أحدث المقالات
امتدت انعكاسات التغريب والعولمة الثقافية على اللغة العربية. فقد تكرس إقصاؤها عن الساحة التجارية والمالية، وكذا عن تدريس الحقول العلمية والتطبيقية وأصبح واقعا متجذرا في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. وقد يمتد هذا الإقصاء ليشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية وبنفس الدعاوى والحجج. ليس هذا فحسب بل صارت بعض إدارات المدارس الخاصة في بعض الدول العربية تتنافس على تحويل مناهجها جزئيا أو كليا الى اللغة الإنجليزية. وغدا هذا التحول عنوانا لمواكبة التقدم والتطور، وأصبح التباهي نحو هذا التحول ظاهرة عامة ليس في المراحل الثانوية أو الجامعية بل حتى في المرحلة الابتدائية والإعدادية في بعض الدول. وبشكل عام تم تقليص المواد اللغوية والأدبية العربية من المناهج التعليمية في بعض الدول بحجة التخفيف بشكل عام وبالأخص لمن في التخصصات العلمية لعدم حاجتهم إليها.
والنتيجة الطبيعية لكل ذلك هو نشأة جيل من مخرجات التعليم يواجه صعوبات جمة حين يريد التعبير عن مقاصده ومكنوناته ورغباته وأذواقه ومشاعره باللغة العربية. ولقد غدا إقحام مفردات أجنبية في الأحاديث اليومية والحوارات العادية لدى بعض الشرائح شبه ظاهرة عامة ومعتادة، بعد أن كانت هذه الظاهرة مقتصرة على الأروقة الأكاديمية والبحوث العلمية. بل صار الواحد منهم لا يتقن كتابة فقرة واحدة مكونة من عدة جمل باللغة العربية.
انها حقا لأزمة ان تهمش أمة ـ ولا أقول تتخلى عن ـ لغتها القومية التي هي قوام هويتها وثقافتها وهي لغة كتابها السماوي الخالد ولغة عباداتها وشعائرها الدينية اليومية ولغة تاريخها وتراثها وثقافتها. إنها لأزمة عميقة ان لا يتقن جيل من مخرجات التعليم العام والخاص لغته الوطنية والقومية ولا يجد راحة في التحدث بها في محادثاته ومحاوراته الاعتيادية اليومية. كما تعرضت المقررات الإسلامية في بعض الدول ذات الثقل في العالم العربي للتقليص والتهميش تحت دواعي معروفة. وتم تخفيف مقررات حفظ القرآن الكريم ودراسته وتفسيره وكذلك الحال بالنسبة للسنة النبوية والسيرة النبوية المطهرتين. كما طال مقص التقليص مواد التاريخ العربي الاسلامي بما فيه التاريخ المعاصر حيث صار الطالب المتخرج يكاد يجهل تاريخه وتاريخ أمته فضلا عن أن يعي ويدرك أبعاد ما تعرضت له وواجهته امته ـ ولا تزال ـ من أخطار وتحديات. وصار الطالب الذي يتخرج من المرحلة الثانوية والجامعية لا يكاد يعرف شيئا عن الوثيقة الدستورية في دولة المدينة ( الصحيفة) والتي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتنظيم العلاقات بين المسلمين واليهود في المدينة. ويجهل مكائد اليهود ضد المسلمين ولا يكاد يعرف شيئا عن غزوات المسلمين مثل غزوة بدر والأحزاب وخيبر. ليس هذا فحسب بل لعله يجهل تاريخ الحملات الصليبية وحملة نابليون على مصر وتاريخ الاستعمار الغربي للعالم العربي والاسلامي. وربما لم يسمع شيئا عن رسائل الحسين بن علي ومكماهون ووعد بلفور وسايكس بيكو وما شاكل.
وبذلك فقد استكملت حلقات إقصاء أبرز المقررات والمواد التي تعنى بتنشئة الأجيال على الاعتزاز بهويتها والتي تهتم بتعميق انتمائها لأمة العرب والمسلمين ولتكون على علم ودراية بفكرها وتاريخها وتراثها وثقافتها. هذا في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى تكثيف البرامج والمشاريع التثقيفية للتأكيد على خصوصيات الهوية العربية الإسلامية لإحداث نوع من التوازن بينها وبين الكم الهائل من البرامج التي تتلقاها الأجيال الصاعدة عبر الأقمار الصناعية وشبكات المعلومات وسائر وسائل الإتصال الحديثة العابرة للفضاءات.
ان تهميش المقررات الدينية والتاريخية والقومية من شأنه أن يفقد التربويين وسيلة تربوية من أنجع الوسائل لتعميق مبادئ وقيم الصلاح والخير والحب والإخاء في المجتمعات. فإن من الثابت ان تأثير التعليمات الدينية والقواعد الإيمانية على الإنسان هي من أقوى التأثيرات، وانه بالاستناد عليها يمكن وضع مناهج وبرامج لإيجاد ليس فقط المواطن الصالح بل الإنسان الصالح في العالم.
وفي هذا السياق لا بد من التنويه إلى أن التوجيهات السامية لجلالة السلطان بتغيير مادة الثقافة الإسلامية إلى مسمى التربية الإسلامية وزيادة حصصها لتعزيز القيم والتعاليم الصحيحة للدين الحنيف، جاءت لتضع الأمور في مواضعها ولترسي قاعدة عامة تسترشد بها المناهج التربوية لإعداد جيل واع ومنفتح وفي ذات الوقت متمسك بمبادئه وقيمه الدينية.
إن على الدول العربية والمسلمة ان تقنع العالم بأن المناهج التربوية الإسلامية لو أعدت بشكل سليم، فإن من شأنها أن ترسخ قيم العفو والصفح والصدق واحترام المواثيق وصون الأسرة وتقوية الأواصر الرحمية والمجتمعية واحترام الآخر والتعامل مع الإنسان مهما كان دينه ولونه وثقافته على أساس البر والقسط.
ولهذا عليها ان تواجه هذا التحدي أمام العالم ومنظماته ومؤسساته وتقوم بالفعل بمشروع مراجعة شاملة للمناهج التعليمية ووضع مناهج جديدة قائمة على المنظومة القيمية
والأخلاقية الإسلامية التي تعلي من شأن العقل والفطرة واحترام القيم الإنسانية وتوائم بين متطلبات الروح والجسد وتوازن بين الدنيا والآخرة. أما أن تقوم دول عربية ومسلمة وازنة باتخاذ مسلك الانكفاء والإنزواء بحيث لا تقوى إلا على القيام بمراجعات مرتجلة وغير مدروسة لمناهجها فتقلصها وتهمشها إلى مستوى التشويه للمادة التعليمية والى حد يؤدي مع الزمن الى نوع من القطيعة مع الجذور والأصول الثقافية والحضارية والتاريخية للأمة، فإن هذا الموقف يشكل هروبا أمام التحدي واعترافا بالعجز والفشل وربما يستبطن اعترافا وقبولا بالاتهامات التي توجهها بعض الجهات والمؤسسات وبعض وسائل الإعلام الغربية ضد العرب والمسلمين.
من جهة أخرى، يلاحظ ان هذا الوضع يأتي منسجما مع دعوات بعض النخب الثقافية والأدبية والسياسية التي ما فتئت تدعو ليل نهار إلى إحداث قطيعة معرفية جزئية أو كلية مع كل ما يمت إلى ما تسميه " التاريخ المتقادم والتراث البالي والفكر المتهالك " بصلة، والانبطاح على أعتاب الليبرالية والعلمانية والحداثة وما بعد الحداثة والتلقي من معينها المتدفق عبر المحيطات والفضاءات المفتوحة أو التي تبثه شبكات الاتصال والفضائيات عبر الأقمار الصناعية!.
وفي هذا المضمار يصرح أحد الباحثين في مقدماته لقراءة التراث النقدي بالقول " ولم يعد الهدف من قراءة التراث في النمط الجديد استعادة الماضي بكل ما يقترن من قيم جمالية وأدبية فقد أضحت هذه المبادئ والقيم قرينة إطار مرجعي مرفوض صار التمرد عليه قرين التحرر الفردي الذي ينطلق من إطار مرجعي مضاد".
وهذه الدعوة ليست جديدة بل متواصلة مع تنظيرات ومطالبات سابقة لفريق من الأدباء المفكرين في مراحل تاريخية سابقة. فقد خاطب طه حسين في مرحلة من حياته في " مستقبل الثقافة " المصريين ومن ثم العرب إذا أردنا اللحاق بركب الحضارة والمدنية علينا " أن نسير بسيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب " ورأى أن لا سبيل الى الاستقلال والندية للغرب إلا " أن نتعلم كما تعلم الأوروبي لنشعر كما يشعر الأوروبي ولنحكم كما يحكم ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي ونصرف الحياة كما يصرفها " بل دعا الى ربط مصر العربية حضاريا وثقافيا بأوروبا عبر بحر الروم.
والسؤال الذي يطرح: ترى هل المطلوب من العرب والمسلمين تنشئة جيل فاقد لذاكرته الثقافية والحضارية ومقطوع العلائق والوشائج مع أصوله ومنابعه العقدية والقيمية؟ هل نحن نسير بالفعل في اتجاه تحقيق نوع من القطيعة مع تاريخنا وتراثنا ومرجعياتنا الدينية والفكرية؟
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً