أحدث المقالات

أ. محمد خداياري فرد(*)

ترجمة: السيد مرقال هاشم

المقدّمة

صدر كتاب «توقُّعات البشر من الدين»، لمؤلِّفه: الشيخ عبد الحسين خسرو پناه، عام 1382هـ.ش (2003م)، عن مركز نشر آثار پژوهشگاه وأنديشه إسلامي. وعلى الرغم من أن الناشر المحترم قد ضمَّن الكتاب في مقدّمته، التي كتبها من صفحتين، بعباراتٍ من قبيل: «المسيحية والكنيسة الزاخرة بالضعف والتحريف والانحراف»، و«عدد من المستأصَلين»، حيث لا يتوقَّع القارئ عادةً مثل هذا الموقف في دراسةٍ علمية، إلاّ أن الإيضاحات القيِّمة التي قدَّمها الشيخ جعفر السبحاني حول «ما يتوقَّعه الإنسان من الدين» في الصفحات اللاحقة قد تداركت هذا الخلل، ولا سيَّما أن سماحته قد أشار إلى (الشيخ خسرو پناه) بوصفه من المتخرِّجين في مجال الكلام الإسلامي، وأنه قد اختار هذا الموضوع ليكون أطروحته العلمية على مستوى الدكتوراه. وعلى هذا الأساس فإن نقد الكتاب إنما يأتي في إطار ما يُتوقَّع من كتابٍ على مستوى الأطروحة العلمية لنيل شهادة الدكتوراه، وإلاّ فإن هذا الكتاب من حيث المجموع لا يخلو من فائدةٍ.

التعريف بالكتاب

يشتمل هذا الكتاب على مقدّمة؛ وأربعة أبواب. وكلّ باب يحتوي على فصولٍ، تتراوح من أربعة فصول إلى سبعة. وبعض هذه الفصول لا يتجاوز أربع صفحات.

وقد احتوى الباب الأوّل على الفصول الخمسة التالية: المبادئ التصورية للمسألة، بمعنى: ما يتوقَّعه الإنسان من الدين؛ وتعاريف الدين؛ وبيان وتحليل مسألة ما يتوقَّعه الإنسان من الدين من الناحية التاريخية؛ والمنطق والأسلوب المعرفي والموقع العلمي لمسألة وتعريف البحث الديني؛ وفوائد وثمار البحث ومعرفة المنهج.

وفي قسم البحث الديني تطرَّق إلى الحديث عن ثلاثة اتجاهات، وهي: الاتجاه الداخلي للنصوص الدينية؛ والاتجاه الخارجي للنصوص الدينية؛ والاتجاه الذي يجمع بين الاتجاهين المتقدّمين.

وبعد انتقاد الكاتب المحترم للاتجاه الأول والثاني، وبيان وتحليل نموذج المدرسة التفكيكية، يختار الاتجاه الثالث، أي أسلوب الجمع بين الاتجاه الداخلي للنصوص الدينية والاتجاه الخارجي للنصوص الدينية، حيث يقوم هذا الاتجاه على الاستفادة من الكتاب والسنّة والعقل والتجربة والتاريخ.

وفي الفصول السبعة من الباب الثاني من هذا الكتاب تمّ التعرُّض إلى آراء المفكِّرين الغربيين والمدارس الفلسفية في الغرب على ثلاث مراحل تاريخية، وهي: ما قبل العصور الوسطى؛ والعصور الوسطى؛ وعصر النهضة والمرحلة المعاصرة.

ويذهب المؤلِّف إلى الاعتقاد بأنه قلَّما تمّ التعرُّض في مرحلة ما قبل العصور الوسطى إلى مسألة ما يتوقَّعه الإنسان من الدين.

وأما في العصور الوسطى فقد كان لدى المسيحيين ـ من خلال انتهاج الأساليب الخارجة عن النصوص الدينية، أي: العقل والحسّ ـ توقّعات كبيرة من الدين المسيحي، وكانوا قد أذعنوا لسلطة الدين على جميع شؤون الحياة الفردية والاجتماعية. إن البيان والاكتشاف الدقيق لآراء المفكِّرين الغربيين في مرحلة عصر النهضة والمرحلة المعاصرة في ما يتعلَّق بتوقُّعات الإنسان من الدين يرتبط ارتباطاً كاملاً بنظريّاتهم في مجال العقل والدين، والعلم والدين، ومنشأ الدين. وفي هذه المرحلة، بالإضافة إلى تقابل رؤية الإنسان مع تعاليم رجال الكنيسة، أخذ التقدُّم العلمي بدَوْره يتعارض مع تعاليم الكنيسة.

وفي مرحلة عصر النهضة حلّ العقل الجزئي والرياضي محلّ العقل الكلّي الاستدلالي. لقد أدَّتْ هذه التحديات بالإضافة إلى سقوط النصوص المسيحية المقدسة عن الاعتبار إلى طرح الآراء الخاصة بالتوقُّع الأدنى من الدين. وقد تمّ إحياء هذا التوقُّع الأدنى في القرن العشرين من جديد.

وفي هذا القسم تمّ التعرُّض لآراء غاليليو([2])، وإيمانوئيل كانط([3])، وإميل دوركهايم([4])، وكارل ماركس([5])، وماكس فيبر([6])، وشلاير ماخر([7])، وبول تيليش([8])، ووالتر ستيس([9])، وجون هيك([10])، وسيغموند فرويد([11])، وكارل يونغ([12])، وإريك فروم([13])، بالنقد والتحليل. وتمّ بيان المدارس الفلسفية، من قبيل: الديانة الطبيعية([14])، والفلسفة الوجودية، والفلسفة الوضعية، وفلسفة التحليل اللغوي في مجال ما يتوقَّعه الإنسان من الدين. وقد ورد في بيان هذا القسم أن هؤلاء الأشخاص أو المدارس إما يذهبون إلى نفي أيّ توقُّعٍ من الدين، أو أنهم يكتفون ـ من خلال سلوك الاتجاه العملاني والتجريبي واللغوي ـ بالحدّ الأدنى من الدين.

وفي الباب الثالث من هذا الكتاب، والذي يشتمل على أربعة فصول مستقلّة، تعرّّض المؤلِّف إلى آراء العلماء والمفكِّرين الإسلاميين حول ما يتوقَّعه الإنسان من الدين. وهذه الآراء عبارةٌ عن: آراء الفلاسفة، والمتكلِّمين الشيعة، وأهل السنّة، وعرفاء الإسلام، حيث تمّ تقسيمها إلى خمسة تيارات: التيار الإلهي والباطني؛ والتيار الدنيوي التفريطي؛ والتيار الذي ينشد العدالة على أساس الحقوق؛ والتيار الأيديولوجي والدنيوي الإفراطي؛ والتيار الشمولي المعتدل. وفي نهاية الباب الثالث، ضمن بيان وتحليل آراء العرفاء، قال المؤلِّف: إن طريق الوصول إلى مقام الإنسان الكامل إنما يكمن في هذا المسار فقط، وقيل: إن توقُّع العرفاء من الدين هو من نوع التوقُّع في الحدّ الأقصى.

والباب الأخير من هذا الكتاب، بفصوله الأربعة، يختصّ بالنظرية المختارة من قِبل المؤلِّف حول ما يتوقَّعه الإنسان من الدين في مجال الأمور الدنيوية، والعلوم التجريبية الطبيعية، والعلوم الإنسانية، وسائر العلوم الأخرى، من قبيل: الأخلاق، والفقه والحقوق، والفلسفة، والفنّ والعرفان. إن النظرية المختارة ـ التي يصل إليها المؤلِّف من خلال توظيف الأساليب الخارجية والداخلية للنصوص الدينية ـ هي التوقُّع المعتدل من الدين، بمعنى أن رسالة الأنبياء لا تقتصر على ضمان الآخرة، أو بيان علاقة الإنسان بخالقه فقط، بل إنها ترصد المسائل والأبعاد الإنسانية الأخرى أيضاً، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر. وعلى هذا الأساس فإنه يرفض الإسلام العلماني، ولا ينفي العلوم التجريبية الإنسانية والطبيعية، ولا يتجاهل دَوْر الدين في هذه العلوم أيضاً. إن اختلاف هذه النظرية عن نظريات ما يُتوقَّع في الحدود الدنيا من الدين يكمن في أن توقُّع الإنسان من الدين في هذه النظرية لا يقتصر على علاقة الإنسان بالله، كما أن اختلاف النظرية المختارة عن التوقُّع في حدّه الأقصى يكمن في القول بأن الكتاب والسنّة لا يشتملان على جميع ما يحتاج إليه الإنسان. بل ولا يمكن الادّعاء بأن الكتاب والسنّة قد اشتملا على جميع الحاجات الكلّية للبشر، بحيث يتمّ استنتاج سائر الجزئيات والمصاديق الأخرى من هذه الكلّيات. وبطبيعة الحال إن الرؤية الدينية الداخلية للآيات والروايات تثبت وجود الأوصاف والوصايا العلمية في الكتاب والسنّة في مجال العلوم الطبيعية، ومن بينها: الطبّ والعلاج، والنجوم وعلم الهيئة، والجيولوجيا، والفلك، والزراعة، والصناعة، والعلوم العسكرية؛ وكذلك العلوم الإنسانية، من قبيل: الاقتصاد، والتربية والتعليم، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، وسائر العلوم الأخرى. ولكنْ لا يمكن من خلال هذه المفاهيم أن نستنتج استغناء الإنسان عن العقل والتجربة في مجال العلوم، ونبذ العقلانية والتدبير العقلاني والاستقراء التجريبي؛ لأن الكتاب والسنّة إنما تعرَّضا إلى القليل من الاحتياجات البشرية في هذه الدائرة، هذا أوّلاً. وثانياً: إن من أهمّ أهداف الدين في البيان النقلي لهذه المفاهيم الاستعانةَ بالإعجاز العلمي لإثبات أحقّيته؛ ليضمن السعادة الدنيوية والأخروية للناس. وثالثاً: في حالة القبول بمقولة العلم الديني فإن المفاهيم القرآنية والروائية غير التجريبية سوف تكون مؤثِّرةً في تفسير عالم الطبيعة، ويمكن لهذا التأثير أن يتجلّى في القضايا والنظريات العلمية التجريبية. ومن هنا يمكن التوصُّل إلى دَوْر وآلية الدين في العلوم التجريبية أيضاً.

وبالالتفات إلى ما تقدَّم يبدو أن المؤلِّف المحترم قد بذل جهوداً كبيرة في تأليف هذا الكتاب. ولكنْ حيث إن هذا الكتاب المطبوع هو حصيلة دراسته وأطروحته على مستوى الدكتوراه نقدِّم هذا النقد؛ كي يأخذه المؤلِّف بنظر الاعتبار إذا أراد ذلك، وأن يدخل الإصلاحات في حدود إمكانه، ولكي يأخذه الطلاب المحترمون بنظر الاعتبار في دراساتهم وأعمالهم الجديدة على مستوى الدكتوراه:

1ـ إن أطروحة الدكتوراه في جميع المراكز العلمية في العالم ـ ومنها: المراكز العلمية في إيران ـ يجب أن تكون في خدمة إنتاج العلم، وأن تقدِّم شيئاً جديداً لم يتمّ تسليط الأضواء عليه كثيراً. في حين أن هذه الأطروحة على مستوى الدكتوراه لم تعمل على طرح أيّ موضوعٍ جديد أو بديع. وإن كلَّ جهد المؤلِّف المحترم في كتاب «ما يتوقَّعه الإنسان من الدين» إنما يصبّ في إثبات أنه يرفض الإسلام العلماني، وأنه لا ينفي العلوم التجريبية، والمصادقة على دَوْر الدين في الخطوط العريضة بشأن المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن ناحيةٍ يسعى المؤلِّف إلى الردّ على النظرية القائلة بأن جميع الاحتياجات البشرية، الجزئية والكلّية، يجب استخراجها من الكتاب والسنّة، والتخلّي عن العلم والتجربة، والتأكيد على مرجعية الدين في الأصول العامّة للاحتياجات البشرية في كافّة المجالات. وهذا ليس بالموضوع الجديد الذي يضيف شيئاً إلى مجموعة العلوم البشرية، بل تمّ تناول هذا الموضوع في المجلات والصحف، وحتّى المنابر، بكثرةٍ، وعلى مدى سنواتٍ متمادية.

2ـ في أسلوب التحقيق كلّما عمد الباحث إلى طرح أسئلة التحقيق يتعيَّن عليه أن يحدِّد ما هي التحقيقات السابقة التي تمخَّضت عن هذه الأسئلة. في حين أن المؤلِّف المحترم لم يسلك هذا النهج في معرض طرح أسئلة التحقيق، وإنْ كان قد أشار في مقدّمة الكتاب([15]) ـ في بيان الدافع وراء اختيار هذا الموضوع ـ إلى «دراسة ما يقرب من عشرة آلاف سؤال» مطروح من قِبَل جيل الشباب في هذه المرحلة. وعلى هذا الأساس فقد عمد الباحث المحترم إلى طرح ما يزيد عن ثلاثين سؤال أساسياً بشأن أبستيمولوجيا المعرفة الدينية، وما يتوقَّعه الإنسان من الدين، والتعارض بين العلم والدين، ممّا تحتاج الإجابة عن كلّ واحدٍ منها تحقيقاً مستقلاًّ. وفي الوقت نفسه لم يبيِّن المؤلف سبب طرح كلّ هذه الأسئلة، دون أن يتمكَّن من التحقيق فيها بأجمعها، أو أن يوضّح ارتباط هذه الأسئلة بموضوع بحثه. وفي هذا الشأن جاء قوله: «إن هذه الدراسة تأتي في إطار الإجابة عن توقع الإنسان من الدين»([16]). وإنْ كان يتّضح في نهاية المطاف أنه قد تمَّتْ الإجابة عن أكثر هذه الأسئلة النظرية في مناسباتٍ مختلفة، وهذا النوع من الإجابة لا يقوم على المنهج العلمي للتحقيق.

3ـ كما أن المؤلِّف عمد مباشرةً بعد طرح أسئلة التحقيق([17]) إلى التعريف بالفرضية الأصلية والفرضيات المنافسة للتحقيق. وهذا بدَوْره أمرٌ غير متعارف. وبعبارةٍ أخرى: إنه قام بالجمع بين طرح أسئلة التحقيق وفرضية البحث في موضعٍ واحد، في حين أن المتَّبع في التحقيق هو إما طرح السؤال أو الفرضية، ثمّ كلّما تقدّم في بحث طرح عنوان الفرضية الأصلية فإن القارئ سيترقّب طرح الفرضيات الفرعية أيضاً. يُضاف إلى ذلك أنه لم يذكر أيّ مصدرٍ علميّ أنه لا بُدَّ للباحث من الإشارة إلى الفرضيات المنافسة أيضاً، إلاّ اللهمّ في قسم البحث والاستنتاج. كما يجب على الباحث أن يتحدّث عن تماهي أو عدم تماهي نتائج بحثه مع نتائج الأبحاث السابقة، وفي خصوص عدم التماهي عليه أن يذكر أدلّته وتوجيهاته العلمية في هذا الشأن. وفي ما يتعلق بالكتاب مورد النقد لم تتمّ رعاية أيٍّ من هذه النقاط المذكورة في منهج التحقيق.

4ـ إن الهدف من التحقيق لم يتم التطرُّق له في المقدّمة([18]) على أساس المنهج العلمي للتحقيق؛ إذ المسائل المطروحة هناك إنما ترتبط في الغالب بضرورة وأهمّية التحقيق، ولا ترتبط بهدف التحقيق. ولكنه ذكر أن تفصيل أهداف هذا التحقيق سوف تتّضح في فصل «فوائد وثمار البحث». بَيْدَ أنه عند الرجوع إلى الفصل الرابع الخاصّ بفوائد وثمار البحث ـ الذي أشار إليه الكاتب ـ اتّضح أن هذا الفصل، الذي لا يزيد على أربع صفحات، قد تحدّث في الغالب عن المسائل التي تعود إلى ضرورة وأهمّية التحقيق، وليس إلى الهدف والغاية من التحقيق. وبطبيعة الحال تَرِدُ هذه الأسئلة على الذهن أيضاً، وهي: لماذا يجب طرح فوائد وثمار البحث، أو بعبارةٍ أخرى: ضرورة وأهمّية التحقيق، في الفصل الرابع؟ ولماذا يجب تكرار ذكر معرفة أسلوب بيان المسألة في الفصل الخامس؟ ولماذا ورد الحديث عن المنزلة العلمية للمسألة في الفصل الثالث؟ أو لماذا تمّ طرح نظريات علماء النفس، من أمثال: كارل يونغ وسيغموند فرويد، والمتكلِّمين، من أمثال: شلاير ماخر، وعلماء الاجتماع، من أمثال: إميل دوركهايم، في موضعٍ واحد؟ إن هذا الأمر يُثبت أن الكاتب المحترم قد عمد ـ خلافاً لجميع أصول تنظيم فصول البحث أو الكتاب ـ إلى تقديم تبويبٍ جديد للفصول، لا يتطابق مع الأصول العلمية المتَّبعة.

5ـ إن هذا الكتاب، بالإضافة إلى اشتماله على مشكلةٍ منهجية تتعلَّق بصفته أطروحة علمية على مستوى الدكتوراه، يشتمل كذلك على إشكالات تحقيقية وإحالات كثيرة أيضاً، نشير إلى بعضها على النحو التالي:

إن عبارات «داخل النصوص الدينية» أو «خارج النصوص الدينية» قد تمّ تكرارها في صفحة واحدة سبع مرّات([19]). وبطبيعة الحال كان تكرار هاتين العبارتين في مجموع الكتاب من الكثرة بحيث يبدو للقارئ وكأنّ الباحث يهدف إلى إثبات هذا الموضوع بالذات، دون غيره، ومن الضروريّ في تحقيقات البحث الجمع بين الأسلوب الداخلي والخارجي للنصوص الدينية، وإن الاهتمام بأيّ واحد منهما وحده، دون الآخر، يستحقّ الكثير من الانتقادات.

وفي الكتاب أيضاً عبارة: «فنّ التحقيق في هذه الدراسة: مكتبي، وأسلوب التحقيق، من داخل وخارج النصوص الدينية»([20]). ولم يتّضح ما هو الاختلاف بين «فنّ التحقيق» و«أسلوب التحقيق». ثم إني من بين أساليب التحقيق ـ ومن بينها: المشاهدة، والحوار، والاختبارات، والدراسات الميدانية، والدراسة الجزئية، أو أساليب التحقيق الأخرى ـ لم أعثر على أسلوبٍ اسمُه أسلوب التحقيق من داخل وخارج النصوص الدينية في المصادر العلمية ذات الصلة، إلاّ اللهمّ إذا ادّعينا أن هذا الأسلوب هو نفسه الأسلوب المكتبي.

لقد ذكر الباحث المحترم الكثير من المسائل، دون الإشارة إلى ذكر مصادرها. ومن ذلك مثلاً أنه قال: «إن مفردة التوقُّع في هذه الدراسة تستعمل بمعنى: الدافع؛ والحاجة»([21])، دون الإشارة إلى مصدرٍ يؤكِّد صحّة استعمال التوقُّع بهذين المعنيين. ثم قال: «إن التوقُّع نوع حاجة مرتقبة، حيث يعتبر الشخص المتوقِّع صاحب حقّ، بَيْدَ أن الحاجة أعمّ من أن يكون صاحب الحاجة محقّاً أم لا». وهنا أيضاً لم يُشِرْ إلى مصدرٍ يُصرِّح بهذا الفصل.

وقال أيضاً: «لقد اتّخذ إبراهام ماسلو في كتابه (الحافز والشخصية) الخطوة الأهمّ في هذا المسار، وقسَّم حاجات الإنسان إلى سبعة أقسام»([22]). وكما نلاحظ لم تتمّ رعاية أصول الإحالة في هذه الفقرة، بمعنى أنه لم يكتب بعد اسم المؤلِّف سنة طباعة الكتاب. ثم إنه لا حاجة في الإحالة إلى ذكر اسم المؤلِّف [وإنما يُكتفى بذكر اللقب]. وفي ذات الصفحة، وقبل انتهائها بخمسة أسطر، نقل كلاماً عن (كاني)، دون أن يشير إلى سنة طبع الكتاب. وحيث إنه في قائمة بيان المصادر لم يُراعِ الأسلوب العلمي المتَّبع من قِبَل المراجع العلمية، مثل: منظّمة علم النفس الأمريكية (APA)، لا يمكن للقارئ أن يعثر على المصادر بسهولةٍ. ومن ذلك مثلاً أنه إذا أراد العثور على كتاب إبراهام ماسلو لا يدري هل يتعيَّن عليه البحث في مواد الحرف «أ» أو في مواد الحرف «م» في قائمة المصادر. ثم عندما نتابع البحث نلتفت أن جميع هذه المطالب قد تمّت إحالتها إلى هامش واحد على النحو التالي:

«1ـ إبراهام اچ. ماسلو: انگيزش وشخصيت، ص 75؛ فرامرز رفيع پور، آناتومي جامعه، ص 41 ـ 43».

يُضاف إلى ذلك أنه لم يأتِ أمام أيّ واحدٍ من الأسماء على ذكر سنة طبع الكتاب، وبالتالي لا نعرف من أيّ هذه المصادر تمّ أخذ المسائل السابقة. ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أن هذا الإشكال نجده في جميع نصوص الكتاب، حيث تمّ نقل الكثير من المطالب، أو تمّ ادّعاؤها، أو التعريف بها، دون إحالتها إلى أيّ مصدرٍ، أو كانت طريقة إحالتها بالأسلوب الذي تقدَّم ذكره.

وقال: «إن هذه الرؤية القائلة بـ (أن رجوع الإنسان إلى الدين إنما يتمّ إدراكه بواسطة الاحتياجات الدينية، ويستدل عليه بالحسّ والنقل) رؤيةٌ براغماتية وإنسانية إلى الدين، ولا تنسجم مع رؤيتنا المنطقية والإسلامية أبداً»([23]). طبقاً لأصول نقل كلام عن الآخرين عندما يقوم الكاتب بنقل مسألةٍ عن شخصٍ بشكلٍ مباشر لا يجب الإشارة إلى المصدر فحَسْب، بل لا بُدَّ من تحديد الصفحة أو الصفحات التي توجد فيها تلك المسألة. في حين أن المؤلِّف المحترم لا يشير إلى الصفحة، بل لا يشير حتّى إلى المصدر، وعليه لا نعلم مَنْ هو الشخص الذي نقل عنه ذلك الكلام. ونجد هذا الأسلوب بكثرةٍ في جميع مواضع كتابه.

وقال: «يرى أكثر علماء الاجتماع وعلم النفس من المعاصرين أن التعاريف التطبيقية للدين من أنفع التعاريف»([24]). في حين يجب في هذا النوع من الادّعاءات أن يذكر الكاتب أسماء عددٍ من علماء الاجتماع وعلم النفس المعاصرين مباشرةً داخل أقواس، مع ذكر مؤلَّفاتهم وسنة طبعها؛ كي تكون صحّة المدّعى قابلة للمناقشة والتوثيق، إلاّ أن الباحث المحترم لم يُشِرْ حتّى إلى مصدرٍ واحد في هذا الشأن، ليتّضح ما إذا كان هناك آخرون قالوا ذلك أيضاً، أو أنه مجرّد ادّعاء من الكاتب، وحتّى هذا المقدار يجب أن يستند إلى مصدرٍ أيضاً. وفي الكتاب أيضاً([25]) ينقل تعريف ويليام جيمس([26]) للدين نقلاً مباشراً، ولكنه لا يحيله إلى كتابٍ أو مقالة لويليام جيمس نفسه، وإنما يحيله إلى مصدرٍ يشير إليه في الهامش على النحو التالي:

  1. J. H. HICK, Philosphy of Religion. p. 2.

 وفي الصفحات اللاحقة تمّ استخدام هذا المصدر دون ذكر اسم الكاتب، ثم إن هذا المصدر، بالإضافة إلى عدم اشتماله على سنة الإصدار، لم يتمّ التعريف به ضمن قائمة المصادر.

وكذلك عندما نلتفت إلى التعريف المنقول عن ويليام جيمس في هذه الصفحة: «الدين عبارة عن مجموعة من المشاعر والأعمال والتجارب التي يحصل عليها الأفراد لوحدهم وأمام الله» لم يتّضح مراد المؤلِّف المحترم من المسائل التي ذكرها حيث قال: «إن الكثير من علماء الاجتماع وعلم النفس من المعاصرين أن التعاريف التطبيقية للدين من أنفع التعاريف»([27]). هل التعريف المتقدِّم تعريفٌ تطبيقي للدين أم لا؟ ونرى هذه المسألة أيضاً([28]) حيث ذكر تعريفاً واحداً عن تالكوت بارسونز([29])، تحت عنوان: «تعاريف علم الاجتماع»؛ إذ يقول في تعريف الدين: «مجموعة من الاعتقادات والأعمال والشعائر والمؤسّسات الدينية التي أقامها الإنسان في مختلف المجتمعات البشرية». وهنا لم يتّضح ما إذا كان هذا التعريف من التعاريف التطبيقية للدين أم لا. وفي هامش هذه الصفحة عمد ـ في إحالة التعريف المذكور ـ إلى استعمال الكلمة الإنجليزية «Ibid»، والتي تعني في المقالات الإنجليزية القديمة «المصدر المتقدِّم» أو «المصدر السابق»، وهذه الطريقة قد تمّ التخلّي عنها منذ سنوات، وطبقاً لتعليمٍ صادر عن مؤسّسة علم النفس الأمريكية «APA» جاءت التوصية بضرورة ذكر المصدر كاملاً في جميع الموارد. ومن العجيب أن الكاتب المحترم، بالالتفات إلى توظيفه لكلمة «المصدر ذاته» في هامش الصفحات، آثر استعمال هذه الكلمة الإنجليزية في بعض مواضع الكتاب؟!

عمد المؤلِّف المحترم([30]) إلى تقديم تعريفٍ للدين يبدو منه أنه ناب فيه عن جميع المفكِّرين في المجال الديني في الوصول إلى خلاصة كلّية في هذا الشأن. وكان ينبغي في هذا القسم أن يستفيد من مصدرٍ في الحدّ الأدنى. كما قدَّم تعريفاً جامعاً للدين الإسلامي، وهو وإنْ كان تعريفاً مناسباً، وتمّ السعي فيه إلى أن يكون تعريفاً لا يتعرّض إلى نقدٍ من أحدٍ، ولكنه لم يُشِرْ في هذا التعريف الجامع إلى مصدرٍ من الكتاب والسنّة. وعلى هذا الأساس فإن هذا التعريف حتّى إذا لم يكن تعريفاً مناسباً للدين الإسلامي، مع ذلك لا يمكن الإشكال عليه؛ لأن هذا التعريف مجرّد تعريف صادر عن رؤية شخصية للمؤلِّف، لا يمكن إثباته في النقاش والتحاور، كما لا يمكن ردُّه، ولا إسناده إلى المصادر.

6ـ لقد أخذ المؤلِّف المحترم على عاتقه أن ينتقد في إطار هذا الكتاب جميع التيارات الفلسفية والعلمية في الشرق والغرب. إن إلقاء مثل هذا العِبْء الثقيل على عاتق كتابٍ واحد سوف يؤدّي بنا ـ شئنا أم أبينا ـ إلى هذه النتيجة، وهي أن المؤلِّف سيقوم بمشروعه من خلال اعتماده على المصادر من الدرجتين الثانية والثالثة. والشاهد على ذلك أنه على الرغم من انتقاده للتيارات الفلسفية الغربية، لا نجد في قسم المصادر أيّ مصدرٍ أجنبي (لاتيني). وعليه يطرح هذا السؤال نفسه: كيف يمكن العمل على نقد آراء المفكِّرين دون دراسة مؤلَّفاتهم الأصلية؟

يُضاف إلى ذلك أن الكثير من الانتقادات المذكورة في هذا الكتاب هي في الأصل من الانتقادات التي سبق للمحقِّقين والمفكِّرين الآخرين أن ذكروها. ومن هنا إن ما ورد في هذا الكتاب هو في الغالب نقلٌ لانتقادات الآخرين. بَيْدَ أن القارئ غير المطَّلع عند قراءته لهذا الكتاب سيذهب به التصوُّر إلى أن الكاتب هو صاحب هذه الانتقادات. ومن ذلك أنه في نقد رؤية كارل يونغ ـ على سبيل المثال ـ يستفيد من نقد إريك فروم. يُعَدّ فروم من علماء النفس الاشتراكيين. ومن خلال الانحياز الذي نشاهده في كتابه «علم النفس والدين» يتوجَّه فروم إلى نظرية يونغ، وهناك شكٌّ في أن تكون العناصر العرفانية المعقّدة ليونع كانت مفهومةً بالنسبة إلى فروم، وأنه قد راعى جانب الإنصاف في نقدها. ومن بين الأخطاء في المباحث التي يرتكبها إريك فروم في نقد يونغ أنه يخلط بين اللاوعي الجمعي واللاوعي الشخصي؛ فإن اللاوعي الجمعي الذي يتحدَّث عنه يونغ كان سابقاً على تبلور الوعي، وإن مختلف الأفراد يشتركون فيه. إن إريك فروم ـ وبتَبَعه الأستاذ خسرو پناه ـ قد تعامل بسذاجةٍ في ما يتعلَّق باللاوعي الجمعي، ورآه متطابقاً مع الاتّفاق العام([31]). في حين أن اللاوعي الجمعي ومحتوياته من وجهة نظر كارل يونغ يمثِّل مخرجاً مشتركاً لجميع أفراد الإنسانية في الكرة الأرضية، ومن أعماق هذا اللاوعي تمور العقائد المذهبية، والتجارب الدينية، والإلهامات، وتطفو على سطح الوعي. في حين أن التوافق العام حول المعتقدات والعلوم يدخل ضمن الوعي الذاتي الذي يحظى بالقبول من قِبَل عامّة الناس بفعل التكرار والتجربة.

وفي هذا الكتاب([32]) نواجه نقداً آخر من قِبَل إريك فروم على كارل يونغ، وقد حظي هذا النقد بالقبول من قِبَل الكاتب المحترم. يذهب يونغ إلى الاعتقاد بأن ظاهرة الدين والتجربة الدينية ليست من صنع البشر، وإنما تنبثق من أعماق روح وجبلّة الإنسان. وهنا يقدِّم فروم نقداً ينطوي على شيءٍ من الاستخفاف، إذ يقول: إن الجنون ينبثق بدَوْره من أعماق الناس، فهل يمكن القول بأن الجنون جزءٌ من الدين؟!

في حين أن كلام يونغ هو أن هناك في أعماق وجود جميع الناس (روح اللاوعي الجمعي) تجربةً قدسية وجلالية، وهو ما ثبت بالتجربة على طول التاريخ. وعليه يمكن الردّ على فروم بما يلي، أوّلاً: إن الجنون لم يثبت في وجود جميع البشر، أي على نحو «الصورة المثالية»([33]). وثانياً: إن الجنون إنما يعرض عندما لا يتمّ العمل بعناصر الدين بشكلٍ صحيح، وعندها يتعرَّض الفرد إلى الجنون. يبدو أن معنى اللاوعي الجمعي ومحتوياته الذي يتمّ إبداؤه على نحو (الصورة المثالية) لا يزال غير واضحٍ بالنسبة إلى إريك فروم، وإلاّ لما ارتكب هذا الخلط الغريب في هذا البحث.

وكما نلاحظ فإن الكاتب المحترم في نقده لآراء يونغ لم يرجع إلى كتبه مباشرةً، وإنما إلى نقد إريك فروم، وحتّى في ذلك لم يعتمد على المصدر الأصلي، وإنما استند إلى المصدر المترجم، وبذلك يكون قد كرَّر نفس الخطأ الذي ارتكبه إريك فروم. وعلى هذا المنوال جَرَت سائر الانتقادات في هذا الكتاب.

وعندما تعرَّض المؤلِّف المحترم إلى نقد النزعة الإنسانية قال: «لو قلنا بأن المعرفة عبارةٌ عن الاعتقاد الصادق والمبرّر، وهو ما قال به الكثير من الأبستيمولوجيين الغربيين والإسلاميين، سيكون هجوم التشكيكيين على مفهوم «الاعتقاد»، وهجوم التعدُّديين على عنصر «الصدق»، وهجوم النسبيّين على عنصر «المبرّر»، مبرّراً؛ بمعنى أن الظاهراتيين والنسبيين يدَّعون نفي المعيار الجامع والكلّي لتشخيص المعرفة الصحيحة من غير الصحيحة»([34]).

ولكنْ لم يتّضح في هذا الكتاب أين كان هذا الهجوم من قِبَل التشكيكيين والتعدّديين والنسبيين؟ وما هو المبرِّر لهذه الهجمات؟

وبعد أن استعرض المؤلِّف بعض المسائل الأجنبية عن التحقيق بشكلٍ مملّ، نجده يقع هو نفسه في التناقض حول ما إذا كان القائلون بالنزعة الإنسانية يؤمنون بالله أم لا؟ وذلك لأنه يقول: «إن أصحاب النزعة الإنسانية إذا أنكروا الله من خلال الاتجاه الظاهراتي فإنهم سوف يستطيعون الجلوس على طاولة النقاش بشكلٍ أفضل مما إذا واصلوا التحدُّث إلى المخاطبين بازدواجيةٍ؛ فإن منهم مَنْ يعتقد بالله والدين، ويقول في الوقت نفسه: لقد تعرَّفنا على الله ظاهراتياً، وقد عمد الأنبياء بدَوْرهم إلى تقديم دينهم ظاهراتياً أيضاً»([35]).

وحيث كان الباحث المحترم في نقله جميع المسائل بشأن النزعة الإنسانية يعتمد على المصادر من الدرجة الثانية والمترجمة، ولم يرجع إلى المصادر الأصلية، فإنه قد اعتبر النزعة الإنسانية بشكلٍ عامّ نوعاً من التمرُّد على الله والدين، ورأى في هذه الحركة مفهوماً معارضاً للتوحيد. وفي ذلك هو يغفل عن حقيقة أن الحركة الإنسانية قد نشأت ضدّ التفكير العلمي البَحْت للنزعة السلوكية التي ترى الإنسان وأفعاله تابعةٌ للبيئة، وكذلك ضدّ النظام التحليلي لسيغموند فرويد، الذي يرى أن سلوك الإنسان تابعٌ للجبر الداخلي والنفسي، وعارضت كلتا هاتين المدرستين. وعلى الرغم من أن هناك عدداً من الإنسانيين الذين ينكرون الله قد كتبوا ضدّ الدين، فإنهم في الحقيقة كانوا يريدون القول: إن الإنسان لا يخضع للجَبْر الداخلي ـ كما يقول علم النفس التحليلي ـ، ولا يخضع للجَبْر الخارجي والبيئي ـ كما يعتقد أصحاب النزعة السلوكية ـ، بل يطرحون إرادة الإنسان الحرّة، واعتبار أن الإنسان في الأساس كائنٌ منطقي، وبنّاء، وإيجابيّ، ومستقلّ، وواقعي، ومتعاون، ومحلّ ثقة، ومتقبّل، وطليعيّ وتقدُّميّ، وباختصارٍ: مفعم بالطاقات الإيجابية الكامنة. وبطبيعة الحال إن المحقِّق المحترم عندما تحدّّث عن قيمة وعظمة وشرف وكرامة الإنسان في النظام الإسلامي المتمحور حول التوحيد قال بشأن الإنسان ذات الأمور التي يعتقدها أصحاب النزعة الإنسانية تقريباً([36]). (وأتمنّى أن لا أكون قد أسأتُ التعبير، فأنا لست من المناصرين للنزعة الإنسانية).

وبالتالي إن من التداعيات الأخرى لتكليف المؤلِّف المحترم نفسه بما لا يُطاق أنه في الموارد الخاصّة التي يحمل نفسه على إبداء الرأي يتحدَّث بكلامٍ يفتقر إلى الاستقامة الكافية. ونأخذ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ نقده ومناقشته لرؤية فلسفة التحليل اللغوي. إن النقطة المستغربة الأولى في هذا الشأن أنه خصَّص لنقد ومناقشة هذه النظرية الهامّة والمعاصرة صفحتين فقط([37]). وثانياً: إن الكاتب المحترم يسعى إلى اصطناع المستحيل من أجل اعتبار هذا الرأي مردوداً، حتّى إذا اضطرّ إلى استعمال مغالطة الدَّوْر أو المصادرة على المطلوب. وقال في الردّ على القول بأن النصوص الدينية مجرّد لغةٍ تمثيلية أو أسطورية: «عندما يكون الشارع في مقام البيان، ولا ينصب قرينة على الخلاف، فإن العقل سوف يستنبط من الحكمة والعلم الإلهي واقعيّة اللغة الدينية»([38]). أما المسألة الأساسية في هذا الرأي المذكور فهي: هل الله في مقام البيان أم لا؟ وعليه يجب على الكاتب أن يثبت أن الشارع إنما كان في مقام البيان؛ ليستنتج من ذلك أن الكلام الديني ليس أسطورةً، ولكن كلّ ما قام به الكاتب، بَدَلاً من ذلك، هو القول: حيث إن الشارع في مقام البيان إذن لا يمكن لكلام الدين أن يكون أسطورةً.

كما أدّى استعجال المؤلِّف المحترم في نقد رأي أنطوني فلو([39]) إلى اضطرابات في هذا النقد. ومن ذلك أنه يقول: «وعلى هذا الأساس لو فرض شخصٌ إبطال القضايا الدينية تعيَّن عليه رفع اليد عن معرفيّتها، في حين لا يوجد أيّ تلازمٍ بين الأمرين، بمعنى أنه يمكن بالاستناد إلى القضايا النظرية العمل على إثبات أو إبطال القضايا العقلية وغير التجريبية بالبديهيات العقلية، وإثبات معرفيّتها»([40]).

الأمر الأوّل: إن الذي يهدف إليه أنطوني فلو هو «إمكانية إبطال» القضايا الدينية، وليس «إبطالها»، وهناك بَوْنٌ شاسع بين الأمرين.

الأمر الثاني: إن المسألة التي ينظر إليها (أنطوني فلو) هي الأحكام الواقعية بشأن العالم، في حين أن الناقد المحترم قد نظر إلى إمكانية إثبات «القضايا العقلية وغير التجريبية». وعليه كان من المناسب أن يبيِّن رأيه في خصوص الأحكام الواقعية.

وبالتالي إن إثبات القضايا النظرية بالرجوع إلى البديهيات العقلية ليس أمراً قطعيّاً ومسلَّماً؛ لأن افتراض البديهيات العقلية في حدّ ذاته ليس أمراً بديهياً ومسلَّماً. كما قد شكَّك بعض المفكِّرين ـ من أمثال: ويلارد فان كواين([41]) ـ في بديهيّتها.

وفي الوقت نفسه إن هذه العبارة من الكاتب، حيث يقول: «إن القضايا الدينية قابلةٌ للإثبات بالتجربة»([42]) تثير استغراب القارئ؛ لأنه في الفصول السابقة من الكتاب قد أكّد على أن الحديث عن الإثبات التجريبي لا مورد له؛ «بسبب المشاكل المنطقية للاستقراء». يُضاف إلى ذلك عندما يصل الدَّوْر إلى القضايا الدينية فإن الحديث عن إثباتها التجريبي يشير إلى تفاقم المشكلة. إن القضايا الدينية (من خلال افتراض وجود الله والأمور الغيبية) ليست من سنخ القضايا التجريبية، ناهيك عن أن تكون قابلةً للإثبات من الناحية التجريبية.

وقد تعرَّض المؤلِّف المحترم في الكثير من مواطن كتابه إلى مناقشة ونقد الأفكار الدينية لعددٍ من الفلاسفة، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع، في مختلف العصور، منذ العصور الوسطى وعصر النهضة وصولاً إلى المرحلة المعاصرة، من أمثال: غاليليو، وإيمانوئيل كانط، وإميل دوركهايم، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وشلاير ماخر، وبول تيليش، ووالتر ستيس، وجون هيك، وسيغموند فرويد، وكارل يونغ، وإريك فروم، وتناولها بالنقد والتحليل، وقام بردِّها تقريباً. كما تعرَّض لنقد المدارس الفلسفية، من قبيل: الديانة الطبيعية، والفلسفة الوجودية، والفلسفة الوضعية، وفلسفة التحليل اللغوي أيضاً. ولا نهدف هنا إلى مناقشة صحّة وسقم مضمون انتقادات مؤلِّف الكتاب مجدّداً؛ فإن هذا يحتاج إلى متَّسعٍ أكبر من الوقت والمساحة، ولا يمكن لهذه المقالة أن تستوعبها في هذه العجالة، وإنما التأكيد على أن أكثر المناقشات قد تمّ أخذها من المصادر المترجمة ومن الدرجتين الثانية والثالثة، ولذلك فإنها في غاية الضعف، وتحتوي على الكثير من الإشكالات، وفي بعضها يَرِدُ احتمال عدم إدراك المؤلِّف المحترم لتلك الآراء بشكلٍ صحيح؛ لأنه لم يطالع حتّى كتاباً أو مقالةً من الآثار الأصلية التي تعرَّضت إلى نقد ومناقشة آراء هؤلاء المنظِّرين والمفكِّرين. ومن الجدير ذكره أيضاً أنه هل يمكن للطالب على مستوى الدكتوراه أن يضطلع بالفهم والتحليل الصحيح لآراء وأفكار جميع المفكِّرين والعلماء الذين تناول آراءهم بالنقد والتحليل؟! في الحقيقة إن إنجاز مثل هذا الكتاب قد يحتاج إلى أكثر من عشرةٍ من العلماء المختصّين في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، يتشاركون فيما بينهم كي يتمكَّنوا من نقد جميع تلك الآراء، وإلاّ فإن الاكتفاء بمطالعة بضعة كتبٍ مترجمة من الدرجة الثانية، والاستفادة من كتاباتهم، لن تكون نتيجتُه غيرَ ما رأيناه في هذا الكتاب.

وفي الختام أعيد التذكير بأنه لو لم يكن محتوى الكتاب حصيلة رسالةٍ للمؤلِّف المحترم على مستوى الدكتوراه لما أقدمتُ على التعريف به، ونقده؛ إذ يمكن له خارج هذا العنوان أن يكون نافعاً. ولكنْ حيث تمّ تداول هذا الكتاب بوصفه رسالةً وأطروحةً علمية على مستوى الدكتوراه رأينا أن نستعرض بعض المسائل في هذا الشأن؛ عسى أن تحظى باهتمام الطلاب الجامعيّين، ويعملوا على رعايتها في تحقيقاتهم.

الهوامش

(*) باحثٌ في الفلسفة والكلام.

([1]) ما يتوقَّعه الإنسان من الدين.

([2]) غاليليو غاليلي (1564 ـ 1642م): عالمٌ فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي. المعرِّب.

([3]) إيمانوئيل كانط (1724 ـ 1804م): فيلسوفٌ ألماني. من أعماله: (نقد العقل المجرّد)، و(نقد العقل العملي). المعرِّب.

([4]) إميل دوركهايم (1858 ـ 1917م): فيلسوفٌ وعالم اجتماع فرنسي.من أعماله: (في تقسيم العمل الاجتماعي)، و(قواعد المنهج السوسيولوجي). المعرِّب.

([5]) كارل هانريك ماركس (1818 ـ 1883م): فيلسوفٌ واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرِّخ وصحفي واشتراكي ثوري ألماني. المعرِّب.

([6]) ماكس فيبر (1864 ـ 1920م): عالمُ اقتصادٍ وسياسة ألماني، وأحد مؤسِّسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسّسات الدولة. المعرِّب.

([7]) فريدريك دانيال إرنست شلايرماخر (1768 ـ 1834م): لاهوتيٌّ وفيلسوف ألماني. يعتبر زعيماً مبكِّراً للمسيحية الليبرالية. المعرِّب.

([8]) بول يوهانس تيليش (1886 ـ 1965م): فيلسوفٌ وجودي مسيحي ولاهوتي ألماني / أمريكي. ارتكزت فلسفته على إعادة فهم المسيحية على الأساس الوجودي، وإعادة كتابة تاريخ اللاهوت العقائدي والفكر الديني. من أشهر مؤلَّفاته: (الشجاعة لتكون)، و(ديناميكيات الإيمان). المعرِّب.

([9]) والتر تيرانس ستيس (1886 ـ 1967م): فيلسوفٌ إنجليزي. متخصِّصٌ في فلسفة هيجل والعرفان والنسبية الأخلاقية. المعرِّب.

([10]) جون هروود هيك (1922 ـ 2012م): أستاذٌ وثيولوجي وفيلسوف في الدين. له مساهماتٌ في أبستيمولوجيا الدين، والتعدُّدية الدينية. المعرِّب.

([11]) سيغموند شلومو فرويد (1856 ـ 1939م) طبيبٌ نمساوي من أصلٍ يهوديّ، اختصّ بدراسة الطبّ العصبي. المعرِّب.

([12]) كارل غوستاف يونغ (1875 ـ 1961م): عالمُ نفسٍ سويسري. مؤسِّس علم النفس التحليلي. المعرِّب.

([13]) إريك فروم (1900 ـ 1980م): عالمُ نفسٍ وفيلسوف إنساني ألماني / أمريكي يهودي. المعرِّب.

([14]) الديانة الطبيعية (Deism): الاعتقاد بأن الله قد خلق الطبيعة، ثم خوّل إدارة الأمور إليها. المعرِّب.

([15]) ص: 22.

([16]) ص: 24.

([17]) ص: 25.

([18]) ص: 26.

([19]) ص: 27.

([20]) ص: 29، الفقرة الأخيرة.

([21]) ص: 35، الفقرة الثانية.

([22]) ص: 36، السطر 11.

([23]) ص: 42، السطر 1.

([24]) ص: 46، الفقرة الأخيرة.

([25]) ص: 50، الفقرة الثالثة.

([26]) ويليام جيمس (1842 ـ 1910م): فيلسوفٌ أمريكي، ومن روّاد علم النفس الحديث. ألَّف كتباً مؤثِّرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي وعلم النفس الديني والتصوُّف والفلسفة البراغماتية. المعرِّب.

([27]) ص: 46.

([28]) في ص: 51.

([29]) تالكوت بارسونز (1902 ـ 1979م): عالمُ اجتماعٍ أمريكي. وضع نظريّةً عامة لدراسة المجتمع تسمّى بـ (نظرية السلوك)، حيث حاول من خلالها إنشاء توازن بين التقاليد النفعية الوضعية والتقاليد التفسيرية المثالية، ليخلص إلى بديلٍ ثالث يكمن في المنهج التطوُّعي. المعرِّب.

([30]) في ص: 61، 62.

([31]) ص: 238.

([32]) ص: 239.

([33]) Archtype.

([34]) ص: 68، الفقرة الأخيرة.

([35]) ص: 69، الفقرة الأخيرة.

([36]) ص: 70.

([37]) ص: 292 ـ 294.

([38]) انظر ص: 293.

([39]) أنطوني جيرارد نيوتن فلو (1923 ـ 2010م): فيلسوفٌ بريطاني. اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان. كان طوال حياته ملحداً، ولكنه في آخر حياته ألف كتاباً عنوانه (هنالك إله)، نسخ كل كتبه السابقة، وأعلن فيه عن تحوُّله إلى الفكر الربوبي. المعرِّب.

([40]) ص: 293.

([41]) ويلارد فان أورمان كواين (1908 ـ 2000م): فيلسوفٌ وعالم منطق أمريكي. يُعَدّ واحداً من أكثر الفلاسفة تأثيراً في القرن العشرين، وكان يؤمن بأن الفلسفة ليست تحليلاً مفاهيميّاً، وإنما هي الفرع المجرّد للعلوم التجريبية، وبذلك يعتبر من أهمّ ممثِّلي تيار الفلسفة التحليلية. المعرِّب.

([42]) ص: 294.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً