أحدث المقالات











إيمان شمس الدين







إن التبادر الذهني السائد حينما تلوح عاشوراء في آفاق محرم لدى الكثير من الناس هو الدماء, ويظهر ذلك جليا في كثير من اللوحات الفنية المرسومة وفي كثير من الأناشيد والرثاء الذي يغلب عليه طابع الحزن وتعابير الدم.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أنه حتى في المنقول من الأثر يغلب عليه ثقافة الدم العاشورائية حيث أمطرت السماء دما عبيطا ولم يبق حجر إلا وقد نضح من أسفله الدم وغيرها من الروايات التي يكررها الخطباء على المنبر الحسيني بطريقة حولت المشهد الكربلائي إلى لوحة حمراء تقطر دما من كل انحائها.

ولسنا في صدد الإنكار ولا في صدد الرفض ولكننا في صدد التحليل وتسليط الضوء على مقاصد الدماء التي سقطت في يوم العاشر من محرم وما يمكن أن يفهم منها حتى نستطيع أن نرسم معالم جديدة تحقق نفس المقاصد وإن اختلفت الوسائل.

فكلنا يعلم أن ما سما بواقعة الطف هي قيمة التضحيات التي بذلت في سبيل الاصلاح والتغيير حتى وصل الأمر إلى بذل أغلى الدماء وأزكاها على الاطلاق في ذلك الزمان مما ساهم في تخليد الحادثة تخليدا قل نظيره في الثورات الإنسانية لأسباب أهمها شخوص الحدث التاريخي وما تملكه من مكانة اجتماعية وإرث تاريخي في الواقع الاسلامي.

وبالطبع الواقع الاجتماعي المحيط بما قبل الحراك الحسيني وصل إلى درجة تطلب فيها الأمر إلى تضحية كبيرة على شاكلة ذبح اسماعيل مع اختلاف الظروف والحيثيات والنتائج.

ولكن هل غايات الدم المبذولة ومقامات هذه الدماء تعكس فقط عنف المشهد الكربلائي وجسارة الأعداء من المسلمين على حرمات الله تعالى فتنتقل هذه الغايات بعد ذلك إلى مجرد طقوس تمارس باسم إحياء الشعائر تأسيا بالإمام الحسين عليه السلام فتسيل الدماء بعناوين مختلفة لا تمت للثورة الحسينية بصلة تذكر؟

إن حراك المعصوم في واقع الحياة الدنيا هو حراك له أبعاد مقاصدية تصب أهدافها في بناء الأمة بناءا توعويا على كافة الأصعدة لتربطها بأصل الأصول التوحيد وهو ما أشار له أمير المؤمنين عليه السلام من حق الرعية عليه"أعلمكم كي لا تجهلوا".

فلا نستطيع فصل الحراكات عن مقاصدها وتجزئتها والأخذ ببعضها وترك الآخر لنكون مصداق "أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" حيث أنهم عدل القرآن ولسانه الناطق,وكما أننا على درجة عالية من الدقة في تقصي الروايات المأثورة عنهم عليهم أفضل الصلاة والسلام من حيث المتن والسند فنحن معنيون أيضا في أن ندقق بعمق ودراية وإحاطة في أفعالهم ومقاصدها الحراكية في دائرة زمانهم ومكانهم والوسائل التي استخدمت لتحقيق تلك الغايات والمقاصد.

أوجه القراءة المقاصدية للتاريخ:
للقراءة المقاصدية التاريخية وجهين:

الأول: هي قراءة المقاصد الحراكية لكل معصوم على حدة والغوص التاريخي في تلك الفترة الزمنية أي قراءة منفصلة .

والثاني:قراءة المقاصد الحراكية للمعصوم باتصالها بالمعصوم الذي يسبقه وبالمعصوم الذي يليه أي قراءة متصلة للحراك المقاصدي للمعصومين واحدا تلو الآخر.

وبالطبع هذه الجنبتين للقراءة المقاصدية للحراك التاريخي للمعصومين ستكون مخرجاتها هائلة جدا على صعيد الفهم خاصة للنص الحديثي وعلى الصعيد الاجتماعي أيضا ولتطويرالفقه الاجتماعي تطويرا يسد ثغرات الفقه الفردي.بل سيرتقي بمستويات الحراك الاسلامي العام.

وواقعة عاشوراء كثورة لا يمكن أن نخرجها عن القراءة المقاصدية من الجهتين المتصلة والمنفصلة لأنها كثورة تعتبر حدث هام في مسيرة المعصومين عبر تاريخهم الوجودي في الدنيا بل هي منعطف هام في الدعوة إلى الله تعالى وفي الرسالة المحمدية والدين الاسلامي.

فمجتمع المسلمين ما قبل الثورة الحسينية كان قد وصل إلى مرحلة من الموات على المستوى الفكري والإنساني إلى درجة باتت فيها كل وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكلامية اللسانية أو القلبية الانكارية غير مجدية وبقي وسيلة واحدة في درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الوسيلة التي لجأ إليها الإمام الحسين عليه السلام والتي كللها بالدماء.

  السمات العامة لمجتمع ما قبل الثورة:

وقد تدهورت الأوضاع الاجتماعية والفردية على المستوى العقدي والأخلاقي والفكري وحتى الفقهي في زمن الإمام الحسين عليه السلام تدهورا ينذر بخطر كبير بات يهدد وجود الاسلام الحقيقي الأصيل في ذهنية الناس والمجتمعات نتيجة التراكمات الخاطئة للفهم أو التزوير الذي طال جوانب عديدة في هذا الصرح العظيم حتى تواكل الناس باسم الدين واستعبدوا لغير الله باسمه أيضا,ومن أبرز معالم وسمات المجتمع في تلك الفترة هو التالي: 

1.تغلغل الروح القبلية والتعصب القبلي والعرقي بين صفوف المسلمين.

2.بروز الفوارق الاجتماعية مما عزز من وجود فوارق طبقية كان منشؤها التمييز بين المسلمين في توزيع الحقوق الشرعية من بيت مال المسلمين على أساس مدى القرب والولاء من الحاكم الاموي.

3.انتشار الرشوة وشراء الذمم

4.ثقافة التخويف والقتل والتعذيب والقمع للمزيد من تمكين الحاكم الأموي مما حدا بالمجتمع إلى إيثار الحياة بذل وهوان حفاظا على مكتسبات دنيوية بسيطة وقليلة على الموت بكرامة وبالتالي أصبح المجتمع طيعا وقابلا لكل ما يفرض عليه دون أدنى استنكار وإنكار وهو ما أثر على منهاجية فهم السلوك الاسلامي.

5.وما عزز من النقطة السابقة هو التخدير الديني الذي تجلى بشراء ذمم فقهاء عرفوا باسم فقهاء البلاط الذين لم يتوانوا أمام قرقعة الدنانير الذهبية عن الكذب على لسان رسول الله والدس والتزوير في الدين الاسلامي من أجل تمكين الحاكم الاموي من التحكم بالعباد.وهذا التخدير عزز استسلام المجتمع للحاكم ظنا منه أنه يتقرب إلى الله تعالى بذلك.

6.انهيار الروح المقدامة الثورية المضحية لأجل الدين واستسلام المجتمع لأقل مقومات العيش وبدون كرامة,حيث بات المسلم لا يهتم إلا بدائرة حياته الشخصية.

7.ظهور مدارس فكرية متعددة ومتناحرة عززت من تسلط الحاكم وقدمت نظرياتها وانشغل علماء الأمة بالتهافت للرد على بعضهم البعض لإشغال الناس في أمور هامشية مزورة باسم الدفاع عن الدين مما مكن للحاكم الأموي من التغلغل أكثر في الحكومة والسيطرة على مكتسبات الدولة الاسلامية ومقدرات المسلمين.

النباهة بين الفيلسوف والنبي:

ونحن هنا بعد تسليط الضوء على أبرز السمات العامة لواقع المجتمع في عصر الامام الحسين عليه السلام لا بد لنا من أن نسلط الضوء على النباهة التي كان يتصف بها هذا الإمام العظيم والتي كان لها أثر كبير في النهضة الحسينية.

فالحسين عليه السلام كان يمتلك النباهة النبوية أو نستطيع أن نقول أنه مثقف نبي وليس مثقف فيلسوف,حيث أن نباهة الأنبياء كانت نباهة على المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي.

نباهة فردية ارتقت بالحسين عليه السلام إلى مستوى المعصومية انطلقت من دائرة معرفة الذات الانسانية ومسؤولياتها على الأرض إلى النباهة الاجتماعية التي شخصت الخلل ووعت لحظتها التاريخية وواقعها المعاش ومسؤوليتها اتجاه هذه اللحظات التاريخية.

فالأنبياء كانوا من عامة الناس وبعضهم كانوا يمتهنون رعاية الأغنام كوظيفة يعتاشون منها,وكانوا نفرا من الناس, وبينهم يعيشون لا تفرق بينهم, حتى وصل الأمر أن دخل رجل  إلى مسجد النبي والكل جالس يسأل: "أين محمد"؟ وهو دليل على أن النبي كان يمارس حياته كأحد المسلمين لا يميزه عنهم شيء سوى أنه نبي موكل إليه مهمة إلهية عليه إبلاغها للناس.

فالحسين عليه السلام امتلك النباهة والثقافة النبوية إضافة إلى الأمر الالهي في التوجه نحو الثورة وبذل الدماء في سبيل ذلك.

وعل التركيز فقط على الروايات التي كشفت عن مصير الحسين عليه السلام ليست كافية لوحدها في تحديد وجهة الحسين عليه السلام,فالمعصوم بشر يمتلك إرادة في تحقيق أو رفض الأمر الإلهي ولكنه ارتقى إلى مستوى من النباهة الفردية والاجتماعية أهلته لعدم التفكير حتى في التخلف عن الإرادة الالهية لأن التركيز فقط على أن خروج الحسين عليه السلام كان فقط وفقط تلبية للأمر الالهي هو إقصاء للنباهة الحسينية وللطبيعة البشرية في المعصوم بل هو ظلم يمس شخص المعصوم وأهليته لتولي هذا المنصب الإلهي,وكأنه ملك من الملائكة مع أن صريح القرآن يدلل على بشرية الأنبياء فكيف بالأوصياء؟ فالأهلية لا تتحقق في الملائكة وإنما في البشر الذين يمتلكون القابليات المتنوعة التي إن ارتقت أهلتهم لتولي منصب الخلافة الإلهية.

إذا فالدافع الحسيني نحو الثورة يعتمد على أمرين:

1.الوحي المتمثل بالروايات التي تضمنت الأمر الالهي بالخروج والاستشهاد في سبيل الله.

2.العقل الذي مثل الوعي والنباهة الفردية والاجتماعية التي ارتقت بالحسين عليه السلام إلى مستوى لا تتخلف فيه إرادته عن إرادة الله تعالى.

وهذه النباهة لها أثر كبير في توجيه الحسين عليه السلام نحو الثورة في الزمن المناسب والمكان الأنسب.

ومن هنا انطلق الحسين عليه السلام من أجل التغيير في نباهة المجتمع والارتقاء به من ذل عبودية الحاكم وسلطته التي غيرت معالم الطريق في ذهنية المسلمين نتيجة الأفهام الخاطئة المتراكمة للدين والدس والتزوير في معطياته الفكرية والعقدية إلى عز عبودية الله تعالى والارتقاء بهم إلى مرحلة الرفض ونفي الشريك لله بكافة مصاديقه والتي جاءت بها رسالة الانبياء كافة وهي لا إله إلا الله وهي لا النافية والرافضة لأي شريك مع الله تعالى وأي إله غيره,وهي لا الرافضة لأي فرعون أعلن "بأنا ربكم الاعلى".

إذا من أهم مقاصد الحراك الحسيني هو التغيير والارتقاء بنباهة المجتمع ورفض عبودية غير الله والنهوض بإنسانية الانسان إلى أعلى مراتبها لتصل إلى حد تبكي فيه على أعدائها لأنهم يدخلون النار بسببه.

هذا التغيير على مستوى الفرد ومستوى المجتمع هو الحركة الاصلاحية في أمة جد الحسين عليه السلام,وما أراده الحسين عليه السلام من هذا التغيير هو أن يرتقي بمستوى الشعور بالمسؤولية لدى الفرد المسلم لكي يستطيع أن يعي ويستكشف لحظاته التاريخية وواقعه المجتمعي ويستشعر الخطر فينهض في الوقت المناسب ويمنع أي استعباد لغير الله حتى لو بذل في ذلك دمه في سبيل الله ونفسه وكل ما يملك فهو رخيص في سبيل هذه الاهداف.

وهي رسالة جدا عظيمة في كل زمان ومكان بل هي هدف كل الحراك النبوي والرسولي على مر التاريخ الانساني,وهو ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا.

خلاصة:
إذا فلسفة الدم في عاشوراء توجهنا نحو مقاصد وغايات مهمة أهمها:

1.النباهة:النباهة الفردية والاجتماعية التي تؤهل الفرد والمجتمع لكي يعي واقعه ولحظاته التاريخية ويستطيع ان يشخص مكامن الخلل لينهض ويضع الحلول المناسبة وهي الخطوة الأولى في تحديد الخلل.

2.الرفض:رفض العبودية لغير الله وبالتالي رفض تسلط الحكام واستبدادهم وهو ما سيكون له عظيم الأثر في نشر العدالة ودرء الظلم وهي الخطوة الثانية في الحراك الحسيني.

 3.الاصلاح والتغيير: وهو ما يتطلب مقدرة على تشخيص الوسائل والآليات السليمة في الاصلاح وإحداث التغيير الذي يحقق غايات النهضة والثورة حتى لو بذلت في سبيل ذلك أغلى الدماء والأنفس.

إذا خروج الإمام الحسين عليه السلام بأهله و خيرة أصحابه واستشهادهم جميعا بهذا المشهد الدموي ليس لأجل أن نخرج ونسيل دماءنا دون أدنى تغيير على مستوى نباهتنا الفردية والاجتماعية,بل هي رسالة تحدد مقاصد الحراك الحسيني وفلسفة الدم التي بذلت من أجل أن نرتقي بنباهتنا ونستشعر مسؤولياتنا ونغير من واقعنا المعاش خاصة إذا كان شبيه إلى حد كبير بذلك الواقع الاجتماعي في عهد الامام الحسين عليه السلام لكي نحقق العزاء بمضامينه المعنوية والمادية.وهو ما يجب أن نقومه في سلوكنا الشعائري من خلال مراقبة حركة التغيير الأنفسي والمجتمعي ومدى تماهيها مع مقاصد الحراك الحسيني,ونحقق واقعيا معنى كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء.فالاحياء الممارساتي تحت عنوان إقامة الشعيرة الحسينية إذا لم يحقق الغايات ومقاصد الثورة الحسينية تصبح عادة وليست عبادة وهناك فرق كبير,ويتحول الحسين وثورته إلى مجرد شعارات آنية يزول أثرها بزوال المناسبة دون أن تحقق أدنى تغييرا يذكر.فالتشديد على إحياء هذه الثورة العظيمة بطريقة قل نظيرها في غيرها من الحراكات لهو أكبر دليل على ضرورة أن تحقق الثورة مضامينها كرسائل عبر الزمن لتحقق غاياتها التي من اجلها بذلت هذه الدماء لأن الاستبداد السياسي والديني لا يخص زمان دون آخر ولا مكان دون آخر,وتحقيق مضامين الثورة وغاياتها في كل زمان ومكان هو الضامن لقمع هذا الاستبداد والارتقاء بالفرد والمجتمع إلى أعلى مستويات النباهة الانسانية وتؤهله لأن يكون الخليفة مسجود الملائكة.




Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً