أحدث المقالات

لعلّ البدء بالحديث عن المفاهيم والعناوين قدر لامفرّ منه، فلا يمكن الوصول إلى الياء دون المرور بالألف وما بعدها. وربمالا ينبغي أن يعاب علينا التراجع قليلاً إلى الوراء كي نجدّد الانطلاق إلىالأمام، وما يعزّينا هو أمل الوصول إلى المقصد، ولو متأخّرين، ومكمن الخطرالذي ينبغي أن يخشى هو المراوحة والانشغال الدائم باختراع العجلة وعدمالقدرة بعد طول المحاولات على استخدامها والاستفادة منها. ثم إنّ البدءبالمفاهيم يعزّيني على المستوى الشخصي، فحسبي أن أوضح مفهوماً إن لم أستطعالوصول إلى أحكام مقنعة أطلقها عليه أو له.

محاولات للتفاهم حول المصطلحات

التاريخيّة أم التاريخانيّة:

ولدمصطلح (Historicism) التاريخانيّة، في الغرب وترجم إلى اللغة العربية معشيء من الإرباك وعدم الوضوح في دلالاته النهائية، فهل التاريخانيّة التي هيكلمة منحوتة حديثاً تعني فلسفة التاريخ كما يرى بعضهم؟[1]أم أنّ التاريخانيّة ما هي إلا أحد الاتجاهات في دراسة فلسفة التاريخوغيره من الميادين العلمية عندما يكون للتاريخ دور مؤثر بحسب اعتقادالدارس؟ ويبدو لي أنّ الأرجح هو الثاني، وذلك أنّ العودة إلى بعض المعاجمالفلسفية المتخصّصة، نجد أنّهم يعرفون المفهوم بصيغته الأجنبية (Historicism) في سياق الحديث عن المدارس التي أخذت من التاريخ وصفاً لهاوعنواناً، ومن ذلك ما يأتي:

1- historical explanation

2- historical knowledge

3- historical materialism

4- historical relativism

5- historicism

وضمنهذا السياق، وفي هذه البيئة الاصطلاحية يعرّفون المصطلح بما يأتي: «التاريخانيّة وجهة نظر حاصلها أنّ فهم الأشياء لا يمكن أن يتمّ، إلا منخلال وضعها ضمن ظروفها وسياقاتها التاريخيّة. والمصطلح في الفلسفة القاريّة (continental philosophy)[2] له دلالاته الميتافيزيقيّة كما له دلالاته المنهجية. وتنطلق الرؤيةالتاريخانيّة من الاعتقاد بأنّ حركة التاريخ وتطوره محكومة لقوانين موضوعيةثابتة»[3]. كما يُلاحَظ عند عدد من ممثّلي هذا الاتجاه الفكري، من أمثال هيغل، وماركسالذي يرى أنّ التاريخ له قوانينه المستقلّة بالكامل عن الإنسان،[4]

ويعرفأ. آر. لايسي التاريخانيّة (historicism) بأنّها «كلمة تدلّ على كلّ الرؤىالتي تولي اهتماماً خاصًّا وعناية بالتاريخ. وخاصّة تلك الرؤية التي تؤمنبأنّ الأشياء يجب أن يُنظَر إليها على ضوء تطوّرها التاريخي»[5].

والمعنىعينه مع شيء من التفصيل نجده في معجم كامبريدج للعلوم الاجتماعية حيثيميّز محرّرو المعجم بين مفهومين أحدهما ما ذكرَتْه المعاجم المشار إليهاأعلاه، وهو توقّف فهم البنى الاجتماعيّة والأحداث بل والنصوص على ضوءتطوّرها التاريخي والظروف التاريخيّة التي احتضنتها[6].

وهذههي النزعة التي حكم عليها كارل بوبر بالبؤس في كتابه الشهير «بؤسالتاريخانيّة»، وقبل إدانة كارل بوبر وبعدها يتشعّب أنصار هذه الرؤيةالمشتركة إلى شعب ومدارس تعمل في ميادين عدة، تبدأ من فلسفة التاريخوالمتافيزيقا، ولا تنتهي عند الأدب والنقد الأدبي وغيره من أشكال التعبيرالفني.

وبعد الاكتفاء بهذا القدر من الحديث عن هذا المصطلح الملتبسأنطلق من افتراض الاتّفاق -ولو الأولي والموقّت- على أنّ مرادنا من مصطلحتاريخيّة عندما نقول: «تاريخيّة السنة»، نقصد به معنى آخر ولو كان قريباًمن هذا المعنى كما سوف نلاحظ فيما يأتي. ثم إنّي أودّ أن أختم في هذا الصددبالإشارة إلى عدم وجود فرق كبير يدعو إلى اشتقاق مصطلح خاص هوالتاريخانيّة بدل التاريخيّة، كما يحاول عدد من الكتاب العرب فعله وتأكيده،وإن كان الداعي إلى ذلك هو إغناء الترمينولوجيا العربيّة في هذا المجال،فلا بأس منه، وعلى أيّ حال لا مشاحَّة في الاصطلاح كما تعلّمنا في حلقاتالدرس التي نعتزّ بالانتماء إليها.

التاريخيّة:

عندما يُطلَق هذا المصطلح قد يُقصَد به أحد معنيين، هما:

1- التحقّق في التاريخ: بمعنى الحدوث أو الحصول فيه، وعندما يوصَف شيء مابالتاريخي بهذا المعنى يكون المراد هو القول: إنّه تحقّق وحصل في التاريخ. وبهذا المعنى ينطبق على كل كائن يستوعبه ظرف تاريخي محدد، سواء كان هذاالحادث أمراً ماديًّا، أم كان كائناً معنويًّا. ويعدّ هذا المصطلح بهذاالمعنى من مصطلحات اللاهوت المسيحي الذي يتبنّى حضور الله في التاريخبواسطة عيسى (عليه السلام). وما كان محلّ جدل بهذا المعنى، أو قريب منه، فيالتراث الإسلامي هو القرآن الكريم عندما طُرِح التساؤل المعروف الذي يقالإنّه سبب تسمية البحث حول العقائد الإسلامية بـ«علم الكلام»[7]. وهو أنّ القرآن هل مخلوق وحادث أم لا، ومن المعروف أنّ المسلمين انقسموافريقين تبنّى فريق منهم القول بتاريخيّة القرآن أو فقل حدوثه في التاريخ،وتبنّى فريق آخر القول بقدم القرآن وبالتالي القول بعدم تاريخيّته،وتداولوا المحن بحسب تداول الدول فيما بينها. هذا وأمّا السنّة النبويّةالشريفة، فلم يقل أحد إنّها غير تاريخيّة بهذا المعنى. فمن المتّفق عليهبين المسلمين أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعيش بين الناسوصدرت عنه مجموعة من الأقوال والأفعال والإمضاءات شكّلت بمجموعها ما عُرِفبعد ذلك بالسنّة، ولم يدَّعِ أحد منهم قِدَم السنّة وخروجها من دائرةالتاريخ الإنساني كما فعلوا مع القرآن.

2- التاريخيّ بمعنى الموقّت: والمقيّد بالظرف التاريخي الذي تحقّق فيه. وهذا المعنى الثاني هو محلالكلام. فالتاريخيّ بهذا المعنى؛ أي المرتهن أو التابع للظروف التاريخيّةالتي تحقّق فيها وصدر خلالها. فعندما يقال سنّة النبي (صلى الله عليه وآلهوسلم) تاريخيّة يراد عادة أنّها مرتهنة بالظروف التي ظهرت فيها صدوراًوبقاءً، وبالتالي إذا صدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أو نهيأو تعليق على حادث أو تصرّف، فتنحصر صلاحية هذا القول والتصرّف بالظروفالتي صدر فيها، ولا يمكن لمن يعيش في بيئة أخرى غير بيئته (صلى الله عليهوآله وسلم) أن يبني على ذلك الموقف أو يرى نفسه محكوماً له. وبعبارة أخرىتكون سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقيّدة بالظروف والأحوالالمحيطة بها، ولا ينعقد لها إطلاق أحوالي وأزماني لتشمل ما بعد عصره وخاصةالعصور اللاحقة والبيئات التي تختلف عن تلك البيئة اجتماعيًّا وثقافيًّاواقتصاديًّا. ولتوضيح ذلك نعطي بعض الأمثلة لما قيل فيه إنّه تاريخي:

دية قتل الخطأ: ورد في الفقه الإسلامي أنّ دية قتل الخطأ تحملها العاقلةوهم الأقارب الذكور، ففي رواية عن الإمام علي (عليه السلام)، في رجل قتلمسلماً وادّعى عدم وجود قرابة له في البلد الذي قُتِل فيه، وادّعى أنّه منأهل الموصل، فكتب الإمام (عليه السلام) إلى عامله على الموصل قائلاً: «أمابعد فإنّ فلان بن فلان وحِلْيَتُه كذا وكذا قتل رجلاً من المسلمين خطأ وقدذكر أنّه من أهل الموصل وأنّ له بها قرابة…. فافحص عن أمره وسل عنقرابته… فاجمعهم إليك ثم انظر، فإن كان هناك رجل يرثه له سهم فيالكتاب… فألزمه الدية وخذه بها ثلاث سنين…»[8]. فقد قيل في هذا الحكم؛ أي تحمّل العاقلة دية قتل الخطأ الذي يستند إلى هذهالرواية وغيرها من الروايات الدالة على هذا الحكم، إنّ طابعه ينسجم معالمجتمع القبلي القائم على التضامن بين أبناء القبيلة الواحدة. وأمّا فيالمجتمعات غير القبلية وفي عصر التأمين والمسؤولية الفردية، فلا معنى لمثلهذا التشريع، وبالتالي لا يمكن العمل بهذا التدبير التشريعي حتى لو كانصادراً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن غيره ممّن يعدّ قولهحجّة على اختلاف المذاهب الإسلاميّة في توسيعها لدائرة السنة وتضييقها لها[9].

قضية الرق: يرى بعض الكتّاب ومنهم سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن»،أنّ الإسلام لم يشرّع الرق، وإنّما جاء وتعامل معه كأمر واقع ومن بابالمجاراة للناس، ومن عباراته في هذا المجال: «وذلك حين كان الرق نظاماًعالميًّا تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمينوأعدائهم، ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل، حتى يتعارف العالم علىنظام آخر غير الاسترقاق»[10]. وممن تبنّى الموقف نفسه تقريباً الشيخ محمد الغزالي الذي يقول في سياقنقاشٍ مع من يدعو إلى إلغاء حدّ السرقة؛ بحجّة أنّه فلينسخ كما نُسِخ غيرهمن التشريعات الإسلامية: «…قصّة الرقيق التي نتحدّى الإنس والجنّ أنيأتوا بنص في القرآن يأمر بالاسترقاق… ولكنّ الجهل المركب جعل المدافع عنالضلال يقول: إنّ فيه أمراً قرآنيًّا نسخه المسلمون… ولكنّ الأمربالاسترقاق موجود في العهد القديم… لأنّ الإسلام جاء والرقيق موجود فيالقانون الروماني والدنيا مليئة بالإماء والجواري والعبيد… والإسلام جاءومنع الاختطاف وهو أساس الاستعباد… صحيح أنّ الإسلام استبقى نظامالعبودية كما يسمّى؛ من قبيل المعاملة بالمثل؛ لأنّه يستحيل تحريمه إلابمعاهدة دولية، ومن الجنون أن أحرّم الرق وأترك أولادي يُسترَقّونويُخطَفون…»[11].

ونكتفيبهذين المثالين اللذين نحسب أنّهما يضيئان على الفكرة إلى حد كبير، ونختمبنص ذي دلالة واضحة على المراد من نظريّة تاريخيّة السنة لننتقل بعد ذلكإلى البحث حول مفهوم السنة: «وتعني فهم الأحاديث في سياقها التاريخي، بمايوجب حصر مفهومها الظاهري في إطار زمكاني، مما يعني حصوله إلغاءً أوتعديلاً في الصورة المستنتجة، ومن ثمّ حصول تغيّر ما في الحكم الشرعي علىتقدير كون الحديث ممّا يتصل بالجانب العملي. هذا هو بالضبط ما نعنيهبتاريخيّة السنة…»[12].

مفهوم السنة:

السنّةفي اللغة من مادة (س ن ن)، وسنُّ الحديد إسالته وتحديده، «وباعتبارالإسالة، قيل سننت الماء؛ أي أسلته. وسنّة الوجه: طريقته، وسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طريقته التي كان يتحرّاها، وسنّة الله تعالى: قدتقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته…»[13]. ومن الملفت استخدام كلمتي: «سنة» و«شريعة» للدلالة على المعنيين اللذينتدلان عليهما في البيئة الاصطلاحية الإسلامية، فهل لهذا الأمر دلالاتهالتاريخيّة أيضاً؟

وأمّا في الاصطلاح، فالسنّة بعد أن استقرّت علىمعنى اصطلاحي هي كما عند التهانوي، مثلاً: «… على معانٍ منها الشريعة،وبهذا المعنى وقع في قولهم الأولى بالإمامة الأعلم بالسنّة…، ومنها ما هوأحد الأدلّة الأربعة الشرعيّة، وهو ما صدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآلهوسلم) من قولٍ ويُسمَّى الحديث، أو فعلٍ أو تقريرٍ… ومنها ما يعمّ النفلوهو ما فعلُه خيرٌ من تركه من غير افتراض ولا وجوب… ومنها الطريقةالمسلوكة في الدين ونعني بالطريقة المسلوكة ما واظب عليه النبي (صلى اللهعليه وآله وسلم) ولم يتركه إلا نادراً…»[14] وبالتأمل في تعريف التهانوي للسنّة نجد أنّه استقصى أكثر المعاني التياستُخدِمت فيها كلمة سنّة، في ألسنة الفقهاء وفي الروايات. ولعلّ فيالإشارة إلى بعض هذا التنوّع الاصطلاحي فائدة.

فقد استُخدِمت كلمة «سنَّة» بمعنى النفل وفي مقابل الواجب في العبارات الآتية:

النفل: من النماذج التي يستشف منها النفل في مقابل الوجوب في الفقه الإمامي،تعبير ابن بابويه القمي: «السنَّة في أهل المصيبة أن يُتَّخذ لهم ثلاثةأيام طعاماً لتشغلهم في المصيبة»[15]، ويحتمل أن يكون هذا بمعنى الطريقة المسلوكة. ومنه أيضاً: و«السنّة أنّ القبر يُرفَع أربعة أصابع مفرّجة من الأرض..»[16]،وقد ورد تعبير يلمح إلى استخدام السنة بمعنى المستحب في نصّ للشيخ الصدوقيقول فيه: «ولو أنّ رجلاً نذر أن يشرب خمراً، أو يفسق، أو يقطع رحماً، أويترك فرضاً أو سنّة؛ لكان يجب عليه ألَّا يشرب الخمر ولا يفسق ولا يتركالفرض والسنة…»[17]،وفي نصّ آخر للشيخ المفيد يظهر منه هذا المعنى بشكل أوضح يقول: «باب صفةالوضوء والفرض منه والسنّة، والفضيلةُ فيه: وإذا أراد المحدث الوضوء من بعضالأشياء التي توجبه من الأحداث المقدّم ذكرها فمن السنّة أن يجعل الإناءالذي فيه الماء عن يمينه…»[18]، وفي نصّ آخر له يقول: «ووضوء المرأة كوضوء الرجل سواء، إلا أنّ السنّة أن تبتدئ المرأة في غسل يديها بعد وجهها بباطن ذراعيها…»[19]. وقد بقي المصطلح يُستخدَم في هذا المعنى حتّى عصور متأخِّرة من تاريخالفقه الإمامي، ومن ذلك تعبيرهم بـ«قاعدة التسامح في أدلّة السنن»، وماشابه من العبارات التي تدلّ على إرادة النفل أو الاستحباب من كلمة سنّة،كما في عبارات عدد من الفقهاء المعاصرين، ومن ذلك العبارة التي تتكرّر فيكثير من الرسائل العملية للمراجع المعاصرين: «إنّ كثيراً من المستحباتالمذكورة في أبواب هذه الرسالة يبتني استحبابها على قاعدة التسامح في أدلّةالسنن، ولما لم تثبت عندنا فيتعين الإتيان بها برجاء المطلوبية…»[20].

السنّةبمعنى الطريقة المسلوكة (المشروع): إذا افترضنا أنّ المراد من مفهومالطريقة المسلوكة في النصّ المنقول عن التهانوي هو الطريقة المشروعة، فإنّأوضح استخدامات كلمة سنة في هذا المعنى عندما يستخدم الفقهاء تركيب «طلاقالسنّة» في مقابل «طلاق البدعة»، وهذا المعنى متدوال بكثرة في عباراتالفقهاء المتأخرين خاصّة. ومن المعاني التي يمكن أن تندرج في هذا السياقتعبير في سياق الطلاق أيضاً؛ ولكنّه يدلّ على طريقة خاصة في الطلاقوالرجعة، وهو تعبير مروي في الفقه الإمامي عن الأئمة (عليهم السلام): «طلاقالسنّة، هو إنّه إذا أراد الرجل أن يطلِّق امرأته، تربّص بها حتّى تحيضوتطهر ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها بشاهدين عدلين فإذا مضت بها ثلاثة قروء أوثلاثة أشهر فقد بانت منه وهو خاطب من الخُطَّاب، والأمر إليها إن شاءتتزوّجته وإن شاءت فلا»[21].

السنّةبمعنى الدليل: وقد تطوّر مصطلح السنّة في العرف الاصطلاحيّ الفقهيوالأصولي إلى أن استقرّ على العبارة المعيارية الآتية: «السنّة هي قولالمعصوم وفعله وتقريره»، وهذا المعنى يتكرّر عند كلّ محاولة فقهيّة أوأصوليّة لتعريف السنّة، سواء في ذلك الفقه الإمامي الذي يستعمل فيه أحياناًمصطلح حديث وسنّة بمعنى واحد[22]، أم في الفقه السنيّ على اختلاف مذاهبه ومشاربه[23]. وعلى أيّ حال هل يختلف حال السنّة بين أن تكون تقريراً أو فعلاً وبين أنتكون قولاً؟ يبدو لي وبشكل أوّلي على الأقلّ وجود فرق بين أشكال السنّةالثلاثة، وذلك لاتفاق الفقهاء على أنّ الفعل لا إطلاق له، وإنّما يدلّ علىالجواز وربما يستفاد منه غير الجواز مع توفر بعض القرائن الدالة، ولكن بشرطتشابه الظروف التي صدر فيها مع الظروف التي يراد إثبات حكمها، استناداًإلى هذا الفعل، وسيأتي مزيد معالجة لهذه النقطة بالتحديد.

تجلّيات تاريخيّة السنة في التراث الفقهي الأصولي

لابدّ من الاعتراف بادئ ذي بدء بأنّ فكرة التاريخيّة ولو بحدودٍ سوف نحاولاكتشافها فيما يأتي، ليست جديدة بالكامل على ساحة الفكر الإسلامي عموماًوالأصولي والفقهي منه على وجه التحديد، وسوف نحاول استعراض تجلّيات هذاالأمر في التراث الفقهي الإسلامي فيما يأتي من هذه المقالة:

منطلقات عامة:

1- النسخ: النسخ من الظواهر المعروفة بين الشرائع كما في داخل الشريعةالواحدة، وقد تجادل المسلمون واليهود في إمكانه، ووقع جدال آخر بينالمسلمين أنفسهم في وقوعه بعد الاتفاق على إمكانه، وبالغ بعضهم بالإشارةإلى عشرات الأحكام المنسوخة في الشريعة الإسلاميّة. وناقش آخرون في أكثرالموارد التي صُنِّفت في باب الناسخ والمنسوخ. يقول السيد الخوئي، في بحثهحول النسخ في كتاب البيان: «في كتب التفسير وغيرها آيات كثيرة ادُّعينسخها. وقد جمعها أبو بكر النحاس في كتابه «الناسخ والمنسوخ» فبلغت 138آية. وقد عقدنا هذا البحث لنستعرض جملة من تلك الآيات المدّعى نسخهاولنتبيّن فيها أنّه ليست -في واقع الامر- واحدة منها منسوخة، فضلاً عنجميعها. وقد اقتصرنا على 36 آية منها، وهي التي استدعت المناقشة والتوضيحلجلاء الحق فيها، وأما سائر الآيات فالمسألة فيها أوضح من أن يُستدلّ علىعدم وجود نسخ فيها»[24]. وينتهي بعد البحث في المسألة وتمحيص ما يراه الحقّ فيها، إلى أنّ النسخممكن ولكنه لم يقع في القرآن، أو على الأقل لا يوجد له مثال يمكن الجزم به[25]. وانطلاقاً من إمكان النسخ، وبناء على فرضية وقوعه، يمكن عدّه شكلاً منأشكال تاريخيّة التشريع؛ وذلك لأنّ مبرّر النسخ المعقول والوحيد بحسبالظاهر، هو تبدّل الظروف التاريخيّة المحيطة بالتشريع الأول ما يدعو إلىاستبداله بتشريع جديد، ولولا تبدّل الظروف والأوضاع لما أمكن النسخ للزومنسبة الجهل إلى الله -تعالى عن ذلك علوًّا كبيراً- أو إلى النبيّ (صلى اللهعليه وآله وسلم) وهو لا ينسجم مع مبدأ العصمة التي يؤمن بها الإمامية علىالأقل. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّ النسخ حتى في ميدان السنة ليس بتلكالدرجة من الوضوح لغموضٍ يعتري الأمثلة التي تذكر عادة في لهذه الحالة[26].

2- التدرّج: التدرّج في تبليغ الأحكام أيضاً هو تجلٍّ وشكل من أشكال تاريخيّةالسنة، وذلك أنّ السنّة النبويّة الشريفة سواء كانت فعلاً أم قولاً أمتقريراً، إنّما هي فعل تحقق في التاريخ وهي إما تعليق على فعل من شخصوإقرار له على فعله، وإما جواب عن سؤال طرحه أحد أصحاب النبي (صلى اللهعليه وآله وسلم) عليه فأجاب عنه، أو مبادرة من النبيّ (صلى الله عليه وآلهوسلم) للدعوة إلى شيء وتغيير واقع سيِّئ يريد تغييره. وحبّذا لو أمكن فتحباب البحث في أسباب صدور السنّة كما فُتِح باب البحث في أسباب النزول،ومهما يكن من أمر فالأحكام الصادرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره من المعصومين لم تصدر دفعة واحدة. إلا أنّ هذا الشكل من أشكالالتاريخيّة قد يبدو بعيداً عمّا نحن بصدده، فالكلام هو في بقاء ما ثبت منالسنّة وخلوده، لا في أصل ارتباط بيان السنّة بالظروف التاريخيّة؛ ولكنّهعلى أي حال شكل من أشكال التاريخيّة وإن لم يكن محلّ نقاش. والسيد الخوئيواحد من الفقهاء الذين يتبنَّون نظريّة التدرّج في بيان الأحكام وخاصة عندالأئمة (عليهم السلام): «…إنّ ديدن الأئمة (عليهم السلام) جرى علىالتدرّج في بيان الأحكام وما اعتُبِر فيها من القيود والشروط ولم يبيّنوهابقيودها وخصوصيّاتها في مجلس واحد مراعاة للتقية ومحافظة على أنفسهموتابعيهم من القتل أو غيره من الأذى أو لغير ذلك من المصالح…»[27].

منطلقات أصولية فقهية:

أشرتفيما سبق إلى المنطلقات العامة لتاريخيّة السنة، وتحدّثت عن منطلقين هماالنسخ والتدرّج في بيان الأحكام، وتحت هذا العنوان سوف أحاول الحديث عنالتجلّيات الأصوليّة والفقهيّة لنظريّة تاريخيّة السنّة.

1- تقييد السنّة بإطار صدورها:

إنّكثيراً من الروايات التي تحكي عن بعض مصاديق سنّة النبيّ (صلى الله عليهوآله وسلم) أو الأئمة (عليهم السلام) تقيّد بظروف صدورها خلال معالجتهاالفقهيّة ومحاولة الفقهاء اكتشاف الحكم الشرعي من خلالها. والتعبير الذييُستخْدَم عادة في هذا السياق هو «قضية في واقعة». ولجلاء حقيقة الحال سوفأستعرض بعض النماذج التي يحكم فيها بعض الفقهاء على رواية بأنّها خاصةبالواقعة التي صدرت فيها.

ينقل المحقق الحلي رواية عن محمد بن قيسعن الإمام الباقر (عليه السلام): «في وليدة نصرانية، أسلمت عند رجل وولدتمنه غلاماً ومات، فأُعتِقت وتزوَّجت نصرانيًّا وتنصّرت وولدت. فقال (عليهالسلام): ولدها لابنها من سيدها، وتحبس حتى تضع. فإذا وضعت فاقتلها[28]، وفي النهاية يفعل بها ما يفعل بالمرتدة» ويعلق المحقق على هذه الرواية بأنّها «شاذة»[29]. وأما صاحب الجواهر فيعلّق عليها بأنّها قضية في واقعة رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) المصلحة في قتلها ولو من حيث زناها بنصراني وغيره»[30].

وفي المختصر النافع يقول: «إذا تداعيا خُصًّا قُضِي لمن إليه القمط (الحبلالذي يشد به الخص)… وعن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ عليًّا (عليه السلام) قضى بذلك وهي قضية في واقعة»[31].

يطرح الفقهاء في كتاب الجهاد، مسألة جواز عقد الذمة والتأمين بين آحادالمسلمين وبين المحاربين، فيميّز عدد منهم بين إعطاء الذمة لآحاد المحاربينوبين إعطائها لأهل إقليم أو جماعة منهم. ويستند المجوزون إلى فعل أميرالمؤمنين (عليه السلام) حيث أجاز ذمام الواحد لحصن من الحصون. وأمّاالمانعون من ذلك فيعلِّق كثير منهم بأنّ فعل الإمام وإجازته ذلك هو «قضيةفي واقعة» فلا يجوز التعدي عنها إلى غيرها من الحالات[32].

ومن هذه الموارد أيضاً ما ينقل عن الإمام علي (عليه السلام) في قضيّة ستةغلمان في الفرات فغرق واحد فشهد اثنان على ثلاثة وبالعكس، أنّ الدية أخماسبنسبة الشهادة[33].

وينقل ابن فهد الحلي رواية عن مبارزة جرت بين النبي (صلى الله عليه وآلهوسلم) وبين أحد المشركين، حيث عرض المشرك على النبيّ (صلى الله عليه وآلهوسلم) المصارعة فسأله ماذا يجعل له إن صرعه، فصرعه رسول الله (صلى اللهعليه وآله وسلم)، ثم طلب منه العود وهكذا إلى المرة الثالثة، وأخيراً سألهالمشرك أن يعرض عليه الإسلام ففعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،فأسلم الرجل فأعاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه غنمه. ويردّ ابنفهد الاستدلال بالرواية على جواز الرهان على المصارعة، لأنّ الرواية قضيةفي واقعة[34].

هذاولكنّ بعض الفقهاء وخاصة ذوي الاتجاه الأخباري يرفضون ربط بعض هذهالروايات بظروفها ويعمّمون حكمها إلى غيرها من الحالات، ففي رواية عنالصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «دخل رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) على رجل من ولد عبد المطلب وهو في السَّوْق (نزعالروح) وقد وجِّه إلى غير القبلة، فقال وجّهوه إلى القبلة، فإنّكم إذافعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة…»، وهذه الرواية ردّها العلامة في المعتبربأنّها قضيّة في واقعة فلا تدلّ على العموم[35]. ويعلِّق صاحب الحدائق على هذا الموقف من العلامة بقوله: «وأنت خبير بمافيه من الوهن والقصور؛ إذ لو قام مثل هذا الكلام لانسدّ به باب الاستدلالفي جميع الأحكام، إذ لا حكم وارد في خبر من الأخبار إلا ومورده قضيةمخصوصة، فلو قصر الحكم على مورده لانسدّ باب الاستدلال فإنّه إذا سأل سائلالإمام إنّي صلّيت وفي ثوبي نجاسة نسيتها، فقال: أعد صلاتك، فلقائل أن يقولفي هذا الخبر كما ذكره هنا (أي إنّه قضية في واقعة)، مع أنّه لا خلاف بينالأصحاب في الاستدلال على جزئيّات الأحكام والنجاسات مما هو نظير هذهالواقعة»[36]. هذا ولكنّه في مورد آخر له صلة بحالة قضاء يعالج بعض الأخبار المتعارضةويقترح لحل التعارض الحكمَ على أحد الخبرين بأنّه «قضية في واقعة»[37]،ويكشف هذا الموقف عن قبوله لفكرة تقييد بعض السنة بظروف صدورها، فهل هوتهافت من الشيخ البحراني وقبول تارة لعين ما أنكره أخرى؟ يبدو لي أنّالدفاع عن الشيخ البحراني ممكن ومتاح، بوجود فرق بين الحالتين فهذه الحالةالأخيرة هي حالة قضاء، وفي القضاء يمكن تقييد الحكم القضائي بالواقعة التيصدر فيها، وأما حالة التوجيه إلى القبلة فليست قضاء بل هي أمر نبوي وإن كانصادراً في حالة خاصة. وسوف أحاول لاحقاً تقويم هذه الحالة من تاريخيّةالسنة بين الفقهاء بعد الحديث عن تاريخيّة السنة الفعليّة.

2- تاريخيّة السنة الفعلية:

يبدومن النقاشات التي تدور بين الفقهاء حول حجيّة فعل المعصوم وحدود دلالتهأنّ كثيراً من الأفعال التي يستدلّ بها، تُقيَّد بالظروف التي صدرت فيها،أي تحصر دلالة الفعل في حدود البيئة التي صدر فيها، فإذا خفي شيء من الظروفلم يعد بالإمكان توسيع دلالة هذا الفعل والاستناد إلى عمومه أو إطلاقهللحالات المشابهة. وتوضيح ذلك أنّه إذا شاهدنا الإمام (عليه السلام) يصلّيصلاة الظهر ركعتين بدل الأربع أو وردت بذلك رواية ولم نعرف هل كان مسافراًأم حاضراً، أو هل كان مريضاً أم معافى، أو هل كان في حالة حرب أم في حالةسلم، إلى غير ذلك من الخصوصيّات التي يمكن أن تكون مؤثِّرة في صلاته بهذهالطريقة، لا نستطيع الاستفادة من هذا الفعل والحكم بجواز قصر صلاة الظهردائماً، كما في المثال. وهذا الأمر أي حصر دلالة الفعل بحدود الظروفالمشابهة، هو من الأمور المتّفق عليها في علم الأصول، وإليك بعض النصوص فيهذا المجال. يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر: «أما الفعل فتارة يقترنبمقال أو بظهور حال يقتضي كونه تعليميًّا فيكتسب مدلوله من ذلك، وأخرىيتجرّد عن قرينة من هذا القبيل، وحينئذ فإن لم يكن من المحتمل اختصاصالمعصوم بحكم في ذلك المورد دلّ صدور الفعل منه على عدم حرمته بحكم عصمته،كما يدلّ الترك على عدم الوجوب لذلك، ولا يدلّ بمجرده على استحباب الفعلورجحانهإلا إذا كان عبادة -فإنّ عدم حرمتها مساوق لمشروعيّتها ورجحانهاأو أحرزنا في مورد عدم وجود أيّ حافز غير شرعي، فيتعيّن كون الحافز شرعيًّافيثبت الرجحان، ويساعد على هذا الإحراز تكرارُ صدور العمل من المعصوم، أومواظبته عليه مع كونه من الأعمال التي لا يقتضي الطبع تكرارها والمواظبةعليها»[38].

ويتابعالصدر بحثه من خلال طرح أسئلة عدّة حول دلالة الفعل، من قبيل: هل يدلّالفعل على عدم كونه مرجوحاً، وخاصة مع التكرار؟ ويعلّق الإجابة على الموقفالكلامي من فعل المعصوم. وينتهي أخيراً إلى السؤال الأساس وهو: هل يمكناستفادة الحكم الشرعي للمكلَّف في كلّ عصر من فعل المعصوم؟ ويجيب عن السؤالبقوله: «إنّ هذه الدلالات إنّما تتحقّق في إثبات حكم للمكلَّف عند افتراضوحدة الظروف المحتمل دخلها في الحكم الشرعي، فإنَّ الفعل لمّا كان دالًّاصامتاً وليس له إطلاق، فلا يعيّن ما هي الظروف التي لها دخل في إثبات ذلكالحكم للمعصوم، فما لم نحرز وحدة الظروف المحتمل دخلها لا يمكن أن نثبتالحكم»[39].

وتولّدهذه الإجابة سؤالاً آخر، وهو أنّ صدور الفعل عن المعصوم وعصمته التي هي منأهمّ خصائصه، ينبغي أن تمنع من الاستفادة من فعل المعصوم بالكامل،وبالتالي يؤدّي ذلك إلى سدّ باب استنباط الأحكام الشرعيّة من السنّةالفعليّة! وهذه إشكاليّة لا بدّ من حلّها، والحلّ من وجهة نظر الصدر يستفادمن الوصف القرآنيّ للمعصوم بأنّه «أسوة حسنة». ومن هنا، فإنّ الأصل فيأفعاله أن تصدر عنه من هذه الجهة، إلا ما ثبت بدليلٍ خاصّ أنّه من الأحكامالخاصة به[40]. وعلى أيّ حال يبدو أنّ هذا الموقف من دلالة فعل المعصوم، هو موقف يتبنّاه أكثر الأصوليين، وإن كان هو أكثرهم دقّة في التعبير عنه[41].

المنطلق الروائي لتاريخيّة بعض السنّة:

ولاتقتصر منطلقات قصر السنّة على ظروف خاصة، على ما تقدّم وحده بل تتّسع هذهالمنطلقات لتنضمّ السنّة نفسها إليها، ففي الروايات الواردة عن المعصومين (عليه السلام)، ما يشير إلى تقييد بعض السنّة بظروف صدورها وهي روايات عدّةأكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج منها:

النهي عن مغادرة بلدالوباء: ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: سألت عنالوباء يكون في ناحية المصر فيتحوّل الرجل إلى ناحية أُخرى، أو يكون فيمصر فيخرج منه إلى غيره. فقال: «لا بأس إنّما نهى رسول اللّه (صلى اللهعليه وآله وسلم) عن ذلك لمكان ربيئة كانت بحيال العدوّ، فوقع فيهم الوباءفهربوا منه، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): الفارّ منه كالفارّمن الزحف كراهية أن يُخلُوا مراكزهم»[42]. ومن الواضح أنّ هذه الرواية تشير إلى فلسفة النهي عن مغادرة البلدالموبوء، وبالتالي تقيّد النهي النبويّ بالظروف التاريخيّة التي صدر فيها.

حبس لحوم الأضاحي: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن تُحبَس لحوم الأضاحي في منىفوق ثلاثة أيام من أجل الحاجة، فأمّا اليوم فلا بأس»[43]. وهذه الرواية أيضاً تبيّن فلسفة النهي النبوي عن حبس لحوم الأضاحي وتبرّرذلك بحاجة الناس إليها، وأمّا مع ارتفاع الحاجة، فقد تبدّل الحكم وأُلغيالنهي السابق.

النهي عن أكل لحوم الحمير: عن محمد بن مسلم وزرارة،أنّهما سألا الإمام الباقر (عليه السلام) عن أكل لحوم الحمر الأهليّة؟فقال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أكلها يوم خيبر؛ وإنّمانهى عن أكلها في ذلك الوقت؛ لأنّها كانت حمولة الناس، وإنّما الحرام ماحرّم الله في القرآن»[44]. وهذه أيضاً كسابقتيها، وتوجد غير هذه الروايات ممّا يدلّ على المعنى نفسه،وهو أنّ بعض الأوامر أو النواهي المنقولة عن النبيّ (صلى الله عليه وآلهوسلم)، صدرت في ظروفٍ خاصّة ولا بدّ من فهمها في إطار الظرف التاريخيّ الذيصدرت فيه، ولا تُعمَّم دلالتها إلى غيره من الظروف التي قد تختلف فيمقتضياتها.

دواعي لا تاريخيّة السنّة ومبرِّراتها

في مقابل ماتقدّم من المبرِّرات لإثبات تاريخيّة السنّة، يبرّر الفقهاء اعتمادهم علىالسنّة وتعميم دلالةِ ما تدلّ عليه إلى غير العصر والظرف التاريخي الذيصدرت فيه، بمبرّرات عدّة، منها:

1- خلود الشريعة وختم النبوّة: منالبديهيّات الأوّلية التي ينطلق منها الفقه الإسلامي عبر تاريخه والمعاصرمنه كذلك، فكرة خلود الشريعة الإسلاميّة وأنّ النبوّة خُتِمت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وترتكز هذه الفكرة على أدلّة كلاميّة لا أجدضرورة للخوض فيها بالتفصيل، وتعبِّر عنها القاعدة المشهورة: «حلال محمدحلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة…»[45]. وممّا يؤدّي المعنى نفسه، الرواية النبويّة المشهورة: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»[46]. ويترتّب على فكرة خلود الشريعة أنّ باب النسخ قد أُقفِل بانقطاع حبل الوحيمن الأرض، والحكم بتاريخيّة السنّة ما هي إلا نسخٌ سُمّي باسم معاصر. وكماأنّ نسخ القرآن ممنوعٌ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كذلك نسخالسنّة فكلّ منهما وحي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّاوَحْيٌ يُوحَى?[47].

2- انسداد باب الاستفادة من السنّة: يرى بعض الفقهاء أنّ فتح باب احتمالتقييد القضيّة بواقعها يسدّ باب استنباط الأحكام من السنّة، وقد نقلنا قبلقليل نصًّا عن الشيخ يوسف البحراني يشير إلى هذا المعنى بشكل دقيق، وبعبارةأخرى إذا كنّا نؤمن بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بيّنخلال حياته مجموعة من الأحكام وكان لكلّ منها مناسبة بشكل أو بآخر، فإنّكلّ كلام يصدر عن إنسان يعيش في بيئة اجتماعيّة يرى نفسه مسؤولاً عنهاومدبِّراً ومديراً لشؤونها، لا بدّ أن يكون ما يصدر عنه من مواقف وأوامرونواهٍ وتوجيهات مرتبطاً بتلك البيئة إمّا لإصلاح فاسد من أمورها، وإمالتأسيس واقع غير موجود وهكذا. فإذا أردنا ربط كلّ قضيّة من القضايا بالبيئةوالظروف التي صدرت فيها، لم يعد من مجال للاستفادة من السنّة، ولا يبقىإلا القرآن، والقرآن أوّلاً ليس فيه تفصيل كلّ الأحكام ولا يغطِّي جميعالوقائع، مع العلم أنّه هو نفسه، يدعو إلى العمل بالسنّة والتأسّي بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن المعلوم أنّ الفقهاء عندما يستدلّون علىحجيّة السنّة، إنّما يستدلّون بالقرآن، ولا تكفي السنّة لإثبات حجيّة نفسهاللزوم الدور.

3- الإطلاق والعموم الأزماني والأحوالي: من المباحثالتي يتعرّض لها الأصوليّون مبحث المطلق والمقيّد، وهو بحث طويل الذيل كثيرالتفاصيل كما يعلم المطّلعون على هذا العلم والذين خبروا تدقيق الفقهاءوالأصوليين في مثل هذه المباحث. والمقصود بالإطلاق هو إرسال الكلام دونتقييده بفردٍ أو حالةٍ أو صفةٍ، فيقول الفقهاء إنّ المتكلّم الحكيم لو كانيريد فرداً خاصًّا لكان عليه بيان ذلك بذكر القيد الذي يدلّ عليه، مثلاً لوكان المطلوب من المكلف قراءة سورة خاصة من القرآن في الصلاة أو في غيرهامن الحالات، لما صحّ من الله الحكيم ولا من النبيّ أن يأمرا بقراءة القرآندون ذكر تلك السورة المرادة. ويعبّرون عن هذه القاعدة بقولهم: «المتكلمالحكيم يقول ما يريد، ويسكت عمّا لا يريد». ومبدأ الإطلاق كما ينطبق علىأفراد المكلّفين أو متعلّقات التكليف في عصر، كذلك ينطبق على العصوراللاحقة، فيقال: لو كان الحكم الذي أعلنه رسول الله خاصًّا بزمانٍ دون آخر،وببيئة تاريخيّة دون أخرى؛ لكان عليه أن يبيّن ذلك في كلامه ولا يوهمالناس خلود الحكم وهو ليس خالداً؛ ويضاف هذا إلى وجود عدد من النصوصالنبوية تشير إلى التفات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بل والمسلمينأيضاً، إلى العصور اللاحقة[48]،ولا يُستفاد من النصوص أنّه كان يعتني بأهل عصره ويغفل ما بعده من العصوروأهلها. وما قيل عن الإطلاق يقال عن العموم حرفاً بحرف. ويرى الفقهاء فيبعض حالات التعارض الأوّلي، أنّ ظهور اللفظ في العموم الأزماني قوّي إلىدرجة يُرجَّح على النسخ، ومثال ذلك إذا ورد خاص مثل: «لا تكرم العلماءالفاسقين»، ثم ورد بعده عام متأخّر معارض له، كقوله: «أكرم العلماء». ففيمثل هذه الحالة يدور الأمر بين اعتبار الخاص منسوخاً لاغياً وبين تخصيصالعام به، فيقول عدد من العلماء: إنّ تخصيص العام أولى من عدّ الخاصمنسوخاً لقوة دلالته على الاستمرار والدوام[49].

4- المورد لا يخصّص الوارد: من القواعد المقرَّرة في الفقه الإسلامي إلى جانبقاعدة تقييد بعض السنن بالواقعة التي صدرت فيها، ويستند كثير من الفقهاءإلى هذه القاعدة في كلّ مرة يريدون توسعة القضيّة والاستفادة منها في غيرالمورد الذي قيلت فيه[50]. وليست هذه القاعدة منفصلة عمّا تقدّم، بل هي مرتبطة بها وذلك أنّ عدمتخصيص الوارد بالمورد، لا يعني الأخذ بالوارد كيفما كان، بل الأخذ به حيثيساعد النص على ذلك تبعاً لما فيه من عموم أو إطلاق[51].

5- الاستناد إلى الظهور العرفي: يتّضح ممّا تقدّم أنّ استناد الفقهاء إلىرواية والفتوى على أساسها لا يكون إلا بعد الاقتناع التامّ، بظهورها العرفيفي الدوام والاستمرار ومن أهمّ ما يكشف عن هذا ما تقدّم من حكمهم على بعضالروايات بأنّها قضيّة في واقعة، وهذا يعني أنّهم ملتفتون إلى تاريخيّة بعضالسنن، وما فتواهم بمقتضى رواية إلا لأنّ لها دلالة عرفيّة على الدواموالاستمرار، وهذا هو ديدن أهل اللغة في تفسير الكلام، فهم عندما يريدونتفسير رأي شخص في مسألة وأنّ مضمونها هو بحسب رأيه حكم ثابت لها إلى الأبدأم موقّت بوقت، فإنّما يفعلون ذلك تبعاً لما يدلّ عليه كلامه في النصّالمراد تفسيره.

هذه هي أهمّ المبرّرات التي يستند إليها الفقهاءللتمسّك بعموم السنّة بلحاظ الزمان، ولا شكّ في إمكان وجود غيرها منالدلائل الدالّة على هذه الحقيقة التي إن أهملها الأصوليون ولم يبحثوهافذلك لوضوحها وإحساسهم بعدم الحاجة إليها. ونتيجة ما تقدّم من مبرّراتلتاريخيّة السنّة وللاتاريخيتها، يبدو أنّه لا يمكن اعتماد أحد الرأيينومعارضة الآخر بالكامل، فبعض السنة هو تاريخي من دون شك، وبعضها الآخر خالدولا تنتهي مدة صلاحيته. وبعد فالمهمّ هو تحديد وسائل التمييز بين التاريخيوغيره.

معايير في التمييز بين التاريخي وغيره:

لقد كنّا نشكوونحن في حلقات الدرس من عدم وضوح الدوافع التي تدعو الفقيه مرّة إلى إغفالالخصوصيّات الواردة في الرواية وتعميم دلالتها أحياناً، والوقوف علىحرفيّة الرواية أحياناً أخرى ودعوى عدم إمكان غضّ النظر عن الخصوصيّاتالواردة في الرواية. وكنا نشعر أنّ الأمر يعتمد على الذوق الفقهي الذييتطوّر نتيجة ممارسة العمل الفقهي والاستنباط، ونشكّ في بعض الحالات ونتّهمالفقيه بالذاتية وعدم السير في مثل هذه الأمور وفق منهجٍ محدّد له قواعدهوضوابطه الصارمة. وقد قرأت خلال العمل على إعداد هذه الدراسة نصًّا للمحقّقالنراقي استوقفني وأسفت لأنّه لم يتوسّع في البحث بما يستحقّ ليؤسّسلقواعد منهجيّة واضحة تساعد على ضبط التوقّف عند الخصوصيّات التاريخيّةوتجاوزها. ولحسن ما ذكر النراقي أسمح لنفسي بتقرير وجهة نظره أوّلا ثمّأحاول متابعة ما بدأه لعلّي أحظى بشرف المحاولة ولو لم أنل حظوة الوصول إلىما يساهم في تطوير مسيرة البحث والاستنباط الفقهي.

محاولة النراقي في العوائد:

يشكوالنراقي في كتابه «عوائد الأيام» من عدم وضوح منهج الفقهاء في التعامل مع «حكايات الأحوال» كما يسمّيها، ويقصد الروايات التي تدلّ على ما كان يفعلهالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّة (عليهم السلام)، سواء كان ذلكفي القضاء أو في غيره من الحالات. ويذكر أمثلة عدّة أفتى الفقهاء علىأساسها ولم يعترض أحد منهم بأنّها قضيّة في واقعة، بينما نراهم في حالاتأخرى يردّون الاستدلال بمثل هذه الروايات بحجة أنّها قضيّة في واقعة. «فكيفالحال؟» على حدّ تعبيره.

يرى هو أنّ حكاية الحال لا بدّ فيها من ثلاث خصوصيات حتّى يمكن تعميمها والاستفادة منها لغير الواقعة التي تعالج حكمها.

الأولى: أن ترد في جواب يصدر من الإمام (عليه السلام) عن سؤال يوجّهه إليه أحدالسائلين، كما في كثير من الحالات التي يستشهد فيها الإمام (عليه السلام) في جوابه بقضاء من أقضية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أميرالمؤمنين (عليه السلام) أو فعل من أفعالهما، ومن الواضح أنّه لا معنىللاستشهاد بالقضية إن كانت في واقعة، فيكشف استشهاد الإمام بها عن أنّهاسنّة ثابتة وقاعدة في القضاء أو في غيره.

الثانية: أن يكون الموضوعالمراد اكتشاف حكمه من حكاية الحال مساوياً لموضوع القضيّة بحيث لا يحتملوجود فرق بين الأمرين، كما لو كان ما ورد في السنّة، حكماً في قضية جمل،فلا أحدَ يحتمل أنّه لو كان فرساً أو غيره لاختلف الحكم، فعندما يتنازعاثنان في جمل فيحكم الإمام لمن هو في يده، في مثل هذه الحالة لا يحتملاختلاف الحكم لو كان محلّ النزاع فرساً، بل وربّما سيارة في عصرنا هذا.

الثالثة: التعميم بتنقيح المناط القطعي أو الأولويّة، كما لو حكم الإمام لمن أتىببيّنة من شاهدين، فلا أحد يحتمل أن من أتى بثلاث شهود لا يحكم له[52]. هذا تمام كلامه بشيء من التصرّف وإضافة الأمثلة.

تعليق ومحاولة:

رغمحسن ما نقلت عن النراقي واستحساني إيّاه واعترافي له بالفضل في هذهالإشارات التي كنت أتمنّى لو أكملها ليصل بها إلى أقصى غاياتها المتاحة،إلا أنّه يصعب قبول الأمرين الأخيرين بسهولة، فتنقيح المناط القطعي عهدتهعلى من يتنقح عنده المناط، والثاني عدم الفرق ينفع فيما لو كانت كل ظروفالقضيّة واضحة، ولكن عندما تخفى بعض الملابسات تشكل إمكانيّة التعميم،ومثال ذلك إذا ورد في رواية أنّ الخصمين أتيا ببيّنة فحكم الإمام بالبيّنةالأولى. هنا نقول مع النراقي نعم لا فرق بين كون المتنازع فيه جملاً أوفرساً ولكن ليس هذا هو المهم، بل المهم هو معرفة لماذا حكم بمقتضى البينةالأولى؟ فهل السبق في إقامة الشهادة مرجّح من المرجّحات في باب القضاء؟ هنايمكن لأي فقيه أن يقول هذه قضيّة في واقعة، فربّما حكم الإمام بعلمه، بناءعلى جواز ذلك له على الأقلّ، وبحسب علمه بضعف البيّنة الثانية حكم بالأولىدون أن يبيّن لنا سبب ذلك ودواعيه. ولذلك لا بدّ من متابعة تحديد بعضالضوابط الصالحة لتكون قواعد، ولست أدّعي القدرة على حسم ذلك في مثل هذهالدراسة، فإنّني أقرّ بحاجة هذه الضوابط إلى اختبار؛ والاختبار يحتاج إلىاستقصاء العدد الأكبر من الروايات لتعرف دقّة ما يُدَّعى.

حالةالقاعدة: في بعض الحالات قد تقترن القضيّة الواردة في واقعة بما يوحيبأنّها تؤسّس لقاعدة عامّة في مجال التشريع، وفي مثل هذه الحالات يقوىاحتمال لا تاريخيّة السنة؛ ولذلك أمثلة كثيرة في الروايات المنقولة، منهاقضيّة معروفة هي قضيّة سمرة بن جندب الذي باع بيته واحتفظ بنخلة وأصرّ علىحقّه في الدخول إلى نخلته دون استئذان، وبعد عروض عدّة قدّمها النبيّ (صلىالله عليه وآله وسلم) لصاحب النخلة، أذن لصاحب الدار بقلع النخلة ورميهاإليه، وقال: «لا ضرر ولا ضرار»[53]،وكذلك بعض الروايات التي يستدلّ بها الأصوليون لإثبات الاستصحاب، فإنّبعضها ينتهي بتأسيس قاعدة عامّة مفادها أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ[54].

حالة التكرار: في عدد من الروايات الواردة في وقائع نقاط مشتركة تتكرّربين روايات عدّة، مثلاً عندما ترد مجموعة من الروايات تبيّن أموراً مختلفةوتشترك في أمر واحد، كما لو ورد في باب القضاء أنّ النبيّ (صلى الله عليهوآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) قضى في أمر بكذا، وفي آخر بكذا، وفيثالث بثالث، وكانت بين هذه الأقضية الثلاثة نقطة مشتركة هي الحكم بحسبالبينة. فإنّه يمكن استفادة حجيّة البيّنة وكونها من وسائل الإثبات فيالنظام القضائيّ الإسلاميّ في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو فيغيره من العصور.

حالة التكرار: في بعض الحالات قد ترد روايات خاصّةبوقائع متعدّدة، ولكن نلاحظ أنّ الحكم فيها واحد، ففي مثل هذه الحالة يكشفتكرار الموقف النبويّ الواحد تجاه عدد من الوقائع عن كون ما ورد هوالقاعدة التي ينبغي أن تُتّبع في مثل هذه الحالات والحالات المشابهة، حتّىلو بَعُدَ الزمان.

حالة الأمر العباديّ: إنّ قسماً كبيراً منالروايات الصادرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تتحدّث عن العباداتوالأمور العباديّة، وفي مثل هذه الأمور يضعف احتمال التاريخيّة، لأنّ طبيعةالعبادة مبنيّة على التوقيف والامتثال، ولا داعي أو مبرّر يدعو إلى طرحاحتمال التاريخيّة، فإذا وردت رواية بالتيمّم بالتراب في حالة فقد الماء،فلا داعي يدعو إلى طرح احتمال استبدال الماء بغيره من السوائل في حالاتفقده والاستغناء به بدل التراب الذي دلّت السنة على كونه هو البديل عنالطهارة الترابيّة.

ما تقدّم بعض الضوابط التي تساعد على نفيالتاريخيّة، ولكن توجد بعض المؤشرات التي قد تساعدة على دعوى تاريخيّةالسنّة، ومن ذلك ارتباط السنّة بأمر اجتماعي متغيّر وعدم ظهور الخبر الناقلللسنّة في العموم والتأبيد. مثلا ورد في القرآن والسنّة إمكان نفي الولدبالتلاعن بين الزوجين؟ وفي عصرنا هذا استجدّت وسائل تساعد على إثبات النسبونفيه كاختبارات الحمض النوويّ، فهل نقتصر في نفي النسب على ما ورد فيالنصّ، مع افتراض أنّ ما ورد في النص لا يدلّ على أكثر من كون مضمونه وسيلةمن الوسائل وليس وسيلة منحصرة.

وفي بعض الحالات أيضاً توجد مؤشّراتترفع منسوب احتمال التاريخيّة، ومثال ذلك الروايات التي يستدلّ بها علىحرمة الرسم والنحت، ومن الروايات الصحيحة التي يستدلّ بها الفقهاء: روايةصحيحة عن محمّد بن مسلم يقول فيها: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عنتماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان»[55]؛فإنّنا أوّلاً عندما ننظر في هذا الحكم في البيئة الثقافيّة الإسلاميّةيقوى في أذهاننا أنّ علّة التحريم هي محاربة الإسلام للوثنيّة، وثانياًعندما ننظر في غيرها من الروايات الواردة حول هذا الأمر نجد أنّ محلّالابتلاء بحسب ما تكشف عنه الروايات الواردة في أبواب الصلاة، هو كيفيّةالتعامل مع هذه الرسوم أثناء الصلاة، وإذا ضممنا إلى ذلك كلّه أنّ البلادالتي كان فيها الراوي لم تكن بلاداً لتصنيع الرسوم والمنحوتات، والراوينفسه لم يكن رسّاماً أو نحاتاً، فعندما تضمّ كلّ هذه القرائن إلى بعضها،يصعب علينا الفتوى بتحريم النحت أو الرسم بناءً على هذه الرواية، خاصة بعدملاحظة أنّ وجهة السؤال غير واضحة في الرواية. وأخيراً ممّا يقوّي احتمالالتاريخيّة ورود بعض الروايات المخالفة للقاعدة والجوّ التشريعي العام، ففيمثل هذه الروايات لا بدّ من تقييدها بظرفها التاريخي التي صدرت فيه.

خاتمة

فيختام هذه الدراسة اتّضح لنا أنّ التعامل مع السنّة النبويّة الشريفةوالسنّة الإماميّة لا يمكن أن يتمّ بطريقة واحدة ولا بدّ من التمييز بينرواية وأخرى، فبعض الروايات صدرت وقيّدت بظرفها التاريخي، وبعضها الآخرصدرت لتكون قاعدة عامّة للأجيال إلى أن يشاء الله غير ذلك. وبناء عليه لابد من التعامل مع كلّ واقعة على حِدَة، وكما أنّ الحكم على السنّة كلّهابأنّها تاريخيّة مجافٍ للصواب ومجانبٌ للحقّ وتعطيل مذموم للشريعة التيتمثّل السنّة أحد أهمّ أركانها، كذلك الأخذ بكل ما ورد في السنة، دونالتمييز بين ما يريد صاحب السنّة (صلى الله عليه وآله وسلم) تخصيصه بظرفوما يريد تعميمه، هو قول على الله والنبيّ بغير علم.

——————————————————————————–

[1]انظر: زهير توفيق، «التاريخانيّة بين المؤرخ والفيلسوف»، مقالة منشورة فيجريدة الحياة، بتاريخ: 1-12-2007؛ نقلاً عن: موقع كنيسة القديسة تيريزابحلب، على الرابط الآتي: http://www.terezia.org/section.php?id=1245

تاريخالدخول إلى الموقع: الأربعاء، 16 حزيران، 2010؛ حيث يعطف الكاتب في أكثرمن مورد تركيب: (فلسفة التاريخ) على (التاريخانيّة)، بحرف العطف (أو).

[2]الفلسفة القارية، هي: مصطلح فلسفة قارية في معناه المعاصر يدلّ على مجموعةمن المدارس الفلسفية التي تنشط في أوروبا، وتفكر خارج نمط وإطار الفلسفةالتحليلية، وتتسع دائرة معنى هذا المصطلح لتشمل الظواهرية، والمثاليةالألمانية، والوجودية على تنوع اتجاهات هذه المدارس والفلاسفة الذين ينتمونإليها.

[3] Nicholas Bunin And Jiylian Yu, The Blackwell Dictionary of Western Philosophy, Blackwell Publishing, 2004, Pp. 307.

[4] Ibid.

[5] A. R. Lacey, A Dictionary of Philosophy, third edition, Routledge, London, 1996, P. 136.

[6] Bryan S. Turner (editor), The Cambridge Dictionary of Sociology, Cambridge University Press, Cambridge, 2006, P. 271.

[7]كما تشير إلى ذلك أكثر كتب علم الكلام عند بحثها حول سبب التسمية، وانظركمثال على ذلك: التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، مكتبة لبنان،ناشرون، بيروت، 1996، ص31.

[8]الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، تحقيق علي أكبر غفاري، جامعة المدرسين، قم، 1404هـ، ج4، ص140.

[9]انظر: الشيخ آذري قمي، في كلمة له في مؤتمر علمي عقد في مدينة قم، نقلاًعن: حيدر حب الله، نظريّة السنة في الفكر الإمامي: التكون والصيرورة، دارالانتشار العربي، بيروت، 2006، ص736.

[10]سيد قطب، في ظلال القرآن، ج3، ص1669؛ ويكرر هذا المعنى أو ما يشبهه في موارد أخرى عند تفسير الآيات ذات الصلة بالرق وأحكام العبيد.

[11]الشيخ محمد الغزالي، في تسجيل مرئي منشور على موقع: إخوان تيوب: www.ikhwantube.org/video، بعنوان: الرق في الإسلام للشيخ العلامة محمدالغزالي، تاريخ زيارة الموقع: 16-6-2010.

[12]حيدر حب الله، نظريّة السنة في الفكر الإمامي الشيعي: التكون والصيرورة، مصدر سابق، ص713.

[13]الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة (س ن ن).

[14]التهانوي، مصدر سابق، ص979 – 980.

[15]علي بن بابويه القمي، فقه الرضا، ص172.

[16]المصدر نفسه، ص175.

[17]الشيخ الصدوق، الهداية، ص280.

[18]الشيخ المفيد، المقنعة، ص43.

[19]الشيخ المفيد، المقنعة، ص45، وغيرها من الموارد المشابهة، مثل: «ومن توضأعلى ما شرحناه… فقد أتى بالفرض والسنة..» (المصدر نفسه، ص45). ومن ذلكأيضاً قوله: «واقتصاره على التكبيرة الإحرام مجزٍ له في الفرض والسنة (المصدر نفسه، ص111).

[20]السيد أبو القاسم الخوئي، منهاج الصالحين، ط 28، مدينة العلم، قم، 1410هـ، ج1، ص12.

[21]الشيخ الصدوق، الهداية، ص271.

[22]الشيخ البهائي، الجبل المتين، ص4؛ الشيخ البهائي، مشرق الشمسين، ص269؛النراقي، عوائد الأيام، ص165؛ محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهيةالمختصرة، ج3، ص508؛ ضياء الدين العراقي، نهاية الأفكار، ج1، ص19؛ السيدمحسن الحكيم، حقائق الأصول، ج1، ص12؛ السيد محمد باقر الصدر، دروس في علمالأصول، ج1، 62؛ السيد الخوئي، أجود التقريرات، ج2، ص123؛ السيد محمدالروحاني، منتقى الأصول، ج4، ص317

[23]أبو حامد الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، ط3، دار الفكر، دمشق، ص127؛الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ط2، المكتب الإسلامي، دمشق، 1402، ج3،ص107؛ وغيرهما كثير ولو بعبارات مختلفة.

[24]السيد أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ط4، دار الزهراء، بيروت، 1975، ص277.

[25]المصدر نفسه، ص279.

[26]رغم اعتراف عدد من الباحثين في هذا المجال بإمكان نسخ السنة بالكتاب،وإمكان نسخ السنة المتواترة بمثلها، إلا أنه يوجد تشكيك في بعض الأمثلةالتي تذكر لذلك، ومن الأمثلة التي يشار إليها في سياق البحث عن هذه الحالةالتشريعية: أحاديث بريدة وهي مجموعة من الروايات تتضمن إذناً من النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) بعد نهي سابق، وهي: «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروفالأدم فاشربوا في كل وعاء»، (صحيح مسلم، ج6، ص98). و«كنت نهيتكم عن لحومالأضاحي فوق ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا» (سنن ابن ماجة، ج2، 1055). و«كنتنهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» (سنن ابن ماجة، ج1، ص501). للاطلاع على النقاش في صحة هذه الأمثلة: انظر: علي أكبر غفاري، دراسات في علم الدراية، (تحقيق وتخليص)، ط1، جامعة الإمامالصادق، طهران، 1369، ص262.

[27]السيد الخوئي، الاجتهاد والتقليد، ط3، دار الهادي، قم، 1410هـ.، ص161؛ وفيالفقه السني يرى سيد سابق أن الخمر حرمت على نحو التدرج. انظر: سيد سابق،فقه السنة، دار الكتاب العربي، بيروت، ج2، ص368. ويناقش بعض الفقهاء في صحةهذا التحليل لتحريم الخمر.

[28]النص المنقول أعلاه منقول عن كتاب الشرائع، وأما النص كما هو في الوسائلفهو الآتي: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وليدة كانت نصرانية فأسلمتوولدت لسيدها، ثم إن سيدها مات (وأوصى بها) عتاقة السرية على عهد عمرفنكحت نصرانيًّا ديرانيًّا وتنصرت فولدت منه ولدين وحبلت بالثالث، فقضىفيها أن يعرض عليها الإسلام، فعرض عليها الإسلام فأبت، فقال: ما ولدت منولد نصرانيًّا، فهم عبيد لأخيهم الذي ولدت لسيدها الأول، وأنا أحبسها حتىتضع ولدها، فإذا ولدت قتلتها» (الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج28، ص331.)

[29]المحقق الحلي، شرائع الإسلام، تحقيق صادق الشيرازي، ط2، الاستقلال، طهران، 1409هـ، ج3، ص689.

[30]الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج34، ص384.

[31]المحقق الحلي، المختصر النافع، مؤسسة البعثة، طهران، 1410هـ، ص277. وانظرأيضاً في القضية نفسها: الفاضل الآبي، كشف الرموز في شرح المختصر النافع،ط1، جامعة المدرسين، قم، 1408هـ، ج2، ص508؛ وابن فهد الحلي، المهذب البارع،جامعة المدرسين، قم، 1411هـ، ج4، ص487، ويقول ابن فهد الحلي، في تعليقهعلى مورد آخر: «والحق أن هذه قضية في واقعة، وقضايا الوقائع لا يجب تعديهاإلى نظائرها» (المصدر نفسه، ج5، ص202).

[32]انظر مثلاً: المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج1، ص238؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، ج3، 29.

[33]انظر: الشهيد الأول، اللمعة الدمشقية، تحقيق علي الكوراني، ط1، دار الفكر، بيروت، 1411هـ.، ص259.

[34]ابن فهد الحلي، مصدر سابق، ج3، ص83.

[35]المحقق الحلي، المعتبر في شرح المختصر، مؤسسة سيد الشهداء، قم، 1364هـ. ش، ج1، ص258.

[36]الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، جماعة المدرسين، قم، ج3، ص355؛والموقف نفسه يكرره السيد الكلبايكاني، في: كتاب الطهارة من تقريرات درسه،ج1، ص158.

[37]الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج25، ص33.

[38]السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ط2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1406هـ، ج1، ص232.

[39]المصدر نفسه، ص232 – 233.

[40]المصدر نفسه.

[41]انظر: السيد الخوئي، مصباح الفقاهة، ط3، وجداني، قم، 1371هـ.ش.، ج1، ص335، «إن فعل المعصوم وإن كان حجة كسائر الأمارات المعتبرة، إلا أنه مجمل لايدل على الوجوب»؛ السيد الكلبايكاني، تقريرات الحج، مخطوط، نقلاً عن برنامجالمعجم الفقهي، «فإن الفعل من حيث هو لا دلالة له إلا على الجواز، وأماوجه الجواز وأنه هل كان مضطراً على ذلك أو لا فلا يدل الفعل على ذلك…»؛محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسرة، مجمع الفكر الإسلامي، قم، 1415هـ، ج1، 436، «إذا فعل المعصوم شيئاً فإن دلالته على الجواز بالمعنىالأعم المقابل للحرمة واضحة؛ لأنه لا يفعل الحرام، وأما دلالته على خصوصكونه واجباً أو … فغير واضحة».

[42]الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، ج2، ص429 – 430.

[43]المصدر نفسه، ج14، ص170.

[44]المصدر نفسه، ج24، ص117.

[45]أصول الكافي، ج1، ص58، باب البدع والمقائيس، حديث 19.

[46]ابن أبي جمهور الإحسائي، عوالي اللآلي، ط1، مطبعة سيد الشهداء، قم، 1403هـ، ج1، ص456.

[47]سورة النجم: الآيتان 3 – 4.

[48]فقد ورد في الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل: أحجنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد. وفي بعضها الروايات: «للأبدإلى يوم القيامة».

[49]الشيخ علي المشكيني، اصطلاحات الأصول، ط5، الهادي، قم، 1413هـ، ص242.

[50]انظر: الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج1،ص215؛ وج15، ص450؛ وج17، ص94؛ والسيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى،ج1، ص190. إلى غير ذلك من الموارد وهي كثيرة.

[51]انظر كمثال على هذه الالتفاتة: السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج2، ص350.

[52]المحقق النراقي، عوائد الأيام، العائدة 72، ص 74.

[53]الكليني، الكافي، ط3، دار الكتب الإسلامية، 1367هـ، ج5، ص293.

[54]الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص473.

[55]الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت، قم، ج5، ص308.

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً