أحدث المقالات
في دعوة الأنبياء ورسالة من أرسل منهم يلحظ وبشكل دقيق التركيز على قيمة العدالة وضرورة تحققها، بل كانت الدعوة للتوحيد غالبا ما تقرن بموضوع العدالة لما لهذه القيمية من مدخلية قوية في بناء مفهوم التوحيد بناءا معرفيا في ذهنية المتلقي والقابل.

إذ أن تحقيق العدالة بكافة مصاديقها تتطلب بداية إزالة كل ما تم تحميله من فهم لهذا المصطلح ، فهو يشكل المدخل السليم والحقيقي للتوحيد ، وأهم ما تحققه العدالة هو رفع الحجب التي فرضتها المسلكيات البشرية نتيجة الفهم البشري المتراكم للنص الديني والذي غالبا ما انحرف عن واقع الأمر، مما أدى إلى حجب الحقيقة وتشويه المفاهيم وتغييب منظومة القيم ،مما انعكس بالتالي على السلوك فتشكلت منظومة مفاهيمية بعيدة عن الحقيقة ورست على ضوئها منظومة سلوكية بعيدة عن الواقع، فحجبت الحقيقة وعلى ضوئها حجبت المعارف وألبست العدالة لباس آخر تحكمه الأهواء والاستمزاجات الشخصية .

إن تحقيق العدالة وفق واقع الأمر يعني رفع كل تلك الحجب عن العقل البشري ، واستجلاءالمفاهيم وفق دلالاتها واستعمالتها وبناءاتها الصحيحة ليتجلى الأمر بحقيقته بعد ذلك في النفس، لترى الحقيقة فتستقيم الذات وفق أسس العدالة السليمة ، وتنعكس عدالة الذات على تحقيق العدالة في الخارج فترتفع الحجب عن كثير من المعارف والعلوم،وتنتظم الحياة تحت عنوان القيم وجوهرها ألا وهي العدالة.

إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع ، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته الاستخلافية وفق الرؤية الالهية في الأرض ليقيم المشروع الالهي فيها.

فوفق مقولة العدالة تتحقق الحريات بما يحقق العدالة ، وتكون المساواة وفق ما يحقق العدالة ، وتنتظم لذلك مجموعة الحقوق والواجبات وفق مطلب تحقيق العدالة ، وإذا تحققت هذه القيم في طول مطلب العدالة تحققت بذلك كل مقومات الكرامة الإنسانية وتأهلت النفس لأداء دور الخلافة على الأرض.

فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس كلما ازداد في الخارج، كلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الانسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية .

فإذا قلنا نريد أن يرتفع سقف الحريات، تكون الحريات المطلوبة هي تلك التي تحقق العدالة بحيث لا يمكن لهذه الحرية أن تحقق نقيض العدالة بالظلم أو سلب الاخرين لحقهم ، فتكون الحرية المطلوبة حرية عادلة ، وهكذا المساواة وموضوعة الحقوق.

ولكن هل العدالة المطلوبة هي كما يراها الإنسان وعقله؟
عقل الإنسان محدود ، ولا يمكن للمحدود أن يحيط باللامحدود، قد يدرك هذا العقل حسن العدل وقبح الظلم ، ويدرك أهمية العدالة في بناء الكرامة الإنسانية ، ولكن ماهية العدالة وكيفها لا يمكن أن يدركه إلا بتعليم من الوحي، وهو ما سيصل له العقل إذا أدرك العدالة وأهميتها والتي يعتبر إدراكها مدخلا مهما لادراك التوحيد وعلى ضوء إدراك التوحيد من بوابة العدل،ستبنى منظومة المفاهيم والقيم وفق الرؤية الالهية التي تحقق حتما كرامة الإنسان بما يرتقي به إلى وظيفة .." إني جاعل في الأرض خليفة " .

إن السعي نحو الكمال الذي فطر عليه الإنسان هو الداعي العقلي الذي يدفعه دوما لإقامة العدل ، والبحث عنه ، ولكن تكمن المشكلة في فهم الكمال وآليات تحقيقه ومصاديقه ، فكلما ابتعد الانسان عن السماء -إن صح التعبير -كلما ابتعد عن تحقيق العدالة المطلوبة وكلما أصبحت كرامته عرضة للانتهاك .
فرغم السعي التاريخي الحثيث للإنسان نحو تحقيق العدالة في الأرض إلا أننا ما زلنا إلى الآن لم نقم جوهرة القيم (العدالة) ولم نحققها،ولعل أبرز الأسباب في هذا القصور هو الجدل الانساني الذي ينعكس في الواقع الخارجي إلى جدليات متشابكة الأهواء والمصالح ومتناقضة القيم والغايات، وهذا الجدل أدى إلى تشويه مفهوم الكمال  بعد الانحراف عن المبدأ والغاية والهدف وبالتالي انحراف آليات تحققه .لذلك كان التشديد على معرفة " من أين وفي أين  
وإلى أين" ، وهي معرفة ترسم خارطة طريق كاملة للإنسان في هذه الدنيا ليحقق هدف الكمال وآليات الوصول اليه.

إن القيم غاية يتطلب تحقيقهاوقيامها قيام جوهرها أي العدالة،وهذه الجوهرة تتطلب أن تحقق في ذات الإنسان كي تصبح لها قيامة في الأرض :" أقم العدل في نفسك يقوم العدل في أرضك" ، فالله لا يغير ما في القوم إلا إذا تغير ما في أنفسهم.
فالعدالة هدف السماء لأهل الأرض لأن بها تستقيم أمور الإنسان ويهتدي إلى الطريق الذي من خلاله تتحقق كرامته لتقوم خلافته ويؤدي بها وظيفته.
فإذا تحققت الكرامة بتحقق العدالة ترتقي النفوس وتترفع عن الرذائل التي تتنافى وتلك الكرامة التي حققتها العدالة كجوهرة للقيم كلها.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً