أحدث المقالات
حوار لموقع الحوار المتمدن، العدد: 3917 ـ 2012، بتاريخ 20/11/2012م.

س1: مرحباً بكم على هذا الموقع بداية من هو الدكتور حيدر حب الله؟
حب الله: مسلم لبناني، درست في الحوزة العلمية منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كما درست في كليّة أصول الدين، وهي إحدى الجامعات الدينية في إيران، وكان تخصّصي في جامعة المصطفى العالميّة والحوزة العلمية في مجال العلوم الشرعية من الفقه وأصوله وأمثالهما، فيما كان تخصّصي في كلية أصول الدين هو علوم القرآن والحديث، أمّا اهتماماتي الشخصية فهي الفلسفة وعلم الكلام الجديد.
عملت وما أزال في رئاسة تحرير بعض الدوريات الفكرية والثقافية، كمجلة نصوص معاصرة ومجلة الاجتهاد والتجديد، وسابقاً مجلة المنهاج، كما أقوم بتدريس طلاب الدراسات العليا في جامعة المصطفى العالميّة. كتبت مجموعةً من المؤلّفات المتواضعة في مجال علوم الشريعة والكلام الجديد والحديث الشريف، كما تعاونت مع عدد من المؤسّسات البحثية في إيران والعالم العربي. وأتولّى منصب المعاون العلمي للمرجع الديني السيد محمود الهاشمي في الإشراف على موسوعة الفقه الإسلامي على طبق مذهب أهل البيت، والتي صدر منها 27 مجلداً حتى الآن، ويتوقّع أن تبلغ الثمانين مجلداً إن شاء الله.
س2: باعتباركم من روّاد النهضة والتجديد الفكري، ما هو رأيكم في المشاريع الفلسفية والفكرية العربية المطروحة (الجابري وباقر الصدر وحسين فضل الله ومالك بن نبي وأبو القاسم الحاج حمد….)؟
حب الله: قد يلاحظ على بعض هذه المشاريع أنّها لم تدخل إلى عمق المشكلة بقدر ما لامست بعض تجلّياتها في المجالات المختلفة، فأنت تلاحظ على بعض المشاريع العربية أنّها ـ على سبيل المثال ـ اعتبرت المدخل الاجتماعي وقضيّة الفتوى مفصلاً لحلّ المشكلة القائمة، مع أنّ إصلاح الفتوى ليس إصلاحاً للمشكلة ولا ملامسةً لجوهر الموضوع، رغم ما للفتاوى من تأثير عظيم على المجتمعات الإسلامية؛ لأنّ الفتوى ليست سوى نتيج للعملية المعقّدة التي تقوم بها عناصر متعدّدة خلف الكواليس، وليس فقط لنفس العناصر الاستدلاليّة في عملية البحث الفقهي، فإنّ استدلالات الفقهاء هي بدورها نتائج لمكوّنات أعمق منها.
وبعض المشاريع العربية الأخرى نلاحظ عليه أنّه اعتبر الاشتغال في النصّ وتحليل مناهج فهم النص هو الحلّ، وأنّ مشكلة المشاكل عندنا هي في كيفية تعاملنا مع النصّ، فلو أنّنا وضعنا معياراً آخر في التعامل مع النصّ المقدّس لانحلّت المشكلة واستطعنا تجاوز الأزمة، مع أنّ المشكلات لا تقف عند النصّ، فنحن حتى لو تخطّينا النص سيظلّ عقلنا العربي يعاني مشكلاته، كما حصل مع كثير من التيارات الفكرية والثقافية في العالم العربي التي تخطّت النصوص، ومع ذلك ظلّت تعاني من الكثير من المشاكل التي لا تبتعد كثيراً في بعض الأحيان عن مثيلاتها لدى التيارات النصيّة.
وبعض المشاريع الأخرى أغرقت في الجانب الفلسفي والتحليلي، بحيث عجزت عن التجسير بين تلك المنجزات في البحث الفلسفي المعمّق وبين واقع الحياة العربية وقضاياها، ومن المعلوم أنّ النظريات التي تريد إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية وغيرها لا يمكنها أن تكتفي بالحلول ذات الطابع التجريدي دون تقديم وسائل لتطبيقها على أرض الواقع، وإلا تكون قد سارت نصف الطريق فقط.
كما يلاحظ على بعض المشاريع الفكريّة أنّها جعلت مدخلها لحلّ المشكلة مدخلاً مذهبيّاً، فمثلاً إذا كان النصّ هو المشكلة، فإنّ الحلّ الذي وضعه بعض المفكّرين والعلماء هو حلّ يتحرّك في دائرة نصّ مذهب خاصّ، والحلول المذهبيّة لن تستطيع تقديم مساعدة نهائية لمعضلة بحجم حال الأمّة اليوم، فإذا تمكّنت مثلاً من تخطّي بعض النصوص المذهبية أو المفاهيم المذهبية في هذا المذهب أو ذاك، فإنّ هذا لا يعني أنّني تجاوزت المشكلة؛ لأنّ هذه النصوص أو المفاهيم ستعود لتبدي نفسها على المقلب الآخر ولو بشكل مختلف.
ويلاحظ على بعض المشاريع أيضاً، أنّها لم تذهب بعيداً في الإخلاص لمقولاتها، بمعنى أنّها نظّرت لشيء ما لكنّها لم تجرؤ على تطبيق هذا التنظير في مساحاته المختلفة في الفكر الإسلامي، وقد يعزى هذا الأمر لظروف موضوعية ضاغطة، وربما كانت هناك أسباب أخرى أيضاً.
كما يلاحظ على بعض المشاريع الفكريّة أيضاً، أنّها استهلكت نفسها تارةً في تفاصيل التطبيقات وأخرى في تجريد الكلّيات، بمعنى أنّنا وجدنا بعض هذه المشاريع مستغرقاً في بعض التفاصيل الجزئية، كما ألمحنا سابقاً، لكنّ المشاريع التي دخلت الإطار العام والمنهجي لم تدخل في اختبار التفاصيل، ففي بعض الأحيان قد تجد أنّ المشروع متناسق يقدّم حلاً لوضع فكري مأزوم، لكنّك عندما تأخذ هذا المشروع نحو تفاصيل المشكلات القائمة فإنّك تواجه مشاكل كبيرة جدّاً؛ لأنّ الحديث في القواعد وحلّ المشكلة في أفقها لا يعني أنّ المشكلة قد حلّت في التفاصيل، فإنّ للتفاصيل خواصّها أيضاً وخصوصياتها، وعندما يتكّلم مفكّرنا العربي والإسلامي في القواعد والنظريات العامّة وقضايا المنهج فهذا لا يعني أنّه حفظ خصوصيات التفاصيل، بل هو في الحقيقة قام بهدرها، وهذا ما قد يؤدّي في كثير من الأحيان إلى فشل عمليات تطبيق المقولات الكبرى على أرض الواقع الذي لا يعرف سوى التفاصيل، وفي الفلسفة العقلية يقولون: الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد، فلا وجود إلا للجزئي المتشخّص، وأمّا الكلي فلا وجود له إلا بوجود هذا الجزئي، والأمر عينه نراه هنا، فإنّ المقولات الكبرى لا تتبلور ولا تجد محلاً لواقعيتها إلا عندما نسقطها على أرض الواقع لتلبس لبوس التشخّص والجزئية، وفي هذه الحال نجد الثغرات والمشاكل. والكثير من المشاريع الفكرية لم تأخذ بعين الاعتبار مرحلة التلبّس هذه، ولهذا لم تحظَ بفرص التطبيق.
وهذا ما يجرّني للحديث عن نقطة أخرى مهمّة هنا وهي أنّ بعض المشاريع الفكريّة الأخيرة لم تجرِ مساندتها من قبل تيارات ذات نفوذ على أرض الواقع، ومن ثم لم يتمّ اختبارها عمليّاً، فأنت عندما تتكلّم عن مشكلة في العقل العربي أو في الشخصيّة العربيّة، ثم تضع الحلول لهذه المشكلة، فإنّ هذا الكلام يبقى تجريدياً ما دمت لم تقم باختباره على أرض الواقع؛ لأنّ الموضوع الذي يجري الحديث عنه هو تقديم مشاريع فكرية كبرى قادرة على النهوض. والنهوض لا معنى له سوى بصيرورة الفكرة عملاً، وهذا معناه أنّ صيرورة الفكرة عملاً أمر بحاجة إلى تبنٍّ من قبل تيارات لها نفوذ على أرض الواقع، لتقوم باختبار النظرية والمشروع ذاته، ورصد مديات انعكاساته الإيجابية والسلبية في إصلاح الأوضاع القائمة، وبعض مشاريعنا الفكرية لم تحظَ بمجال الاختبار العملي، لكي نرى هل ستقوم حقّاً بحلّ المشكلة أم لا، لاسيما ,أنّنا وجدنا أنّ بعض المشاريع الفكرية التي حظيت بمن تبنّاها ورأت طريقها إلى أرض الواقع قد ساقت إلى كوارث فكرية وسلوكيّة عميقة جدّاً لم تكن باديّةً عندما كانت ترتدي لباس الكلمات والأفكار.
هذا أيضاً يجرّني بدوره إلى نقطة أخرى، تبدو قائمة في بعض المشاريع الفكرية، وهي أنّ هناك فرقاً بين المشاريع التي تريد أن تغيّر كلّ شيء، أي ذات طابع شمولي، بحيث لا تعترف بمناخ آخر، وتلك التي تريد فعل التغيير من داخل مناخ غير منسجم معها، كما هو واقع حال أمّتنا اليوم والتي لا تعيش لوحدها في هذا العالم ولا تملك قراره، ويبدو لي أنّنا كنّا دوماً نقدّم حلولاً من النوع الأوّل، وقليلاً ما وجدنا حلولاً من النوع الثاني. بل إنّنا نلاحظ على بعض المشاريع الفكريّة أنّها استغرقت في تشخيص المشكلة أكثر مّما قدّمت حلولاً لها، وعندما جاءت إلى مجال تقديم الحلول وجدنا عجزاً واضحاً في هذا المضمار.
القضيّة الرئيسة في هذا المجال تكمن في أنّ مشاريع المفكّر العربي كانت تتبع تشخيصه للمشكلة وتعيينه للمرض، وكنّا نلاحظ في بعض الأحيان أنّ بعض هذه المشاريع افترض المرض في منطقة واحدة، واعتبر السبب المسؤول عن حالنا عنصراً واحداً، فركّز على الاشتغال عليه مفترضاً أنّ حلّ معضلته سوف يؤدّي إلى حلّ سائر المعضلات الأخَر، في حين نجد أنّ مشكلة بحجم الواقع العربي والإسلامي والفكر العربي والإسلامي لا يصحّ أن نتعامل معها من موقع وحدة السبب، بل هي بطبيعتها متشابكة؛ لأنّ هذه الأمور من الأمور التي تمتدّ إلى قضايا كثيرة في الفكر والاجتماع.

س3: هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع نهضوية وفكرية؟
حب الله: يبدو لي أنّ أزمة المنهج لا مفرّ منها، فنحن بجدّ نعاني من أزمة منهج وأزمة عقل وتفكير، لكنّني لا أوافق على اعتبار المشكلة منحصرة في هذا المجال، ولعلّ ما أشرت إليه قبل قليل من بعض الملاحظات المتواضعة على بعض المشاريع الفكرية يشير إلى هذه النقطة، أعتقد أنّ بعض المفكّرين المسلمين استغرق في العقل، ولم يلاحظ سائر الجوانب، فهناك الشخصية العربية والإسلامية، وهناك نظام الأحاسيس والمشاعر الذي تتكوّن منه الذات المسلمة والعربيّة، ليس الموضوع موضوع منهج تفكير فقط، فهذا حلّ لأزمة التفكير، وليس إذا حلّت أزمة التفكير فهذا معناه أنّ المشكلة قد انتهت؛ لأنّ الواقع لا يُصنع من لبنات فكرية بحتة، وإنّما من عناصر متواشجة من الفكر والسلوك والشخصيّة والأداء والمستلزمات الميدانيّة.
المشاعر أمرٌ مهم جدّاً، فنحن شعوب عاطفية بدرجة كبيرة، لاسيما كلّما اتجهنا شرقاً مثل إيران وما يليها من بلاد الشرق المسلمة، إنّك إذا أصلحت المنهج وعالجت آليات التفكير لن تتمكّن من تغيير الوضع القائم؛ لأنّ المشاعر إذا لم يجر تنظيمها والهيمنة عليها، ولا أقصد إلغاءها، ستظهر بما تحمله من ركام مدفون في أعماق النفس (الأنا الفرديّة والجماعيّة) ناتج عن مختلف المكوّنات التربوية والاجتماعيّة. والمشاعر بطبعها ليست أموراً مادية يمكن دفنها في التراب، بل مصيرها الظهور عند مفترقات الطرق، وعند اللحظات الحرجة، وعند الضغوطات الاجتماعية والسياسية وأزمات الوجود والهويّة. إنّ كلّ نظم المشاعر وعناصر بلورتها يجب ضبطها أيضاً، ولا يكفي حلّ مشكلة التفكير فقط.
لهذا أعتقد أنّنا بحاجة إلى مشاريع حقيقيّة، وليس مشاريع منقوصة، والمشاريع الحقيقية لن يعود بالإمكان أن يأتي بها مفكّر ملحمي، بل هي تحتاج إلى مؤسّسات ومراكز دراسات متكاملة، تملك مواقع التأثير وأسبابه؛ إذ ليس المهم إنتاج الأفكار بقدر ما المهم أيضاً امتلاك القدرة على توزيعها ونشرها وفعل التأثير بها. كما يفترض أن تتعاون هذه المؤسسات ـ من موقع تعدّد الأدوار ـ على الاشتغال بحزمة الملفات المتنوّعة لا بجانب واحد من المشكلة. ولعلّ اشتغال بعض المفكّرين المسلمين بملفّ العقل والمنهج غيّبهم أحياناً عن أرض الواقع، فلم يكونوا قادرين على المواكبة أو الاستجابة للتطوّرات الحاصلة؛ لأنّهم استغرقوا في قضايا النخبة. وربما تكون أحداث ما سمّي بالربيع العربي قد كشفت لنا عن بعض جوانب هذا الواقع عبر غياب المثقف عن صنع الحدث أو إدارته.

س4: باعتباركم من الباحثين المتميزين في الفكر الإسلامي المعاصر فهل هذا الفكر قادر على تقديم أجوبة للتحديات التي تعيشها الأمة العربية الإسلامية؟
حب الله: لقد قدّم الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر رزماً هائلة من الأفكار والتطلّعات والحلول والمنجزات، منذ أواسط القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، لا يمكن لمجرّد أنّ الأمور لم تحلّ أن نشطب على المنجز المتميّز الذي قدّمه الفكر الإسلامي الحديث، لأنّ الفكر لا يصنع التغيير لوحده حتى نحمّله فشل الواقع الذي لم يكن يملك هذا الفكر عناصر الإمساك بتمام مفاصله، ولكن مع ذلك يبدو لي أنّ الفكر الإسلامي المعاصر غير قادر ـ بهذا الوضع الذي هو عليه ـ أن يتجاوز المشكلات القائمة، ليس لأنّه لم يقل شيئاً ينفع حلاً لمشاكلنا، بل لأنّ حركة الإجابة عن تحدّيات الواقع تخضع للتراكم والاستمرار، ونحن نجد الفكر الإسلامي لا يَجدُّ السير بخطّ بياني متصاعد، بل ما يزال يشهد انخفاضاً وارتفاعاً، وحيث إنّ حركة الحياة وتطوّرات التحدّيات تشهد ارتفاعاً متواصلاً، فإنّ الفكر الإسلامي لن يتمكّن من الإجابة عنها إذا لم يشهد سيراً تكاملياً متواصلاً شبيهاً بها.
إنّ الإخفاقات والترنّحات التي نشهدها بين الفينة والأخرى لحركة التنوير الإسلامي تثقل كاهلها وتصعّب المهمّة عليها، وأحد الأسباب الأساسيّة هي عدم وجود لحمة جامعة بين مختلف أطياف هذا الفكر المعاصر، فهناك تشظّيات داخل أجنحة هذا الفكر خرجت من الاختلاف الفكري إلى الخلاف السلبي. كما وهناك مشاريع فكريّة ممتازة قدّمها الفكر الإسلامي لكنّه لم يجر البناء عليها والإضافة من قبل الأجيال اللاحقة، إن قطع جسور التواصل بين الأجيال هو الآخر مشكلة أيضاً، ونقد أجيال التنوير لبعضها لا ينبغي أن ينتهي إلى القطيعة، بل يفترض أن يصبّ في صالح المراكمة.
أضف إلى ذلك أنّ نوعيّة التحدّيات اليوم قد اختلفت تماماً عن مثيلاتها قبل عقدين من الزمان، ويلاحظ هنا أنّ الكثير من المنجز الفكري المعاصر ما زال مسكوناً بنتاج وآليات الحقبة الماضيّة، وهذا ما يعيقه عن قدرة الاستجابة لمتطلّبات الواقع، نجد هذا جليّاً في بعض الأوساط، وليس كلّها، وهي الأوساط التي جمدت على الشرح والتلخيص والتحشية والتعليق على منجز الأجيال التنويرية السابقة، فارتدّت تقليديةً بعد أن كانت نهضويّة.
وهناك أزمة أخرى يعاني منها الفكر الإسلامي الحديث وهي أزمة المثاليّة، حيث الإغراق في الصور المأمولة أكثر من الدخول في التفاصيل اليومية الواقعيّة، والاستجابة لها، وحيث الاستغراق في الرؤى الاستراتيجية وغياب العقل المرحلي، فدائماً نسعى لتقديم حلول شموليّة، وقلّما اشتغلنا على تقديم حلول مرحليّة تحاول أن تجعل الأهداف الاستراتيجية بمثاة مؤشر البوصلة لا بمثابة هدف يتمّ قصده مباشرةً، الأمر الذي يضعنا أمام إحساس دائم بالفشل؛ لأنّ الأهداف البعيدة المدى من الصعب تحقيقها بسهولة، فإذا قلبنا الأهداف البعيدة المدى لتكون هي الأهداف المنشودة القريبة المدى نكون قد ارتكبنا أخطاء فادحة.

س5: سيدي الكريم لماذا لم تثمر المشاريع النهضوية الكبيرة مؤسّسات سياسية وفكرية وثقافيّة؟
حب الله: هذا راجع في بعض أسبابه إلى الشخصيّة الشرقيّة، فنحن ما نزال نعيش ذهنية الأفراد، وأنّ المشاريع النهوضية لابد لها من أن تدور في فلك الأفراد حتى إذا ما ذهب الأفراد تلاشت. إنّ تبعيّة المؤسّسة للفرد تعني زوالها عند ذهابه أو تحوّلها إلى مجرد (برستيج) شكلاني مكرور، وحتى عند وجوده نحن نواجه في بعض الأحيان مشكلة تولّي المؤسّسات الفكرية والثقافية حماية الفرد (المفكّر أو صاحب المشروع) والدفاع عنه والتمحور حوله، بل اعتباره سقفاً لها لا تقدر على تخطّيه أو نقده، وأيّ مركز دراسات يمكن أن يرتجى إذا كانت هذه هي مناخاته وسياقاته؟! وأيّ مؤسّسة فكرية يمكن التعويل عليها في ظلّ هذا الوضع الذي يزيد من الاصطفافات ولا يحرّرنا منها، ويكرّس المفاهيم الخاطئة للانتماء؟ لقد رأينا في حياتنا الكثيرين من دعاة التعدّدية والرأي والرأي الآخر ممّن استماتوا في الدفاع عن الحريّات الفكرية وصارت هذه المقولات جزءاً لا يتجزّأ من أدبيّاتهم اليومية.. رأيناهم وهم في عالم العمل والتطبيق أحاديين مستبدّين لا يؤمنون بالتعدّدية ولا بالنقد، بل هم مستعدّون لفعل أيّ شيء للحيلولة دون ما ينادون به هم أنفسهم، هذا يعني مجدّداً أنّ المشكلة ليست في العقل فقط، بل هي في الشخصيّة والسلوك، وفي تحوّل المقولات الفكرية إلى ممارسات اجتماعية وذاتية عفويّة. لتسمحوا لي بأن أقول بأنّ الكثير من دعاة الحريّة الفكرية والتعدّدية في عالمنا العربي، هم في الحقيقة دعاة حرّيتهم الذاتية في مقابل الآخر القمعي، لا دعاة حريّة الجميع في مقابل الجميع، ولهذا عندما يمسكون بالسلطة في أيّ موقع كان، يتحوّلون تلقائيّاً وفوراً إلى خصوم ألدّاء للتعدّديّة والمشاركة والحريّات، مستخدمين نفس مقولات خصومهم السابقين، وهذا يدلنا على أنّ هذه المقولات إنّما تمّ الانتماء اليها فكريّاً بوصفه محقّقةً لمصلحة ذاتية أو فئوية، لا من موقع الإيمان العميق الشمولي بها.
وهناك مشكلة أخرى أيضاً، وهي أنّ المؤسّسات الفكرية والثقافية الحقيقية ـ وليس الاسميّة ـ تحتاج لتمويل كبير، وفي هذه الحال فإنّ هذا التمويل يأتي في الغالب إمّا من الدول أو من جهات خارجيّة أو من بعض الأفراد المتموّلين المخلصين في الساحة الإسلاميّة والعربية، وإذا استبعدنا الحالة الثانية التي لها مشاكلها الخاصّة، فإنّ التمويل الدولي له مخاطره التي لا تقلّ عن مخاطر المؤسّسات ذات الطابع الشخصاني المشار إليها آنفاً؛ لأنّ الدولة في عالمنا العربي والإسلامي لم تصل بعدُ إلى مرحلة دعم المعرفة بصرف النظر عن الانتماء، وفي كثير من الأحيان يخلق هذا الوضع مثقفاً مقاولاً كما رأينا في أكثر من مكان. وإذا كان المموّل جهة مدنية داخليّة فإنّها في كثير من الأحيان محكومة لمستوى معيّن من أفق الوعي والتحرّر الفكري، وغالباً ما لا ترضى بالقفزات النوعية، لاسيما إذا كان حديثنا داخل المناخات الدينية؛ لأنّ هناك قلقاً من أن تكون بعض المشاريع الفكرية ذات تأثير سلبي على الدين في مجتمعات محافظة في أغلبيّتها الساحقة.
لكن مع ذلك أجد أنّ المشاريع الفكرية قد أخذت مسارها نحو المأسسة في بعض المواقع، وقد رأينا ذلك في خطوات كثيرة هنا وهناك رغم هذه المشاكل كلّها، الأمر الذي لا يحسن تجاهله وتخطّيه.

س6: هناك أزمة يعانيها المثقف الإسلامي وهي ضعف التواصل بين الجناح السني والشيعي، أي لا يستفيد كلّ طرف من الإنتاج الفكري للطرف الآخر؟ ثم لماذا لا نجد مؤسسات فكرية وثقافية مشتركة تكون بوابة للتواصل والتعاون؟

حب الله: يرتدّ هذا الأمر إلى ركام هائل من الإرث التاريخي الفاصل بين الفريقين، فكثير من مثقّفينا الشيعة والسنّة هم في الملفّ المذهبي مذهبيّون، وقد رأيناهم بأمّ العين قد كشفوا عن هذا الوجه الحقيقي عند أوّل تصادم في المنطقة. أنا لا أقول: إنّه من الخطأ أن ينتمي الإنسان لعقيدته المذهبية ضدّ الآخر المذهبي، عندما يجد قلقاً على هويته، فهذا من حقّه، لكن أن يعطّل المفكّر والمثقف المتعالي عن المذهبيات والفاهم لدسائسيّة المشروع الغربي في المنطقة وآلياته، أن يعطّل فكره وعقله استسلاماً لواقع مذهبي، فهذه مشكلة خطيرة، فهذا معناه أنّ خصومه الداخليين في مذهبه باتوا يتركون تأثيراً عليه ويفرضون عليه حركته ويُملون عليه انتماءه.
هناك شيء لمسته في احتكاكي بالكثير من المفكّرين والمثقفين الذين عرفتهم، وهو أنّ العقل في مكان والتربية النفسيّة في مكان آخر، ورأيت أنّ هذا العقل يطير متحرّراً ما لم تقرّر التربية الذاتية جذبه إليها، إنّك ترى الكثير من المثقفين متحرّرين في عقولهم لأبعد مدى، لكن في بعض اللحظات تجد عودةً لنداء التربية وللأثقال النفسية المتراكمة اجتماعياً وأسريّاً في أعماق ذاته، وهذا يعني أنّ أوّل إثارة لهذه التربية سوف تؤدّي إلى تضعضع كلّ البناء الفكريّ، بل سيصبح البناء الفكري أداةً لتبرير الحالة النفسيّة هذه، وليس مفسّراً لها أو محلّلاً أو فاكّاً لعقدها.
المشكلة الأخرى، هي الدول والأحزاب التي تضع حاجزاً أمام التواصل بين المثقفين، لاسيما بين الشيعة الإيرانيون والسنّة العرب، وتفرض أن يكون هذا التواصل ضمن قنوات محدودة مراقبة على الدوام. وتشتدّ هذه المشكلة عندما نضيف إليها ما تفرضه الاتجاهات المذهبية على المثقف والمفكّر المتواصل مع الآخر، والمفصح عن نقاط قوّة الآخر لا عن نقاط ضعفه فقط. فعندما تكون مثقفاً دينياً فإنّ هذا يعني أنّك ستواجه ـ في حال كنت متعالياً على المذهبية ـ نقداً من الداخل، يسعى لكي يُفقدك شرعيّتك داخل جماعتك المذهبية، ومن الصعب على الإنسان أن يتنامى دون عُصبته والمحيطين به، هذا يعني أنّه سيظل مثقّفنا يعيش قلقاً في الاعتراف به داخل مذهبه، في الوقت الذي ينفتح على الآخر الذي يحاول الفريق المتشدّد داخل مذهبه ـ وهو الفريق الممسك بالكثير من الأمور ـ أن يصوّر الآخر بمثابة عدوٍّ نهائيّ وأخير للمذهب.
وهناك مشكلة أخرى تفتح على المشكلة السابقة، وهي تسييس المذاهب. إنّ هذه المشكلة تضع المثقّف المتديّن أمام خطورة اتهامه السياسي في حال انفتح على الآخر، أو أراد أن يشكّل معه هويّةً واحدة مع حفظ الخصوصيات. فعندما يكون التشيّع إيرانيّاً والتسنّن سعوديّاً فهذا خطر كبير جدّاً يرفع أمامنا جدار فصل عالٍ وعريض، لن يستطيع معه أيّ مفكّر أو مثقف أو نخبة أن يصنع شيئاً متميّزاً على أرض الواقع، في سياق التواصل ومدّ جسور الارتباط.
وثمّة سبب آخر لضعف التواصل، موجود على بعض الأصعدة، وهو يرجع إلى تفكيرنا الطوباوي الدوغمائي المتعالي، فكلّ فريق يحاول أن يوحي لنفسه أنّ علاقته بالآخر هي علاقة تصدير فكري إليه، وليس استيراد فكره للاستفادة منه، هو شعور بالغرور لو فكّكناه جيداً. لقد قلت للكثير من الأصدقاء الإيرانيين: إنّكم دائماً فكّرتم في ترجمة نتاجكم الفكري إلى العالم العربي، وهذ شيء جيّد ومفيد للمسلمين عموماً، وللعرب خاصّة؛ فالمنجز الإيراني يستحقّ التقدير والإعجاب، لكنّكم لم تنشطوا على صعيد الاستيراد الذي يحقّق التواصل الحقيقي المتساوي الطرفين. إنّ من المفروض أن تعيشوا عقليّة التعرّف على العالم العربي وما يزخر به من حوارات وجدالات فكرية هائلة، كثيرٌ منها لم تخوضوه بعدُ أو خضتموه بدرجة أقلّ نضجاً من إخوانكم العرب. هذا الشعور قائم عند البعض، ورأيته أيضاً عند بعض المثقّفين العرب، في نظرته للعقل الإيراني من موقع الغنوصية والهرمسيّة والخرافة واللاعقلانية.
كما رأينا هذا المشهد نفسه في المعاهد العلمية التقليدية عند الفريقين؛ فأنت تجد عبر التاريخ علماء الشريعة من كلّ مذهب لا يقيمون وزناً للطروحات والنظريات والاجتهادات الموجودة في المذاهب الأخرى، وفي الغالب أنت تجد أجوبةً نمطية على هذا الواقع، من نوع أنّ الآخر لا يملك عمقاً في اجتهاده الديني كما هو الجواب الذي نجده كثيراً في الأوساط الشيعية، أو الآخر لا يملك منجزاً وكلّ منجزه مأخوذ من العلماء السنّة كما نجد ذلك كثيراً في الأوساط السنيّة.
وهناك أيضاً مشكلة القلق العقائدي الذي ما زلنا محكومين له، فأن تستحضر الآخر في دراساتك الدينية معناه أنّ هذا الآخر سينفذ في تفكيره ومقولاته شيئاً فشيئاً إلى منظومة العقل التي عندك، لهذا يترك هذا الأمر نتائج خطيرة على التماسك العقدي في داخل المذهب الواحد؛ لأنّ أفكار الآخر واجتهاداته ستحظى ـ شئنا أم أبينا ـ ببعض القبول والرضا من بعض الباحثين في داخل الوسط المذهبي، وستنهار تدريجياً الصورة البشعة والبائسة والمشوّهة عن الآخر في وعي العلماء والمفكّرين، وهذا أمر مرفوض من الناحية العقائدية عند التيارات التقليدية، فالآخر في الثقافة المذهبية السائدة لا يحضر إلا ومِعْوَل هدمه معه، ولا تحضر صورته الأصلية بل صورة مشوّهة عنها، ولهذا كثيراً ما لا نجد أمانةً في النقل هنا وهناك.
منذ حوالي العشر سنوات، ألقيت عشرات المحاضرات في تاريخ أصول الفقه السنّي والشيعي على طلاب العلوم الدينية في مدينة قم في إيران، وقد سمعت الكثير من الانتقادات بسبب إلقائي حينها مجموعةً من المحاضرات في تاريخ أصول الفقه السنّي. إنّ المبرّرات دائماً هي ضحالة الآخر وفي الوقت عينه الخوف منه، لاحظوا معي جيداً التناقض، ففي الوقت الذي يُبدون الآخر ضحلاً كأنّه عدمٌ، يخافون منه أيَّ خوف حتى داخل الأوساط العلمية لا على مستوى القاعدة الشعبية والجماهير فقط!! هذا هو الواقع الصادّ عن التواصل العلمي.
وحتى الدراسات المقارنة في المعاهد والجامعات والحوزات العلمية ـ شيعياً وسنيّاً ـ تقع في الغالب ضمن سياق نقد الآخر وإثبات الذات وتفوّقها، وليس في سياق بناء مكوّنٍ جامع للمعرفة الدينية يستوعب في ثناياه مجمل تراث المسلمين ومختلف مذاهبهم ومقالاتهم.
لهذه الأسباب وغيرها، لم تظهر إلى الآن مؤسّسات مشتركة تُذكر، وحتى المؤسّسات المعنيّة بالتقريب، والتي يفترض أن تكون مشتركةً بطبيعتها، نجدها هي الأخرى تعاني من بعض المشاكل، فالمعروف أنّ القسم العلمي لمجمع التقريب بين المذاهب في طهران لا يستوعب باحثين غير شيعة، ولا أعرف سبب ذلك، هل من المسؤولين عن المجمع أم من الأطراف الأخرى التي رفضت التعاون في هذا المجال؟ كيف لي أن أتصوّر مركزاً بحثياً تقريبياً على جميع المذاهب الإسلامية ثم لا أرى المذاهب فيه ولا باحثيها، فلا أراهم إلا في هيئة الأمناء واللجان الاستشارية العليا التي يغلب عليها الطابع التشريفاتي! هذا واقع سيء جدّاً.
وفي تقديري المتواضع، يجب العمل ـ ومن خارج السياق ـ على تأسيس مراكز ومؤسّسات مدنيّة ولو صغيرة ذات طابع بحثي، تكون مشتركةً، يتعاون فيها الجميع، متعالية حقيقةً عن التحيّزات غير الموضوعية والتحيّثات المهيمنة على واقعنا الثقافي بين المذاهب، ومحترمةً للخصوصيّات المذهبية في الوقت عينه، ولا ينبغي أخذ الإذن أو أن تكون هذه المؤسّسات قد أخذت شرعيّتها من أولئك الذين لطالما رفضوا التقريب بين المذاهب وكانوا يشمئزّون من العمل المشترك، فإذا أخلصنا النية، فإنّ الله سوف يوفّق ويعين عندما نشرع في العمل ونتكل عليه روحاً وعملاً وجوهراً وشكلاً إن شاء الله.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً