أحدث المقالات

عرفت الثقافة بالكثير من التعريفات الجدلية في أكثر من مئتي تعريف.

فالثقافة بالمعنى اللغوي تعني الحذاقة والمهارة، فمصدر كلمة ثقافة ومثقف –على ما في لسان العرب – الفعل الثلاثي ثَقِفَ، ثقفَ الشيئَ ثقفاً وثقافاً وثقوفة: حذَقََهُ، ورجلٌ ثَقِفٌ: حاذقٌ فهِمٌ. ويقال ثَقِفَ الشيئَ بمعنى سرعة التعلم، وثقِفتُهُ إذا ظفرت به، قال تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، أي ظفرتم بهم وأدركتموهم. وتعنى أيضاً العمل بالسيف وتسوية اعوجاج الشيئ… هذا هو المعنى اللغوي لكلمة "ثقافة" في العربية.

 

أما التعريف الاصطلاحي حسب إدوارد تايلر (1871) "الثقافة هو ذلك الكل المعقد المتضمن المعارف والمعتقدات والفنون والآداب والأعراف والقوانين والعادات والمنجزات الأخرى التي عملها الإنسان كفرد أو كمجتمع"

 

إذا من هو المثقف: "كلمة مثقف في اللغة الفرنسية هو كلمة: clairvoyant ومعناها بعيد النظر أو مستنير، وتعني ذلك الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق، ويميز عصره والأرض التي يقف عليها، وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الأدلة لها"كما ذكر دكتور علي شريعتي في كتابه المثقف والمجتمع.

ومن أهم الاشكاليات المعاصرة هي إشكالية المثقف كونه المسؤول عن فعل الثقافة وانعكاسها على واقعه الاجتماعي.

وفي عصر غابت فيه المعايير في تحديد المصطلحات ومصاديقها نرى أن مصاديق المثقف تم تمييعها وتمظهرها بفعل ثقافي بعيد عن مخرجات الثقافة الحقيقية.

إذ أن أصل الفعل الثقافي لو غابت عنه القيمة ولم يحكمه المبدأ وتحول إلى جسر يمتطيه المتثاقف من أجل مصلحته الذاتية والمادية التي يحكمها غالبا الدرهم والدينار ، فإنه يتحول إلى فعل ناجز في كينونة المجتمع الثقافية ولكن بطريقة سلبية لا تطور من وعيه بل تعمل على تخديره أولا وسلب مكتسباته المبنية على القيمة والمبدأ المحكومتان بالأخلاق وإنسانية الانسان ثانيا ، بعد تمييعها وإسقاطها ومن ثم الانقضاض عليها بثقافة إحلالية تصب في مصلحة من يعمل لحسابهم هذا المتثاقف.

بل تتعدى الأمور من امتطاء الثقافة لتحقيق أهداف ذاتية ومصلحية إلى استخدامها أداة أيضا في التلاعب بعواطف البشر واجتذاب الطرف المغاير من الجنس الآخر عن طريق ما يمتلكه من سلطة أسميها سلطة المثقف .

ولعل سلطته التي يمتلكها هي نتاج فقدان الوعي عند الناس ، الذي كرسته سلطة الاستبداد وحولته من وعي في فلسفة الحياة وأهداف كينونة الانسان ووجوده على الأرض ، إلى وعي ذاتي ضيق يقتصر على إدراكه فقط لمتطلباته الشخصية والأسرية وسعيه الدائم والحثيث نحو توفيرها نتيجة الظلم والفساد المستشري في الدولة .

فمن جهة كرست الدولة الاستبداد والظلم والطبقية ومن جهة أخرى اشترت لها أبواق مثقفة قادرة على شرعنة استبدادها من جهة وتغيير وعي الجماهير من جهة أخرى .

إن المثقف يفترض أن يشكل صمام الأمان في وعي الشعوب والراصد لمؤشرات الانحراف والفساد والاستبداد والمحرك الرئيس لوعي الجماهير بالابقاء على حالة الوعي ثائرة وحية وساخنة في ذهنيتهم.

فإن جاعوا يكون هو أول الجائعين، وإن ثاروا يكون معهم في الصفوف الأولى يجند ثقافته لأجل العدالة والحقيقة وليس لأجل الذات والمصلحة .

إن ارتقاء الثقافة يفترض أن تنعكس ارتقاءا في الوعي ومن ثم في السلوك والفعل ويتحول المثقف بهذه المعايير إلى نموذج يقدم الثقافة بقالبها السليم للجمهور ويشكل حصنا منيعا ضد كل محاولات التمييع والاحلال الثقافي وكل محاولات الاستبداد والاستئثار بالسلطة بل يشكل جسر الجماهير لتعي حقوقها وواجباتها ويدفع باتجاه تحقيق مطالبها العادلة والمحقة  .

لقد كشف لنا اليوم الربيع العربي عن أقنعة كثير من المثقفين الذين طرحوا نظريات كثيرة عن الاستبداد وطرق معالجته وأهمية الانقلاب على المستبد ودور الوعي في ذلك بل تعدى أكثرهم إلى تأسيس نظريات لكيفية الاصلاح الداخلي وعدم اللجوء للخارج في عملية تمكين نظرية تداول السلطة والتقدم بالاصلاحات من نظم استبدادية إلى قيام دولة حديثة مكوناتها السلطة والمجتمع والاقليم وتحكمها القوانين ويكون لمؤسسات المجتمع المدني دور فاعل وناجز فيها. 

والغريب أن هؤلاء هم أول من انقلبوا على نظرياتهم وقيمهم ، وارتقوا أكتاف الثائرين بدعوى نضالهم الثقافي لأجل الحرية والديموقراطية وكانوا أول من خالف منظومة القيم التي طالما نظروا لها وملؤوا بها مسامع الناس.

إن المثقف اليوم في ظل الربيع العربي غالبا قد فقد موقعيته المتقدمة في طليعة الجماهير ، وباتت الجماهير تقود المسيرة نحو التحرر وتخلف المثقف في صفوف المتآمرين أو حتى المتخاذلين، مما عرض موقعية المثقف في وعي الجماهير لخطر التمييع ومن ثم طمس الدور وتشويهه في ذهنيتهم وما يترتب على ذلك من مستقبل الدور الذي سيلعبه المثقف في صياغة وعي الجماهير والذي أعتقد قد يتراجع في دوره نتيجة وقوع المثقف في فخ الذات وتراجعه عن منظومة القيم التي يفترض أن يكرسها في أول اختبار تحرر يتعرض له، إضافة لإحداثه ثغرة خطرة يتسلل من خلالها لصوص الفكر والمعرفة الساعين دوما لكي الوعي والاحلال الثقافي.

إن تنامي ذات المثقف لم يكن وليد اللحظة بل هو نتاج طبيعي لبيئة جماهيرية وعقلية عربية اعتادت الترميز والتسليم للشخص ومن ثم تقديس أفكاره الناجم عن تقديسه شخصيا بعد ترميزه، وعدم نقد الفكرة وتثويرها علميا، فهذا المثقف هو ذاته الذي تربى منذ نعومة أظفاره في بيئة تحكمها السلطة الأبوية الكنسية سواءا في الدولة التي يعيش فيها أو في أحضان أسرته، ورغم أنه حاول الانقلاب على هذا الواقع المقيد للابداع والقامع للفكر إلا أنه أضمر في نفسه حالة الاحساس بالغبن وعدم أخذ الموقعية التي يستحقها ، وهي حالة طبيعية في النفس البشرية إلا أنه ليس من الطبيعي أن تتنامى هذه الحالة كشعور يضخم الذات على حساب القيم ويندفع بصاحبه في لحظات تاريخية  يتزاحم فيها تحقيق ذاته والتضحية بها لأجل منظومة القيم التي تحقق ذات مجتمعه وترسي قيم العدالة وفق أسس هو كان أول المنظرين لها، إلى تحقيق ذاته لمجرد مشاعر الغبن  المدفونه في نفسه والتي تمظهرت في تلك الظروف بعنوان الاصلاح والثورة دون الالتفات في كل تلك المراحل البنائية لشخصية المثقف إلى التزاوج بين الذات ومنظومة القيم والأخلاق بطريقة تتبلور فيها الأولويات عند المثقف لتتجلى عمليا في لحظات تطبيق ثقافته  ونظرياته في واقع حياته ومجتمعه.

اليوم نحن أمام معضلة هامة هي مستقبل دور المثقف في المجتمع بعد انهيار نخب في الربيع العربي تواطأ بعضها مع المستبدين وتحالف الآخر مع قوى الخارج تحت زيف شعار التغيير ، لا لأجل التغيير وإنما لأجل امتطاء الثورة ودماء الضحايا لتحقيق رغبات ذاتية في قيادة قيام مشروع الدولة الحديثة مع غياب واضح وجلي لأسس ومقومات قيام هذه الدولة. 

وما نحتاجه نتيجة ذلك نزول المثقفين الحقيقيين بثقلهم بين الجماهير الثائرة لإعادة بناء منظومة القيم في ذهنيتهم ورسم خارطة طريق لاصلاحات حقيقية تقوم من خلالها  دولة مدنية حديثة، وتعيد تجسير العلاقة بين المثقف والجماهير وتسد الثغرات التي يمكن للآخر من خلالها أن يحدث خللا في منظومة القيم ودلالات المفاهيم والمصطلحات في حرب ثقافية واضحة لتمييع تذه الدلالات وخلطها، فثورة تقودها نخب قادرة على تحقيق نظرياتها الاصلاحية وفق منظومة قيمية وتحولها إلى مشاريع عمل حقيقية وفق آليات واضحة ووسائل سليمة لجديرة أن تصل بالثورة والجماهير إلى بر تحقيق المطالب العادلة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً