أحدث المقالات

د. فتحية فتاحي زاده(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

مقدمة ــــــ

لقد تبلورت الخرافات وأخذت رونقها وتعددت ألوانها وأشكالها عبر تاريخ الثقافة البشرية، وفي الخصوص في مرحلة ما بات يعرف بالعصر الجاهلي. ولايزال العصر الحاضر يعرف تواجداً للخرافات والأفكار والمعتقدات الخرافية، حتى في الدول التي تعيش تطوراً صناعياً وتكنولوجياً، حيث العلم قد بلغ من الرقي مكانة عظيمة. يظهر هذا من خلال نظرة إلى ثقافات وعادات تخالف كل موازين العقل والتعقل في تلك الدول. وهذا يشير إلى أنه متى ما تطور العلم، ولم يرافقه تطور ونمو في التفكر العقلي، فإن ذلك سيكون سبباً في تشوق الناس إلى الخرافات. فسوق الشعوذة مزدهر بكل ألوانه في الدول المتقدمة، حيث العرافون، والرمّالون، وقارؤو الكف، ومَنْ هم على شاكلتهم كثير، سوقٌ بضاعته لا تعرف كساداً ولا أزمةً([1]).

في ما يخص موضوع المرأة والمعتقدات الخرافية هناك استفهامات مبدئية لابدّ من طرحها. ومن جملتها: ماهية الخرافة، ما هي الأشياء المثيرة والملفتة للنظر في الخرافات حول المرأة؟ كيف تعامل الإسلام مع هذا النوع من الخرافات؟ هذا ما سيحاول هذا المقال الإجابة عنه بكل علمية وموضوعية.

 

ماهية الخرافة ــــــ

 الخرافة تعني في العرف اللغوي «الفاكهة الفاسدة». أما علماء اللغة فيقولون: إن أصلها يرجع إلى اسم شخص من قبيلة تدعى «عذرة»، استهوته الجنّ، فكان يحدِّث قومه بما يرى، لكن لا أحد كان يستقبل كلامه بالرضا والقبول، بل كانوا يكذِّبونه، ويقولون: «هذا حديث خرافة، وهو حديث مستملح كذب»([2]). بل إن بعض كتب اللغة تذكر أن العرب كانت تطلق اسم الخرافة على كل كلام باطل، وعديم الفائدة، والكلام المضطرب، والأسطوري([3]). من هنا فإن الخرافة هي المعتقدات الباطلة التي لا تقوم على أساس منطقي وواقعي، وهي تعادل في الإنجليزية كلمة Superdtition([4]).

إن إعطاء تعريف يتوافق وكل الأديان والثقافات مسألة غير سهلة. ولابد من القول: إن هناك من الاتجاهات الأيديولوجية من ترى في الأفراد المتدينين مجرد خرافيين، بينما يؤكد الواقع أن بعض هؤلاء الماديين، وبسبب عدم اعتناقهم للديانات، غير قادرين على إيجاد الأجوبة عن الكثير من الأمور التكوينية، لذلك تجدهم أكثر الناس ارتماءً في أحضان الخرافات. وفي النهاية فإن أية مجموعة ترى في أفكار ومعتقدات مجموعة أخرى أنها غير معقولة وفق معاييرها تحكم عليها بالخرافية والأسطورية([5]).

ويرى السيد الطباطبائي أن كل معتقد لا يرتكز على أسس علمية يعد خرافة، قائلاً: «إن الاعتقاد بالأشياء التي لم يتوصل العلم إلى حقيقتها وماهيتها، ولم يثبت صحتها، ولم يعرف أخير هي أم شر، خرافة محضة»([6]).

ولعل أقرب تعريف للخرافة، والذي يكون مورد قبول كل الأديان، هو القول: إن الخرافة هي الخوف غير المبرر من عوامل، وربط ظواهر حقيقية بظواهر أخرى غير واقعية وغير معلومة، بحيث يكون الرابط غير مقبول عقلاً، ولا يقوم عليه شاهد علمي أو ديني([7]).

 

من أشكال الخرافة حول المرأة ـــــــ

نظراً لاتساع رقعة الخرافات حول المرأة يمكن بشكل كلّي تقسيمها إلى مجموعتين:

1ـ خرافات على المستوى العقدي ـــــــ

المقصود بالاعتقادات الخرافية مجموعة الأفكار الوهمية التي تلحق بمباني المعتقدات. ومن الأمثلة على هذا السنخ من الخرافات:

 

1ـ 1ـ المرأة طفيلية الرجل ــــــ

لقد تحدثت العديد من الآيات الكريمة عن مسألة خلق الرجل والمرأة. وقد فهم من بعضها أن المرأة إنما خلقت من الرجل، ممّا يعني أن المرأة طفيلية الرجل، مثلها مثل تلك النباتات الطفيلية التي إنما تخرج من النبتة الأصل، ليس لها جذر، ولولا النبتة الأصل لما خرجت تلك الطفيليات. ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا…﴾ (الزمر: 6)، فخلق الزوج ـ حسب هذه الآية ـ جاء بعد أن خلق النفس الأولى. وكذلك الأمر على مستوى الأحاديث، حيث يوجد نوعان من الأحاديث بلحاظ تناولها لمسألة خلقة المرأة:

الأولى: وهي الروايات التي تتحدث عن أن المرأة خلقت من ضلع الرجل الأيسر. عن ابن إسحاق في ما وصل مثله عن أهل الكتاب، وما أسند من طريقه لآخرين، كابن عباس، يقول: إن الله سبحانه وتعالى سلط النعاس على آدم، فأخذ ضلعاً من ضلعه الأيسر، ووضع بدلها كومة لحم…، إلى أن خلق من ضلعه حواء»([8]).

مثل هذه الروايات تتطابق كلياً مع ما جاء في التوراة. ففي المقطع الثاني من سفر التكوين: إن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أخذ ضلوعه اليسرى، ومنها خلق امرأة، وأتى بها إلى آدم، الذي قال: هذه تلك التي عظامها من عظامي، ولحمها من لحمي، لذلك سميت «نساء»؛ لأنها خلقت من الإنسان([9]).

ولم يقتصر هذا الاعتقاد في مسألة خلق المرأة على تفكير العوام، بل توسع ليشمل الشعر والأدب، فقد أنشد الشاعر «جامي» يقول:

المرأة من ضلع أيسر خلقت ومن كان من اليسار أبداً لن يكون ميمناً

وكذلك وجد في شعر النظام قوله:

المرأة من الجانب الأيسر قيل: قامت وأبداً لن يكون اليسار يميناً([10])

الثانية: وهي مجموعة من الروايات التي أنكرت أن تكون المرأة قد خلقت من ضلع الرجل، بل انتقدت هذه الأفكار، وفنَّدتها. ومن جملتها:

عن زرارة: إن الإمام الصادق× سئل عن مسألة خلقة حواء، وحول ما يتردَّد على ألسن العوام من أن حواء خلقت من آخر ضلع آدم الأيسر، فأجاب الإمام×: تنزه الله عن ذلك. بل أضاف كلاماً آخر، أعظم وأجلّ، حين قال×: هل يعتقد مَنْ قال ذلك أن الله لا قدرة له على خلق حواء إلا أن تكون من آدم؟ وإن قولهم ذلك مقدمات حتى يُقال فيما بعد: إن بعض أجزاء آدم تزوجت ببعضها. وبعد ذلك قال×: إن الله سبحانه وتعالى قد خلق آدم من طين، وأمر الملائكة أن تسجد له، إلى أن استولى النوم على آدم، بعد ذلك خلق الله حواء خلقاً جديداً([11]). فيلاحظ أن هذه الرواية اعتبرت قصة خلق حواء من ضلع آدم لا صحة لها، بل تحدثت عن أن خلق حواء خلق وإبداع جديد. من هنا يتم ترجيح هذه الروايات. وبلحاظ كونها تتفق ومضامين الآيات القرآنية إذاً فشبهة تأخُّر خلق المرأة رتبة عن خلق الرجل، وكذا ضعف شأنها، مسألة باطلة مطلقاً وضرورةً، وخصوصاً أن «ثم» في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ لا تعني التأخر الرتبي أو المقامي، بل تعني التأخر الزمني. فما ذهب إليه البعض من أن «ثم» في الآية السالفة تعني التأخر في الرتبة والمقام، وأن المرأة مخلوق من الدرجة الثانية، ومقامها يأتي متأخِّراً عن مقام الرجل، وهو في أحسن الأحوال تابعٌ له، مفهومٌ باطل، وفاقدٌ لأيّ دليل نقلي أو عقلي. فالقرآن الكريم أكَّد أن أول ما خلق الله آدم وحواء، وأنهما من أصل وجوهر واحد. قال تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً…﴾(الشورى: 11). وقد كتب الأستاذ الشيخ مطهري في هذا الصدد قائلاً: «لا يوجد في القرآن ما يشير إلى ما تردده بعض الكتب المتحيِّزة لفئة أو مذهب من أن المرأة خلقت من عنصر أقل شاناً من العنصر الذي خلق منه الرجل، أو أن المرأة طفيلية الرجل ويسراه (نسبة إلى ضلعه الأيسر)، وأنها خلقت من عنصر أخذ من الأعضاء اليسرى لآدم×. فهذا كله كلام يفتقد إلى دليل. فما تحمله نظرتهم تلك من احتقار لسجية وطينة المرأة مناقض تماماً لما جاء به الإسلام»([12]).

وفي النتيجة فإن ما تحمله الآيات والأحاديث المعتبرة من حقائق تتلخص في:

1ـ إن آدم وحواء كلاهما خلقا من عنصر واحد (من تراب، من طين…).

2ـ كما أن خلق آدم إبداع إلهي وخلقة جديدة فكذا حواء، خلقها إبداع إلهي وخلقة جديدة.

3ـ حتى لو ثبت أن الله سبحانه وتعالى قد خلق حواء من آدم فهذا فقط يجعلها طفيليته على المستوى المادي، الجسمي، أما حقيقتها، وهي الحقيقة النوعية، فشيء غير المادة.

 

1ـ 2ـ المرأة عنصر المعصية ـــــــ

طوال المسيرة التاريخية للبشرية ساد اعتقاد بأن المرأة عنصر المعصية، وعامل انحطاط نسل البشرية. أول مَنْ أسَّس لهذا الاعتقاد الخرافي اليهودية والمسيحية. ففي العهد القديم في سفر التكوين: «وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: «أحقاً قال الله: لا تأكلا من كلّ شجر الجنة؟» فقالت المرأة للحية: «من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه، ولا تمسّاه؛ لئلا تموتا فقالت الحية للمرأة: «لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر». فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها، وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها، فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مئزراً. وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم: «أين أنت؟»، فقال: «سمعت صوتك في الجنة، فخشيت؛ لأني عريان، فاختبأت»، فقال: «مَنْ أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟» فقال آدم: «المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة، فأكلت»، فقال الرب الإله للمرأة: «ما هذا الذي فعلت؟»، فقالت المرأة: «الحية غرَّتني، فأكلت»، فقال الرب الإله للحية: «لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين، كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه». وقال للمرأة: «تكثيراً أكثر إتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك». وقال لآدم: «لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها، ملعونةٌ الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود». ودعا آدم اسم امرأته «حواء»؛ لأنها أم كل حي. وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد، وألبسهما. وقال الرب الإله: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل، ويحيا إلى الأبد». فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة. فكتاب اليهود يحمِّل حواء مسؤولية خروجها وآدم من الجنة، ويجعلها سبباً في صدور الإثم من آدم×. لذا فاليهود في دعاء الصباح يتقدَّمون بالشكر لربهم أن خلقهم رجالاً، ولم يجعلهم إناثاً.

وقد تأثرت الكنيسة المسيحية كثيراً بأفكار اليهود، وخصوصاً أن الإنجيل هو عبارة عن قسمين: العهد القديم، وهو توراة اليهود؛ والعهد الجديد كتاب عيسى. فالديانة المسيحية هي في الأصل الديانة اليهودية، بإضافة العهد الجديد، كما أن المسيحية؛ ولطابعها الذاتي (طبعاً بعد تحريفها)، كانت سهلة التأثر بكل الفلسفات اليونانية والرومانية، وهي التي تؤمن أن حواء مصدر معصية وخطيئة آدم×، الإنسان الأول وأبو البشرية. لذا فالمسيحية تعتقد أن خطيئة ومعصية آدم× سبب في أن توجد الخطيئة في جوهر كل البشرية، فكل مولود يولد وفي رقبته المعصية، ولم يُستثنَ منها سوى المسيح الربّ وأمه القديسة مريم، وقد صلب المسيح ليخلص البشرية من تبعات تلك المعصية. من هنا فالمرأة هي السبب في انحراف البشرية، وباعث إيجاد المعصية في عنصر البشرية على وجه الأرض([13]). وليس غريباً على الكنيسة الكاثوليكية أن تتعصب أكثر في نظرتها للمرأة. يظهر هذا التعصب في كلمات الفيلسوف الإنجليزي الكاثوليكي المذهب برتراند راسل، حيث قال: «المرأة مفتاح باب جهنم، وأمّ الفساد والمعصية، والحذر الحذر من أفكارها، التي هي شرّ في ذاتها، فإن ما ألحقته من لعنة بهذا العالم أوجب عليها أن تفني عمرها في البكاء وطلب التوبة. عليها أن تخجل من لباسها، فهو ذكرى سقوطها، وعليها أن تخجل أكثر من أنوثتها؛ لأن أنوثتها أعظم وسيلة بيد الشيطان»([14]).

يرى الشيخ مطهري أن منشأ اعتبار المرأة مصدر الخطيئة كان ولا يزال المسيحية: «كانت المسيحية مصدر ورود أفكار خاطئة إلى الفكر الديني العالمي، وهي أفكار؛ لعظمة جنحها، تعد خيانة في حق البشرية (عدم زواج النبي عيسى×، واقتداء القساوسة والرهبان به). فقد أسسوا لظهور فكرة أن المرأة عنصر المعصية. فالمرأة هذا الشيطان الصغير الذي هو دائم التربص بالرجل، توسوس له؛ لتوقعه في الخطيئة، بدون كلل أو ملل. وقالوا: قصة آدم والشيطان وحواء بدأت حين لم يقدر الشيطان على إغواء آدم والإيقاع به، وسهلت عليه حواء ذلك، فقد أغواها الشيطان، وأغوت بدورها آدم، الذي استعصى على الشيطان، واستجاب لها»([15]).

وانتشرت تلك الأفكار المغرضة، لتظهر في الآثار الفارسية المنظوم منها والمنثور. فصاحب تهافت الفلاسفة لم ينصب العداء للفلسفة فحسب، بل كانت المرأة واحدة من الأعداء، والشر الذي لابد منه. فعقاباً لها على ما اقترفته حواء في الجنة، من عدم إطاعتها لأوامر مولاها، فقد أخذت خاصيات عشرة حيوانات: «الخنزير، والقرد، والكلب، والأفعى، والبغلة، والعقرب، والفأرة، والحمامة، والثعلب، والخروف. وأجمل الصفات فيها صفة الخروف، فهي حمَلٌ وعبدٌ للرجل»([16]). ومولوي الشاعر العارف هو الآخر أدلى بدلوه في تثبيت تلك المعتقدات، التي لم ينزل الله بها من سلطان، حيث قال:

كم سعى إبليس لإغواء آدم فاستعصـــم
لكن أغواه بحواء فسرعان ما أجاب ولم يتأخر
أول دم سال وأول ظلم في العـــــــــــــــالم
كـان بكـــف قابيل؛ لخاطر امرأة
نوحٌ كم تعب في صنع المشواة (كناية عن مشواة غذاء الروح)
وكانت زوجه ترميها بالحجــــــــــــــــــــــارة
كان يسير بين الناس يعظهم لعلهم ينوبوا تائبين إلى ربهم
وكانت زوجه تقف خلفه تكذِّب قوله
وكانــــــــــــــــت تحــــــــــــــــــــث قومــــــــها خــفية
أن تشبَّثوا بدينكم ولا تركنوا لضلال نوح([17])
 

لكن شتان ما بين قول هؤلاء جميعاً وبين ما قاله القرآن، خطاب الله إلى الأفهام. فالشيطان هو مَنْ أغوى آدم وحواء، ولم يجعل الشيطان حواء طعمه مطلقاً، بل وسوس برجله وخيله لهما سوياً. وقد أتت قصة إغواء إبليس لآدم× وحواء في سور عديدة من القرآن الكريم: البقرة، والأعراف، وطه، وعبَّر عن آدم وحواء بضمير التثنية أربعين مرة، ممّا يعني أن وسوسة الشيطان كانت لهما معاً وسوياً. لذا استبعدا معاً من المحضر الإلهي. والملاحظ أن التوراة قد اعتبرت أن ما تتحمله المرأة من متاعب أثناء فترة الحمل وأثناء الوضع هو مجازاة تكوينية لها على ما اقترفته حواء ـ بحسب زعمهم ـ في إغواء آدم وإخراجه من الجنة. فلأجل ذنب حواء على النساء أن يتحمَّلنه. فالله ـ حسب التوراة ـ جعل عقاب حوّاء في أعناق النساء، بحيث يقول: أنتِ؛ ولأنك أغويتِ عبدي، فعليك أن تعاني مرارة الألم في الحمل، وأن تذوقي الأمرّين عند الوضع، وأن تري بأم عينك الموت؛ عقاباً لما فعلته حواء بآدم([18]).

و من الأعمال الواجبة عند اليهود أن يوقدوا الشموع ليلة السبت، أو ما يسمونه «شبات»، ويقولون: «على النساء أن يوقِدْنَ شموع شبات؛ لأن حواء أغوت آدم حتى سقط في الخطيئة، وأكل من الشجرة المحرَّمة، فعصى ربه. فمعصية حواء أطفأت أول سراج في حياة البشرية. لذا إيقاد الشموع في شبات خطوة في التكفير عن تلك الخطيئة، وإقامة أعمال تلك الليلة توقد نور الإيمان في القلوب، وتخفِّف من معاصي النساء»([19]).

كذلك جاء في الإنجيل أن ألم المخاض هو في الحقيقة مجازاة تكوينية على أول معصية: «لأجل تضليل آدم فالربّ عاقب حواء بآلام المخاض، وما إن تضع حتى تتخلص من تلك المجازاة إذا ثبت قلبها على محبة الرب وقدسيته وتقواه»([20]).

أما طبقاً للأسس القرآنية فإذا كانت هناك مجازاة لترك آدم× الأَوْلى فإن آدم وحواء قد تلقياها سوياً، ولا تعتبر حواء مسؤولة عن ترك آدم للأَوْلى. وفي الإسلام لا تعدّ آلام الحمل والمخاض مجازاة، بل يراها أحد عوامل الاستكمال التي سنها الله للمرأة، وإحدى المنح الإلهية التي بها ترقى المرأة المؤمنة مسالك الكمال، وتحظى بالتوفيقات الإلهية.

 

1ـ 3ـ تشييئ المرأة واعتبارها مجرد آلة ـــــــ

دأبت العرب في الجاهلية على اعتبار المرأة مجرد وعاء ليس له في ذاته أية قيمة، وإنما قيمته بما يعيه ويحتويه. و لذا كانوا يردِّدون: «وإنما الأمهات أوعية». نفس هذا التفكير يجد جذوره في الفكر اليهودي. ففي العهد القديم: «وُلْيه، وبعد أن وضعت مولوداً سادساً قالت: الآن سيعاملني زوجي باحترام؛ لأني أنجبت له ستة أولاد ذكور. ولهذا سيلقبها «زبولون»، التي ترمز إلى الاحترام في ثقافتهم»([21]).

لكن الإسلام نظر إلى تلك الأفكار بأنها وليدة الخرافات، ولم يرَ في المرأة أنها مجرد وعاء، عمله محصور في حفظ ما استودعه صاحبه فيه، وإنما اعتبرها أرضاً خصبة ثمرتها الإنسان، وقال في القرآن الكريم: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ…﴾(البقرة: 223)، أي إنها مزرعة وغيط خصب تؤتي أكلها بإذن ربها.

وربما يعترض البعض على هذا التعبير القرآني، الذي اعتبر الرجل مزارعاً، والمرأة مجرد مزرعة، متى شاء أخذ حظّه منها.

رأى السيد قطب أن هذه الآية جاءت لتبين هدف العلاقة الجنسية، فهو يعتقد أن التعبير بكلمة «حرث» إشارة إلى التوالد وزيادة النوع، فلا تكون العلاقة الجنسية من أجل إشباع قوى النفس ورغباتها الشهوية، التي تعني الجانب الروحي، ممّا يعني أن العلاقة بين الزوجين ليست قائمة فقط على الاحتواء النفسي والروحي، بل هناك احتواء مادّي يتجلّى في إبقاء النوع البشري وحفظه؛ لأن بقاء النوع البشري لا يتمّ إلا بالتناكح والتناسل. ولهذا عدت نظرة الإسلام الكونية متكاملة، لم تهمل جانباً لحساب جوانب أخرى»([22]).

أما العلامة السيد الطباطبائي فقد نظر إلى هذه الآية بعين أكثر جمالية، وقال: «إن نسبة النساء إلى المجتمع الإنساني نسبة الحرث إلى الإنسان، فكما أن الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور، وتحصيل ما يتغذّى به من الزاد؛ لحفظ الحياة وإبقائها، كذلك النساء يحتاج إليهن في بقاء النسل ودوام النوع؛ لأن الله سبحانه جعل تكون الإنسان وتصوُّر مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال، وفيهم بعض المادة الأصيلة، مائلة منعطفة إليهن، وجعل بين الرفيقين مودّة ورحمة…﴾.

يتناسب هذا والقول بأن المرأة محل تجلي الفعل الإلهي وصيرورته. فخلق الإنسان ونفخ الروح فيه فعلٌ إلهي، لذا لا يكون رحم المرأة مجرد وعاء يحمل كتلة مادية، بل تنفخ الروح فيه، وهو جنينٌ في رحم أمه، فاستكماله الأول والأصل هو في داخل أحد أعضاء المرأة، يتغذّى منها، ويستنشق نفس الحياة فيها، خصوصاً إذا ما أضفنا ما توصلت إليه الأبحاث العلمية في الميدان، والتي تؤكد على عظمة المرحلة التي يكون فيها الإنسان جنيناً، انطلاقاً من أبحاث ميدانية، فإن تلك المرحلة من عمر الإنسان حاسمة ومصيرية في تكوين شخصيته فيما بعد، وشخصيته تعني روحيته، مما ينفي الشيئية والظرفية عن المرأة، ويجعلها ذاتاً فاعلة بامتياز. ومن جهة أخرى فالكون أراد له الله سبحانه أن يتكوَّن من زوجين، فلولا المرأة ما كان النوع البشري، ولانقطع، وانقطاعه يعني فناءه. لذا عبَّر عنها في الآية الكريمة بالحرث، تتلقى البذرة، تغذّيها، تضيف إليها عناصر الرشد والنمو، لتثمر إنساناً.

 

1ـ 4ـ وأد الإناث وشم عار على جبين التاريخ ـــــــ

عرفت قبيلة بني تميم([23]) في فترة ما قبل الإسلام بوأدها البنات. فكان الآباء لا يتورَّعون عن دفن بناتهم تحت التراب وهنَّ أحياء، لا لذنبٍ سوى أنهم يخشون العار المحتمل، أو الفقر الآتي. ورغم أنه ليس لهذه الظاهرة أساس عقلي، أو حتى إنساني، وكانت سائدة عند بعض قبائل العرب، فقد تعاطى القرآن معها على أنها ظاهرة شؤم وعار دنيوي وأخروي. ويظن بعض المحقِّقين أن هذه الظاهرة، التي تتجاوز كل معايير الإنسانية، لم تكن من اختصاص عرب الجاهلية فحسب، بل كانت منتشرة في العديد من مناطق العالم، كمصر، واليونان في بلاد الروم، وقبائل في أوستراليا…، حيث ترجع إلى خلفيات اعتقادية ترى أن الأنثى محل حلول الأرواح، وأن الإناث يجلبن الفقر والفاقة والعار([24]).

لكن المتفق عليه أن عادة وأد البنات ترجع إلى حالة البداوة والتخلف التي عمَّت في القرون الوسطى. فقد تضرعوا بعلل وحاجات مختلفة بها لوأد الإناث، والإبقاء على الذكور. فالصينيون يرَوْن في إنجاب الأنثى عدم رضا روح الأجداد عن الأب، فهم يشيرون إلى عدم رضاهم بالأنثى، وعلى الأب أن يتنبَّه لذلك([25]).

و في تاريخ صدر الإسلام يذكر المؤرِّخون قصة «صعصعة بن ناجية»، وأنه بعد إسلامه قدم إلى رسول الله|، وقال: لقد قمت في الجاهلية بأعمال، وأريد أن أعرف إنْ كان لي بها أجرٌ ومنفعة أخروية، قال|: وما كان ذاك الفعل؟ فقال: ضاع مني يوماً في الجاهلية ناقتان، وكانتا حاملتين، فركبت ناقتي، وخرجت إلى الصحراء أبحث عنهما، حتى وقفت على خيمة، وكان رجل جالس على بابها، فسألتُه إن كان يعرف عن الناقتين شيئاً، فأجابني أنه وجدهما، وأنهما في حصنه. وبينما هو يحدثني طلعت امرأة عجوز من الخيمة، وتوجه إليها الرجل بالسؤال: ماذا وضعتِ؟ وقبل أن تجيب العجوز استرسل قائلاً: إن كان ولداً فهو شريك مالي وحياتي ووارثي، وإذا كان أنثى دفنتُها حية، فقالت العجوز: إنها أنثى. قال صعصعة: إنه لم يعرف ما حلّ به حينها، فسرعان ما انقلب وجدانه، ووجد نفسه تلح عليه، فما كان منه إلا أن بادر الرجل بالقول: هلا بعتني تلك البنت؟ فأجابه الرجل: لم أسمع أن العرب يبيعون أولادهم؟! فقلت له: بل أبدلنيها مقابل عطية ومنحة، أعطنيها مقابل ناقتيّ اللتين عندك وهذه التي أركبها، فقبل الرجل، فأعطيته الناقة التي أركبها، والأخرتين، وأخذت البنت إلى حاضنة، وأصبحت تلك عادة تمسَّكْتُ بها، ولم أتركها، وقد وصل مَنْ عتقتهنّ من ظلمات القبر مائتين وثمانين مولودةً، مقابل ثلاث نياق للواحدة، فقال له النبي الأكرم|: إن عمله فتح عليه أبواب الخير، وإن الله سيجازيه، وإن الله لعمله ذاك قد وفَّقه لنعمة الإسلام([26]).

محاربة الإسلام لظاهرة وأد البنات ــــــ

لقد كشف القرآن النقاب عن هذه الظاهرة الجاهلية، وفضح هذه الخرافات والعادات التي تسلب الإنسان طابع التعقل. ففي الآيتين 58 و59 من سورة النحل كشف ما كان يشعر به الرجل تجاه الأنثى، والتي تبين في أدنى معاييرها انفصام الشخصية، وتناقض القيم التي يعتمدها. ففي حين يدَّعي الكرم، وإقراء الضيف، وحماية المستجير…، إذا ما بُشِّر بأنثى ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم، تتجاذب فكره وساوس الشيطان وأوثان الجاهلية، أيدسّها في التراب، أم يمسكها ويقبل العار والذل، ويستعد للفقر والبلوى؟!([27]).

بل تجاوز الخطاب القرآني الجانب الدنيوي لهذه الظاهرة، ليقول في سورة التكوير: إنها واحدة من أهم ما يسأل عنه يوم القيامة، وعقابها عسير.

ولم تتوقف حالة الردع وإعلان الحرب على هذه العادة، التي فاقت كل أوصاف البداوة والنذالة، بل تابع المسير النبي الأكرم|، فقد أراد الله أن يتجسَّد الموقف القرآني عملياً في النبي المصطفى|، فحين رزقه الله بنتاً نظر إلى القوم ليرى علامة التشاؤم، وكأنّ على رؤوسهم الطير، فقال: ما لكم؟ ريحانةٌ أشمّها، ورزقها على الله عز وجل([28])، وليقول في موضع آخر: إن البنت هدية إلهية: نعم الولد البنات، ملطفات، مجهزات، مؤنسات، مفليات([29]).

وكم كان حزن النبي| كبيراً حين أتى إليه قيس، معترفاً أن الجهل قد سلب عقول العديد من الآباء، حتّى كانوا يدفنون بأيديهم بناتهم أحياء، وأنه لطالما اقترف هذه الجريمة، وأخذ يصف كيف سولت له نفسه أن يضع بنته في التراب، والنبي| يتألم لسماع كلّ ذلك، وعيناه تذرف الدموع، ليقول له ولكل مَنْ اقترف أو يقترف مثل هذه الجريمة في حق الإنسانية: مَنْ لم يَرحَم لا يُرحَم. توسل قيس سائلاً النبي الأكرم| كيف يكفر عن جريمته، فأمره| أن يعتق نسمةً بعدد ما وأده من الإناث([30]).

 

2ـ تسلل الخرافات إلى الأحكام والتشريعات الدينية ــــــ

لم تسلم ساحة الأحكام والتشريعات من الخرافات. فالعقل حين تحكمه الخرافات، ويستسلم إليها طوعاً، يسعى لإيجاد مذاقها في كل شيء، حتى حين تنزل التشريعات من السماء، وحيث لا مجال للخرافة، يسعى لأن يضيف ويغالي فيها. وهذا ما جرى فعلاً في الأحكام الشرعية، وبالأخص في ما يختص بالمرأة. ومن ذلك:

 

2ـ1ـ اعتزال المرأة أثناء فترة الحيض ــــــ

من العادات الخرافية التي سادت في فترة الجاهلية اعتزال الزوج المرأة الحائض، بحيث لا يجالسها، ولا يرافقها، إلى أن تطهر. والظاهر أن هذه العادات الخرافية قد تسربَّت إليهم من الديانة اليهودية. فمن المعلوم أن اليهود؛ وتمسكاً منهم بشرائعهم وتشريعاتهم التي غيَّروا وأضافوا فيها الكثير، كانوا يعتبرون المرأة الحائض نجساً، يجب عليهم اعتزالها إلى أن تطهر([31]). فالفكر اليهودي يفرض عليهم أن يعتزلوا نساءهم أثناء فترة الحيض، لا يجالسونهنّ ولا يشاركونهنّ حديثاً أو معاشرة بشكل مطلق ما دمن في فترة الحيض. فقد جاء في التوراة: إن المرأة إلى سبعة أيام بعد عادتها الشهرية هي نجس شرعاً، ومن لمس يدها ظلَّ نجساً إلى أن تغرب عليه شمس ذاك اليوم، وكل ما جلست عليه أو نامت عليه، يعني كل ما لمسته ببدنها، فهو نجس، ومن جلس أو نام في مكانها فلباسه وبدنه نجس، عليه تطهير ثوبه وغسل بدنه، وهو نجس إلى الغروب، والرجل الذي يقارب زوجته في فترة الحيض عدّ شرعاً نجساً إلى سبعة أيام، وما نام عليه من فراش حكمه النجاسة([32]).

يؤكد ويل دورانت أن المرأة خلال الفترات التاريخية الأولى كانت تتعرض للتحقير والإهانة. فالأمم الأولى كانت تختلق عدة خرافات؛ لتقلص من دور المرأة، وتوسع من دائرة ممارسة الظلم والتضييق على شخصها، وعلى مكانتها، فقد اعتبروا المرأة نجسة، ولا تجوز ملامستها. وبطبيعة الحال فإن مبتدع هذه الخرافات هم الأزواج الفاشلون على جميع الصعد، والذين يلقون بتبعات فشلهم على المرأة، انطلاقاً من أساطير وأوهام ابتدعوها؛ ليغطوا بها أزماتهم النفسية، وفي أغلب الأحيان العضوية. ولم تقتصر هذه البدع على المذاهب اليهودية، بل انتشرت بين جميع المذاهب والملل المنحرفة.

ومن أهم ما ركزت عليه الأمم السابقة؛ لنصب عدائها للمرأة، تركيزها على فترة الحيض، فقالوا: إن أيّ شيء لامسها في هذه الفترة يفقد فضيلته إذا كان إنساناً، ويفقد فائدته إذا كان غيره. فترة المخاض والوضع كذلك اعتبروها فترة نجاسة، وعليها أن تسلك بعده شعائر خاصة حتّى تخرج من فترة النجاسة تلك، وتلحق بسلك الطاهرين. وأما المقاربة الجنسية بين الزوجين فهي ليست محرَّمة في فترة العادة الشهرية فقط، بل في فترة الحمل والرضاعة أيضاً. ويحتمل أن يكون المبتدع الأول لهذه الخرافات المرأة نفسها، أرادت أن تعطي لنفسها فترة استراحة، لكن سرعان ما تناست هذه الرغبة لتصبح المرأة في عيون الملل والأقوام نجسة، حتى آمنت هي نفسها بنجاستها خلال فترة الحيض والولادة، لتتحول شيئاً فشيئاً العلاقات الجنسية من حالة طبيعية إلى حالة موجبة للحياء والأفعال الموجبة للإحساس بالذنب، وأصبحت حالة العزوف عن الزواج والرهبانية مظهر السلوك السويّ، ومظهر الطهارة البدنية والروحية. ولم تقتصر هذه الحالة على الرجال، بل لأن المرأة أصبحت تؤمن أن فترة الحمل والرضاعة والعلاقات الجنسية هي مظهر النجاسة زهدت في كلّ ذلك، ونأت بنفسها عن أن تكون زوجاً وأماً([33]).

وبعيداً عن التقييم لتحليل ويل دورنت فإن القرآن الكريم قد عد فترة الحيض فترة الأذى بالنسبة إلى المرأة، فقد قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: 222).

لقد عبر القرآن عن فترة الحيض بالأذى، وهي كناية عن حقيقة العادة الشهرية؛ لأنها حقيقة فترة تتلقى فيها أذى عضوياً، وما يترتب عليه من أذى نفسي؛ بلحاظ الترابط بين العضوي والنفسي، الشيء الذي يستدعي المراعاة الإنسانية لها، وليس مسوغاً لكي يتحول إلى عامل ضعف واحتقار واستهجان لها. فالتساؤل الذي أوردته الآية كان من أجل تبيين وتعرية حقيقة الحيض؛ فجاء الجواب بأنه «أذى»، بما يخرج الأمر عن أن يكون لها أي دخل فيه. وقد حصرت الآية أمر الحكم الشرعي في ترك المقاربة الجنسية فقط، ولم يتعرض لشخصية المرأة بشيء من التحقير، كما فعلت المذاهب اليهودية، ومن سار على دربها من زرادشتية وعبدة الأوثان.

 

2ـ 2ـ حرمان المرأة من بعض النعم ـــــــ

لقد سخر الله الكون وعالم الطبيعة للبشرية؛ كي تستفيد منها حسب الحاجة. ولم يفرق في هذا بين الرجل والمرأة. وكثيراً ما اقتصر على لفظ الإنسان إشارةً منه إلى النوع البشري الذي يشمل الجنسين، بل لم يفرق بين المرأة والرجل في أحكام الحلال والحرام، فكل ما كان تحت حكم الحلال والمباح هو كذلك للجنسين، وليس حلالاً للرجل وحراماً على المرأة. لكن في فترة الجاهلية حرمت المرأة من بعض النعم الإلهية، لا لشيء سوى لأنها امرأة، فقد كان حراماً عليها أكل لحم بعض الحيوانات. وهذا ما عبَّرت عنه الآية: ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنعام: 139).

فالآية تبين حكمهم التبعيضي والمزدوج. ففي حين يحرِّمون ما في بطون بعض الأنعام على نسائهم، ويجعلونها حلالاً لذكورهم، يتحول هذا الحكم ليشملهما معاً؛ لعدم رغبتهم فيه، إذا ثبت أن ما في بطنها ميتة. والقرآن يراه حكماً سخيفاً وباطلاً، وسيجزيهم الله سوء عملهم، فقد افتروا على الله الكذب حين حرَّموا ما أحل، وأضلّوا، فأضلَّهم الله. ولعل قول ابن عباس: إنه إذا أردتم معرفة سبب تخلف وانحراف أقوام الجاهلية فاقرأوا سورة الأنعام([34]) دليلٌ على انتهاجهم الخرافات والأباطيل في أحكامهم وعاداتهم، وادعائهم أنها من عند الله.

 

2ـ 3ـ التزويج تحت الإكراه ـــــــ

لم تكن المرأة ممنوعة من بعض النعم التي سخَّرها الله لكل البشرية فحسب، بل منعت من حقوقها، واعتبرت ملكاً لأوليائها، يقرِّرون مصيرها كما شاؤوا. منعت من أبسط الحقوق في انتخاب شريك حياتها، بكراً كانت أم ثيباً، حتى أتى الإسلام وجعل مسألة انتخاب الزوج حقاً مسلماً للمرأة، كما للرجل، لا فرق بينهما، ولا أحد يملك الوصية عليها في هذا الحق الذي يمثِّل في حقيقته الحد الأدنى ضمن الحقوق الطبيعية والقانونية التي تجب للمرأة، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(البقرة: 234)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(البقرة: 240). وقد كانت سيرة النبي الأكرم| وابنته فاطمة÷ درساً موجّهاً للآباء الذين يتسلطون على بناتهم. وفي هذا الهدف أيضاً تصبّ قصة المرأة التي قدمت إلى رسول الله| تقول: إن أباها زوجها بابن عمها من غير أن يشاورها، فأجابها رسول الله| أن انتخاب الزوج من حقها، ولها أن ترفض أو تقبل مَنْ اختاره لها أبوها، لتجيب المرأة أنها تقبل باختيار أبيها، ولكن أرادت فقط أن يعلم مثيلاتها أن لا حق للأب في انتخاب أزواجهن([35]). ويروي ابنُ عباس أن امرأة بكراً جاءت إلى النبي الأكرم| شاكيةً أباها الذي يريد إرغامها على الزواج بمَنْ لا ترضاه، فقال لها النبي|: إن الاختيار بيدها([36]). ويروى أن خذام بنت الخنساء شكت والدها، الذي زوَّجها بدون رضاها، إلى النبي الأكرم|، فردّ النبي| ذلك الزواج، وزوَّجها بأبي لبابة برضاها([37]).

 

2ـ 4ـ المرأة جزء من الميراث ـــــــ

من الأعراف الجاهلية التي سادت الجزيرة العربية قبل الإسلام أن الرجل يرث المرأة (زوجة أبيه) كما يرث تركته. فبعد أن يتوفى زوجها تصبح ضمن الإرث، وللابن الأكبر أن يرثها إن رغب فيها، أو يطلق سراحها. فلم تكن موجوداً ذا استقلالية في تحديد مصيرها([38]).

ولم تكن هذه العادة تجري بين قبائل العرب وحدهم، بل كانت واحدة من العادات المنتشرة بين أقوام عدة، كاليهود، الذين كانوا لا يَرَوْن في المرأة سوى متاع يورَث، وللوارث الاختيار في أن يتركها عنده أو أن يبيعها([39]).

لذا فالملاحظ أن مصير المرأة في الجاهلية تابع للرجل، له أن يفعل بها ما يشاء، فله أن يتخذ أرملة أبيه ـ لأن العرب في الجاهلية لم تكن تتزوج ذوات الأرحام ـ زوجة من دون أن يجري عقداً، أو يدفع لها مهراً، وأن يزوجها مَنْ يشاء، أو أن يمنعها من الزواج طوال حياتها([40]).

 

نتيجة البحث ـــــــ

من خلال تحليل وقراءة إجمالية للدستور القرآني في ما يخص نظرته إلى المرأة تبين مما يلي:

1ـ إن المرأة والرجل موجودان، يستقل أحدهما عن الآخر، وليست المرأة تابعةً للرجل في شيء، فهي ليست طفيليته.

2ـ إن أصل ووجود المرأة طاهرٌ، كما الرجل. والشيطان هو العدو الحقيقي لكلا الجنسين.

3ـ إن العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي تحكمها القيم الإنسانية، وإنما الذكورة والأنوثة هي من أجل بقاء النوع وإدامة النسل البشري فقط.

4ـ إن اعتزال المرأة مطلقاً في فترة الحيض من أفكار الدين والتفكير اليهودي، أما في الإسلام فالحيض هو أذى للمرأة، تحرم فيه العلاقة الجنسية بين الزوجين، وعلى الرجل مراعاة حالتها في هذه الفترة.

5ـ إن تحريم بعض النعم، كلحم بعض الحيوانات، على المرأة تشريع خرافي، والإسلام يراه حكماً سخيفاً وباطلاً محضاً.

6ـ إن تسلط الرجل على المرأة كان في فترة الجاهلية، وكذا انتزاع جميع الحقوق الطبيعية منها، وممارسته الوصية عليها، حتى في أبسط حقوقها في انتخاب الزوج. وقد أتى الإسلام ليعيد إليها حقوقها، ويعترف لها بحقها في انتخاب مَنْ ترضاه زوجاً لها. وفي فترة الجاهلية أيضاً كانت المرأة مجرد متاع، تملك وتورث، كما تورث الأموال، فحرَّم الإسلام هذه العادات، واعتبرها جاهلية، والمرأة المتوفى عنها زوجها حرّة في تقرير مصيرها.

إذاً فنظرة الإسلام نظرة رقيّ، وإحياءٌ للقيم الصحيحة، وتحكيمٌ للعقل في السلوك والعادات، وهي الطريق الوحيدة في الصعود بالإنسانية نحو كمالها.

 

الهوامش:

(*) باحثة في الفكر الإسلامي، وعضو الهيئة العلمية في جامعة الزهراء÷.

([1]) لوتركيغ، نداي سياه: 3؛ جاهودا، روان شناسي خرافات: 33، 37.

([2]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 25.

([3]) دهخدا، لغة نامة، مادة خرافة.

([4]) الطبري، جامع البيان 1: 267.

([5]) دهخدا، أمثال وحكم 2: 921.

([6]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 5: 4، 5؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة 14: 2.

([7]) نوري، ص 480.

([8]) جاهودا، روان شناسي خرافات: 1.

([9]) علوي نجاد، القرآن وخرافه باوري، پژوهش هاي قرآني، العدد 37 ـ 38: 250.

([10]) مطهري، نظام حقوق زن در إسلام: 147.

([11]) العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح 3: 12 ـ 13.

([12]) كري بنوات، زنان أز ديد مردان: 8.

([13]) مطهري، المصدر السابق: 147 ـ 148.

([14]) الغزالي، نصيحة الملوك: 270 ـ 275.

([15]) مولوي بلخي، مثنوي معنوي، الأبيات 4470 ـ 4474.

([16]) العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح 3: 13.

([17]) كوهن، گنجينه إي أز تلمود: 131.

([18])العهد القديم، رسالة بولس الأولى إلى تيموتائوس، الإصحاح 2: 15.

([19]) المجلسي، بحار الأنوار 103: 252.

([20]) العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح 30: 20.

([21]) السيد قطب، في ظلال القرآن 1: 242.

([22]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 283.

([23]) الألوسي، بلوغ الأدب في معرفة أحوال العرب 3: 42.

([24]) علي جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 5: 98.

([25]) السحمراني، المرأة في التاريخ والشريعة: 44.

([26]) الألوسي، المصدر السابق 3: 46.

([27]) المصدر السابق: 3: 51.

([28]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 15: 102.

([29]) المصدر السابق: 100.

([30]) الألوسي، المصدر السابق 3: 44.

([31]) دروزه، عصر النبي: 242.

([32]) العهد القديم، سفر لاويين، الإصحاح 15: 19 ـ 24.

([33]) دورانت، تاريخ التمدن 1: 84 ـ 85.

([34]) مجموعة من الكتاب، تفسير الأمثل 5: 459.

([35]) سنن ابن ماجة 1: 602.

([36]) المصدر السابق: 603.

([37]) القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 316.

([38]) رشيد رضا، تفسير المنار 4: 453 ـ 454؛ عماره، ص 75 ـ 76.

([39]) الحوفي، المرأة في الشعر الجاهلي: 257.

([40]) علي جواد، المصدر السابق 5: 535.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً