاب الذي ذكر فيه نتائج أبحاثه الفقهية، وعرضها لمسؤول ذلك المركز، ولكن على العكس مما كان يتوقعه، فبدلاً من أن يتمكن من الاستفادة من المصادر الموجودة قال له مسؤول المركز: إنه لا يستطيع مساعدته في تطوير هذا النمط من الأبحاث، وغير مستعد لوضع المصادر المطلوبة تحت تصرف هذا المحقِّق.
وهذا المثال نموذج بسيط عن طبيعة التعاطي الشائع مع قضية التحقيق، والذي يؤدي إلى خلق روح الإحباط واليأس لدى الأفراد عن الاستمرار في هذا المسار في أقل التقديرات، وبناءً على ذلك ـ إن لم نقل بأنّ السؤال أمرٌ ممنوع ـ يمكن القول بأنه لا يحظى بالتشجيع على الأقل. وأشار بعض الأجلاء إلى هذه الظاهرة المؤلمة بأنها نوعٌ من التحجّر والركود. وهو ما أشار إليه الشيخ جوادي آملي قائلاً: «إذا كان الملاحظ على الحوزة والجامعة بأنها تواصل مسيرتها العلمية منذ مدة طويلة على نفس المنوال والسياق المعتاد فإنّ السبب وراء ذلك يعود إلى عدم السماح بالسؤال والنقد وإثارة الإشكال والشبهات. وهذا الركود والجمود قد يكون هو السبب الرئيس وراء توقف مبدأ العلم وركوده»([91]).
والذي يدعم هذا الكلام هو ما آلت إليه الفلسفة الإسلامية، وخاصة لدى الشيعة؛ إذ إنّ تكامل الفلسفة الإسلامية وتطورها قبل أن يكون نتيجةً للنشاط الفكري للفلاسفة فإنه مدين للأسئلة النقدية وطرح الشبهات، والإشكالات المثارة، وإخراج الشعرة من العجين (كما يقال) من قبل المتكلمين، الذين لم يستسلموا للفلسفة، وكانوا منهمكين في إثبات عدم فاعلية الفلسفة.
ويشير المرحوم المطهري في أبحاثه الفلسفية لهذا الدور التخريبي في ظاهره، والذي كانت له انعكاسات ونتائج محمودة. وكمثال على ذلك: فإنه يقول أثناء البحث في الوجود الذهني في دروسه لشرح المنظومة ما يلي: «ليس للمتكلمين دورٌ في هذا البحث كما هو الحال في جميع الأماكن الأخرى في الفلسفة، ولهم دورٌ تخريبي فقط، وهذا الدور التخريبي يعد دوراً مفيداً جداً كذلك، ألا وهو البحث وإثارة الإشكالات، ودفع الحكماء والفلاسفة إلى بذل المزيد من الجهد، حيث تـنبثق من وسط تلك الجهود والتجاذبات مسائل كثيرة قهراً»([92]).
ولكن يبدو أنّ هذه الحرب المندلعة بين هاتين الطائفتين انتهت لصالح الفلسفة وذابت المباحث الكلامية في قعر الفلسفة، وحصل نوع من الإجماع والتوافق على المواضيع الفلسفية، ولكن من جهة أخرى بدأت ظاهرة ركود الفلسفة أيضاً، إذ لم يبقَ مخالفٌ يستـنفر الفلاسفة إلى بذل الجهد من خلال إثارته الأسئلة والإشكالات. ونتيجة لذلك نسيت الفلسفة أيضاً واجبها الأساسي، وبدلاً من أن يتجه الفلاسفة إلى تحمل عناء الإجابة عن التساؤلات الحقيقية اتجهوا إلى شرح وتفصيل أقوال الأسلاف، وكثرت على أثر ذلك الشروحات وكتابة التعليقات، وهذا في الحقيقة يعني ركود الفلسفة.
وتـنطبق هذه المسألة بشأن أي علمٍ من العلوم، ولا تختص بهذا العلم أو ذاك.
ويؤمن جان استيوارت ميل ـ مفكر القرن التاسع عشر الإنگليزى ـ بهذه المسألة إيماناً كاملاً، لدرجة أنه يوصي بوجوب صياغة المخالف، حتى وإن لم يكن موجوداً، من أجل أن يتطور العلم وينمو.
ويقول آيزايا برلين في شرح آراء ميل: «لكي يصبح أحد المواضيع بمثابة حقيقة حيّة يجب أن يتعرض للاعتراض وإثارة الإشكالات؛ لكي يتمكن من المحافظة على بقائه. وإذا لم يكن هناك جوٌّ من النقاش والجدل، فإنّ الطالب والمعلم سيغرقان في نوم عميق، وسيغلب عليهم الخمول والكسل الناجم عن حفنة من المعتقدات الجازمة العارية عن أيّ نقاش، ولشدة ما يحمله ميل من إيمان عميق تجاه هذا الموضوع نراه يقول: إذا لم يكن هناك من مخالف، فلكي نتمكن من المحافظة على سلامتـنا الفكرية يجب أن نقوم نحن بإيجاد المخالف»([93]).
وكانت الحوزات العلمية في السابق تسير وفقاً لهذا المنطق أيضاً؛ إذ كان كل فقيه أو متكلم يقوم بعرض آرائه، وينبري الآخرون دون أدنى تردد بالنقد وإثارة الإشكالات، إذا كانوا يخالفون آراءه، ولم يعتبروا هذا العمل سلبياً أو بدافع الاضطرار؛ بل يعدّ نوعاً من الجهاد العلمي والمساهمة في تطوير العلم، وهذا الأسلوب كان يشمل جميع العلوم المتداولة، حتى أنّ قضية الإمامة، التي كانت تحظى باتفاق جميع علماء الشيعة، وأساس هويتهم الدينية، تخضع هي الأخرى للنقاش والمجادلة، وتطرح آراء مختلفة في هذا الباب.
وينقل النجاشي العالم الرجالي المعروف ـ وكتابه في هذا الباب مشهور معروف ـ قصةً حول شيوع ثقافة النقد بين أفراد السلف الصالح، فيها الكثير من العبر، وخلاصة القصة أنّ ابن قبة ـ وهو من متكلمي الشيعة المعروفين، وكان يعيش في بلاد الري ـ ألّف كتاباً تحت عنوان «الإنصاف في باب الإمامة»، ووقع هذا الكتاب بيد أبي القاسم البلخي، عن طريق شخص يعرف باسم أبي الحسن سوسنگردى، وكان قد سافر من الري إلى بلخ لزيارته، والبلخي أيضاً من متكلمي الشيعة المشهورين، ولكنه لم يوافق آراء ابن قبة، ولذلك ألف كتاباً في نقد هذا الكتاب باسم «المسترشد في الإمامة»، خلال الفترة التي كان فيها أبو الحسن ضيفه. وعاد أبو الحسن إلى الري، وجلب معه ذلك النقد أيضاً، وأعطاه لابن قبّة، وقام ابن قبة أيضاً بنقد هذا الكتاب، وأسماه (المستثبت في الإمامة)، وأوصله عن طريق ذلك الشخص للبلخي أيضاً، وعاد البلخي مرةً أخرى، وكتب نقداً على هذا الكتاب باسم (نقض المستثبت)، وأرسله إلى ابن قبة. ولكن عندما وصل أبو الحسن إلى الري علم بأنّ ابن قبة قد فارق الحياة، وإلاّ لربما قد يكتب نقداً آخر على هذا النقد. ولهذه القصة العديد من العبر والملاحظات غير المطروقة في باب فاعلية وحركية السلف.
ويقول قائد الثورة الإسلامية، بعد نقله لهذه القصة بشكل مفصَّل: «أرى أنّ القضية على قدر كبير من الأهمية، أولاً: لأنّ القضية هي قضية الإمامة ـ كتابٌ حول الإمامة ـ، وهو كتابٌ في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن لأي شخص أن يكتب كل ما يخطر بباله حول الإمامة… يحمل إليه الكتاب عدة مرات، فينظر فيه، ثم يرد عليه، أي أنّ أيّاً منهما لم يكفِّر الآخر، أو يتهمه بأنه على مذهب السنّة والجماعة، ولم يتهما بعضهما البعض بالخروج عن المذهب. وهذا مهم جداً ـ في باب الإمامة ـ، حسناً إنها عقيدة، إنه ذوق»([94]).
وهذه الثقافة كانت شائعة بين الحوزات العلمية الشيعية في القرن الخامس الهجري، ولكن هل من الممكن الآن أن نتحدث عن مثل هذه الثقافة؟! لقد شاهدنا في القصة أعلاه نقاشاً واقعياً وحقيقياً، وهذا الأمر هو الذي تسبب في ازدهار العلوم الإسلامية في القرون الذهبية، وأما اليوم فمن الممكن أن نعثر على هذه الأجواء في القصص فقط، ولا وجود للنقاش والحوار، أو الديالوك كما يعبرون اليوم، وبالنتيجة لا يمكن أن نتوقع أيضاً حصول تطورٍ في العلوم وانتشارها، وهل أنّ الركود والإحباط شيء آخر غير ما نحن فيه.
ويعبر السيد القائد عن هذه الظاهرة بأنها تعني التحجر والطامة الكبرى للقرن، ويقول في هذا الصدد: «إنّ التحجّر في الأساليب والأفكار بلاءٌ كبير، وإذا كنّا نعاني من التحجر، فسوف لن يتم أي تغيير وأي تحرك وأي تطور»([95]).
ثم يعتبر سماحته أنّ الحرية الفكرية هي الحلّ الأمثل لهذه المعضلة، ويصفها قائلاً: «ما معنى الحرية الفكرية؟ إنها تعني تحمل الرأي المعارض. ولا تعني الحرية الفكرية أن يتحرر الإنسان من جميع الأصول والأسس الصحيحة، ويطرح شيئاً باعتباره فكراً؛ كلا، هذا هو معناه([96])، ولكن إذا ذكرت قضية ما بصفتها كلاماً جديراً عليه أن يتحمل ذلك، وأتوقع أنّ هذا هو المراد به، ولا يعني تحمّل الكلام المعارض أن توافقوه على كلامه وتقبلوه، أو تتركوه دون جواب. كلا، لقد تحدثت في كلمتي في مدينة قم بشكل مفصل في هذا المجال ـ ولا أكرره هنا ـ، إنه يعني أن تسمح للمتحدث بإكمال حديثه، ثم تقوم بالرد عليه عن طريق الاستدلال»([97]).
وتطرق سماحته خلال كلمته في مدينة قم إلى هذه النقطة أيضاً، وبعد أن يستعرض المعضلات الموجودة يقدّم الحلول اللازمة، والتي تتمثل إحداها بإيجاد أجواءٍ مفتوحة لتـنمية الأفكار. ومقترحه بهذا الخصوص هو أن يُصار إلى إيجاد أجواءٍ معينة في الحوزة العلمية ـ حتى لو كانت بشكل رسمي، وبدعمٍ من مركز المديرية ـ، وأن يأتي كل من لديه رأي معين، وفي أي مجال كان ـ حتى لو كان يبدو عديم الفائدة ـ ويطرحه دون أدنى تردد وخوف، وعلى الآخرين أن يردوا عليه رداً استدلالياً، ويكشفوا له عن نقاط الضعف الموجودة، بدلاً من التعامل معه بشكل مهين.
«يجب أن تتوفر الأجواء اللازمة في الحوزة العلمية للتعبير عن الرأي، والذين لديهم آراء جديدة يجب أن يأتوا ويتحدثوا، ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومن الممكن أن يكون أصل الموضوع المطروح خاطئاً ولا أساس له من الصحة، ولكن قد يتوصل الحاضر أثناء الطرح إلى فكرة جديدة، وينفتح بذلك المجال أمام طرح الأفكار الجديدة»([98]).
وخلاصة القول: الحرية الفكرية تعني الالتزام الواعي بما نعتقد به، والدفاع عنه بأسلوب منطقي. وبعبارة أخرى: حرية الفكر تعني النزوع إلى المنطق، كما قال الشاعر:
يجب أن تكون الأدلة قوية ومعنوية وليست أوداج رقبة
دعائم ثقافة البحث والتحقيق
تخلق العناصر الأربعة الآنفة الذكر بمجملها أجواءً معينة، يمكن أن تُجرى في ظلها أبحاث ودراسات واقعية، وتقوم هذه العناصر بذاتها على جملة من المقدمات، قمنا بتوضيح البعض منها، والبعض الآخر سيتّضخ أيضاً بقليلٍ من التأمل. وفي المقابل فإنّ ثقافة التحقيق تقوم على مقدمات يؤدّي التشكيك بها أو إنكارها إلى قتل روح البحث والتحقيق. وعلى سبيل المثال: لو تمّ القبول بالمقدمة القائلة: إنّ قضية التفقه في الدين ـ والتي يُعنى بها القرآن ـ، أي الجهود الفقهية المتعارفة، تدل بشكل طبيعي تماماً على أنّ جميع الجهود يجب أن تُبذل في مجال الفقه، وأن تـنسى بقية العلوم الأخرى. فلو تمّ القبول بهذه المقدمة، وهي أنّ جميع القضايا قد ذُكرت من قبل الأسلاف، وأنّ واجبنا الوحيد ينحصر فقط في فهم أقوالهم، لأصبح من المعقول جداً أن لا يتطرق أي شخص لذكر المسائل الجديدة، وأن لا يُحسب لها أي حساب.
ولذلك نرى أنه عندما يكون من المقرر أن يقدّم الطلبة رسالةً تحقيقية يجب عليهم أن يتـناولوا نفس القضايا التي تـناولها فقهاء السلف بالتفصيل، وذهبوا إلى الأعماق المنطقية لكل قضية منها أيضاً، وقد جاء في تبيين جزئيات هذه القضية ما يلي: «انطلاقاً من ضرورة قيام الطلبة الراغبين بإكمال المراحل العلمية الثالثة والرابعة من مرحلة السطوح، وبعد إكمالهم للملفات، والنجاح في امتحانات السطوح المذكورة، بكتابة الرسالة العلمية، فقد تم تأسيس مكتب دراسة الرسائل العلمية التابع لمعاونية التعليم»([99]).
حينئذٍ تقوم هذه الدائرة بتقديم المواضيع التالية كنموذج للمواضيع التي بإمكان الطلبة اختيارها لأبحاثهم: «مقادير الديات، النكاح المنقطع، الحجاب، الطواف في العمرة والحج وصلاته، طرق ثبوت الهلال، الربا في الفقه الإسلامي، التصوير في الفقه الإسلامي، ذبائح الكفار، أحكام المرتد، شهادة المرأة في الفقه الإسلامي، حكم صلاة الجمعة في زمن الغيبة، في تـنجيس المتـنجّس، في عيوب المرأة الموجبة لفسخ النكاح وأحكامها، الرضاع يوجب الحرمة في الجملة، بحث حول التقليد وتقليد الأعلم»([100]).
العناوين أعلاه والمواضيع المقدّمة في مجال علم الأصول أيضاً نوقشت وبُحثت عدة مرات. ويتم تقديم هذا النمط من المواضيع استـناداً إلى مقدّمات خاصة، لا مجال هنا للتطرق إليها ودراستها.
من هنا يبدو أنه قبل تقديم أية حلول لتوسيع ونشر ثقافة البحث والتحقيق في الحوزة العلمية لابد من القيام بإصلاح جملةٍ من المقدمات القطعية الموجودة. وبعد ذلك تأتي إمكانية التحدث عن الحلول المختلفة، وبغير ذلك فإنّ إقامة محاضرات عن منهج التحقيق لن يحلّ أية عقدة؛ لأنّ من لم يجعل التحقيق هدفاً للحوزة العلمية بالأساس، ويرى أنّ جميع الأعمال المطلوبة قد تمّ إنجازها، ولم يبق لديه أي تساؤل جاد يثير ذهنه، بل حتى لو كان هناك ما يثير ذهنه، فإنّ الموانع والمخاطر المحدقة في هذا المجال ستحول دون القيام بأية محاولة، ولن يتوجه نحو التحقيق إطلاقاً. وإذا قام بإنجاز عملٍ ما؛ بدافع الضرورة؛ وبهدف إسقاط الواجب وتقديم رسالة علمية، فسيأتي ذلك في حدود إسقاط الواجب فقط.
وبناءً على ذلك فإنّ الخطوة الأولى تتمثل بإصلاح المقدمات الموجودة والقبول بجملةٍ من المقدّمات الأخرى، ومن أهم المقدّمات التي يجب قبولها وإدخالها في وجدان الحوزة العلمية ومنهج عملها:
أولاً: إنّ حقيقة الإسلام في زمن نزول الوحي كانت عبارة عن كتلة واحدة ومتماسكة، مثل المواد المنصهرة التي تـنطلق من فوهة البركان. وبمرور الزمان؛ وانطلاقاً من متطلبات المجتمع الإسلامي وما يحتاجه المسلمون، توسّعت هذه الحقيقة وخرجت بصور متعددة. وفي هذا الوقت بالذات برز علم الفقه وتبلورت صورته، واتخذ لنفسه سبيلاً غير سبيل علم الكلام، أو أنّ التفسير قد تحمّل أعباء مسؤولية أخرى، تختلف عن مسؤولية الفقه، ولكن هذا الانفصال لم يكن بمعنى القيمة والأهمية في الحكم والفصل؛ إذ إنّ جميع هذه العلوم منبثقة من الدين، وهي متساوية في القيمة والأهمية. ولذلك يجب أن ننظر إلى التفسير والكلام والحديث بنفس القدر من القيمة والأهمية التي يُنظر بها اليوم للفقه فقط دون غيره؛ لأنّ هذا التقسيم هو تقسيم اعتباري، وبهدف تحقيق المزيد من التخصص في الميادين المختلفة.
ثانياً: نص القرآن الكريم وأقوال الأئمة المعصومين^ هي وحدها التي تحظى بالقدسية في الثقافة الشيعية الأصيلة، ولهذا يجب أن لا نتعامل مع الكتب الموجودة على أنها كتب مقدسة، مع كل ما تحمله تلك الكتب من قيمة عالية، وأن لا نذهب أبعد مما هي عليه، والكتب الموجودة أخذت مكان الكتب التي سبقتها بسبب ما تمتلكه من مؤهلات وقابليات، وبإمكانها هي الأخرى ـ ويجب ذلك في الواقع ـ أن تعطي مكانها لكتبٍ أخرى.
ثالثاً: امتازت سنّة السلف الصالح بالذهاب إلى أبعد من أحوال زمانهم، ولذلك غالباً ما كانوا مهجورين في زمانهم، ومواصلة سنّة هذا السلف بمعناها الحقيقي إنما تتمثل في القيام بمثل ما قاموا به في الظروف المشابهة، وليس في الاتّباع المطلق وعدم الاجتهاد. كما يجب أن لا ننسى أنّ هذا السلف الصالح كانوا من المجددين أيضاً في زمانهم، ومن المعروفين بالإبداع والحداثة، ومع كل ذلك فقد كانوا أبناء زمانهم، ويجب علينا نحن أيضاً أن نكون أبناء زماننا، وأن نتيقّن «بأنهم رجال، ونحن رجال».
رابعاً: إنّ كل ما نقيّمه اليوم على أنه إرث الشيعة، ونتعامل معه بإجلال وإكبار، ونعظّمه لدرجة القداسة، هو نتاج التفكير الحر لأولئك العظام الذين لم ينظروا إلى تقوية الدين والدفاع عن شوكته في التعصب والتحجّر، وانطلاقاً من إيمانهم بمنهج المعصومين^ كانوا يعتقدون بأنّ «للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد». من هنا لم يغلقوا أبواب التساؤل على أنفسهم، وكانوا يجعلون أنفسهم في مهب رياح أسئلة الآخرين المنعشة، وبهذا الشكل لم ينظروا إلى هذه الاعتراضات والإشكالات المثارة على أنها حجر عثرة، بل منهجٍ لتكامل وعلوّ مذهبهم.
وأدت هذه النظرة بهم إلى أنه إذا انبرى أحد الأشخاص في مكان ما بمعارضة السنة والأصول المقبولة بأسلوب متحرر أن لا يصابوا بالتوتر، ويمسكوا بعصا التكفير والتـنسيق، بل يستـنطقون القرآن والحديث من خلال الفهم الدقيق للإشكالات والاعتراضات، ويتوصلون أخيراً إلى إجابةٍ جديدة مقنعة، دون اللجوء إلى تكرار الإجابات القديمة، وإيذاء الخصم إذا لم يقبل بها. هذه الرؤية هي التي قادت العلوم الإسلامية نحو الكمال وأوصلتها إلى القمة. من هنا إذا كنا بصدد إحياء هذه السنّة فليس أمامنا من سبيل سوى إشاعة ثقافة السؤال. وإذا كنا نشعر بالخسارة على المدى القصير، فمن المؤكد أن نكون نحن الرابحين الحقيقيين على المدى الطويل.
خامساً: علينا أن نقتـنع بأنّ هدف الحوزة العلمية ليس في إعداد المجتهدين فقط، بل هو أحد أهدافها ليس أكثر، وبغير ذلك فإن جميع الإمكانيات سوف يتم توجيهها صوب الاجتهاد المتعارف، والجهود التي ينبغي أن تبذل على التحقيق سوف تبذل في الأعمال التي قلّما تؤدي الوصول إلى نتيجة معينة، وإذا ما توصلت إلى نتيجة تذكر فإنها ستفشل أيضاً في حلّ المعضلات الكبيرة، وبناءً على ذلك يجب أن نؤمن إيماناً عميقاً بالمقولة التي تقول: إنّ المحقق كالمجتهد ـ بالمعنى الاصطلاحي له ـ، وهو ليس بأقل منه، لا أن نقول: بما أنه لا يمتلك القدرة على الاجتهاد اتجّه نحو عملٍ آخر.
إذا تمّ القبول بهذه المقدمات فمن الممكن آنذاك التفكير بالبرامج التـنفيذية، وبعكسه فمن المستبعد أن يؤدي أي برنامج من سنخ البرامج التي سبق طرحها إلى إحراز تقدمٍ يذكر، كما أنّ إصلاح وتغيير المقدِّمات المسيطرة ليست بالأمر الهيّن، ولكنّه في كل الأحوال ممكن.
ولا أقصد في هذه المقالة أن أتجرأ وأتطاول على مكانة ومنزلة أيٍّ من الأفاضل والأجلاّء، الذين ذكرت أسماءهم، ونقلت جانباً من أقوالهم، وإذا بدا شيء من ذلك فإنما جاء عن طريق السهو والخطأ. وإني لأشعر بالفخر والاعتزاز بأني تتلمذت لسنوات عديدة لدى بعض هؤلاء الأفاضل، كالشيخ پاياني، والسيد اعتمادي، والشيخ مكارم الشيرازي، ونهلت الكثير من فيض علمهم، ولم ولن أنسَ حقّهم المعنوي عليّ.
اللهم، إن كنا قد أخطأنا القول فنسألك إصلاحه، أنت المصلح، وأنت سلطان الكلام.
الهوامش
(*) باحث في الفكر الديني، متخصِّص في مباحث الاستـنساخ، وأحد نقاد المدرسة التفكيكية في إيران.
([1]) رسالة الحوزة: 15، صيف عام 1380هـ ش، 2001م.
([4]) الحوزات العلمية حاضراً ومستقبلاً: لقاء مع الشيخ مكارم الشيرازي. رسالة الحوزة: 91، العدد الأول (خريف 1372، 1993م).
([5]) المصدر نفسه: 103، العدد 12، (شتاء 1375، 1996م).
([6]) المصدر نفسه: 110، حوار مع الشيخ مصباح اليزدي.
([7]) أحمد شاملو، في الجدل في الظلام: 293، طهران: الحديث، 1376 (1997م).
([8]) تحديد المعوقات وسبل تطوير الأبحاث في الحوزة، مجلة الأبحاث والحوزة: 12 ـ 13، السنة الأولى، العدد 3 (خريف 1379هـ ش، 2000م).
([9]) نهج البلاغة: 429، ترجمة سيد جعفر شهيدي، طهران، دار نشر وتعليم الثورة الإسلامية (1373هـ ش، 1994م).
([10]) وثيقة الولاية: 35، حاضر الحوزة ومستقبلها في رؤية سماحة قائد الثورة، قم، مكتب الإعلامي الإسلامي.
([11]) مجلة رسالة الحوزة: 71، العدد 12.
([12]) علي نصيري، الأبحاث في الحوزة العلمية والمعوقات، مجلة الأبحاث والحوزة: 12، العدد 5، (ربيع عام 1380هـ ش، 2001م).
([13]) الشهيد الأول، القواعد والفوائد: 30، تحقيق: عبد الهادي الحكيم، قم، مكتبة المفيد.
([15]) وهي ذكرى نفي الإمام الخميني& من قبل النظام الشاهنشاهي إلى تركيا في هذا اليوم من عام 1343هـ ش، الموافق للثالث من شهر نوفمبر 1963م.
([16]) رسالة الحوزة: 45، العدد 7.
([17]) المصدر السابق: 11، العدد 2.
([18]) المصدر السابق: 59، العدد 9.
([20]) مجلة رسالة الحوزة: 70، العدد 12.
([22]) مجلة رسالة الحوزة: 70، العدد 9.
([23]) المصدر السابق: 91 ـ 92، العدد 12.
([24]) مجلة رسالة الحوزة: 157 ـ 158، العدد 10 و11.
([28]) المصدر السابق: 59 ـ 60، العدد 8.
([29]) المصدر السابق: 94، العدد 12.
([31]) مجلة رسالة الحوزة: 89، العدد 6، نقدٌ على النظام التعليمي وامتحانات الحوزة العلمية.
([32]) المصدر السابق: 151، العدد 10 و11.
([33]) المصدر السابق: 151، العدد 12، حوار مع الشيخ رباني گلبايكاني.
([34]) المصدر السابق: 52، العدد 1.
([35]) المصدر السابق: 57، العدد 7.
([37]) وثيقة الولاية: 26 ـ 27.
([39]) مجلة رسالة الحوزة: 146، العدد 10 و11.
([40]) الشهيد السيد محمد باقر الصدر&، الآفاق المستقبلية لحركة الاجتهاد، ترجمة: السيد حسن إسلامي، المنشورة في نظرة متأملة في النظام التعليمي للحوزة: 273، قم، مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية في قم المقدسة، 1375هـ ش، 1996م.
([42]) تجربة حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران، في حوار موسّع مع الشيخ هاشمي رفسنجاني، رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، مجلة الحكومة الإسلامية الفصلية: 24، العدد 15، ربيع 1379هـ ش، ربيع 2000م.
([43]) المصدر نفسه: 14، تقرير لقاء الباحثين والمحققين في مركز الأبحاث العلمية لسكرتارية مجلس الخبراء والعاملين في مجلة الحكومة الإسلامية مع السيد القائد.
([44]) مرتضى المطهري، المقالات العشر: 250، طهران، دار نشر حكمت، 1356هـ ش، 1977م.
([48]) مجلة فكر الحوزة الفصلية: 14، السنة الثالثة، العدد الأول (صيف 1376هـ ش، 1997م).
([49]) مجلة رسالة الحوزة (پيام حوزه): 3، الافتتاحية، العدد 7.
([51]) المصدر نفسه: 79، العدد 9.
([54]) انظر بهذا الشأن مقنعة الكتاب المذكور الذي يحمل العناوين التالية:
مبادئ علم النفس لهيلگارد، ريتا انگيسون و…، والمترجمون: محمد تقي براهيني و…، طهران: دار نشر رشد، 1378هـ ش، 1999م.
([55]) مجلة رسالة الحوزة: 146، العدد 10 و11.
([56]) المصدر نفسه: 62، العدد 12.
([57]) انظر بهذا الخصوص إلى مقدمة التصحيح النقديّة لهذا الكتاب الذي يحمل العناوين التالية:
الآخوند محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 26، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1409هـ.
([58]) مجلة رسالة الحوزة، الافتتاحية: 4، العدد 9.
([59]) مجلة رسالة الحوزة: 65، العدد 8.
([61]) المصدر نفسه: 68 العدد 9.
([63]) المصدر نفسه: 110، العدد 12.
([64]) المصدر نفسه: 69، العدد 9.
([65]) المصدر نفسه: 64 ـ 65، العدد 9.
([66]) المصدر نفسه: 110، العدد 12.
([67]) المصدر نفسه: 147، العدد 10 و11.
([70]) المصدر نفسه: 60، العدد 12.
([73]) مجلة رسالة الحوزة، الافتتاحية: 3، العدد 9.
([74]) محمد محمدي ري شهري، ميزان الحكمة 1: 671، قم، دار الحديث، 1375هـ ش، 1996م، وقد وردت في هذه الصفحة أحاديث أخرى بهذا المضمون.
([75]) مجلة رسالة الحوزة: 31، العدد 9.
([76]) المصدر السابق: 31 ـ 32.
([77]) منشور الولاية: 25 ـ 26.
([78]) أنوار اللقاء، خطاب سماحة السيد قائد الثورة الإسلامية في مدينة قم المقدسة (14/7/1379هـ ش، 5/9/2000م): 23 ـ 24، مكتب الإعلام الإسلامي، 1379هـ ش، 2000م.
([79]) المقالات العشر: 249 ـ 250.
([80]) مجلة رسالة الحوزة: 109، العدد 12.
([81]) انظر: صحيفة الإمام 15: 219؛ و20: 441؛ 21: 287 و399.
([83]) المصدر نفسه 21: 425 ـ 426.
([84]) المصدر السابق: 399 ـ 400.
([88]) كلمة الشيخ فاضل لنكراني&، مجلة رسالة الحوزة: 26، العدد 9.
([89]) انظر: ميزان الحكمة 2: 1216.
([90]) حديث الشيخ جوادي تحت عنوان الحوزات العلمية والأبحاث الدينية، المنشور في الأبحاث الدينية (1).
([92]) الشرح المفصل للمنظومة: دروس الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري 1: 273، طهران: دار نشر الحكمة، 1404هـ.
([93]) آيزايا برلين، أربع مقالات عن الحرية: 327، ترجمة: محمد علي موحد، طهران: دار نشر الخوارزمي، 1368هـ ش، 1989م.
([94]) كلمة السيد قائد الثورة في جمعٍ من رجال الدين في خراسان، مجلة فكر الحوزة: 22، العدد 3، (صيف عام 1376هـ ش، 1997م).
([96]) هكذا وردت العبارة في النص، ويبدو أنه خطأ مطبعي، وعلى أية حال فإنّ المعنى سيتضح في الجمل التالية.
([99]) مجلة رسالة الحوزة: 26، العدد 5، ربيع 1374هـ ش، 1995م.