يتركز اهتمام المقالة على قراءة الملامح العامة لمنهج التفسير التي رسمها العلامة محمد حسين الطباطبائي (ره) في المقدمة التفسيرية المقتضبة و المكثفة التي صدر بها تفسيره الموسوعي المعروف و المعنون ب ” الميزان في تفسير القرآن ” ، و لا تعنى المقالة بالنظر في كيفية تطبيقات تلكم الملامح و تجلياتها في متن التفسير المذكور .
مفهوم التفسير :
تفاوتت آراء العلماء في تحديد مفهوم التفسير و المقصود منه ، غير ان العلامة الطاباطبائي عرف تفسير القرآن بأنه بيان معاني الآيات القرآنية و الكشف عن مقاصدها و مداليلها ( الميزان ج1-ص4) و من الطبيعي ان تكون الآيات القرآنية هي محور اهتمام المفسر لتجلية معانيها و تحديد مدلولاتها و توضيح مراداتها و مقاصدها سواء على المستوى التجزيئي أو الموضوعي و ذلك عبر استخدام العدة التفسيرية اللازمة .
يرجع الطباطبائي نشأة التفسير الى عصر التنزيل حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المبلغ و المعلم و المبين للقرآن الكريم حسبما يستفاد من آيات الذكر الحكيم . ” كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا و يزكيكم و يعلمكم الكتاب و الحكمة و يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ” ( البقرة : 151) ” و أنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون ( النحل : 44) ( الميزان 1-4).
ونظرا لأن القرآن الكريم هو المرجع النصي الأساس للمعرفة الإسلامية و لهذا اشتدت حاجة المسلمين الى معرفة مقاصده و تفسير دلالاته و كشف القناع عن مراداته بعد وفاة النبي (ص) . و مع التحولات السياسية و الاجتماعية و الفكرية التي مر بها المسلمون بعد رحيل المصطفى (ص) مر التفسير في عدة أطوار ، لاسيما بعد انفتاح المسلمين على المجتمعات الأخرى و اطلاعهم على المذاهب الفلسفية و الفكرية المتنوعة و الأديان المتعددة . و على اثر هذه التطورات ظهرت الاختلافات بين المسلمين و انتهت الى تبلور الاتجاهات الفكرية في مجتمع المسلمين من حديثية ظاهرية و كلامية و فلسفية و صوفية و غيرها . و قد انعكست هذه الاختلافات على اتجاهات التفسير فتشعبت مذاهبه و تباينت مسالكه حتى لم يبق بين المسلمين جامع – حسب تعبير السيد الطباطبائي – إلا لفظ لا إله إلا الله و محمد رسول الله (ص) ! ( الميزان 1-5)
و من رحم هذه التباينات تولدت عدة اتجاهات لتفسير القرآن الكريم من قبيل التفسير بالمأثور و التفسير بالرأي و التفسير الرمزي الإشاري أو الباطني و الفلسفي و الكلامي والفقهي و البلاغي و هكذا . و من الطبيعي ان يحاول كل اتجاه ان يدعم شرعيته بربط آرائه و أفكاره و مناهجه بالقرآن الكريم . و بالفعل صارت بعض الاتجاهات الفكرية المختلفة تنجز أفكارها و تبلور رؤاها خارج المرجعية القرآنية ثم تأتي في مرحلة تالية لتبحث عن نصوص قرآنية تناولت نفس القضايا الفكرية فتطوعها بصنوف التأويل و تلويها بأشكال التطبيق لتنتهي في النتيجة الى دعوى ان منهجها البحثي لا يحيد عن النص الديني و ان منظومتها الفكرية برمتها مستمدة من القرآن الكريم . و بهذا فقد صارت المرجعيات الفكرية المتبناة من بعض هذه الاتجاهاة سواء كانت رأيا أو قياسا أو استحسانا أو عقلا أو معقولا أو فلسفة هي المعيار الأول الذي تؤسس عليه المناهج و تستنبط منه الآراء ، و غدا القرآن الكريم مجرد غلاف خارجي أو في أحسن الأحوال مرجعية ثانوية و ليس المرجعية الأساس . و يرى السيد الطباطبائي بأن هذا المسلك ليس من التفسير في شيئ .
تحميل المذاهب الفكرية على النص القرآني :
و قد تطرق السيد الطباطبائي الى بعض الملامح العامة لأبرز المسالك التفسيرية التي اتبعت هذه الأساليب ، نذكرها على النحو التالي :
أهل الحديث و الأثر :
يقول رحمه الله : و أما المحدثون فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة و التابعين فساروا وجدوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شيئ و لم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج الى البحث أخذا بقوله تعالى ” و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ” ( آل عمران -7) و قد أخطأوا في ذلك ، فان الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه ، و كيف يعقل ذلك و حجيته انما تثبت به ! … و لم يندب ( الله تعالى ) إلا الى التدبر في آياته ..و جعله هدى و نورا و تبيانا لكل شيئ ، فما بال النور يستنير بنور غيره ؟ (1-6)
أهل الكلام :
يقول (ره) : أما المتكلمون فقد دعتهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق و تأويل ما خالف على حسب ما يجوزه قول المذهب . (1-6)
أهل الفلسفة :
يقول (ره) أما الفلاسفة فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق و تأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم ، أعني الرياضيات و الطبيعيات و الإلهيات و الحكمة العملية ، و خاصة المشائين ، و قد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة و آيات الخلقة و حدوث السموات و الأرض و آيات الرزخ و آيات المعاد حتى انهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات و الأصول التي نجدها في العلم الطبيعي . (1-6)
أهل التصوف :
يقول (ره ) أما المتصوفة فانهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسية دون عالم الظاهر و آياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل و رفضوا التنزيل ، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل ، و تلفيق جمل شعرية و الاستدلال من كل شيئ على كل شيئ ، حتى آل الأمر الى تفسير الآيات بحسب الجمل و رد الكلمات الى الزير و البينات و الحروف النورانية و الظلمانية . (1-7)
أهل الحس و التجربة :
يقول (ره ) : و قد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير و ذلك ان قوما من منتحلي الاسلام في أثر توغلهم في العلوم الطبيعية و ما يشابهها المبتنية على الحس و التجربة و الاجتماعية المبتنية على تجربة الاحصاء ، مالوا الى الحسيين من فلاسفة الأوربة سابقا ، أو الى مذهب أصالة العمل ( لا قيمة للإدراكات إلا ترتب العمل عليها بمقدار الحاجة الحيوية ) فذكروا ان المعارف الدينية لا يمكن ان تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم ، و هو ان : ( لا أصالة في الوجود إلا للمادة و خواصها المحسوسة ) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم يجب أن يؤول تأويلا ، و ما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب ان يوجه بالقوانين المادية . و ما يتكي عليه التشريع من الوحي و الملك و الشيطان و النبوة و الرسالة و الإمامة و غير ذلك إنما هي أمور روحية ، و الروح مادية و نوع من الخواص المادية ، و التشريع نبوغ خاص اجتماعي يبني قوانينه على الأفكار الصالحة لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي . (1-8)
هل هي تفسير النص أم تحميل الآراء البشرية على النص :
يؤكد الطباطبائي بأن البحث التفسيري يجب ان يتمحور حول القرآن الكريم و ان المفسر يلزم أن يتدبر في آياته و يعيش أجواءه ويجتهد في فهم مقاصده و الوصول الى مدلولاته . فالمفسر دروه هو التلقي من معين القرآن الكريم و ليس العكس ، كأن يأتي اليه بحمولاته الفكرية و منجزاته النظرية المكتملة خارج القرآن و يلقيه عليه بزعم ان القرآن يوافق عليها أو انه أنما استمدها من القرآن الكريم . يقول (ره ) : ففرق بين ان يقول الباحث عن معنى آية من الآيات : ماذا يقول القرآن ؟ أو يقول : ماذا يجب أن يحمل عليه الآية ؟ فان القول الأول يوجب ان ينسى كل أمر نظري عند البحث ، و ان يتكي على ما ليس بنظري . و الثاني يوجب وضع النظريات في المسألة و تسليمها و بناء البحث عليها ، و من المعلوم ان هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه . (1-6)
و يرى الطباطبائي ان هذه المسالك و الأساليب التي تنجز أفكارها على مرجعيات فكرية خارج مرجعية القرآن ثم تقحم نتائجها على آيات القرآن الكريم تشبثا بتشابه لفظ أو معنى أو مضمون معين هنا أو هناك ، انها بأجمعها ليست من التفسير في شيئ ، بل هي تطبيق للآراء البشرية و تحميلها على النص القرآني عبر لي أعناق النصوص . يقول (ره ) و أنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد : ان الجميع مشتركة في نقص و بئس النقص ، و هو تحميل ما أنتجته الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات ، فتبدل به الفسير تطبيقا و سمي به التطبيق تفسيرا ، و صارت بذلك حقائق من القرآن مجازات و تنزيل عدة من الآيات تأويلات . (1-8)
و يرى الطباطبائي بأن هذه الأساليب المتكلفة في تحميل النص القرآني ما لا يحتمله و لا تدل عليه دلالاته يقود الى بعض اللوازم العكسية الفاسدة ، فان القرآ ن الكريم بدلا من أن يكون هاديا و منيرا يغدو مستنيرا و مستفيدا من مرجعيات أخرى . يقول (ره): و لازم ذلك أن يكون القرآن الذي يعرف نفسه : بأنه هدى للعالمين و نور مبين و تبيان كل شيئ ، مهديا إليه بغيره و مستنيرا بغيره و مبينا بغيره ! ثم يتساءل : فما هذا الغير ، و بماذا يهدي اليه ، و ما هو المرجع و الملجا اذا اختلف فيه ، و قد اختلف و اشتد الخلاف ! (1-9)
أسباب الاختلاف في أساليب التفسير :
يرى السيد الطباطبائي ان الاختلاف في مسالك التفسير لم يولده اختلاف النظر في مفهوم الكلمات أو الآيات ، فانما هو كلام عربي مبين .. إنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي تنطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها و مركبها و في المدلول التصوري و التصديقي . ( 1-9) و يرى ان الجمود على المأنوس و المعتاد من المعاني هو الذي يقود الى الاختلاف و الجمود في التفسير . ( 1- 9) و يؤكد الطباطبائي ان المسميات المادية محكومة بالتغير و التبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول و التكامل . و ضرب مثال السراج و الميزان و السلاح و كيف تبدلت الأدوات تماما غير ان الإسم مع ذلك باق ، و ليس إلا لأن المراد من التسمية إنما هو من الشيئ غايته ، لا شكله و صورته ، فما دام غرض التوزين أو الاستضاءة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان و السراج و السلاح باقيا . فالمدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية و الغرض ، لا جمود اللفظ على صورة واحدة ، فذلك لا مطمع فيه البتة . ( 1- 10) و اعتبر موقف المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية و المجسمة – حسب تعبيره – مثالا على الجمود اللفظي في التفسير ، و هو ليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل جمود على العادة و الأنس في تشخيص المصاديق . ( 1-10) و لم يفته ان ينبه ان بين نفس الظواهر القرآنية آيات تبين ان الاعتماد على الأنس و العادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها و يختل به أمر الفهم ، كقوله تعالى : ليس كمثله شيئ . ( الشورى : 11) و قوله تعالى : لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير . ( الانعام : 102-103) و قوله سبحانه : سبحان الله عما يصفون . ( الصافات : 159)
و الجدير بالذكر ان السيد الطباطبائي حين أخذ على أهل الحديث و الأثر توقفهم عن تفسير ما لم يؤثر فيه خبر أو قول عن السلف ، و احتج عليهم بأن الله تعالى لم يبطل حجة العقل في كتابه ، و كيف يعقل ان يبطل حجية العقل فيه مع ان حجية الكتاب انما تثبت بالعقل . و الظاهر من مضمون كلامه انه يقصد من ذلك بأن المفسر يمكنه في ضوء المبادئ العقلية و باستخدام الأدوات التفسيرية من قبيل الرجوع الى المحكمات القرآنية – كما اتضح من كلامه أعلاه – و الاستعانة بالنظم اللغوية و الفهم اللغوي المتعارف في المحاورات و المخاطبات العربية و معهود الكلام عند العرب و القرائن المقالية و الحالية و سائر الملابسات المحيطة بالنص القرآني ان يتوصل الى مدلولات النص القرآني ، إذ لا يمكن بحال إغفال تلكم المعدات التفسيرية في فهم النص المدون باللغة العربية ، و إلا وقع فيما حذر منه و أنكره أشد إنكار .
و يرى الطباطبائي بأنه تجنبا للوقوع في مشكلة الجمود اللفظي في فهم المعاني و المقاصد القرآنية جعلت الباحثين يتخذون أحد مسلكين ، غير ان القرآن لا يقر أحدهما ، و هذين المسلكين هما :
1- بحث المسائل حسب المناهج العلمية و الفلسفية خارج القرآن الكريم ثم الإتيان بالآية و تحميلها عليه . و أكد بأن هذه طريقة يرتضيها البحث النظري ، غير ان القرآن لا يرتضيها .
2- تفسير القرآن بالقرآن و استيضاح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب اليه في القرآن ، و تشخيص المصاديق و تعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات . قال تعالى : و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيئ . ( النحل : 89) و حاشا ان يكون القرآن تبيانا لكل شيئ و لا يكون تبيانا لنفسه . و قال تعالى : إنا أنزلنا اليكم نورا مبينا ( النساء : 184) و كيف يكون القرآن هدى و بينة و فرقانا و نورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون و لا يكفيهم في احتياجهم اليه و هو أشد الاحتياج ؟ ( 1-11)
و أكد بأن الله تعالى علم النبي صلى الله عليه وآله و سلم القرآن و جعله معلما لكتابه كما يقول تعالى ” وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم . ( النحل : 44) و يقول تعالى : يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ( البقرة : 129) . و ان عترته و أهل بيته (ع)الذين أقامهم النبي (ص) هذا المقام في الحديث المتفق عليه بين الفريقين : إني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله و عترتي أهل بيتي و أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض . و صدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن حيث قال عز من قائل : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا . ( الأحزاب : 33) و قال تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . ( الواقعة 77-79)
و قد كانت طريقتهم في التعليم و التفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل الينا من أخبارهم في التفسير . ثم قال ( ره) : و لا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية و لا فرضية علمية . ( الميزان : 1- 12)
هذه خلاصة لنظرة العلامة الطباطبائي (ره) لمنهج التفسير القرآني ، و قد انتهى فيها إلى تأكيد مبدأ تفسير القرآن بالقرآن مبينا بأن القرآن الكريم لا يقبل أساليب تحميل آياته بمنجزات فكرية و فلسفية و علمية تأسست على مرجعيات خارج مرجعيته .
باحث من سلطنة عمان