أحدث المقالات

عند العلامة محمد مهدي شمس الدين

الشيخ محمد النجّار(*)

مقدمة

أسّس الشيخ محمد مهدي شمس الدين ونظّر لمئات المفاهيم التي امتدت على مساحات الفقه، والدين، والسياسة، والاجتماع، والإدارة، وعُرف في ذلك كله برؤيته المجرَّدة الثاقبة في إدراك حقائق الأمور.

وأحد هذه المفاهيم التي أسّس لها هو مناطق الفراغ التشريعي. وقد تطرّق لها في مقالٍ له بعنوان: «مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي»([1]). وكرّر الإشارة لها في كتابيه القيّمين: «الاجتهاد والتقليد»([2])؛ و«الاجتهاد والتجديد»([3])، وفي بعض مقالاته وحوارياته. ولم أجد من الكتّاب والمثقفين مَن سلّط الضوء على هذا المفهوم عند الشيخ سوى إشارات مُقدّرة في مقال: منطقة الفراغ بين النظرية والتطبيق، للأستاذ الأسعد بن علي([4])؛ ومقال: منطقة الفراغ، إطار العنصر المتحرك، للأستاذ عبد الرزاق الجبران([5])؛ ومقال: مقاصد الشريعة في آثار الشيخ شمس الدين، للأستاذ سرمد الطائي([6]).

مجال الفراغ التشريعي

يذكر الشيخ شمس الدين أنَّ هناك ثلاث دوائر يُمكن أن يتصور فيها مجالٌ للفراغ التشريعي:

الدائرة الأولى: «نطاق الموضوعات والأفعال والتروك التي ورد فيها إلزام وجوبي أو تحريمي»([7]).

الدائرة الثانية: «نطاق ما لم يرِدْ فيه من الشارع إلزام كذلك، بل كان من المباحات أو المستحبات أو المكروهات..»([8]).

الدائرة الثالثة: «نطاق ما لم يرِدْ له في الشرع عنوان بخصوصه أو بما يعمّه، بل هو من المجهولات التي كشف عنها تطور الإنسان والمجتمع في الحياة..»([9]).

أمّا الأول، وهو «ما ورد فيه إلزام ـ وجوبي أو تحريمي ـ، فمن الواضح أنه ليس منطقة فراغ تشريعي..»([10]). واعتبار الأحكام الثانوية «من منطقة الفراغ التشريعي فيه تسامح ظاهر؛ لأنّ (الحكم الثانوي) الثابت، في حالة الضرورة والاضطرار والعسر والحرج، مُشرَّعٌ أيضاً وملحوظ في أصل التشريع بنحو القاعدة الكلية»([11]).

وأمّا الثاني، وهو «مجال المباحات بالمعنى الأعم (المباح، والمستحب، والمكروه)..، بمعنى أنّ موضوعاته خالية من الأحكام الإلزامية، فإذا دعت حاجة المجتمع أو الجماعة أو الفرد إلى تحريم المباح بالمعنى الأعم أو إيجابه كان لسلطة التشريع الاجتهادي أن تمنع من فعل المباح فيكون حراماً، أو تأمر بفعله فيكون واجباً. والوجوب والحرمة هنا ناشئان من الصلاحية المعطاة لسلطة التشريع الاجتهادي، وليسا ناشئين من وجود نص خاص أو عام في الشريعة، فبهذا الاعتبار [فقط] يمكن أن تُعتبر هذه الموارد من منطقة الفراغ التشريعي، وإلاّ فإنَّ المباح بالمعنى الخاص وبالمعنى العام محكومٌ بالحكم الشرعي، الذي هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب، وليس مهملاً بلا حكم»([12])، وإن كانت الإباحة ليست من الأحكام الشرعية على رأي السيد الخوئي، حيث «إنّ الشريعة شُرّعت للبعث إلى شيء، أو النهي عن آخر، لا لبيان المباحات»([13])، أو أنّ أحد قسميها (اللا اقتضائي)، على التعبير الأصولي، هو ليس من الأحكام التكليفية الشرعية.

والفرق بين الحكم الثانوي في المجال الأول وهذا الحكم الحكومي في المجال الثاني (مجال المباحات بالمعنى الأعم) هو «أنّ الأول لحكمه الثانوي مرجع منصوص في الشريعة، وهو قاعدة الضرر، أو الاضطرار، أو العسر والحرج. وأمّا هذا القسم الثاني ـ أي الحكم الحكومي ـ فليس لحكمه مرجع منصوص في الشريعة، والسلطة التي أوجبته أو حرّمته هي سلطة التشريع الاجتهادي»([14]).

وأمّا الثالث، وهو «مجال المجهولات التي لم يرِدْ لها في الشرع عنوان بخصوصها أو بما يعمها، فهو ينشأ ويتكون من حركة المجتمع والإنسان في الحياة، وما يحدث له أثناء ذلك من حاجات جديدة ثابتة أو طارئة، وما يكتسبه من معرفة تزيده قدرة على التصرف في محيطه على الأرض وفي أعماقها وفي الفضاء، وما يستلزمه كل ذلك من أساليب الضبط والتنظيم والسيطرة»([15]). ومن أمثلة ذلك: تطور العلوم الطبية التي نشأ عنها عمليات نقل الأعضاء، والتلقيح الاصطناعي، والاستنساخ…، وتطور علوم الفيزياء والكيمياء والهندسة، وما نتج عنها من أسلحة الدمار الشامل، والتجارب الشاملة للفضاء وأعماق طبقات الأرض وتحت الماء، والأقمار الفضائية…، وقضايا البيئة بجميع جوانبها، وأزمة الطعام والمياه، والنمو السكاني…([16]). وهذا كله يستدعي تنظيماً وتقنيناً دقيقاً ودؤوباً ومستمراً، «فمساحة ما تُرك للإنسان أن يجرّب فيه، وأن يخطئ فيه، وأن يُبدع فيه، هي مساحة كبيرة جداً، فالخالق عزّ وجل لم يحدد للإنسان صيغ عيشه، بل أعطاه الله مناهج عامة، وترك له مساحات واسعة، سمِّهِ إن شئت باب الإبداع البشري في حدود الحلال والحرام، سمِّهِ إن شئت ما اصطلحنا في العقد الأخير على تسميته (مجال الفراغ التشريعي)»([17]).

إن طبيعة «علاقات الناس ببعضهم، وعلاقتهم بالمرافق العامة، وطريقة استخدامهم لها، وعلاقتهم بالسلطة الحاكمة، وعلاقتها بهم، وعلاقة الدول ببعضها، وعلاقة المجتمعات والدول بالطبيعة (أرضها وجوها وبحرها وأعماق الأرض والمعادن والمياه، وغير ذلك)، يستدعي تكوين سلطات في المجتمع على المستوى الإقليمي والدولي، ويستدعي تقييد حريات الأفراد والمجتمعات والدول بما يتناسب مع أوامر هذه السلطات ونواهيها وشروطها وقيودها.

وقد تكوّنت هذه السلطات فعلاً على المستوى الدولي، فأُنشئت (الوكالة الدولية للطاقة الذرية)، كما أُنشئت وكالات دولية وإقليمية للسكان، والصحة العالمية، ويجري العمل لإنشاء وكالة عالمية لحماية البيئة..، وغير ذلك»([18]).

«إنّ جميع الأمور التي ذكرناها، وما يترتَّب منها وعليها، يكون كلّه أو معظمه مجالاً جديداً، وهو مجال فراغ تشريعي لم ترد فيه نصوص تشريعية خاصة أو قواعد تشريعية عامة»([19]). فالمبدأ التشريعي الأعلى لم يتعرض للأوضاع التنظيمية التي لابدّ أن تنشأ عن هذين النوعين من العلاقات: علاقة الإنسان والمجتمع بالطبيعة (التنظيم)، وعلاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع (العلاقات).

«وهذا المجال [مستوى التنظيم والعلاقات] لم يكن موجوداً عند التشريع. ولا يمكن للبشر التنبؤ به. وليس من الحكمة أن يكشف عنه الوحي الإلهي؛ لأنّ الحكمة تقضي بإطلاق حرية البشر في تكوين صيغ اختياراتهم وصيغ استجابتهم لضروراتهم، وتقضي بعدم حصرهم في قوالب وصيغ تنظيمية لتطورهم وصيغ استجابتهم لمقتضيات هذا التطور الذي تقضي به طبيعة الحياة وتقلُّباتها»([20]).

«وهذا المجال يتسع لكل شيء من تقلبات الإنسان وأفعاله وتروكه وعلاقاته بالطبيعة والمجتمع، عدا العبادات. ففي العبادات لا مجال إطلاقاً لأي تصرف؛ لأنه لا يعقل أن تكون من مكوّنات مجال الفراغ التشريعي؛ حيث إنّ العبادات توقيفية من جميع الجهات: مواقيتها، وعددها، وأجزاؤها، وشروطها، وكيفية امتثالها»([21]).

ومما تقدّم نعرف أنّ مجال الفراغ التشريعي أو مناطق الفراغ التشريعي عند الشيخ محمد مهدي شمس الدين يشمل أمران:

الأول: المباحات بالمعنى الأعم (المستحبات، المكروهات، المباحات)، بمعنى إمكانية تشريع السلطة الاجتهادية أحكاماً إلزامية وجوبية أو تحريمية داخل هذا النطاق (المباحات)؛ لاقتضاء المصلحة، من قبيل: تحريم الشيخ الشيرازي لاستعمال التنباك، لا بمعنى أنها تُركت مهملة بلا حكم من قِبَل الشارع.

الثاني: المجهولات التي لم يرِدْ لها في الشرع عنوان بخصوصها أو بما يعمّها، وتشمل (القوانين التنظيمية) للموضوعات الخارجية المتكاثرة المتسارعة الناشئة من حركة المجتمع وتطور العلم واستجابة الإنسان لضرورات الحياة والطبيعة تأثيراً وتأثراً، من قبيل: الأوامر والنواهي التنظيمية في البناء والسير والزراعة والتجارة والمياه والطاقة و..؛ وتشمل أيضاً (العلاقات)، من قبيل: تحريم التعامل مع إسرائيل.

ولا شمول فيه للقسم الذي يحتوي على تشريع إلهي فعلي، بلا فرق بين الحكم الأولي والثانوي، ولا للعبادات ذات الصبغة التوقيفية بجميع جهاتها.

والفرق بين التشريع في منطقة المباحات بالمعنى الأعم وبين المجهولات بكلا قسميها (التنظيم والعلاقات) «هو أنّ التشريع في الموضوعات بالإباحة والإيجاب والتحريم من سنخ الحكم الشرعي الإلهي على الموضوعات المنصوصة، وأمّا قضايا العلاقات والتنظيم فهي بعيدة عن مفهوم الحكم الشرعي الإلهي ـ وإن كان فيها إلزام وحظر ـ، وأقرب إلى الأمور الإجرائية، كتنظيم المدن والسير، والمراعي، والسوق. وهذا النوع من الأوامر والنواهي ليس أحكاماً شرعية بالمعنى المصطلح، بل هو إجراءات إدارية وتنظيمية تستجيب لحاجات إدارية وتنظيمية تتغير بتغير الظروف والأحوال»([22]).

مالئ مناطق الفراغ التشريعي

يقول الشيخ شمس الدين: إنه «بناء على ثبوت الولاية العامة للفقيه فإنه يتمتع بسلطة التشريع الاجتهادي في جميع مناطق الفراغ المذكورة»([23]).

«وأمّا بناء على عدم ثبوت الولاية العامة للفقيه، وثبوت ولاية الأمة على نفسها، فالظاهر أنه لابدّ من الرجوع إلى الفقيه في ما يتعلق بالحكم على الموضوعات الخارجية، والتصرف في النفس».

ويرى الشيخ شمس الدين ـ كما هو معروف عنه ـ أنّ «الصحيح هو أنّ سلطة التشريع ثابتة للفقيه بما هو فقيه، لا بما هو ولي الأمر»([24]).

وأمّا قضايا (العلاقات) و(التنظيم) «فالأصل الأولي التشريعي في علاقة الإنسان والمجتمع بالطبيعة هو الإباحة والإطلاق، ولكن الأوضاع التنظيمية الناشئة عن تطورات مجال الفراغ التشريعي قد تقتضي ـ بل هي تقتضي بالفعل ـ الحجر والتقييد.

وإنّ الأصل التشريعي الأوّلي في علاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع هو عدم سلطة أحد على أحد، وعدم ولايته عليه، ولكن الأوضاع التنظيمية الناشئة من تطورات مجال الفراغ التشريعي قد تقتضي ـ بل هي تقتضي بالفعل ـ ممارسة الولاية وسلطة الأمر والنهي، وواجب الطاعة»([25]).

«فالولاية على التشريع في هذين المجالين (التنظيم والعلاقات) للأمة نفسها، عن طريق ممثليها في هيئات الشورى، ولا تتوقف شرعية الإجراء التنظيمي الخاص بالعلاقات على فتوى الفقيه أو حكمه بما هو فقيه»([26]). فهي «أقرب إلى الأمور الإجرائية التي ثبت من أدلة التشريع العليا والعامة ولاية الناس على أنفسهم فيها، حتى في عصر النبوة والإمامة المعصومة»([27]).

مبادئ التشريع لأحكام مناطق الفراغ التشريعي

يَعقد الشيخ محمد مهدي شمس الدين بحثاً خاصاً في مبادئ التشريع داخل مقاله (مناطق الفراغ التشريعي)، تحت عنوان: (الاستنباط في مجالات الفراغ التشريعي: أسسه وأصوله ومنهجه). وخلاصة هذا البحث هو «أنّ عملية الاجتهاد والاستنباط في مجال (الفراغ التشريعي) التي تنتج الأحكام التدبيرية (التنظيم والعلاقات والإدارة في المجتمع) تقوم على الأسس والأصول العامة للاستنباط بالنسبة إلى الأحكام الشرعية الإلهية التي يُعبَّر عنها بالفتوى، ولكن عملية الاجتهاد والاستنباط في مجال الأحكام التدبيرية (الفراغ التشريعي) تخضع لبعض المعايير الأخرى، بالإضافة إلى الأسس والأصول العامة للاجتهاد والاستنباط»([28]).

وهذه المعايير تستفاد من أمرين:

الأول: ما أسماه الشيخ بـ «أدلة التشريع العليا: وهي فوق أدلة التشريع المباشرة من المبادئ والقواعد العامة وأدلة الأحكام الكلية، التي هي مدار نظر الفقيه واستنباطه في مجال اجتهاده المألوف والمتعارف عليه، وهي من قبيل: آيات التسخير، والأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء، وآيات النهي عن الإسراف والتقتير، وشرط القدرة في التكليف، وآيات النهي عن العلو والفساد في الأرض، وآيات النهي عن تغيير خلق الله»([29]).

فيُستفاد مثلاً ـ في التشريع داخل منطقة الفراغ ـ من آيات التسخير (تسخير ما في السماوات والأرض للإنسان) في باب الموضوعات وعلاقة الإنسان بالطبيعة، ويُستفاد من آيات الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي في باب علاقات البشر مع بعضهم وأنشطتهم في المجتمع([30]). وكذا في ما يخص العلاقة مع الدول الأخرى والمجتمعات الأخرى.

الثاني: «من الموارد الخاصة للأحكام التدبيرية الواردة عن النبي‘ والأئمة المعصومين^، من قبيل: نهي رسول الله‘ عن أكل لحم الحُمُر الأهلية يوم خيبر، حيث كانت حمولة المسلمين، فخشي رسول الله‘ عليها من النفاد، ولم يكن أكلها بحرام، ويشهد لذلك الروايات الكثيرة الواردة في ذلك، منها: ما روي عن محمد بن مسلم، وزرارة، عن أبي جعفر× أنهما سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهلية؟ قال: «نهى رسول الله‘ عنها وعن أكلها يوم خيبر، وإنما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لأنها كانت حمولة الناس، وإنّما الحرام ما حرّم الله عز وجل في القرآن»([31]).

وفي رواية أخرى عن أبي جعفر× قال: «نهى رسول الله‘ عن أكل لحوم الحمير، وإنما نهى عنها من أجل ظهورها؛ مخافة أن يفنوها، وليست الحمير بحرام، ثم قرأ هذه الآية: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 145)»([32]).

ووردت أيضاً عن الإمام الكاظم×.

كما أخرجها كلٌّ من البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن ابن عباس قال: «لا أدري أنهى عنه رسول الله من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرّمه في يوم خيبر، يعني لحوم الحمر الأهلية»([33]).

فتحريم الحُمُر الأهلية من قِبل رسول الله‘ لم يكن تحريماً تشريعياً، وإنّما هو إجراء اتخذه رسول الله في وقتٍ معين، وهو في معركة؛ من أجل الحفاظ عليها واستخدامها لغرض الحمولة. ونستفيد من هذه الحادثة اليوم في تحريم صيد أنواع معينة من الأسماك والطيور في أوقات خاصة، وهي أوقات تكاثرها مثلاً.

وكذا من قبيل: التعليل الوارد في أدلة الاحتكار، ومن قبيل: التعليلات الواردة في جواز العمل والتعامل مع الحكومات غير الشرعية.

فإنّ التعليلات الواردة، في هذه الموارد وأمثالها لا يقتصر فيها على موردها، بل هي معايير ترشد الفقيه والخبير إلى المنهج الذي يجب اعتماده في الاجتهاد والاستنباط في قضايا المجتمع وأنظمته وقضاياه، والمشاكل التي تواجهه في داخله، وفي علاقاته مع الخارج المسلم وغير المسلم.

وهذه التعليلات ليست أحكاماً شرعية إلهية، وليست منشأ لأحكام شرعية إلهية، بل هي أسس أحكام شرعية تدبيرية، يعود أمر النظر في موضوعاتها واستنباطها إلى المجتمع الإسلامي بوساطة خبرائه وفقهائه، فهي مبادئ منهجية للاستنباط في هذا المجال»([34]).

مقارنة بين نظريتي الصدر وشمس الدين

يُعتبر السيد الشهيد محمد باقر الصدر أوّل من قال بمنطقة الفراغ بشكل واضح وصريح، وقنَّنَ لها بأسلوبه الرصين الشامل، حيث خصّص لها فصلاً مستقلاً من كتاب «اقتصادنا» أطلق عليه (منطقة الفراغ). وكرَّر المصطلح في أماكن عديدة من هذا الكتاب. إضافة إلى ذكره لهذا المصطلح في (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران)، و(صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي)، و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي)، و(خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء)، المنشورة جميعاً ضمن كتاب «الإسلام يقود الحياة»([35]). وكذلك في (أصول الدستور الإسلامي)، المنشور ضمن كتاب «تجديد الفقه الإسلامي»، لشبلي ملاط([36]). والفرق بين منطقة الفراغ عند الشهيد الصدر ومناطق الفراغ عند العلامة الشيخ شمس الدين من عدّة جهات، منها:

1ـ انطلق السيد الشهيد الصدر في نظريته من أنّ «الإسلام رسالة عالمية، لا إقليمية، ولا قومية»([37])، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً للنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28). ومنطقة الفراغ «تُعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة»([38]). بينما انطلق الشيخ شمس الدين في نظريته من «أنّ الشريعة مرنة، ومرونتها لازمة لها، ذاتية فيها. وهذه المرونة تتجلى في أنّ الشريعة تحفز على الحركة الإيجابية في العالم وفي الطبيعة، وعلى تقدم الإنسان والمجتمع، ولا تحول دون أية خطوة باتجاه التقدم الحضاري في جميع المجالات»([39]).

2ـ حدود منطقة الفراغ عند الشهيد الصدر تقتصر على المباحات بالمعنى الأعم، أي ما يشمل (المستحبات والمكروهات، إضافة إلى المباحات). بينما يُعدد الشيخ شمس الدين حدود أو دوائر مناطق الفراغ التشريعي إلى ثلاث مجالات كما تقدم، وهي: المباحات بالمعنى الأعم، والمجهولات التي لم يرِدْ لها في الشرع عنوان بخصوصها بقسميها: (التنظيم)، وهو علاقة الإنسان والمجتمع بالطبيعة؛ و(العلاقات)، وهي علاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع. وهذا ما نراه واضحاً من نفس تعبير كلا العَلَمين، حيث عبّر الشهيد الصدر بصيغة المفرد (منطقة)، بينما عبّر عنها الشيخ شمس الدين بصيغة الجمع (مناطق).

3ـ تُملأ منطقة الفراغ عند الشهيد الصدر عن طريق الأمّة بالرجوع إلى الفقيه، حيث ينبثق عن الأمة مجلس تشريعي منتخَب يعبِّر عن إرادتها، ويقوم بتعيين سلطة تنفيذية يُشرف على أدائها، إضافة إلى سنّه القوانين المناسبة لملء منطقة الفراغ التشريعي، وتحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة، ليقوم الفقيه ـ المعبِّر الشرعي عن الإسلام ـ آخر الأمر بالبتّ أو التصديق على هذه القوانين المُشرَّعة والأحكام المنتخبة من قبل الأمّة بما هي ممثلة بمجلسها التشريعي.

بينما يرى الشيخ شمس الدين أن لا ولاية مطلقة للفقيه على الأمة([40]) في الجانب الثاني من مناطق الفراغ التشريعي، وهو جانب (التنظيم والعلاقات)، حتى من قِبَل الرسول والمعصومين^، وإنما تكون ولاية الناس على أنفسهم، كما ثبت ذلك من أدلة التشريع العليا؛ لأنّ هذه القوانين المُشرَّعة في هذا المجال (التنظيم والعلاقات) بعيدة عن مفهوم الحكم الشرعي الإلهي ـ وإنْ كان فيها إلزام وحظر ـ، وأقرب إلى الأمور الإجرائية، كتنظيم المدن والسير، والمراعي، والسوق، والتي هي إجراءات إدارية وتنظيمية تستجيب لحاجات إدارية وتنظيمية تتغير بتغير الظروف والأحوال([41])، بينما يملأ الفقيه ـ بما هو فقيه ـ المباحات بالمعنى الأعم، أي المجال الأول من مناطق الفراغ التشريعي عند العلامة شمس الدين، إضافةً إلى التصرُّف في النفس.

4ـ يتوافق العَلَمان في مبادئ التشريع لمنطقة الفراغ على ضرورة مراعاة الاتجاه العام للتشريع. فيعبّر عنها الشهيد الصدر بمصطلح «المؤشرات الإسلامية العامة»([42])، المأخوذة من العناصر الثابتة، بينما يعبّر عنها الشيخ شمس الدين بـ«أدلة التشريع العليا»([43])، من قبيل: آيات التسخير، والأمر بالعدل والإحسان، إضافة إلى ما يُستفاد من الموارد الخاصة للأحكام التدبيرية الواردة عن النبي‘ والأئمة المعصومين^، التي لا يقتصر في تعليلاتها على موردها، بل هي معايير ترشد الفقيه والخبير إلى المنهج الذي يجب اعتماده في الاجتهاد والاستنباط في قضايا المجتمع وأنظمته وقضاياه والمشاكل التي تواجهه([44]).

5ـ اعتمد العَلَمان المنهج الأصولي في تقنينهما للنظرية، حيث مبحث المباحات بالمعنى الأعم، والمجهولات (المسائل المستحدثة)، والأحكام الحكومية الإدارية، إضافة إلى انطلاقهما ـ كما بيّنّا ـ من عالمية الإسلام وسعته وشموليته وفاعليته في كل زمان وزمان، ومرونته اللازمة له، الذاتية فيه، والتي تحفز على الحركة الإيجابية في العالم والطبيعة، وعلى تقدّم الإنسان والمجتمع، ولا تحول دون أية خطوة باتجاه التقدم الحضاري في جميع المجالات([45]).

هذا ملخص نظرية العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والتي أطلق عليها صيغة الجمع (مناطق الفراغ التشريعي)، بعكس الشهيد الصدر الذي أسماها (منطقة الفراغ) بصيغة المفرد؛ وذلك لما عرفنا من تعدد المناطق الفارغة عند الشيخ من خلال التقسيمات التي ذكرها في نظريته.

وأعتقد أنّ ما يُورد على الشيخ في مقاله (مجال الاجتهاد، ومناطق الفراغ التشريعي) هو صعوبة طرحه، الذي تشابكت فيه المباحث مع بعضها، وأسلوبه الموهم بوجود تناقضات في كلامه ومواقفه، وهو ما يلحظه القارئ للمقال للوهلة الأولى، ولكنّه بعد التمعن والدخول إلى روح النص وإدراكه تبدأ التناقضات الواردة تُحل الواحدة تلو الأخرى.

وربما تكون الملاحظة الأبرز في ذلك هو تنقل الشيخ بين نفي وجود مناطق فراغ تشريعية، كما في قوله: «فالتحقيق أنه لا توجد (منطقة فراغ تشريعي)»([46])، ونقده لها([47])، من جهة، وبين القول بها([48])، واعتبارها الحل والعنصر المرن المتحرك في التشريع([49])، بل والتأسيس لها ـ كما رأينا ـ، من جهة أخرى.

ويندفع الإشكال إذا ما تمّ التفريق بين القول بوجود فراغ تشريعي ناتج عن مراعاة المصلحة، أو حركة الإنسان والمجتمع والعلاقات، وتطور الطبيعة، المحتاجة جميعاً إلى تقنين قوانين تُنظمها معتمدة على الأحكام الأولية، والثانوية، والقواعد الفقهية، ومبادئ التشريع العليا، وبين القول بوجود عجز تشريعي، حيث لا حكم في الشريعة لمجموعة من الحوادث والوقائع، وهو معنى القول بالتصويب الذي ينتقده الشيخ في مقدمة هذا المقال، وفي بحوث له مطولة أخرى([50])، حتى يقول: «قد لا يوجد الآن بين فقهاء المسلمين من يقول بالتصويب»([51]). فالشيخ لا يرتضي وجود منطقة متروكة لم يلحظها الشارع، ومجالاً فارغاً يُقنَّن فيه من دون ضوابط شرعية، وأسس تشريعية. «فسلطة التشريع الاجتهادي لا تشرع من دون مرجعية تشريعية في أصل الشريعة، هي عمومات ومطلقات التشريع العليا، وبعض المبادئ التشريعية الأدنى رتبة، المناسبة لكل مورد من موارد مجال الفراغ التشريعي»([52]).

ولا أعتقد بوجود خلل في بنائه للنظرية ـ ولا أتحدَّث عن مبناه ـ، بخلاف ما سجّله الأستاذ عبد الرزاق الجبران في مقاله (منطقة الفراغ، إطار العنصر المتحرك)([53])، حيث قال: «وجدنا كثيراً من الاختلال، بما لم يُعرف به الشيخ مما عهدناه من إبداعاته الجمّة، سيما في خطاه التجديدية الصاعدة في الدراسات الفقهية»([54]).

الهوامش

(*) باحث في الفقه الإسلامي، من العراق.

 ([1]) كُتب المقال في 5/أيار/1992م، ونُشر في مجلة «المنهاج»، الصادرة عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، العدد3: 7، 1996م؛ وطُبع أيضاً كفصل في كتاب «الاجتهاد والتقليد.. بحث فقهي استدلالي مقارن»، للشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1998م؛ وأدرج في كتاب «الاجتهاد والحياة.. حوار على الورق»: 200، إعداد: محمد الحسيني، مركز الغدير للدراسات والنشر، 1997م؛ وأعيد طبعه اليوم في الكثير من الدوريات، والمجلات، ومواقع الإنترنت.

([2]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتقليد.. بحث فقهي استدلالي مقارن، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1998م.

([3]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1996م.

([4]) الأسعد بن علي، منطقة الفراغ بين النظرية والتطبيق، مجلة الوعي المعاصر، العدد 2: 69، 2000م.

([5]) عبد الرزاق الجبران، منطقة الفراغ، إطار العنصر المتحرك، مجلة الوعي المعاصر، العدد 2: 95، 2000م.

([6]) سرمد الطائي، مقاصد الشريعة في آثار الشيخ شمس الدين، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 9 ـ 10، 2000م.

([7]) محمد مهدي شمس الدين، مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 10، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م.

([8]) المصدر نفسه، العدد 3: 11.

([9]) المصدر نفسه، العدد 3: 11.

([10]) المصدر نفسه، العدد 3: 12.

([11]) المصدر نفسه، العدد 3: 12.

([12]) المصدر نفسه، العدد 3: 12.

([13]) أبو القاسم، الخوئي، مصباح الأصول 3: 47، تقرير: السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، منشورات مكتبة السيد الداوري، قم المقدسة، ط5، 1417هـ.

([14]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 12، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م.

([15]) المصدر نفسه، العدد 3: 13.

([16]) المصدر نفسه، العدد 3: 14.

([17]) الاجتهاد والتجديد: 208، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1996م.

([18]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 14 ـ 15، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م.

([19]) المصدر نفسه، العدد 3: 15.

([20]) المصدر نفسه: العدد 3: 13.

([21]) المصدر نفسه، العدد 3: 13.

([22]) المصدر نفسه: العدد 3: 19.

([23]) المصدر نفسه، العدد 3: 18.

([24]) المصدر نفسه، العدد 3: 23؛ وراجع أيضاً: نفس المقال: 12 و26.

([25]) المصدر نفسه، العدد 3: 11 ـ 12.

([26]) المصدر نفسه، العدد 3: 19.

([27]) المصدر نفسه: العدد 3: 19.

([28]) المصدر نفسه: العدد 3: 15 ـ 16.

([29]) المصدر نفسه، العدد 3: 10.

([30]) المصدر نفسه، العدد 3: 11.

([31]) الكليني، الفروع من الكافي 6: 246، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1367هـ ش.

([32]) الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 24: 119، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المقدسة، ط2، 1414هـ.

([33]) صحيح البخاري 5: 79، باب غزوة خيبر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1981م؛ صحيح مسلم 6: 65، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، دار الفكر، بيروت.

([34]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 16 ـ 17، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م.

([35]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، وزارة الإرشاد الإسلامي، ط2، طهران، 1403هـ.

([36]) شبلي ملاط، تجديد الفقه الإسلامي (محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم)، ترجمة: غسان غصن، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1998م.

([37]) محمد باقر الصدر، أصول الدستور الإسلامي، أساس رقم5: 40، المنشور ضمن كتاب تجديد الفقه الإسلامي (محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم)، لشبلي ملاط، ترجمة: غسان غصن، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1998م.

([38]) محمد باقر، الصدر، اقتصادنا: 725، دار التعارف للمطبوعات، ط11، 1979م.

([39]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 27، تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1996م.

([40]) المصدر نفسه، العدد 3: 23؛ وراجع أيضاً: نفس المقال: 12 و26 و27.

([41]) المصدر نفسه، العدد 3: 19.

([42]) محمد باقر الصدر، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، الإسلام يقود الحياة: 119، وزارة الإرشاد الإسلامي، ط2، طهران، 1403هـ.

([43]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 10.

([44]) المصدر نفسه، العدد 3: 16 ـ 17.

([45]) المصدر نفسه، العدد 3: 27.

([46]) المصدر نفسه، العدد 3: 10.

([47]) المصدر نفسه، العدد 3: 26.

([48]) الاجتهاد والتجديد: 208، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1996م.

([49]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 28.

([50]) كما في الفصل الثاني من كتاب الاجتهاد والتقليد: 95؛ وكتاب الاجتهاد والتجديد: 57.

([51]) الاجتهاد والتجديد: 57، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1996م.

([52]) مجال الاجتهاد ومناطق الفراغ التشريعي، مجلة المنهاج، العدد 3: 12 ـ 13.

([53]) عبد الرزاق الجبران، منطقة الفراغ، إطار العنصر المتحرك، مجلة الوعي المعاصر، العدد 2: 95، 2000م.

([54]) المصدر نفسه: 98.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً