أحدث المقالات
أمام التحديات الكبرى التي تواجه الأمة يأتي هذا العام الحج في ظروف استثنائية , ليشكل فرصة مهمة في إعادة وصل الأجزاء المتناثرة لأفرادها في أصقاع الأرض, حيث يأتي كل منا قاصدا جهة واحدة لا اختلاف ولا خلاف عليها وهي مكة.
فالمقصد مكاني في وقت زماني وعل الزمان والمكان يكشفان لنا عن صفحات تاريخية مهمة تعيد بناء الداخل الإنساني من جديد وفق تجليات التوحيد السليمة لأن المقصود الحقيقي في كل ذلك هو الله.
فالحج إبراهيمي ، ذلك النبي الذي جمع بين الإمامة والنبوة مع نبي الله محمد صلى الله عليه وآله ,وما يجسده حراك إبراهيم من معاني مهمة تكشف لنا محورية النفس في علاقتها مع: الله – إبليس – الدين.
وحركة إبراهيم التي تمثلت في مواجهة إبليس بالرجم حينما كان يقف له حاجزا بالوسواس لتأدية ما يريده الله منه وطاعة الله بذبح إبراهيم, دون أدنى حرج في النفس وتطبيق دين الله كما ورد من أوامر ونواهي من قبل نبي الله صلى الله عليه وآله بطريقة التسليم والانصياع الجوارحي والجوانحي (العقل- الروح).وهي تجسد حركتنا في هذه الدنيا وصراعنا الأبدي الدائر في النفس.
وقبل الولوج للبحث أود العروج على منطقة مهمة منه وافتتاحية له وهي منطقة الاصطلاحات والمفاهيم التي تشكل الجسر نحو عالم المعرفة والفكر والتأصيل.
المصطلحات:    
هناك اختلاف دلالي بين المفاهيم والمصطلحات والألفاظ,وحيث أن كل أمة لها حصيلتها الفكرية التي تتكئ على اللغة المعبرة عن هويتها ومنظومتها الفكرية والمعرفية فإن من الضرورة بمكان في بداية البحث التركيز على إجراء عملية تشريح منهجي للمفاهيم ودلالاتها حتى لا يصاب البحث في هيكله بالميوعة الدلالية فتتداخل المصطلحات والمفاهيم.
"لذلك فإن تحليل المفاهيم الأساسية لأي فرع أو حقل معرفي يعتبر المدخل الأول لتفكيك ذلك الفرع أو الحقل بشكل يسمح بتشخيصه وتحديد وضعيته,ومعرفة مبادئه ومداخله"    
فالمفاهيم ليست كالألفاظ تفهم بمترادفاتها بل هي مستودع تتجاوز الجذر اللفظي لتعكس كوامن فلسفة الأمة ودفائن تراكمات فكرها ومعرفتها.
من هنا تجلت ضرورة افتتاح البحث بتوضيح وتبيان المفاهيم التي لها صلة بموضوعنا.

إضافة إلى ضرورة فهم القواعد الفكرية والفلسفية التي تنطلق منها الحضارات المنتجة للمعرفة خاصة الحضارتين الإسلامية والغربية.

بين الحضارتين:

طبعا هناك اختلاف كبير جدا بين الحضارتين في القاعدة والبنية الفكرية لكليهما والتي على أساسها يتم البناء والانطلاق نحو كل العلوم والمعارف .
"إن للحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامة قاعدة فكرية تستند إليها .. وهي الحريات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية  والاقتصادية . فإن هذه الحريات بمفهومها الحضاري الغربي هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب والإطار الفكري الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع وحتى أنه لعب دورا رئيسيا في تحديد الاتجاه العام لمفكري الغرب فيما يسمونه بالعلوم الإنسانية والاجتماعية . فلم تستطع البحوث الإنسانية لهؤلاء المفكرين أن تتجرد عن تأثير الرسالة التي يعتنقها الباحثون كقاعدة عامة" الشهيد محمد باقر الصدر – رسالتنا

ويقول في مورد أخر " الأفكار التي تتكون منها كل حضارة ذات رسالة تخضع لمقاييس تلك الرسالة وتتجنب مناقضتها سواء أكانت مستنبطة منها أم لا"
وهو ما يوضح مسألة مهمة جدا ان منشأ المعرفة الغربية مادي فلسفي فبالتالي كل ما يترشح عنه يكون مبنيا على هذا الأساس لأنه يعتبر الحس والتجربة فقط مصدره للوصول للحقيقة وهما بطبيعة الحال مصدران محدودان لا يمكن إحاطتهما باللامحدود.
ويذكر أيضا الشهيد تصنيفا رائعا في السنن القرآنية لعناصر المجتمع بين الغرب والإسلام في كتابه السنن القرآنية ويستخلص من القرآن ثلاث عناصر
الأول: الإنسان
الثاني : الأرض أو الطبيعة على وجه عام
الثالث العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض والطبيعة ومن ناحية أخرى تربط الإنسان بأخيه الإنسان
ويعتبر العنصر الثالث هو العنصر المرن المتحرك في تركيب المجتمع ولها صيغتان
الأولى صيغة رباعية والثانية صيغة ثلاثية
الصيغة الرباعية
هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والإنسان مع الإنسان ، هذه ثلاث أطراف فإذا اتخذت صيغة تربط بموجبها هذه الأطراف الثلاثة مع افتراض طرف رابع وهو بعدا رابعا للعلاقة الاجتماعية وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في إطار المجتمع وإنما خارج عن إطار المجتمع وتعتبر هذا الطرف – أي الصيغة الرباعية – مقوما من المقومات الأساسية للعلاقة الاجتماعية
وهذه الصيغة الرباعية طرحها القرآن تحت اسم الاستخلاف.
والطرف الرابع هنا هو المستَخْلَف أي الله
الصيغة الثلاثية
صيغة تربط بين الإنسان والإنسان وهو والطبيعة ، ولكنها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع
تجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع أي الله.
هذا التغييب بطبيعة الحال يغير من المثل الأعلى لكل جهة ، فالمجتمع ذو التركيبة الرباعية يكون الله مثله الأعلى وعلى هذا يرتبط بكله معرفيا ومنهجيا بالله وصفاته ومنهجه، أما ذو التركيبة الثلاثية التي غيبت الله فالإنسان هو محورها ومصادر معرفته حددناها بالحس والتجربة وبالتالي لكم أن تتخيلوا ماذا سيترشح عن هذا الإنسان المحدود .
مع التأكيد هنا على توصيف الحالة وليس تقييمها لان هناك نتاجات بشرية مهمة على هذا الصعيد.
ولكن هل يعني ذلك رفض كل ما يأتينا من الغرب مع إيماننا أيضا أن من مصادر معرفتنا التجربة ؟؟ فتكون بذلك التجارب البشرية موردا مهما لتدعيم بنيتنا المعرفية ؟
بالطبع لا ، ليس لعاقل أن يقول بذلك والقرآن يضج بالتفكر والتدبر الأنفسي والآفاقي وهي دعوة للإنسان بنا هو إنسان.
 
تعريف العولمة:
"يقول مارتن والتر في تعريف العولمة  من أنها عملية اجتماعية تتوارى فيها القيود والحواجز الجغرافية والأوضاع الثقافية والاجتماعية وبالتالي فإن الظاهرة لن تحدث بصورة مطلقة مرة واحدة ولكن سوف يتدرج حدوثها من المشاكل التي أخذت صفة العالمية
ويعرفها محمد عابد الجابري على أنها( ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضا وبالدرجة الأولى إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم)
وقد حاول الدكتور محمد عابد الجابري وضع مقاربة للعولمة معتبرا بأنها ( نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا)."
وباختصار يمكننا أن نقول عن العولمة هو تحويل العالم إلى قرية صغيرة,وعندما كانت دوافع الغرب منطلقة على أسس فلسفية مادية,فإن الفكر أو الأفكار التي تنطلق من عالمهم تكون مرتكزة على قاعدة فكرية مادية تؤمن بنظرية معرفة لا ترى إلا عالم الحواس والتجريبيات كمصدر لمعارفها المؤطر بعالم المادة.وهو ما ينعكس على أي حراك فكري غربي حيث تكون القبليات الإيديولوجية والفلسفية مؤثرة بشكل مباشر على هذا الحراك وموجهة له.
 
أثر العولمة على الثقافة والهوية والذات:

ومما سبق يتبين لنا الآثار التي يمكن أن تنعكس على ثقافتنا وهويتنا الذاتية ,إذ لا يمكننا أن ننظر لكل ما هو آت إلينا من الغرب أو الآخر على أنه شر مطلق ,ولكن المشكلة تكمن في أن الآتي إلينا يريد أن يصوغ لنا مشروعه الثقافي المنطلق من قاعدته الفلسفية لنظرية المعرفة والتي تؤسس للمشروع وفق نظرته المادية لهذه الحياة ,ويحله بديلا لثقافتنا رافضا كل ما لدينا ومؤمنا فقط بكل ما لديه وهو ما يشكل هاجسا وخطرا على ما نملك أو ما تبقى لدينا من فكر وثقافة وقيم,نعم نحن لا نرفض الآخر بما  يملك من إيجابيات شريطة أن يقبل الآخر ما نملكه من إيجابيات ولا يسعى إلى إلغاء ما لدينا لإحلال ما لديه بديلا يستطيع من خلاله أن يهيمن ويسيطر على مقدراتنا وثرواتنا.
إن عولمة الثقافة الغربية بكلها وكلكلها وإحلالها بديلا لثقافتنا له الأثر الكبير في ضياع الهوية والذات وغياب القيم التي منها نستقي وجودنا و بها نواصل مسيرتنا الإنسانية ,فتصبح شخصية المسلم والعربي شخصية خالية المضمون ركيكة المحتوى مهزوزة لا تملك رؤية بل هي خليط غير متجانس من الأفكار فتتيه في خضم هذا العالم و تسلب كل طاقاتها وإبداعاتها ويسخر ما تملكه ويوجه كما يريده أولئك العولميين وفيما يصب في صالحهم وهيمنتهم.فيتحول الإنسان من إنسان مريد مختار وحر إلى مسلوب الإرادة ومستعبد غير قادر على تمييز الغث من الثمين لانبهاره بالقادم إلينا وفقدانه للبديل الناجح والمساوي في القيمة والمستوى لذلك القادم من الغرب.
 
 ونستطيع أن نلخص سلبيات وإيجابيات العولمة فيما يلي:
 
1.إيجابيات العولمة:
فهي خيرة حينما تربط بين الحضارات والشعوب والبلدان متخطية العامل الجغرافي، وجاعلة من العالم قرية صغيرة، محررة الإنسان من كثير من القيود بفضل انتشار الإعلام ووضع المعلومات في متناول كل فرد بما يتيح له الاطلاع على ما يجري في العالم وهو في بيته، فأصبحت ثقافات الشعوب مكشوفة ومنتشرة بسبب العولمة الاقتصادية والثقافية والإعلامية بشكل خاص ولهذا أثره في:
1.اطلاع المجتمعات على صيغ العيش المشترك
2. معرفة حقوق الأفراد والمجتمعات اتجاه حكوماتها
3. التقليل من سيطرة الأنظمة على مقدرات الشعوب
4. وعي الشعوب بحقوقها وواجباتها وضغطها باتجاه ممارسة أكبر للحريات ومحاربة القمع والمنع.
5. القدرة على معرفة الحقيقة والواقع دون حجب رغم ما تمارسه بعض الدول من محاولات لحجب الحقائق لتسمتر في غيها وتحكمها في شعوبها.
6. سهولة الحصول على المعلومة والانفتاح على الآخر ومعرفته بعيدا عن التضليل الإعلامي والتزييف.  
 
2.سلبيات العولمة:
"ـ الإخفاق في تحقيق نسب نمو مرتفعة، وتفاقم مشكلة البطالة في العالم فمن المتوقع أن يرتفع معدل البطالة في العالم إلى الضعف خلال السنوات القليلة القادمة. فالمنافسة في الاقتصاد المعولم لا تعرف الرحمة، ولم يعد هناك فرص عمل، وقد أخذ قسم كبير من العمال والموظفين يتحول من عقود عمل نظامية إلى عقود عمل مؤقتة من حيث عدد ساعات العمل أو من حيث مدة العقد. كما أن الأجور في انخفاض مستمر. وخلال الأزمة المالية التي عصفت في المكسيك في عام 1995 فقد 3 ملايين عامل لعملهم وانخفضت القوة الشرائية إلى النصف. وفي ألمانيا أكثر من أربعة ملايين فرصة عمل مهددة بالضياع.
ـ القضاء على الطبقة الوسطى وتحويلها إلى طبقة فقيرة، وهي الطبقة النشطة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً في المجتمعات المدنية، وهي التي وقفت في وجه تيارات التطرف وقاومت قوى الاستغلال والاحتكار تاريخياً.
ـ تهديد النظام الديمقراطي في المجتمعات الليبرالية وخضوع معظم الدول النامية لسيطرة المنظمات المالية الدولية وانشغال رجال السلطة فيها بمكافحة البطالة والعنف والجريمة والأوبئة القاتلة.
ـ زيادة الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة في المجالات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجيا. ويضم العالم حالياً أكبر نسبة للفقراء من مجمل سكان الأرض هي الأعلى في التاريخ.
ـ إهمال البيئة والتضحية بها. فمن المتوقع أن ترتفع كمية الغازات الملوثة للبيئة بمقدار يتراوح بين 45
ـ 90%. وأصبح ارتفاع مستوى البحار لا مفر منه إذا بقيت كمية غاز ثاني أوكسيد الكربون ترتفع بهذه النسبة. وهذا يهدد المدن الساحلية، إذ أن أربعة أخماس التجمعات السكانية التي يزيد عدد سكانها عن نصف مليون نسمة تقع بالقرب من السواحل.
ـ احتمال تفاقم الحروب الداخلية والإقليمية في دول الجنوب لعدم الاستقرار في النظام العالمي والأنظمة الداخلية في تلك البلدان.
ـ ازدياد نزعات العنف والتطرف، وتنامي الجماعات ذات التوجهات النازية والفاشية في التجمعات الغربية، الموجهة ضد المهاجرين الأجانب وخاصة من الدول الإسلامية والدول الفقيرة.
ـ ارتفاع نسبة الجرائم وجرائم القتل في العالم فقد دل التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة عن الجريمة والعدالة لعام 1999 إلى أن الضغط الاجتماعي والاقتصادي الذي يقاس بالبطالة والتفاوت وعدم الرضا بالدخل ـ عامل رئيسي في ارتفاع معدل الجريمة.
كما أن انتشار أفلام هوليوود وأفلام العنف بما فيها أفلام الكرتون ساعد على انتشار أعمال العنف.
ـ ظهور طبقة فاحشة الثراء تسكن في أحياء خاصة تحت الحراسة المشددة وهي الطبقة التي صعدت على حساب الفقراء والطبقة الوسطى.
ـ هيمنة الثقافة الاستهلاكية وتهميش الثقافات الأخرى ومحاولة طمس الهويات الثقافية للشعوب."
– انهيار الأسرة من خلال محاولة عولمة قوانين وتشريعات دولية بعيدة عن روح الشريعة الإسلامية من خلال تقنين زواج المثليين والتأصيل لفكرة اللواط بطريقة لا تستفز الأذهان بل جعلها مسألة يتعاطف معها الناس تحت مسميات الحرية والحق.
– عولمة مفاهيم الحداثة ولكن وفق مبانيها الفكرية والفلسفية كالحرية والعدالة والمساواة والحقوق وهي مفاهيم لا يمكن ان يرفضها إنسان عاقل , لكن ما تحمله من دلالات في وعائها ومن أهداف هو مربط الفرس وبيت القصيد.
– تمييع القيم من خلال تحويل منظومتنا الفكرية حولها من قيم ثابتة إلى قيم نسبية وهو ما يضرب روح الدين بمقتل.
– العولمة أداة وظاهرة يراد منها الترويج لفكر الحداثة التي هي من آخر صيحات الموضة الفكرية ,فهي إجراء تمهيدي يرمي إلى تحقيق التبعية الفكرية والمركزية الغربية لكل المحدثات ومن ثم التبعية الاقتصادية والمادية.
– تهديد الحدود الوطنية والقوميات وجعلها عالمية دون سيادة,والتأثير في سياسات وكيانات دول قائمة وحضارات وثقافات ممتدة عبر التاريخ وتهدد مصدرية الشريعة الإسلامية في النظر للأمور سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو الكون أو الدولة.
– التأثير على الكيانات السياسية المختلفة بإزالة بعضها ودعم بعضها الآخر وإيجاد أنظمة سياسية لم تكن موجودة سابقا لخدمة الدول الأقوى وذات التأثير.  
فالعولمة ليست ثمرة تفاعل الجهد البشري وتلاقحه بل هي فرض عقل أوحد استطاع ان يهيمن على الطبيعة ويبتكر اكتشافات علمية هامة حولت العلم لديه لإله وتدريجيا تحول العلم لسلاح بيده وأصبح هو الإله الذي يريد أن يكرس من وجوده في كافة الميادين على حساب الموجودات الأخرى ويقوم بإلغائها والهيمنة عليها.
إلا أننا كمسلمين رغم ذلك نستطيع استغلال هذه الفكرة لصالحنا من خلال تحويل فكرة العولمة بما تحمله من قواعد فكرية تنطلق في أهدافها للهيمنة على العالم إلى فكرة أكثر خدمة للإنسانية ووقفا مع الإنسان وليس ضده وهي فكرة "العالمية".
العالمية:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"

تختصر الدلالة التي يشير لها مصطلح العالمية,والتي هي انفتاح على كل العالم واحتكاك بكل العالم كثقافات وأفكار وقيم وتجارب بشرية مع الاحتفاظ بخصوصية الأمة وفكرها وثقافتها وقيمها ومبادئها على نحو من التدافع والتنافس لا من أجل الهيمنة ولكن من أجل الارتقاء بالإنسان في سيره التكاملي.حيث جعلت الكرامة عند الله ومعيارها التقوى.العالمية تذيب الطبقية وتؤسس للمساواة وفق منظور العدالة,في ظلها لا يوجد قوي وضعيف إلا بمعيار الحق,قوي في الحق وضعيف فيه.
فحددت بذلك إطار أخلاقي قيمي للتدافع في حركة الانفتاح العالمي:
1. العالمية حركة إثراء وليست إقصاء وحركة تبادل وليست إلغاء وفرض وهي تعددية لها أقطاب وليست قطبية مركزية,هي حركة اعتراف بالآخر كاملة تستفيد منه وتفيده دون أن تتنازل عما لديها من ثروة فكرية وهوية ذاتية.
2. حركة العالمية لا تعتدي على كيانات الآخرين بل تسعى للحفاظ عليها وإثراء وجودها والاستفادة منها.
3. تتحكم في العالمية مجموعة القيم الثابتة والمعايير والمبادئ ومنظومة أخلاقية تتناسب وفطرة البشر وتكون قادرة على خلق ضوابط عالمية تعزز من الاستقرار والأمن المجتمعي وتحقق رفاهية الإنسان بمعناها الحقيقي ,رفاهية معنوية ومادية.
4. تعزز العالمية من الاكتفاء الذاتي والاستقلال وتدعم مسيرة التطور لكافة الأقطاب وتوحد الجميع وفق مبدأ واحد هو "ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا",فهي لا تجعل لغير الله سلطة.
5. لتتحقق العالمية يجب أن تتحقق أولا في الذات وتنطلق من الذات إلى الأسرة إلى المدن إلى كل العالم فتعزز بذلك كل نواة … نواة النفس والأسرة والمجتمع ومن ثم  الأمة إلى العالم
"وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين"
إذا العالمية لا تعني فرض شريعة الإسلام بل تعني فرض روح الشريعة ومقاصدها التي تدعو للوحدانية وتذوب كل الفروقات والانقسامات في وجهة واحدة هي الله تعالى,هي حركة جوهرية للنفس اتجاه الآخر فحينما تذوب في النفس كل ذات غير ذات الله ينعكس ذلك في تجلي صفات الله في هذه النفس والتي بدورها تتحول لنفس إلهية تتحرك باتجاه الناس انطلاقا من مبدأ الرحمة و الهداية وحيث أن الله تعالى للعالمين تصبح حركة الإنسان في أهدافها حركة عالمية في بسط نفوذ الله لتحقيق قيم العدالة التي هي منطلق نحو تحقيق الكرامة الإنسانية,فإذا تحققت الكرامة على ضوء القيم والمعايير والمبادئ الفطرية الثابتة التي تتبع في تحديدها الحسن والقبح العقليين,بالتالي ترتفع النفوس عن الرذائل وعن كل ما من شأنه أن يحط من كرامة وقيمة هذا الإنسان,وهو ما يحدث تبدلا في المفاهيم نتيجة تبدل المعايير والقيم وإعادة التوازن للعقل البشري.  
الحج وتفعيل عالمية الإسلام:

"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق"الحج – 27
وفريضة الحج هي من أعظم مصاديق عالمية الرسالة الإسلامية بل من أكثرها خصوبة في تفعيل هذه العالمية,إذ يأتي الناس من كل فج عميق أي من كل البلدان البعيدة والقريبة ومن كل الثقافات والمشارب الفكرية القريبة والبعيدة.
وهنا تختلط الثقافات والحضارات والمسارات في وحدة واحدة لأن الوجهة المكانية واحدة وهي بيت الله وباتجاه رب وإله ومدبر واحد هو الله لتتوحد نية الناس ووجهتهم وقلوبهم نحو وجهة واحدة.
هذا اللقاء يتم به تحقيق التفاعل والتواصل بين كافة الأطراف وتبادل الخبرات في كيفية مواجهة معضلات الأمة وكيفية توحيد الأولويات بحيث يصبح الحج بمثابة دورة تدريبية كبرى تجتمع تحت مظلتها كل الأطياف والمشارب.
الحج يذيب كل الفروقات الاجتماعية والمذهبية والاقتصادية والجهوية فيوحد اللباس والنداء ليذكر الناس بميثاق العبودية لله ويعيد ترتيب أولوياتهم وفق مبدأ التوحيد ويذكرهم بأن الميثاق الوحيد الذي في عنقهم هو لله ولا إله غيره فيعيد حالة الرفض وشعار "اللا" في أبجدياتهم لكل من يحاول أن يمارس دور الإله ويسعى للهيمنة والتسلط والاستبداد.

أثر الحج على التفكير:

يرسم الحج مسارات جديدة في المعرفة الإنسانية فيراكم المعرفة تراكما تنمويا انفتاحيا على علاقاتها مع:
– الله
– الإنسان
– الدين
– الكون
 
فهو من جهة يفتح الآفاق للرزق التي وعد به المعصومين عليهم السلام من خلال رواياتهم حول منافع الحج وكما أشارت الآية الكريمة في سورة الحج"ليشهدوا منافع لهم".
فالرزق هنا له أبعاده المادية والمعنوية فرزق النفس يكون من خلال انفتاحها على الملكوت إذ الحج عروج نحو ملكوت الله الأعلى ليعيد صياغة كثير من المفاهيم والمعارف في عالم العقل والذي بدوره يصوغ تلك المفاهيم وفق معطيات الراهن ليحقق إنجازاته وفتحه العظيم في فهم الدين بشكل أعمق وفهم علاقاته كإنسان مع خالقه ونفسه وأخيه الإنسان وهذا الكون الرحب ويعيد صياغة وظيفته من جديد بعد أن جدد العهد مع الله تعالى وأزال كل الموانع المادية التي كانت تحجبه عن عالم الملكوت,حيث الحج كله سعي لتخليص النفس من كل الشوائب والرواسب التي حصلت له خلال الأعوام الماضية .
هذا الانفتاح يحقق واقعا إذا كان حقيقيا تحولا في مسارات الفعل الإنساني في عالم الوجود اتجاه المجتمع فالتغيير الأنفسي هو نواة التغيير المنزلي والمجتمعي والإنساني,من خلال رحلة أفاق النفس .
خروج الإنسان من نفسه إلى مجتمع صغير ثم هجرته من هذا المجتمع في موسم الحج إلى مجتمع أكبر هو مجتمع الحجيج في وسط يلبي لرب واحد ويتلو قرآن واحد ويتجه بكل هذه الأعداد باتجاه واحد يذيب كل الفوارق الطبقية والثقافية ويرتقي إلى مرتبة وجودية عامة لكل البشر في الحج هي "لبيك اللهم لبيك" هذه المرتبة التي يجب أن تنفي كل الشركاء وتزيل كل الفواصل كي يتوحد الناس بلباس واحد وشعار واحد.
هذه الحالة تنمي عند الإنسان الشعور بالحرية المسئولة اتجاه كل هموم الناس التي شاركته التلبية , وتشعره بضرورة الالتفات إلى مشروع الأمة الواحدة الذي يؤسس لتوحيد صادق يتحقق بتحقق العدالة في كافة المجالات.
الحج يرتقي بمستوى القيم والأخلاق والمبادئ ومن ثم يرتقي بإنسانية الإنسان ليتحول من إنسان المذهب إلى إنسان العالم ليصوغ مشروعه بما يتناسب وعالمية الإسلام .
فالحج لا يقتصر فقط على طقوس عبادية ومجموعة أحكام فقهية لا فلسفة لها ,بل الحج هو الطقوس والشعائر والأحكام الفقهية بفلسفتها وأبعادها الأخلاقية متحدا مع حركة جوهرية للنفس اتجاه كل العوالم الخارجية للتعرف على كيفية سريان التوحيد العملي في كافة الاتجاهات , فالله رفع بعضنا فوق بعض ليتخذ بعضنا من بعض سخرية,حيث تتسخر المعارف والعلوم والثقافات في الحج للتكامل مع الآخرين والاستفادة منهم بل ونقل الهموم المشتركة للأمة والاطلاع على ظروف الآخرين التي إما يتم التعتيم عليها أو أنها مهملة لأنها لا تحقق مصلحة مادية إلا أن نصرتها والاطلاع عليها يعتبر من صميم مشروع نصرة المستضعفين في الأرض.
في الحج تذوب الفروقات المادية من لون وقبيلة وعائلة ومنصب ومرتبة علمية كي تكون النفس مرآة صافية قادرة على استيعاب واستقبال الفيض الإلهي فتطفو على سطع النفس الفطرة السليمة التي تصلح ما أفسده الإنسان بلهوه وغفلته وتنبهه لوظيفته الحقيقية على الأرض.
إذا التواصل مع الجاليات الأخرى والتزاور ومعرفة أهم المستجدات على ساحات الآخرين وتبادل الخبرات وفتح أفق الحوارات والاطلاع على فهم الآخرين من المتخصصين للدين والاستفادة في هذا المضمار يعود بالنفع على مشروع وحدة الأمة وحل الإشكاليات التي يواجهها أفراد وجماعات هذه الأمة.
فالحج المصداق الجوهري للعالمية ولصياغة حركة الإنسان بشكل سليم في داخل المجتمع وإعادة رسم خارطة مفاهيمه العقلية على ضوء الراهن ومستجداته الفكرية والفقهية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
"إن شعائر الحج هي مذكرات هاجر, وكلمة هجرة مشتقة من اسمها, والمهاجر الأمثل من كانت قدوته (هاجر)أو كما يقول الرسول صلى الله عليه وآله "المهاجر من صار كهاجر"
فهاجر تعني باللغة الأثيوبية المدينة إذا هجرتنا تصبح كهاجر حينما نهاجر من الهمجية إلى الحضارة ومن الكفر إلى الإسلام ومن العبودية لغير الله إلى حق العبودية لله وكل ذلك يجعلنا نعيد صياغة منهجنا وسلوكنا وفق المشروع الإلهي العالمي الخارج عن إطار المذهب والطائفة والمحقق لمشروع الإنسان كخليفة وليس كأصل ورب.
"ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما"

الحج وتشويه الأهداف:

فرق كبير في موسم الحج بين ثقافات الحجيج القادمين من أصقاع مختلفة ومن ثقافات متبيانة وبيئات متغايرة يشتد في بعضها تجليات التمدن والحضارة وتضعف في أخرى ويظهر ذلك من خلال السلوكيات التي يمارسها هؤلاء الحجيج أثناء تأديتهم مناسك الحج.
وتعتبر المملكة العربية السعودية الأولى عالميا في تصدير النفط وهو ما يفترض أن يعزز مكانتها الاقتصادية إضافة للسياحة الدينية التي ترتفع وتيرتها في موسم الحج ويزداد مدخولها الاقتصادي منه.وهذا يجعلك كحاج في حين ذهابك في هذا الموسم الذي يحتضن هذا العدد الهائل من الحجاج أن تجد خدمات تليق بالأمكنة التي يؤدي فيها الحاج مناسكه . خاصة على مستوى النظافة والتنظيم والتعامل كي تعكس ثقافة الحج الحضارية للعالم. لينطبق الشعار في خدمة الحرمين على واقع التطبيق.
إلا أن ما يحدث واقعا لا يجعلك إلا تتساءل : لماذا هذا الكم الهائل من الإهمال والتراخي في نظافة أمكنة مقدسة كهذه رغم تجربة المملكة العريقة في السياحة الدينية ؟ فالأوساخ تملأ هذه الأماكن المقدسة بطريقة لا إنسانية وكأنك في غابة تعمها فوضى من القاذورات مما يعرض سلامة الحاج للخطر، فلا ينقص المملكة المال كي تستنفر كل طاقاتها في الحفاظ على نظافة هذه الأماكن بل وفي تعليم القادم من أماكن فقيرة ونائية على أسس الإسلام الحقيقية في النظافة بل إن كل مناسك الحج فيها دعوات صريحة للنظافة ، فالمظهر الحضاري الوحيد كان وجود قطار بين بعض المشاعر إلا أنه يفتقر لمظاهر التنظيم الحضاري .إن ترك الأمور على حالها في كل موسم حج دون تقديم معالجات حقيقية للحفاظ على صحة الحاج من الأمراض وللحفاظ على منسك الحج من التشويه وللحفاظ على نظافة وطهارة الأمكنة المقدسة هو خيانة حقيقية للحرمين ولرب الحرمين، فما هو تفسير قدم وضحالة الخدمات الصحية في عرفة ومنى ؟وما هو تفسير عدم تأمين طرقات تسع هذا الكم الهائل من وسائل النقل ؟ وما هو تفسير عدم تجهيز المزدلفة للمبيت فيها ومرافق صحية تليق بكرامة الإنسان الحاج ؟ وما هو تفسير عدم وجود حاويات منتشرة في كل مكان في منى وعرفة وعدم وجود جيوش من عمال النظافة لمتابعة التنظيف أول بأول ؟ وما هو تفسير التضييق على الحجاج في الطرقات لأن أمير يريد أن يمر بموكبه ليؤدي منسكه ؟؟ إن استمرار الحال هكذا لا يمكن أن يفسر إلا بخيانة الأمانة وليس بخدمتها ونأمل من المعنيين أن يحاولوا إعادة النظر في تشويه الحج إلى تحويله لمركز يشع بالحضارة والمدنية ليدخل الحاج في دورة تدريبية مسلكية وثقافية تعين المسلمين بالارتقاء بوعيهم على كافة المستويات.
فعالمية الحج لا يمكن أن تحقق أهدافها الحضارية إلا إذا تكاملت كل مقومات الحضارة العالمية من ثقافة ومعرفة وفكر وسلوك تهيمن على كل الإنسان في بعده الحسي والجسدي والمعنوي وتحيطه بما يليق بتحقق إنسانيته التي بها سينتقل لمرحلة أخرى من العالمية بعد انتهاء موسم الحج ليعود هذا الحاج بحمل معرفي جديد يكون هو فيه إعلاما متنقلا في بيئته وبلدته ينقل لهم تجربته وما تلقاه من معارف ومفاهيم وقيم وما شاهده من حضارة مسلكية قيمية في الحج.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً