أحدث المقالات
مركز دار السلام –  فرجينيا، الولايات المتحدة 
عاشوراء 1425

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة على المصطفي الأمين، صاحب الخلق العظيم، وعلى آله   وصحبه.  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لهذا  الحديث شقان:  شق أعرضه هذه الليلة متناولاً بعض أهم معالم شهادة الإمام الحسين، وشق أعرضه ليلة الغد متناولا بلورة الشهادة من خلال صمود الأسرة  العلوية في الأسر.  من خلال العرض سوف نلامس معان سامية استظهرتها الشهادة، ثم بلورها صمود أسر الشهداء خلال محنة السبي: سوقا من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، ثم عودا  من الشام إلى المدينة، مرورا  بمصارع الشهداء بكربلاء في اليوم الأربعين بعد الشهادة. عنوان الحديث هو:

درس عاشوراء:  الحق والباطل ضدان لا يجتمعان*

الشق الأول (ليلة التاسع):

في عدادِ المظالمِ الكبرى التي شوّهت الخبرةَ البشرية عَبر العصور سيظلُ التاريخُ يعدّ مقتلَ الحسين ابن علي ابن أبي طالب وأهله وأصحابه في العاشر من محرم عام 61 للهجرة، بأمر الخليفة الأموي الثاني يزيد ابن معاوية ابن أبي سفيان، وبيد  أعوانٍ له على شاكلته في الفسق والفجور… سيظلُ التاريخُ يعدّ هذه الفاجعة أحدَ أبشع المظالم وأكثرِها تلطيخاً للسجل البشري.

على أن من عُمق هذه المأساة قيّض الله لهذه الأمة أن ترى كيف تكون الشهادة بأجلّ وأسمى ما تكون.  قيّض لها أن ترى كيف يكون التثبتُ في الحق في وجه الباطل، كيف يكون انتصارُ الحق وإن بدا أنه هُزم، وكيف يكون انهزامُ الباطل وإن بدا أنه انتصر.  يُعقب عباس محمود العقاد على شهادة الأمام فيقول:  انهزم الحسين في  كربلاء وأصيب هو وذووه، لكنه مَثُل للناس في حُلةٍ من النور تخشعُ لها الأبصار، وباءَ بالفخر الذي لا فخرَ مثله في تواريخ بني الإنسان … وحسبُهُ أنه وحده، في تاريخ الدنيا، الشهيد ابن الشهيد في مئات السنين. 

الحقُ والباطلُ ضدانِ لا يجتمعان.  القرآنُ الكريم يورد هذا المعنى في بليغ قوله:  وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.  بتدبر هذه الآية نستجلي معنىً في غاية الدقة في وصف طبيعة الحق وطبيعة الباطل: أنْ لا وجود للباطل إلا في غياب الحق، أي أن غياب الحق هو عينُ الباطل، وإلا فالباطل زهوقٌ، أي لا كيان له في الأصل.

امتناع  مبدئي

الحقُ والباطلُ ضدانِ لا يجتمعان.  الإمامُ الحسين أيضاً عبّر عن هذا المعنى العظيم في المبدأ الذي  ارتكز إليه في تحديد موقفه من مبايعة يزيد.  كان ذلك في مجلس الوليد ابن عتبة ابن أبي سفيان، والي المدينة، الذي – بأمرٍ عاجل من يزيد – كان قد استدعى الإمام ليبلغه بموت معاوية وليأخذ البيعة منه ليزيد.  كان الوقت عشاءً، فاستمهل الإمامُ  الوليدَ إلى الغد، قائلاً أنه لا يجدر أن يبايع في السر، فإذا صار الغد ودُعِي الناس للبيعة فسيكون الأمر جهاراً  وعامةً بين الناس. عندها، قال الإمام، " سنرى وترون، وننظر وتنظرون."

مالَ الوليدُ لقبول رأي الإمام، لكن مروان ابن الحكم ابن العاص، الذي كان الوليدُ قد استدعاه للاستشارة في أمر الحسين، بصفته أحدَ أقطاب حكم بني أمية، تعمد التحريض.  قال للوليد:  لئن فارق الحسينُ دون أن يبايع لا قدرتَ منه على مثلها في الغد: احبسه حتى يبايع، وإلا فاضرب عنقه.  وهنا وجد الإمام نفسه أمام أمرٍ لا بد من حسمه في الحال، فأفصح عن قناعته بفقدان  يزيد لأهلية البيعة، قائلاً للوليد:  أيها الأمير، إنا أهلُ بيت النبوة ومعدنُ الرسالة ومختلفُ الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ فاجر، شاربٌ للخمر وقاتلٌ للنفس المحرمة، مُعلنٌ للفسق والفجور.  وختم الأمامُ حاسماً موقفه: ومِثلي لا يبايع مثله.  ثم خرج محفوفاً بثلة من فتية بني هاشم كانوا قد رافقوه إلى دار الولاية  تحسباً لأي طارئ.

لم يكن الاعتراض شخصياً، بل مبدئياً.  لم يكن مدفوعا بطمعٍ أو طموحٍ دنيوي، بل لدفع بلىً عظيم عن أمة كادت تحيد عن الرسالة التي ألزمتها بالحكم بالشورى، بإقامة العدل، بالمساواة بين الناس، بصون كرامة الإنسان، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سائر أمور الحياة.  أيضاً، لم يكن موقفُ الإمام لمقتضى ظرفٍ عابر، بل جاء اتساقاً مع قاعدة يرجع لها أصحابُ الضمائر الحية في كل عصر ومصر، قاعدةٍ تقول: إن الحقَ لا يبايع الباطل، إن أهلَ الحق لا يتبعون أهل الباطل، فأيما حسينٍ ينشد الإصلاح في أمته لا يبايع أيما يزيدٍ  يعثو فساداً في الأرض.  كلا، لا يكون ذلك ما بقي في الإنسانية خيرٌ ورشد.  
 
فرقٌ بين أن يمتنع المرءُ عن معارضة حاكم جائر اتقاءً لشره، وبين أن يبايعه فعلاً، واعياً أن البيعة له ستُضفي شرعيةً كاذبة على حكمه وقبولاً مُلَفقاَ له كشخصٍ ذي أهليةٍ للحكم، وإذن فالبيعة له ستُسهم في تكريس الباطل وتطبيع الفساد.  في الظرف الأول دفعٌ للتهلكة عن النفس مع تفادي الإضرار بالأمة، في الظرف الآخر دفع للتهلكة عن النفس لكن مع الإضرار بالأمة.  الحسين واجه هذا الظرف الآخر فآثر تفادي الإضرار بالأمة وإن أدى ذلك إلى استشهاده.  وهذا لعمري موقف رفيع لا يأتي إلا من وعيٍ خُلُقيٍ رفيع.  ولو أنه لم يُرغَم على المبايعة، لما عرّض نفسه للتهلكة، ولَعاشَ بمدينة جده مصوناً في نفسه وصائناً لأهله، ومواصلاً دوره الترشيدي في مجتمعه.  لكن أميةَ وجندَها أخذوا عليه الأرض، فاختار الموت على الحياة، قائلا: ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه. لَيَرغبُ المؤمنُ في لقاء الله.  ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادةً والحياةَ مع الظالمين إلا بَرَما. 

الظالم لغيره لنفسه أظلم

العدلُ رديفُ الحق، وبه تصلح الحياة، والظلمُ رديفُ الباطل، وبه تفسد الحياة.   يقول القرآن الكريم:  لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.  الكتابُ هو الوحيُ الموحى للأنبياء، والميزان هو العقلُ الذي اعتمده الوحيُ في تمييز ما يصح وما يشط، ما ينفع وما يضر، من الأشياء والأمور، والغاية منهما معاً: ليقومَ الناسُ بالقسط.  لذا الظلمُ، كما الباطل، لا يدوم.  لذا الظالم والمُعينُ على الظلم والراضي به شركاء في الإثم.  في الخبرة البشرية نقرأ  أنه لا يستقيمُ طويلاً كيانٌ لشخص أو لأمة إذا أسس على ظلم، فالظلمُ من طبعه أنه إذ يؤذي المظلومَ في وقتَهِ فإنه يعود ليقضيَ على الظالم وقتَ الحصاد.  من ذلك نعلم أن الظالمَ لغيره لنفسه أظلم، فما يُلحقُ الظالمُ بالمظلوم لأهوَنُ مما يُصيب به نفسَه في عاقبة الأمور.  إنه، من حيث لا يكترث، يُصيب نفسه بارتكاسٍ في إنسانيته فيُبلىَ بخُسرانٍ مبين.  إلى ذلك ينبهنا القرآن الكريم ببليع قوله: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون: أي أنهم يظلمون غير عابهين بما سيجر الظلم لهم من هلاك وتلف، ثم يقول:  والعاقبة للمتقين: أي لأولئك الذين يجتنبون المفاسدَ، وأفسدُها الظلم.    

بسُنة الله تلك، الساريةِ عدلاً  في الشأن البشري منذ أن وجُد البشر، ذكّرت زينبُ بنتُ عليٍ يزيداً عندما تطاول في مجلسه بالشام وتكابر، فأبطلت فِريته التي رام ترويجَها بين الناس:  أن امتلاكَه السلطة، وتعسّفَهُ في ممارستها دون أن يُصاب بمكروه قرينةٌ على رضا الله عنه.  فقرأت له من القرآن ما أكذبَ ادعاءَه وأفسدَ مقالَه:  ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم، إنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مهين.  

أنّ الظالمَ لغيره لنفسه أظلمُ معنىً يرد في أكثرَ من موقعٍ في القرآن الكريم.  لمزيدٍ من الاستنارة، دعنا نتدبرُ آياتٍ أخرى تؤكد هذا المعنى الدقيق: أن الظلمَ فعلٌ بشريٌ  قضى الله أن ترتدّ عقوابُهُ الوخيمة على مرتكبه.  يقول القرآن: إن الله لا يظلم الناسَ شئياً ولكن الناسَ أنفسَهم يظلمون.  ويقول: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون. 

لنقرأ هذا المعنى في نسقٍ قرآني آخر منير: في قصة شخصٍ يدخل جنته وهو ظالم لنفسه – أي مغتر بما أوتيَ من خيرات الحياة وإمكاناتها، فيظنُ أن له سيطرة مطلقة  على ما امتلك، وأن ما امتلك باقٍ له للأبد، وبذلك يهملُ ما يُرتّب عليه وضعُه الموفورُ من واجب الشكر لله وواجب الخدمة لمجتمعه.  إنه ينسى أن اليُسر في الحياة اختبارٌ للمرء كما العُسر، وأن لكلٍ من الوضعين مقتضىً إذا أهمله المرءُ انقلب الوضع وبالاً عليه:  في اليُسر إن لم يشكرْ ويُنصفْ ويُعِنْ من يحتاج لِعون، وفي العُسر إن لم يصبرْ ويَعُفَ ويجاهدْ لأجل إزالة العُسر.  بإهمال مُقتضَى أي من الوضعين يظلمُ المرءُ نفسه.  في هذا المثل القصصي تحديدا نجد هذا الظالم لنفسه في النهاية يقلب كفيه على ما أنفق في جنته وقد غدت خاوية على عروشها، ويدرك عندئذ كيف أنه بنفسه جر هذا الانكسار على نفسه، ويتمنى لو أنه وعى من قبل على مقتضى مشيئة الله في الأمور.

منطق الحق

إزاء ظلم فادح من يزيد، وأمام خطر داهم من الأمويين عليه والعلويين من حوله، لننظر كيف يتصرف الحسين، وكيف يكون تصرفه مطابقا للحق.  إنه يُطالَب ببيعة شخصٍ فاسد يأبى الله له ويأبى ضميرُه أن يبايعه.  فإن لم يفعل ومكث في المدينة اغتيل، فحفيدُ أبي سفيان لا يقنع منه بالاعتزال، بل يُطالبه بالإذعان.  أشار عليه أخوه محمد ابن الحنفية أن ينزل مكة ويدعوَ الناس إليه، فإن لم يجد منهم تأييداً  لحق بالرمال وشعاب الجبال لكي يسلم من فتك بني أمية، إلى أن يحكم الله بينه وبين القوم الظالمين.  لكن الإمام كان مقتنعاً:  كما في المدينة، كذا في مكة، لن يُترك لحاله، بل إنه لن يسلم من غدر أمية أينما حل.  مع ذلك كان عليه أن يحاول.  لقد كتب إليه أهلُ الكوفة أن يقدم إليهم وأنهم سينصرونه، وهو سيوفد إليهم ابن عمه مسلم ابن عقيل، وسينتظر ليسمع من مسلمٍ ما يُؤكد له موقفهم ويطمئنُه عن الأحوال هناك.  في الوقت نفسه سيشرح للناس المتجمعة في مكة للحج موقفه الممتنع عن مبايعة يزيد.  

بترقبٍ وحذر خرج الحسين من المدينة  ليومين بقيا من رجب عام 60، مُكرَهاًً لا عن اختيار.  لم يكن الخروجُ هيناً عليه ولا على أسرته، فيثربُُ موطنُهم وبها لهم جذورٌ وأواصرُ، وفي عَرَصاتها لهم ذكرياتٌ عطرة تتصل بحياة الجد العظيم.  زار قبر جده مودعاً، وداعياً أن يختار الله له ما لله ولرسوله فيه رضا.  وخيّم حزنٌ عميق على المدينة يومَ أن جُهزت المحاملُ واحتشد الناس لتوديع أسرة هي محور حياة مدينتهم وصلتها بالعهد النبوي المنير.  ودارت تساؤلات بين الناس:  لِمَ يرتحلُ الإمامُ، ولِمَ يأخذ الأسرة معه؟  قليلٌ مَن درى بالخطر المتعاظم حول البيت العلوي بأسره، الخطر القادم من دار الخلافة في الشام.  إزاء ذلك شرح الإمام نهجه، لكي لا يُساء فهمه ولا تذهبَ بالناس الظنون.  كتب في وصيته  لأخيه محمد ابن الحنفية مُبيناً قصده:  إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجتُ لطلب الصلاح في أمة جدي.  أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي، فمن قبلني بقبول الحق فالله أحقُ بالحق، ومن رَدّ علي هذا أصبرُ حتى يقضيَ الله بيني وبين قومي بالحق، وهو خير الحاكمين.  ووجّه كتاباً موجزا إلى بني هاشم أعلن فيه:  من لحق بي منكم استُشهد، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح، والسلام.

نعم، كان الإمام على بينة مما هو مقبل عليه، يحدوه واجب الإصلاح.  لقد كان يرى الحق والعدل والصدق والمعروف ركائزَ سلامة الأمة وصلاحها، إذ بدونها تتضاءل جدارة الأمة وتتردى نوعية الحياة.  ولما خرج من يثرب سلك الطريق الأعظم، ولم يشأ أن يتنكبه، إشهاراً لموقفه وتأكيداً على عزمه عدم الإذعان لمطلب  الطاغية في الشام.  وإذ اجتاز أواخر المنازل تلا قوله تعالى:  فخرج منها خائفا يترقب، قال رب نجني من القوم الظالمين.

ودخل مكة لثلاث مضين من شعبان، وهو يتلو:  ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل.     خلال الأشهر الأربعة التي أقامها في مكة، ومكة تمتلئ بالناس استقبالا لموسم الحج، دأب على شرح أسباب امتناعه عن مبايعة يزيد وعزمه على الارتحال إلى العراق.  ومما استطلع من أحاديث الوافدين علم أنه مستهدف في الحج، وقد يُغتال في البيت الحرام، فيُهدر دمه وتُهتك حرمة الفريضة والبيت.  لتفادي ذلك طاف وسعى وأحل من إحرامه، وقبل أن يرحل خطب في حشد من الناس يرسم لهم  ما كان يستشرف لنفسه من مصير، لكي يكون من شاء الالتحاق به على بينة من الأمر.  قال: خُط الموتُ على وِلْدِ آدم مخط القلادة على جيد الفتاة.  وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسُف، وخُيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه.  ألا فمن كان باذلاً  فينا مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحلْ معنا فإني راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله.  لقد أبان بهذا الخطاب أنه لا يرهب الموت ولا يراه نقيصة، بل زينةً، في سبيل الحق.   هكذا أيضا والدُه بالأمس: واجه الموت مراراً وتكراراً في نصرة الحق، حتى إذا جاءه لحظة أن ضُرب بالسيف على جبينه، وهو في صلاته بمسجد الكوفة، رآه فوزاً، فتمتم مستبشراً:  فزتُ ورب الكعبة!  
 
ولْنَرَ كيف كانت ركيزة الحق ثابتةً في وعي الإمام وأهل بيته وأصحابه.  في الطريق إلى العراق، والقافلةُ تسير في عرض البادية على نحوٍ رتيب، إذا بالإمام يسترجع (إنا لله وإنا إليه راجعون) فيسأله ابنه علي الأكبر – وكان ملازماً له –  لمَ استرجعتَ يا أبتاه؟ .  قال الحسين:  خفقتُ خفقةً فعنّ لي هاتفٌ يقول: ألقومُ يسيرون والمنايا تسير في أثرهم  فعلمتُ أن نفوسَنا نُعيت إلينا.  قال الأكبر – وكان في السابع والعشرين من عمره أشبهَ الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً بجده رسول الله: لا أراك الله سوءً يا أبي … أولسنا على الحق؟  قال الحسين:  بلى والذي مرجعُ العباد إليه.  فردَ الأكبر بعفوية طاهرة: إذن لا نبالي ما دمنا على الحق.  كان منطقُ  الحق هو المنطقُ الفصلُ لدى جده علي ابن أبي طالب في التعامل مع أيما قضية تعرض له وأيما إشكالية تعترضه، وهو من قال:  ما شككتُ في الحق مذ أن أريتُه.  ولطالما انتقد علياً العاجزون عن فهم هذا المنطق وأبدوا له عقمه إزاء دهاء خصومه، فكان يرد حيناً بقوله:  لولا التقى لكنتُ أدهى العرب، وحيناً آخر بقوله:  ما ظفر من ظفر بالشر، فالغالبُ بالشر مغلوب.  ومنطقُ الحق هذا هو أيضاً المنطقُ الفصلُ لدى الحسين ولدى أهل بيت الحسين وأصحابه، رجالاً ونساءً، لا يحيدون عنه قيد أنملة ولا تأخذهم فيه لومةُ لائم.
 
إن من ينظر في سيرة أهل البيت يرى كم يلازم منطق الحق كل ما  يقولون ويفعلون.  فهذا عليٌ بعد عثمان يقف معلناً على الملأ سياسته العدلية وعزمه على استرداد ما فُرق شططاً في عهد سلفه، قائلا: أيها الناس: إنما أنا رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم. ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمانُ، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود إلى بيت المال، فإن الحق لا يُبطله شيئ، ولو وجدتُهُ (المال العام) قد تُزُوِج به النساءُ ومُلكّت به الإماءُ وفُرق في البلدان لرددته إلى أهله.  فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.  وأيما رجلٍ استجاب لله ورسوله فصدّق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم جميعاً عبادُ الله، والمالُ مالُ الله يُقسَم بينكم بالتسوية ولا فضلَ فيه لأحدٍ على أحد. 

وهذا ليس ما بين المسلمين فحسب.  كان عليٌ يؤكد وجوب إحقاق الحق وإقامة العدل في جميع المعاملات بين الناس كافة، فهم – حسب تعبيره – إما إخوة في الدين أو نُظراءٌ  في الخَلق.  هكذا كتب في عهده إلى مالك ابن الحارث الأشتر لما ولاه مصر، ومصرُ غالبُ أهلها بعدُ أقباطٌ مسيحيون.  في عهد مُحكَم ومفصل أكد الإمام وجوب التعامل إنسانيا مع الجميع، ناصحاً واليَه: وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويُؤتىَ على أيديهم  في العمد والخطأ، فأعطهم من عطفك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عطفه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك…  
  
نعم، كان عليٌ يرى أن يقوم التعامل الإنساني مطلقاً على المبادئ الإنسانية التي تجمع وتؤلف بين الناس وترسي  بينهم مسالك التوافق والتعاون.  كان يرى أن الظلم والغدر والخداع والإكراه وإن جلبت مغنماً أو صنعت نصراً  فلا يقرها الإسلام، بل لا يعتبر ما يُنال بها مغنماً أو نصرا ً بمعنىً حقيق.  أما  قوله:  فأعطهم من عطفك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عطفه وصفحه، ففيه إرساءٌ لقاعدة جامعة لمكارم الأخلاق نطقت بها الأنبياءُ والحكماءُ في مختلف الأمم والعصور: أن يعامل المرءُ غيره كما يحب أن يُعامله الغير – أي بعدل وإحسان وأمانة واحترام.  كان يقول: إن الله قد أخذ على العلماء أن لا يقاروا في كظة ظالم ولا سغب مظلوم.  ذلك هو معيار الإسلام، التزم الإمام به وندب الناسَ إليه.  ثم إنه في آخر وصية له للحسنين عاد فأكد وجوب مناصرة الحق ومخاصمة الظلم في الشأن البشري على الإطلاق، بقوله: وقولا للحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا –  بمعنى كونا كذلك أياً كان الظرف وأيا كان الظالم والمظلوم. 

أبر الأهل وأوفى الأصحاب

كان مع الحسين من أحفاد أبي طالب عشرون شاباً، أكبرُهم العباس ابن علي ابن أبي طالب.  كان له قدرٌ من مراسٍ حربي، فقد أدرك مع أبيه بعض وقائعه وإن لم يشارك في القتال.  كان مَهيباً، قويَ البُنية، نافذَ البصيرة، صلبَ الإيمان.  وقد أوكل إليه الحسينُ قيادة المعركة وحمله لواءه يوم عاشوراء.  لنسمعْ ردّ العباس لشمر ابن ذي الجوشن – أحد قواد جيش يزيد –  عندما عرض شمرٌ عليه الأمانَ له وللآخرين من بني هاشم إن هم تخلوا عن الحسين.  رد العباس غاضباً:  لعنك الله يا شمر ولعن أمانك.  أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له؟  نعم إنهم أهل بيتٍ  ملازمةُ الحق لديهم فوق ابتغاءِ  أمنٍ لأنفسهم أو أمان.      

وليلةَ العاشر من محرم، عندما جمع الحسين أصحابه وأهل بيته وخاطبهم قائلا:  ألا إنني لا أعلم أصحاباً أوفى من أصحابي، ولا أهلَ بيت أبرّ من أهل بيتي.  جزاكم  الله عني جميعاً خيرا.  ألا وإنني أظن أن يومنا من هؤلاء غداً، وهم لا يريدون غيري، فانطلقوا جميعا في حل.  ليس عليكم مني ذمام.  هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل واحد من أصحابي بيد رجل من أهل بيتي… ردّ عليه أخوه العباس:  ولمَ نفعلُ ذلك؟ ألنبقى بعدك يا أبا عبدالله، لا أرانا الله ذلك أبدا.  وقال الأصحاب مثل قوله.  فشكرهم الأمام ولم يُصر، فليس له – وهو العالمُ العاملُ بعلمه – أن يسلبهم خيارَ الشهادة.  وفي تلك الليلة أيضاً، وقد استيقن الجميعُ بالاستشهاد في الغد، سمعت زينب، وهي تطوف من خيمة لأخرى متفقدةً أحوالَ النساء والأطفال… سمعت أصواتاً تعلو من خيام رجال بني هاشم وهم يصرون على أن يكون لهم السبقُ في الشهادة في الغد، ثم سمعت بمثل ذلك من خيام الأصحاب.   نعم، إنك لتراهم جميعاًً  يتفانون في نصرة الحق. 

حوار عميق

لدى الحسين، إلى جانب الثبات في الحق، نجدُ رقياً في الفكر، سمواً في الخُلُق، واعتزازاً كريماً بالنفس، وبهذه مجتمعةً اتسمت دعوتهً إلى الإصلاح بأصالة وإخلاص، وتميز موقفه موقفاً غير متهيبٍ من السلطة ولا متزلفٍ لديها ولا راغبٍ فيها كَحَظٍ  شخصي.  بذلك قدم الحسين نموذجاً ثورياً صادقا حوّلَ شهادته إلى ثورة تنير دروب الثائرين لأجل الإصلاح.  وأنا في الرابع عشر من عمري أذكر أن والدي جاء لي يوماً بكتاب الشيخ عبد الله العلائلي عنوانه: سموُ المعنى في سمو الذات، يُحدّثُ عن شهادة الحسين ويشرحُ معاني الشهادة.  من هذا الكتاب تكوّن أولُ فهمي لشهادة الإمام وتحدّد نهجي في التعامل معها كدرس عظيم في الارتكاز في الحق وملازمة الصدق والصبر في وجه أعتى النكبات.  من عطاء هذا الكتاب، ومما لمستُ لدى والدي من توقيرٍ عظيمً لشهادة الإمام ووعيٍ متعمق لمضامينها النبيلة،  لم أمِلْ يوماً إلى ممارساتٍ صاخبةٍ أو طقوسٍ لاهبةٍ في إحياء ذكرى عاشوراء، بل وجدتُ العَبرة الهادئة والارتباطَ الروحي بصفاء نفسية الإمام ونُبلها أوقعَ أثراً  في نفسي وأكثرَ تمكيناً  لي من استيعاب الدرس الحسيني العظيم.

استخلصتُ هذه الرؤية وتبنيتُ هذا النهجَ أيضاً من حوارٍ عميقِِ المعاني والدلالات دارَ بين الإمام وأخته الحوراء زينب عشية الشهادة.  يروي لنا الإمامُ عليُ ابن الحسين هذا الحوارَ فيقول: وإني والله لجالسٌ في تلك العشية التي قُتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خباءٍ له، وعنده مولى أبي ذر الغفاري يعالج سيفه، وأبي يقول:  يا دهرُ أفٍ لك من خليل، كم لك بالإشراق والأصيل، من صاحبٍ وطالبٍ قتيل،  والدهر لا يقنع بالبديل، وإنما الأمر إلى الجليل، وكل حي سالكُ السبيل. 

وأعاد الأبياتَ  مرتين أو ثلاثاً، حتى فهمتُها فعرفتُ ما أراد.  فخنقتني عبرتي فحبستُ دمعي.  أما عمتي زينب فإنها سمعتْ ما سمعتُ، فلم تتمالك نفسها ووثبتْ تجر ثوبها حاسرة الرأس حتى انتهت إليه، فصاحت: واثكلاه!  ليت الموتَ أعدمني الحياة!  فنظر إليها الحسينُ ملياً، ثم قال لها:  يا أخية: لا يَذهَبنّ بحلمك الشيطان.  قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، فداك نفسي.  فردَ غُصتَه، وترقرقت عيناه، وتمتمَ: لو تُرك القطا لنام وغفا.  قالت ياويلتا، أفتغتصبُ نفسُك اغتصاباً؟  فذلك أقرحُ لقلبي وأشدُ على نفسي.  ولطمت خدها وشقت جيبها، فقام إليها الحسين، وهو يقول: يا أخية: إتقي الله وتعزي بعزائه، واعلمي أن أهلَ الأرض يموتون، وأهلً السماء لا يبقون، وأن كل شيئ هالكٌ إلا وجهه.  أبي خيرٌ مني، وأمي خيرٌ مني، وأخي خيرٌ مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.  يا أخية: إني أقسم عليك فأبري بقسَمي: لا تشقي علي جيباً ولا تخدشي علي خداً، ولا تدعيْ عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت.  قال علي ابن الحسين: ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، ثم خرج إلى أصحابه.  وقد ظلت زينبُ إثر هذا الحوار مع الإمام رابطةَ الجأش إبان الشهادة وبعد الشهادة، وبذلك أدت الدورَ العصيبَ الذي أناط بها أخوها الشهيد لتقوم به بعد مقتل مَن حولها من رجال بني هاشم.

جلال الشهادة

ولنرَ ما أسفر عنه الغد – العاشرُ من محرم.  في جانبٍ كان الحسين ومعه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً من أهله وأصحابه، ومن ورائهم صبيةٌ عطاشى ونساءٌ مروَعات.  في المقابل كان جيشُ والي الكوفة، مؤلفاً من ستة آلاف أو يزيدون، مدججا بالسلاح متحفزا للعدوان، ومن ورائهم سلطانُ الدولة وطغيانُ مُلكٍ عضوض.  وما أن طلعت الشمس حتى زحف الجيش الباغي نحو مُخيّم الحسين وأصحابه.  لم يكن الإمامُ في ريب مما يريدون، ولا جازعاً مما هو مُقدمٌ عليه، لكن بقي في ضميره أمرٌ وجب أن يؤديه للمرة الأخيرة: وجب أن يُسجل موقفاً  ويُلقيَ حجة، فلا يكون لأحد بعد ذلك أن يقول أنهم قتلوه عن جهلٍ به أو لقصاصٍ أو لتبعةٍ من أي نوع.

ركب جوادَه ودنا من القوم حتى صاروا على مرأىً منه ومسمعٍ.  استوقفهم، ثم خاطبهم:  أيها الناس اسمعوني ولا تعجلوني حتى أعظكم بما يحق لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل … أيها الناس انسبوني  فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم هل يحل لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟  ألستُ ابنَ بنت نبيكم وابنَ وصيه وابن عمه؟  أو ليس حمزة سيدُ الشهداء عمَ أبي؟  أليس جعفرُ الشهيد الطيار في الجنة عمي؟  أو لم يبلغكم قولُ رسول الله عني وأخي:  هذان سيدا شباب أهل الجنة؟  أما في هذا حاجزٌ يحجزكم عن سفك دمي؟  فإن كنتم في شكٍ مما أقول، أوَ تشكّون في أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنت نبي غيري.  ثم ساءلَهم: أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو بمالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟  ونظر إلى قوادٍ في جيش الكوفة ممن كتبوا إليه أن يقدم إليهم وأنهم سينصرونه، فذكّرهم واحداً واحداً بما تعهدوا له في رسائلهم.  وعرض عليهم خط الرجوع عما أوشكوا أن يقترفوه، قائلا:  فإذا  كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض.  لكنهم أعرضوا عنه بغلظة وجفاء، فذهبت كلماتُه هدراً وقد صَمّت دونها الآذان وصدت عنها قلوب قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة.   فلما لم يحر منهم جوابا عاد إلى مخيمه يأئساً منهم، وموطناً على لقاء الله نفسه.

من النفوس ما هي أصيلة في الخير، لكنها قد تتورط في وضع سيئ فلا تتنبه لما تورطت فيه حتى توقظها كلمة حق أو يصدمها واقع أليم.  كذا كانت نفس الحر ابن يزيد الرياحي، القائد الذي بأمر ابن زياد حبس الإمام عن الرجوع إلى المدينة حين علم الإمام بانتكاص أهل الكوفة، وجعجع به حتى أورده أرض كربلاء.  ما كان الحر يظن أن هكذا  يراد بالحسين، فلما سمع خطاب الإمام  أسرع يسأل أمير جيشه عمر ابن سعد:  أمقاتل أنت هذا الرجل؟  قال عمر:  نعم، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.  عندها خيّر الحُرُ نفسه بين الحق والباطل، فآثر الحق.  ركل فرسه بقوة فعدا به إلى مخيم الإمام.  قال معتذراً: أنا صاحبك الذي جعجع بك بالأمس، فهل لي من توبة؟  قال الحسين: يتوب الله عليك.  ثم عاد الحر يعظ جيش الكوفة ويثنيهم عن قتل الحسين، فرموه بالنبال.  هكذا أيضا حُران آخران في جيش الكوفة:  راجعا نفسيهما فهجرا جيش الكوفة واختارا الشهادة في نصرة الحق.

وبدأ القتالُ، وما أن انتصفَ النهارُ حتى كان أصحابُ الحسين وشبابُ بني هاشم صرعىَ بين يديه بعد أن أبلوا  بلاءً حسناً في القتال.  كان الطعنُ قد غيّر معالمَ أجسامهم، لكنْ ما غيّر فيهم مكارمَ الأخلاق.  كان كلما صُرع شهيدٌ يهرع إليه الإمام ليتلقاه، ثم يظل يرعاه حتى الرمق الأخير.  حتى إذا استُشهدوا جميعاً بقي وحدَه يقاتل، فما رُؤي  مكسورٌ قط  قُتل ولده وأهلُ بيته وأصحابُه أربطَ جأشاً ولا أمضى جَناناً ولا أجرأ مقدماً منه.  وبقيت زينبُ ترقبه بقلبٍ معتصرٍ ودمع منهمر، وقد عزّت عليها وحدتُه وحزّت في نفسها غربتُه، يحمل عليه القوم  فيصدهم بشجاعة لا تنقص وقوة بدنية تتناقص.

وحال رجال بينه وبين خيامه، وأرادوا التعرض لحرمه، فصرخ فيهم مندداً:  إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا.  أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح.  عندئذ عاد القوم يقصدونه بنفسه، فأجلاهم، ورجع إلى حرمه ليودع التوديع الأخير.  وإذ أحطن به بنات الرسالة يتمسحن به ويتزودن منه جازعات معولات، أوصاهن بالصبر، قائلا: استعدوا للبلاء، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم من شر الأعداء.  فلا تشكّوا ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص من قدركم.

وعاد يقاتل، حتى أثخن بالجراح، فهوى عن جواده.  وسمعه القوم يقول:  أعَلى قتلي تُجمعون؟  أما والله لا تقتلون بعدي عبداً  من عباد الله، ألله أسخطُ عليكم لقتله مني.  وأيمُ الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم  ثم ينتقمَ لي منكم من حيث لا تشعرون.  أما والله لو قتلتموني لألقىَ الله بأسَكم بينكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعفَ لكم العذابَ الأليم.  فهابوه وأجفلوا عن الاقتراب منه.  أخيرا أقدم شخص لئيم رذيل فحز رأسه، وبذلك فارق الحياة.      

هكذا نرى الحسين لآخر لحظاتٍ من حياته يلهجُ لسانُه بذكر الله ويشعّ قلبه إيماناً بالله وثقةً بوعد الله بانتصار الحق وأهله على الباطل وأهله.  ولَكَم نجدُ في حاله هذا اتساقاً صادقاً مع قوله – عند ما استشرف ابتداء تلبّدَ الأجواء حولَه في المدينة وأحس بحتمية الاستشهاد: رضا الله رضانا أهل البيت، نصبرُ على بلائه فيُوفينا أجور الصابرين. وهكذا أيضا نرى هذا التناقض الصارخ في الحال البشري:  في جانب منه نرى سموا‌ً خلقياً تهوي إليه الأفئدةُ في كل زمان ومكان، وفي جانب آخر  نرى دناءةً يتبرأ  منها كل ذي ضمير حي.  في جانب نرى الإنسانَ في أحسن تقويم، وفي جانب مضاد نرى الإنسان وقد ارتد إلى أسفلَ سافلين.  في جانب نرى النموذج الحسيني الصالح المصلح، فنجله ونحبه ونحييه، وفي جانب معاكس نرى النموذج اليزيدي الفاسد المفسد، فنحتقره وندينه ونلعنه.

توسل

اللهم اجز الحسين وأهله وأصحابه عن أمة الإسلام خير جزاء.  اللهم أرنا الحق حقا كما أريتهم فنتبعه، والباطل باطلا فنتجنبه.  اللهم ما عرفتنا من الحق فحمِّلناه، وما قصرنا عنه فبلغناه.  اللهم اجعلنا من الذين هدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد.  واجعل اللهم لنا توفيقا بك في جميع الأمور.

——————–

الشق الثاني (ليلة العاشر من محرم)

في نسق ما عرضتُ عليكم ليلة أمس أعود لأؤكد أن لشهادة الإمام الحسين عليه السلام قيمة أخلاقية فائقة في مجال ثبات المرء على الاستقامة في نفسه، وفي مجال إسهامه في تقويم الحياة السياسة الاجتماعية في أمته.  الإمام في كل ما يقول ويعمل، وهو يواجه ظرفا عاتيا يمتحن أقصى ما يمكن أن يوجد لدى أي إنسان من طاقة الصمود، يبقى ثابتا في الحق، متحليا بالصدق والصبر، ناطقا بحجة العقل، متمسكا بكرامة الإنسان، منطلقا من الإيمان بالله والثقة في وعده بانتصار الحق وأهله على الباطل وأهله في عاقبة الأمور.
 
بلورة الشهادة

بعد الشهادة كانت المرحلةُ المُبلوِرةُ لمعان الشهادة وعِبَرِها في أذهان الناس الذين ما كان مُعظمهم  قد استوعبوا تماماً فداحة الحدث بعد –  المرحلةُ التي رأينا كيف أعدّ الحسينُ لها أخته زينب عشية أن ذكرّها بحتمية الموت ووصّاها أن لا تجزع، بل أن تصبر وتصمد. 

كانت زينب يوم عاشوراء في الخامسة والخمسين من عمرها عميدة البيت الهاشمي وعقيلته.  تحدث في وصفها من رآها ذلك اليوم فقال: وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة من الخيام كأنها الشمس طالعة، فسألتُ عنها، فقالوا: إنها زينبُ بنت علي.  وتحدث آخر رآها عقب وصولها إلى مصر بعد مصرع الحسين فقال:  فوالله ما رأيت مثلها وجهاً، كأنه شقة قمر.  وكتب ثالث دخل الكوفة بعد مقتل الحسين:  لم أر خَفِرةً أنطقَ منها، كأنها تنزع عن لسان أبيها أمير المؤمنين.

نعم، أختُبرت زينبُ فيما وصّاها به أخوها الشهيد أقسى الاختبار، فصبرت وصمدت، بل فوق ذلك  عرّت ما كان هناك من إغراضٍ أثيم وبغيٍ أريد به طمس الوحي وتشويه الرسالة بقتل حُماة الرسالة من عترة الرسول.  في مجلس عبيد الله أبن زياد في الكوفة – عاصمة أبيها أمير المؤمنين في الماضي القريب – مع ما كان عليها من رثّ الثياب، ووقع المُصاب، ومهانة  السبي، وعنت  الحال، تقدمت عقيلة آل طالب في جلالٍ ووقار تَحفُ بها أراملُ الشهداء وتتقدمها يتاماهم، فأخذت مجلسها دون أن تُبدي نحو الطاغية أدنى التفات.  وراقبها وهي تجلس بادية الترفّع، قبل أن يؤذِن لها بالجلوس.  سأل من تكون، فلم تجب.  أعاد السؤال مرتين وثلاثاً، وهي لا تجيب، إعراضاً عنه واستصغاراً لقدره.  قيل له إنها زينبُ بنتُ فاطمة.  قال ابن زياد، وقد غاظه ما بدا منها:  الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.  فردت دونما انفعالٍ أو احتفاءٍ بموقع سلطته:  الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرا.  إنما يُفضَح الفاسقُ ويكذب الفاجرُ، وهو غيرُنا والحمد لله.   جديرٌ أن نلاحظ هنا كيف أن زينبَ تنعت يزيدا تلميحا بنفس ما نعته أخوها عند رفض مبايعته:  تنعتهً بالفسق والفجور.

من الكوفة إلى الشام، وهناك في مجلسٍ عام، وُضع رأسُ الحسين في طشتٍ أمام يزيد، فانثنى يعبث بقضيبٍ في يده بثنايا السبط الشهيد.  كان يزيد في أواسط الثلاثينات من عمره، وكان منذ صباه نموذجاً فاضحاً للرعونة والإنفلات: لاهثاً وراء ملذاتٍ وضيعة، تابعاً هواه، هاتكاً للحرمات، مستهتراً بالإسلام، ومتعصباً لأمويته الحاقدة على آل عبد المطلب.  كانت الخلافة في عينه بمثابة مُلكٍ استرده أبوه من بعد ما كانت لأمية الزعامة الحربية في الجاهلية وانتُزعت منها بانتصار الإسلام.  لم يكن مستغرَباً، وهكذا حاله، أن يتبجح بقتل الحسين وأهله، معتبراً  ذلك نقضاً للوحي وانتقاماً لأشياخه الذين هلكوا  في غزوة  بدر… فأنشد يقول:     

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا         جزع الخزرج من وقع الأسل. 
لأهلّوا واستهلّوا فرَحاً          ولقالوا يا يزيد لا تشل. 
قد قتلنا القومَ من ساداتهم         وعدلناه ببدرٍ فاعتدل.
لعبت هاشمُ بالملك فلا         خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل. 

بكت الهاشمياتُ منقهراتٍ بما شاهدن وسمعن، وهن اللواتي تربينَ في كنف الوحي وتهذبنَ بتهذيب الرسالة وعلمنَ يقيناً ما كان عليه شهداؤهن في كربلا من رقيٍ إنساني ووفاءٍ للإسلام ومقاصده في الإصلاح.  وكاد المجلس تأخذه استكانةُ النساء والأيتام من جانب، وغطرسةُ يزيد من جانب آخر، وكاد ذلك أن يغطي على  فظاعة الجريمة التي ارتكبها هذا المتسلطُ على كرسي الخلافة.  إلا أن زينبَ لم تستكن، بل وثبت تصرخ في وجه الطاغية وتزجره: صدق الله، يا يزيد، أن قال:  ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء، أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون.

انبرت تفضحُ كذب زعمِه وسوءَ فعله أمام من حضر المجلسَ من أهل الشام، وغالبُهم لا يعلم لمن الرأسُ ومن هن النساءُ المسبيات.  قالت، وقد أخذتها الأنظارُ مستغربةً منها جرأة امرأةٍ في مثل وضعها الرهين:  أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطارَ الأرض وآفاقَ السماء، فأصبحنا نُساقُ كما تُساقُ الأسارى، أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة؟  وتوهمتَ أن هذا لعظيم خطَرك، فشمختَ بأنفك جذلانَ فرِحاً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمورَ متسقة؟  أوما قرأتَ قول الله:  ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين.

واستطردت تعرف بهويتها وهوية من معها من الأرامل والأيتام، وتُعنّفُ القولَ للطاغية على ما أجرم بحق الحسين وأهله.  قالت:  أمن العدل يا ابن الطُلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله أسارى:  قد هتكتَ ستورهن وأعولتَ أصواتهن، مكتئباتٍ تجري بهن الأباعرُ، ويحدوا بهن الأعادي من بلدٍ إلى بلد، لا يُراقَبنَ ولا يُؤوَينَ، يتشوفهن الناسُ وليس معهن قريبٌ من رجالهن؟

 أتقول: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا … غيرَ متأثمٍ ولا مستعظمٍ وأنت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟  ولم لا وقد نكأتَ القرحة واستأصلتَ الشأفة بإهراقك هذه الدماء الطاهرة – دماءِ نجوم الأرض من آل عبد المطلب؟  فوالله ما فريتَ إلا جلدك وما حززتَ إلا لحمك، وسَترِدُ على رسول الله برُغمك، ولتجدنّ عترته ولُحمته من حوله في حظيرة القدس، يوم يجمعُ الله شملَهم من الشعث:  ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون.  وستعلم أنت ومن بوأك ومكّنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكَمَ ربُنا، والخصمً جدُنا، وجوارحُك شاهدةً عليك أينا شرٌ مكاناً وأضعفُ جندا.  فلئن اتخذتنا في هذه الحياة مَغنماً لتجدننا عليك مَغرماً، حين لا تجد إلا ما قدّمتْ يداك. 

ثم كشفت زينبُ حقيقةَ ما ابتغاه يزيدٌ من قتل الحسين إذ ابتغى قتلَ فكر أهل البيت وطمس مبادئَهم التي هي فكرُ ومبادئُ الإسلام الحنيف، فتحدتهُ:  فكِدْ كيدَك، واسعَ سعيك، وواصب جهدك، فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب، والنبوة والانتخاب، لا تُميتُ وحيَنا، ولا تمحو ذكرَنا، ولا تدرك أمرَنا، ولا تبلغ غايتَنا، وهل رأيُك إلا فَنَد، وأيامُك إلا عَدَد، وجمعُك إلا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على القوم الظالمين.  فأطرق يزيدُ صاغراً  وقد ألجم لسانَه التقريع.  وسكت القوم مُحرَجين وقد أدركوا أن الحق يعلو ولا يُعلي عليه.  ولعل بينهم من وعى أيضا أن السُموَ الحقيقيَ يكون – كما مثله الحسين – بسمو الذات والمعنى، ولا يكون – كما يمثله يزيد – بتملك سلطة ومال.

حادثة أخرى يجدر أيضا أن تُذكر في معرض ما جرى من صِدام بين الحق والباطل في شهادة الحسين:  وجهٌ آخر للتدبر كيف أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.  عندما تبين لِمن في مجلس يزيد أن المسبياتَ هن من البيت الهاشمي، غضّوا أبصارهم استحياءً واعتراهم حرج وضيق.  إلا رجلاً شامياً ضخم الجثة بادي اللؤم  ظل يحدّق في فاطمة بنت الحسين – وكانت شابة وضيئة – فأجفلت منه.  ثم إنه قام إلى يزيد وقال له:  يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية.  فلاذت فاطمة بعمتها زينب مذعورةً ترتجف وتقول: أأْيتم ثم أُستَخدم؟!  قالت زينبُ للشامي، وهي تضمُ إليها ابنة أخيها: كذبتَ ولؤمتَ، ما ذلك لك ولا له.  فغضب يزيد وقال:  إن ذلك لي، ولو شئتُ لفعلت. قالت زينبُ:  كلا والله ما جعل الله ذلك لك –  إلا أن تخرجَ من ملتنا وتدينَ بغير ديننا.  فزاده قولُها غضباً،  فتحدّاها مُستكبراً:  إيايَ تستقبلين بهذا… إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.  فردت بإصرار واعتزاز: بدين الله ودين جدي وأبي وأخي اهتديتَ يا يزيدُ أنت وأبوك وجدك.  قال حانقاً:  كذبتِ يا عدوة الله. فأشاحت بوجهها عنه وهي تقول: أنت أميرٌ مُسلّط: تشتمُ ظالماً وتقهر بسلطانك.  فأطرق ولم يُجب.  وعاد الشامي يلح: هب لي هذه الجارية.  فصاح به يزيد: اغرُبْ، وهبك الله حتفاً قاضياً.  ثم ساد المجلسَ صمتٌ ثقيل.

عروج على كربلاء

وإذ شاع بين أهل الشام ما جنته يدا  يزيد من قتل عترة النبي رجالاً، وسبيهم نساءً وأطفالاً، تصدعت نفوسهم  وانتكس حالهم وخشوا أن يحل بهم عذاب قريب.  وانكسف يزيد إذ بدا له سوء فعله ورأى نفسه قد سقط من أعين الناس.  ولامته  نسوته بعد إذ عرفن ما جرى، وراعهُنّ ما اقترف طاغيتُهن من إثم فظيع.  ثم إنهن  سعين إلى التكفير عما اقترف، فطالبنَهُ بتحسين أوضاع الهاشميات وتيسير حاجاتهن، وألزمنَهُ بترحيلهن عوداً إلى مدينة جدهن برعاية وحشمة، من بعد كل ما كُبدن من عنت السير وأذقن من مهانة الأسر إبان سبيهن من كربلاء إلى الكوفة فالشام. 

ومرة أخرى حُدي  الظعن ببنات الوحي ويتاماهن عبر الصحاري في اتجاه الحجاز.  في العود إلى الوطن فرحة لكل عائد، لكن أية فرحةٍ لهؤلاء وقد تركن ورائهن في كربلاء قتلى لهن من دون دفن.  ترى هل لُملمت أشلاؤهم، هل دفنوا، هل لهم قبور تزار؟  لم تكن كربلاء على خط سير القافلة إلى يثرب، بل إن المرور بها  كان يتطلب سيراً إضافيا لعدة أيام أخر.  مع ذلك، ما هان عليهن أن يعدن إلى الحجاز من دون أن يزرن أولاً شهداءهن في العراق. 

واستجاب الحُداة – وقد أوُصوا بهن خيراً –  استجابوا لطلبهن أن يعرجوا  بهن على مصارع شهدائهن، فمالوا بالقافلة  نحو كربلاء، حتى أتوها في العشرين من صفر – أربعين يوما بعد عاشوراء.  وما أن بدت تلكم الأرض التي حوت بدورهن حتى نزلن وهرولن إلى حيث بانت معالم قبور حديثة، فأخذن يتمسحن بترابها ويناجين أصحابها وكأنهن وهم على عهد ما كانوا،  لم يحل بينهم الحِمام.  وصادف أن قدِم في الوقت نفسه شيخ ضرير يحث فتاه أن يُحسّسَ يديه أتربة تلك القبور، عله يستشف روح من ثوى فيها من عترة الرسول.  جابر هذا كان صحابياً من محبي أهل البيت، قد أعاضه الله عن فقدان البصر بقلب عامر بصير.  وإذ التقى وأسرُ الشهداء صاروا يروون  له ما جرى لأحبائهم هناك يوم عاشوراء.  كانت تلكم المشاهد الأليمة طرية في أذهانهم، تُلهب أحاسيسهم وتستدر عبراتهم، فكأنها حدثت أمام أعينهم منذ لحظات.  هنالك أقيم أول عزاء للحسين وأهله وأصحابه، وهنالك أديت أول زيارة لمثواهم الطاهر الذي لا يزال – من بعد كل هذه القرون –  مقصد الزائرين   من كل مكان. 

كان علي ابن الحسين، الذي لُقب بزين العابدين فيما بعد، الوحيد الذي لم يقتل من الهاشميين يوم عاشوراء.  كان يومه في الثالثة والعشرين من عمره، مريضاً عاجزا عن القتال.  فلما عُوفي من بعد ذلك تكفل  برعاية أسرة أبيه الشهيد.  هنا عند مصارع الشهداء، حيث رأى تهالك النساء على قبورهم، خشي أن يرهقهن الأسى وطول البكاء، فأوعز بالتوديع ومواصلة المسير.  فقامت الهاشميات متثاقلات مترددات، يتنازعهن تلهف للمكث واضطرار للرحيل.  حتى إذا رُكّبن المحاملَ مع الأطفال، عادت القافلة تجد  السير شطر الحجاز وقد اكتنفها اكتئاب عميق.             

الإياب إلى يثرب

لم يكن أهل يثرب قد دروا  تحقيقاً بما جرى للأسرة العلوية منذ أن ارتحلت عنهم قبل شهور، وإن كان بعض ما يُنقل لهم أحيانا لا ينبئ بخير.  مع ذلك، لم يقطعوا الأمل، بل ظلوا يستشرفون اليوم الذي يعود للمدينة قطبها الإمام، وتحل بها من جديد خيرة أسرها فتزدان الحياة الاجتماعية وتعتمر كما ازدانت واعتمرت قبلا بحضور وعطاء هؤلاء الأشراف.  وإذ اقتربت القافلة العائدة من العراق مشارف يثرب، وأنبأ عن مقدمها  بعض الرعاة، سرت بين الناس فرحة أحيت في الأذهان ذكرى قافلة استطلع مقدمَها الناسُ باشتياق مماثل قبل واحد وستين عاما –  يوم أن استطلع جيل سابق من أهل يثرب مقدم بدر النبوة من ثنيات الوداع. 

لكن الفرحة لم تطل.  دخلت القافلة يثرب بهوادة، وعليها علائم حزن شديد.  واشرأبت الأعناق وحدقت العيون لتشخص من بها، ومهما حدقت لم تر حضوراً  للحسين ولا للعباس  ولا لعلي ابن الحسين الأكبر، ولا لأحد من رجال بني هاشم ممن كانوا قد خرجوا مع الحسين، سوى علي ابن الحسين (زين العابدين)، وهو بادي الضنى كسير القلب.  وأنّى نظروا رأوا محامل بها نساء وأطفال وقد أجهدهم السير وأرهقهم وقعُ مصاب أليم.  حتى إذا أنيخت النياق في الحي الهاشمي ترجلت العائدات ودخلن بيوتهن بصمت ينطوي على حزن عميق.  ولم يفت أحداً  أن يتذكر ما كانت  عليه تلك المنازل من أنس وبهجة يوم أن اعتمرت بكامل أهلها في الماضي القريب، وأن يلاحظ بأسىً ما أضحت عليه اليوم: ملاجئ لأرامل وأيتام.  

وسرعان ما بادرت نساء يثرب بزيارة الهاشميات يسألن عن أحوالهن ويستطلعن ما جرى لرجالهن، فكنت تسمع بكاء يتعالى منهن جميعا كلما روت الهاشميات للزائرات تفاصيل المصاب.  وسرعان ما تحولت هذه الزيارات إلى مجالس عزاء – إلى مآتم تذكر فيها شهادة الحسين وأهل بيته وأصحابه الأبرار.  وبمرور الوقت تطورت هذه المجالس فاشتملت على تثقيف في الدين وتأكيد على نصرة الحق، وتحبيب بمكارم الأخلاق،  اقتداء بأهل البيت.  وتطورت أيضا إلى مجالس يحضرها رجال ونساء وأطفال، وهي هكذا لا تزال.          

النور المستضاء به

كان الحسن والحسين من أشهر كرماء يثرب، يقصدهما العديد من أصحاب الحاجة من بادية الحجاز إثر كل موسم حج، فيتلقون منهما عطاءات سخية تعينهم وأهليهم على عسر المعاش.  بعد وفاة الحسن تكفل الحسين بعوائد أخيه فواصلها مضافةً إلى ما كان بنفسه متكفلاً من عوائد، عاماً بعد عام.  وصادف في إحدى السنوات أن تأخر إعرابي مسن لعدة أيام عن الحضور، ثم جاء يطلب مؤونته من بعد أن كان الحسين قد فرق كل ما لديه من مال ومؤن مخصصة للإنفاق من محصول ذلك العام.  فاقتطع الحسين لهذا الأعرابي المتأخر عن موعده قسطا مما كان قد خصصه لأسرته، فلم يبلغ عطاؤه حجم ما كان يُعطي الإعرابيَ في المعتاد.  واستحرج الإمام إزاء هذا القصور، فلم يشأ أن يقدمه بنفسه، فأوعز لخادمة في المنزل أن تقدمه للأعرابي مع اعتذاره:

خذها فإني إليك معتذر        واعلم بأني  عليك ذو شفقة
لو كان في رحلنا الغداة غنىً    كانت يدانا عليك مندفقة
لكن ريبَ الزمان ذو غير        والكف منا قليلة النفقة

فأخذ الإعرابي ما أعطي شاكراً،  وهو يقول: سبحان الله!  أيعتذر من يتفضل؟

مرت سنون والأعرابي يحضر كل عام ويستلم مؤونته، فكأنها له رزق مقسوم.  حتى حل العام الذي استشهد الإمام في مطلعه.  طرق الإعرابي باب المنزل الكريم على عادته، لكنه على غير العادة لم يُجَب، فظل ينتظر حتى طال الانتطار.  طرق ثانية، وإذاك خاطبته امرأة من وراء الباب بصوت كئيب:  من تريد يا أخا العرب؟  قال: أريد الحسين ابن علي.  قالت: هو غائب.  سأل:  متى يعود؟  قالت: لا ننتظر له عوداً عما قريب.  فاكتأب لقولها وهم بالانصراف.  فأشفقت عليه ألا يعلم الحقيقة فيظل متعلقاً بأمل عودة الإمام، فأنشدته: 

إن الذي كان نوراً  يُستضاءُ  به     بكربلاء قتيلٌ غيرُ مدفون
سبطَ  النبي جزاك  الله  صالحة    عنا وجُنبت خُسرانَ الموازين
فبكى الإعرابي وانصرف وهو يردد: سبط النبي جزاك الله صالحة…

الارتباط بالحق

تلك بإيجاز هي بعض مآثر الحسين، التي تشدنا إليه شداً وثيقاً كأنسان حبيب كريم.  وتلك هي بعض معالم شهادته، التي تُحيي الضميرَ وتُعيد للنفس الثقة بأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.  من خلال هذه المآثر والمعالم  نرتبطُ بشخص الحسين ونعظمُ شهادته.  من خلالها نستوعبُ سُنة الله النافذة عدلاً في الشأن البشري: أنّ مدى صلاحِ الناس ورُقيّهم – أفراداً وأمماً – يكون بمدى التزامهم بالحق، ومدى فسادِِ الناس وارتكاسِهم – أفراداً وأمماً – يكون بمدى اقترانهم بالباطل، مسلمين كانوا أو غير مسلمين.  ذلك أن الحقَ نورٌ وعدلٌ وخيرٌ وكرامة، وهو ما مثله الحسين.  والباطلَ ظلمٌ وظلمةٌ وشرٌ ومهانة، وهو ما جسده يزيد.  لأجل ذلك نرى الحسينَ يحتكمُ إلى الحق فيقول:  فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق … أي أن مبايعة الناس له، إن قبلوه، لا تكون لشخصه، بل لما  يُمثل من التزامٍ بالحق الذي اللهُ أولى به في مطلق الأمر.  ولعلنا نجد وجهاً للمعنى نفسه لدى أمير المؤمنين عليٌ في قوله المأثور: إعرف الحقَ تعرفْ أهلَه –  أي أن أهلية المرء لأيما دورٍ قيادي في المجتمع  تكون بما يمثل من موقفٍ متسقٍ مع الحق، لذا وجب على العاقل أن يحدد موقفه إزاء أيما شخص بناء على استقامة الفكر والمسلك، لا بناء على احتياز سلطة أو مال. 

بهذه المضامين النيرة إذن نفهمُ  شهادةَ الحسين.  نفهمُها أحقاقاً للحق وأزهاقاً للباطل، جرأةً في الصدق واصطباراً في وجه أعتى المحن.  نفهمُها إقامةً للعدل، إزالةً للظلم، وطلباً للإصلاح.  نفهمُها أمراًً  بالمعروف ونهياً عن المنكر.  نفهمُها سمواً في الذات وسمواً في المعنى، وتأصيلاً للفضيلة ومكارمِ الأخلاق.  ومن وراء ذلك نلمس فيها نفَساً إنسانياً طاهراً وًوُجداناً صِيغَ من جوهر اللطف:  نَفَساً هو من أرقى ما اُتحفت به الإنسانيةُ عَبر تاريخها الطويل.  وهذا لَعَمري هو أيضا ما يلمسه أصحابَُ الضمائر الحية من أيما أمةٍ أو ملة، في مشرقٍ أو مغرب: إنهم إذا  سمعوا  أو قرؤوا  سيرة الحسين وأهله وأصحابه انشدّوا إلى هؤلاء الأطهار وأخذتهم العبرة بمصابهم، وغمرهم ما يشع من حياتهم وفي شهادتهم من كرم ونبل وصفاء وإيمان بالله العلي العظيم. ***

توسل
اللهم اجزِ الحسينَ وأهلَه وأصحابَه عن أمة الإسلام خيرَ جزاء.  اللهم أرنا الحق حقاً، كما أريتهم فنتبعه، والباطلََ باطلاً فتجنبه.  اللهم ما عرّفتنا من الحق فحمّلناه، وما قصُرنا عنه فبلّغناه.  اللهم اجعلنا من الذين هُدوا إلى الطيب من القول وهُدوا إلى صراط الحميد.  واجعل اللهم لنا توفيقاً بك في جميع الأحوال وجميع الأمور.  ***

السبت:  صبيحة يوم عاشوراء  1425 هجري

سأعرض عليكم شعرا  في رثاء الحسين لشاعرين ليس أيهما من المذهب الشيعي: شاعر حديث العهد، وشاعر من عصر قديم.  الأول هو هلال بن بدر آلبوسعيدي، وهو أديب ورجل دولة من الأسرة الحاكمة في عمان، إباضي المذهب، توفي عام 1385 هجري، أي قبل أربعة عقود.  الآخر هو محمد بن إدريس الشافعي، إمام المذهب الشافعي، والمتوفي عام 204 هجري.  وستلمسون فيما يعبران في شعرهما من إجلال ومحبة لأهل البيت صدقية ما لاحظتُ لكم البارحة: أن كل من يستوعب سيرة هؤلاء الأطهار لا يملك إلا أن يتأثر بصدق مواقفهم ويعشق فيهم سمو الذات ونبل الخُلق، .

قصيدة " سبطُ خير الأنام "  لهلال بن بدر آلبوسعيدي. *

رُوع الكونُ أرضُهُ والسماءُ         يوم ضجت بخطبها كربلاءُ
يا لخطب من دونه كل خطب        ومصاب قد عز عنه العزاء
لبس الدهر فيه ثوب حداد        فهو والدهر ما له إنضاء
ليت شعري وهل يبلغني الشعر …      مقاما يجود فيه الرثاء
إنما غايتي رثاء أمام            يقصر الشعر عنه والشعراء
سبط خير الورى والصفوة …           الكبرى أبوه وأمه الزهراء
كنز سر العلوم مذ لقنته            وهو في المهد سرّها الأنبياء
بطل حازم أبي كمي            أريحي منزه وضاء
خذلته العراق لما استبانت            آية الحق وهي منها براء
وبكته من بعد ذاك طويلا            بعد غيض الدموع منها الدماء

موقف للحسين جل عن الوصف                ولم تروِ مثله الأنباء
سار نحو العراق يزحف للموت                وتحدوه عزة قعساء
ضربت حوله العداة نطاقا             مزقته بعزمها الخلصاء
قادة الحرب إن لظى الحرب شبت        ولدى السلم ساسة خطباء
لهف نفسي على ليوث تصدت                لعديد ما أن له إحصاء
ثبتت في مواقف الموت حتى            فنيت والفناء منها وفاء

جدد الحرب بعد ذاك أخو            الحرب وما كلّ عزمُه المضاء
أمّ نحو الطفوف ظمآن صاد            يا لأم العداة  لولا الظماء
ومضى والرماح مشتجرات             ولبيض الصفاح منه سناء
وقضى بينها فخر صريعا             وعليه من الجلال رداء

إن صرعى الطفوف لا شك عندي        أنهم عند ربهم أحياء
عجبا يقتل الحسين وتبقى             في هناء من بعده الأشقياء
وتضام الأباة إن طلبوا الحق    …        وتسبى من الخدور النساء
النساء المطهرات من كل عيب                واللواتي شعارهن الحياء
لا رعى الله يا حسين زمانا            أخذت فيه ثارها الأعداء
إن في النفوس من حزازات بدر         ألما ما له سواك دواء
قاتل الله من أمية فردا                     كمنت في ضميره الشحناء
غرس الحقد في أشر بنيه            فهو والشر في المقام سواء

بأبي الطاهر الزكي ونفسي            وبيوم طالت به البطحاء
وبيوم الطفوف وهو صريع            وبيوم مادت له العلياء
فصلاة من الإله عليه                     وسلام ورحمة وثناء

قصيدة أخرى في رثاء الحسين لهلال بن بدر آلبوسعيدي عنوانها:  "سادة أطهار"

هذي الطلول فقف بنا يا ساري        وانظر معالم سادة أطهار
نزلوا هنا فأبت عليهم أنفس         من أن تحل منازل الأشرار
قوم إذا أرخى الظلام سدوله         فوجوههم فيه شموس نهار
يهدي السراة إلى الوصول إليهم         وسط الظلام سواطعُ الأنوار
ما ليلهم إلا القيام لربهم            فلهم دوي في دجى الأسحار
أنضاء من فرط العبادة خشع        لبسوا التقى وتجللوا بوقار
أبطال حرب عند مشتبك القنا        وتلين من فرق يد الجبار
قد طاب طعم الموت في أفواههم        وأتوه وُرادا بلا إصدار
في مأزق ضنك تفرد هوله         لم يُروَ في التاريخ والأخبار
جاءت أمية تستحث جيوشها        لترد خيل الله في المضمار
لم ترض هاشم أن تضام وسيفها     من ذي الفقار الصارم البتار
فسطت على الباغين أية سطوة        موروثة من حيدر الكرار
ضربا بكل مهند لا يلتوي        طعنا بكل مثقف خطار
وجرت بهم تلك المذاكي ضحوة        فبنت سنابكها سماء غبار
حتى إذا نزل القضاء ولم يكن        إلا الورود لمنهل الأقدار
هوت البدور على الطفوف فيا لها    من صدمة في ملة المختار
لولا الظما لم تلق آساد الشرى        صرعى تسترهم ثياب فخار
وقف الحسين فيا لها من وقفة        لا جازعا حاشا ولا متواري
ظمآن ملتهب الحشى وفؤاده        من حسرة فيه كوخز غرار
يرنو إلى تلك الخيام ومن بها        قد طالما حجبوا عن الأنظار
فرد تحيط به الأسنة والظبا        خلو من الأعوان والأنصار
ألله أكبر أين هاشم قد غدت        وحسينها ملقى على الأعفار
منعت أمية هاشما من شربة        حقدا لبدر راميا بشرار
نهر الفرات ألا طفوتَ ملبيا        لندا الحسين وآله الأطهار
جفت أصولك يا فرات لحر ما         لحق الحسين وأنت ذاك الجاري
       

أبيات بعنوان " تزلزلت الدنيا لأل محمد "  للإمام الشافعي: **                           

تأوه قلبي فالفؤاد كئيب            وأرق نومي فالسهاد عجيب
فمن مبلغ عني الحسين رسالة        وإن كرهتها أنفس وقلوب
ذبيح بلا جرم كأن قميصه        صبيغ بماء الأرجوان خضيب
فللسيف إعوال وللرمح رنة        وللخيل من بعد الصهيل نحيب
تزلزلت الدنيا لآل محمد            وكادت لهم صم الجبال تذوب
وغارت نجوم واقشعرت كواكب        وهتك أستار وشق جيوب
يصلى على المبعوث من آل هاشم    ويغزى بنوه إن ذا لعجيب
لئن كان ذنبي حب آل محمد        فذلك ذنب لست عنه أتوب

—————————
        

* هو السيد هلال بن بدر بن سيف بن سليمان  بن عبدالله بن حمد بن خلف آلبوسعيدي.  ولد في سنة 1314 هجري  في العاصمة مسقط في أسرة عريقة المجد والشرف.  كان أبوه من قواد السلطان فيصل بن تركي.  من مؤلفات الشاعر: الأوليات، تاريخ عمان (أربعة أجزاء)، المناهج المدرسية، وكتاب الإملاء.

أخذ علم القرآن عن السيد محمد أبي زينه التونسي، وعلوم  العربية من الشيخ راشد بن عزيز الخصيبي والشيخ عيسى بن صالح  الطيواني.

كان نائبا لرئيس المحكمة العدلية،  ثم سكرتيرا خاصا للسلطان سعيد بن تيمور،  ثم رئيسا لأول مجلس بلدي في العاصمة.  لاحقا عين مندوبا للسلطان وقام  بمهمات خاصة بتكليف منه، كما أنه رافق السلطان في زيارته لأوروبا والهند والبحرين.  وافاه الأجل المحتوم فجر الخميس 6 رمضان سنة 1385 (1963).  

**هو الإمام محمد ابن إدريس الشافعي، مؤسس المذهب الفقهي الشافعي، و المتوفي عام 204 هجري

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً