أحدث المقالات
مقدّمة
كثيرة هي الأبحاث التي تعاملت مع موضوع حد الردة إن تبنّياً أو ردّاً وفق مبانٍ معرفية مختلفة جداً بعضها عن البعض.
ونحن في هذا المقام سوف نحاول أن نجري قراءة معرفية هادئة وهادفة في نفس الوقت بخصوص موضوع حدّ الردة، حتى تكون وجهة نظرنا في الموضوع مع لحاظ أنّ ما سوف ننتهي إليه لا يمكن أن يفسر على أنه الرأي النهائي بهذا الخصوص، لأسباب على رأسها أنّ الموضوع؛ لكي يستوفي جوانبه بشكل علمي دقيق، لا بدّ من التعاطي معه فقهياً وكلامياً وفلسفياً ومعرفياً وأنتربولوجياً وتاريخياً؛ حتى نستطيع استيعاب مجموع جوانبه، وغير هذا تكميم للمشارب المعرفية، وكذا للمناهج فلا يمكن بتاتاً القول بالفصل في الموضوع.
وحفاظاً منّا على السقف المسموح به في المقالات ارتأينا الاهتمام بمعضلة جدّ حساسة وهي توبة المرتدّ الفطري ودورها في إقامة الحدّ من عدمه.
ذلك أنّ التوبة ـ وعلى مدار التأريخ الديني الإسلامي ـ شكلت نقطة محورية تتأسس عليها مجموعة من السلوكيات والأخلاقيات وكذا الزجريات، حيث أريد لها من قبل الشارع الحكيم أن تكون ملاذاً أخيراً لتجاوز الهفوات والزلاّت التي يسقط فيها المرء المتدين.
بل نجد أنّ للتوبة أثراً مهماً جدا حتى فيما يخص عقوبات بعض الحدود، حيث يُترك أمر تطبيق الحد من عدمه مرهوناً بنظر الحاكم الشرعي، والذي يكون قد عاين أثر وصدق التوبة على مقترف الكبيرة.
 

فمثلاً في حدّ الحرابة وحد الزنا يكون للتوبة دور مهمٌّ في تنفيذ العقاب من
عدمه، إلاّ أننا وعلى ـ خلاف المسار العقلائي ـ نجد أنّ أهمّ الحدود وأوثقها بحرية الإنسان في الاعتقاد تتهاتر، ذلك أنّ حدّ الردة لم يعلق تنفيذ العقاب ولو مع تحقق توبة المرتدّ، إلا أنه خصص ذلك بالمرتد الفطري لا المرتدّ الملّي.

ونحن في هذه الورقة الجد مختصرة سوف نحاول مباحثة موضوع عدم ناجعية توبة المرتدّ الفطري في عدم تطبيق العقاب، وهو إزهاق الروح <أوّلاً>، قبل أن ندلي بوجهة نظرنا في الموضوع على أساسٍ كلامي جديد <ثانياً>.
لكن قبل ذلك لا بأس من إيضاح البعد القرآني لهذا الحدث الديني أو اللاديني حسب تفصيل الارتداد، على سبيل الاستهداء في مقام البحث.
 
ماذا تحدّث القرآن عن الارتداد؟
يقول الباري جلّ وعلا في محكم كتابه العزيز بخصوص الارتداد والمرتد مجموعة أُمور نرى تعدادها على التفصيل وفق الترتيب المصحفي:
برجوعنا إلى الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بالمرتد نقفُ على أنها تتعلق بالعقاب الأُخروي ليس إلاّ، ولا تحمل أية إشارة إلى وجود عقاب دنيوي.
{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 217).
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} (آل عمران: 100).
ليس من المناسب بحث هذا الموضوع دون الرجوع إلى التفاسير التي تعاطت مع الآية الكريمة {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 251).
فالواضح من الآيات القرآنية الكريمة أن عقاب الردة هو عقاب أخروي، ولم يتم فيه تفريد عقاب دنيوي، لكن مع ذلك ليس ثمة مانع من صدور نص نبوي تشريعي لحدّ الردة، ما دام كلام النبي عليه وعلى آله أزكى الصلوات وأتم التسليم حاملاً للبذرة التشريعية الكافية لخلق منظومة عقابية أرضية، والتي هي بالضرورة ثمرة وحي من نوع آخر ولها إلزاميتها بنص القرآن {ما آتاكم به الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (الحشر: 7).
 
السنّة الشريفة ومعالجة إشكالية الارتداد
ولذلك لا بأس من أن نمرّ، إلى بحث السقف الروائي بوصفه الجسم التشريعي الوحيد الذي تعاطى مع الردة تعاملاً اجتماعياً زجرياً، جاعلاً لها عقوبة سريعة المفعول.
 
أولاً: عدم ناجعية التوبة في المرتد الفطري
ذهب الفقه الإمامي القديم في أغلبه إلى أن <المرتد على ضربين: مرتدّ ولد على فطرة الإسلام، فهذا لا يقبل إسلامه، ومتى ارتد وجب قتله، والآخر كان كافراً فأسلم، ثم ارتد فهذا يستتاب فإن رجع وإلاّ قتل>([1]) هذه كانت الخلاصة الفقهية التي وصل إليها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي، وهو ما نحا إليه أغلب التوجه الفقهي الإمامي إن لم نقل كله.
وقد اعتمد الفقهاء عدداً من الروايات التي تؤكد هذا الطرح، وهي أنّ المرتد الفطري يقتل بدون استتابة، فـ >عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن العلا بن رزين، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر× عن المرتد، فقال: من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد| بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويقسم ما ترك على ولده>([2]).
وفي رواية أُخرى <عن سهل بن زياد نفسه، وعن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمداُ نبوته وكذبه، فإنّ دمه مباح لكل من سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتدّ، فلا تقربه، ويقسم ماله على ورثته، وتعتدّ امرأته عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه>([3]).
والكثير من الروايات تنحو هذا المنحى.
لكننا في نفس الوقت نجد مجموعة من الروايات تؤكد على الاستتابة، وكلها مروية عن فترة أمير المؤمنين×، فـ <عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله×: إنّ رجلاً من المسلمين تنصّر فأُتي به أمير المؤمنين×، فاستتابه فأبى عليه فقبط على شعره ثم قال: طؤوا عباد الله، فوطئ حتى مات>([4]).
وثمة حديث آخر مشابه للأول مروي <عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر× قال: أتي أمير المؤمنين× برجل من تغلب قد تنصّر بعد إسلامه، فشهدوا عليه فقال له أمير المؤمنين×: ما يقول هؤلاء الشهود ؟ قال: صدقوا، وأنا أرجع إلى الإسلام، فقال: أما أنك لو كذبت الشهود لضربت عنقك، وقد قبلت منك، فلا تعد، وإنك إن رجعت لم أقبل منك رجوعا بعده>([5]).
<وعن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمان، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله× قال: قال أمير المؤمنين×: <المرتد تعزل عنه امرأته ولا تؤكل ذبيحته ويستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل يوم الرابع>([6]).
إلاّ أنّ شيخ الطائفة يستدرك على هذه الروايات مصرحاً بأن <هذه الأخبار لا تنافي الأولى في أنّ المرتد لا يستتاب؛ لأن الأخبار الأُولى متناولة لمن ولد على فطرة الإسلام ثم ارتد، فإنه لا تقبل توبه ويقتل على كلّ حال، والأخبار الأخيرة متناولة لمن كان كافراً ثم أسلم ثم ارتدّ بعد ذلك فإنه يستتاب فإن تاب فيما بينه وبين ثلاثة أيام وإلاّ قتل، وقد فصّل ما ذكرناه أبو عبد الله× في ما رواه عمار الساباطي عنه وقد قدمناه>([7]).
فالواضح أنّ العلامة الطوسي عمل على توجيه الروايات المتعلقة بالاستتابة على اعتبار أنها تهم المرتد الملّي، وليس المرتد الفطري.
وما سوف نسعى إلى بحثه على مستوى سقف الرواية هو معاينة هل يصح مثل هذا التوجيه في المضمون وفي التشخيص.
1 ـ في ما يخص الرواية الصادرة عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله×: <إنّ رجلاً من المسلمين تنصرّ، فأُتي به أمير المؤمنين×، فاستتابه فأبى عليه فقبض على شعره ثم قال: طأوا عباد الله فوطئ حتى مات> يمكننا ملاحظة مسألة جد مهمة، وهي أنّ المسألة تتعلق بمسلم تنصّر، ومضمون الرواية لا يحمل أية أمارة على أنّ هذا المسلم كان على الكفر سابقًا، بل هي قائمة على عموم مسلم تنصّر، فلا يتيسر توجيه هذه الرواية إلى أنّ المسألة تتعلق بمرتدّ ملّي.
والرواية صحيحة السند، ذلك أنّ أحمد بن محمد، مشترك بين جماعة من الرواة، وعلي بن الحكم بن الزبير النخعي الأنباري قال عنه النجاشي: <أبو الحسن الضرير، مولى، له كتاب>، وقال الطوسي: <الكوفي ثقة جليل القدر له كتاب> وعدّ الطوسي أيضاً في رجال الرضا والجواد‘ له أكثر من 1462 رواية في الكتب الأربعة.
أما موسى بن بكر ففي ترجمته قال النجاشي: <موسى بن بكر الواسطي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن‘، وعن الرجال، له كتاب يرويه جماعة>، ذكره الطوسي في الفهرست، وروى كتابه بسند صحيح عن ابن أبي عمير، وصفوان، عنه، وعده في رجال الصادق والكاظم‘، قائلاً: <الواسطي أصله كوفي، واقفي>، روى عنه بسند صحيح ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي وبعض أصحاب الإجماع، ولذلك وثقه بعضٌ، ووصف حديثه بالصحة العلامة في المختلف، واعتمد السيد الخوئي في توثيقه على شهادة صفوان بأن كتاب موسى بن بكر ليس فيه اختلاف عند أصحابنا>.
الفضيل بن يسار (وليس الفضل بن يسار) ثقة.
2 ـ في ما يخص الرواية الصادرة عن أبي علي الأشعري عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر× قال: أتي أمير المؤمنين× برجل من تغلب قد تنصر بعد إسلامه، فشهدوا عليه فقال له أمير المؤمنين×: ما يقول هؤلاء الشهود ؟ قال: صدقوا وأنا أرجع إلى الإسلام فقال: أما أنك لو كذبت الشهود لضربت عنقك وقد قبلت منك، فلا تعد، وإنك إن رجعت لم أقبل منك رجوعاً بعده> فهذه الرواية يمكن التساهل معها والقول بأنها تخصّ المرتد الملّي؛ لأنّ الأمر يتعلق بشخص تنصّر بعد إسلامه، إلاّ أنّ هذا التساهل في الفهم لا يمكن أن يقوم في موضع الدماء؛ لأنّ الجري اللغوي أن نقول بأنّ زيداً من الناس قد تنصّر بعد إسلامه، دون أن نقصد أنه ملّي سابق، بل المتبادر أنّ إسلامه فطري، لكننا لن نمحص في هذه الرواية كثيراً.
أبو علي الأشعري هو نفسه أحمد بن إدريس، قال عنه النجاشي والطوسي: <أبو علي الأشعري القمي، كان ثقة، فقيهاً في أصحابنا، كثير الحديث، صحيح الرواية، له كتاب النوادر، مات سنة 306 هـ بالقرعاء من طريق مكة على طريق الكوفة>، ذكره الطوسي في رجال العسكري×، وفي من لم يرو عنهم^، له أكثر من 282 رواية في الكتب الأربعة.
أما محمد بن سالم فهو محمد بن سالم بن عبد الحميد، وهو من رجال الإمام الجواد×، ذكره الكشي في جماعة، وقال: <هؤلاء كلهم فطحية، من أجلة العلماء والفقهاء والعدول وبعضهم أدرك الرضا×، وكلهم كوفيون>.
وأما أحمد بن النضر الخزاز (أبو الحسين الجعفي)، فقد قال عنه النجاشي: <كوفي ثقة>، ذكره الطوسي أيضاً في الفهرست، قائلاً: <له كتاب، روى عنه البرقي محمد بن خالد وإبراهيم بن هاشم>.
وأما في ما يخص عمرو بن شمر، فبالرغم من تضعيف النجاشي له، إلاّ أنّ التضعيف لا يضرّ ما دام الأمر ملتبساً بشكل كامل على العلامة النجاشي، فقد قال عنه الطوسي <له كتاب>، وذكره أيضاً في رجال الباقر والصادق‘، وروى عنه في كامل الزيارات وتفسير القمي، ووثّقه المحدث النوري في المستدرك لأجل رواية خمسة من أصحاب الإجماع والأجلاء عنه واعتماد المفيد عليه، مما يجعل من المحصلة أن عمرو بن شمر ثقة.
وأما في ما يخص جابر بن يزيد الجعفي فهو ثقة معتبر في المذهب، فقد قال عنه الكشي: <إنّ الرجل لا بدّ عده من الثقات لما ذكر، ولقول الصادق سلام الله عليه في صحيحة زياد: إنه كان يصدق علينا >، وهذه تكفينا مؤونة الاستدلال أكثر، فالرجل ثقة معتبر الرواية.
فالحديث صحيح السند، وإلاّ فإنه يتنزل إلى الحديث الحسن، وكلاهما في موطن الاعتبار في مقام الاستدلال.
3 ـ وفي الرواية الثالثة الصادرة عن سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمان، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله× قال: قال أمير المؤمنين×: المرتد تعزل عنه امرأته ولا تؤكل ذبيحته، ويستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلاّ قتل يوم الرابع> تفيد وقوع العموم في الحكم دونما تفرقة بين الملّي والفطري، فلا نفهم كيف عمل شيخ الطائفة الطوسي على توجيه مضمون هذه الرواية إلى تعلقها بالمرتد الملّي، مع أنّ النص جاء عاماً دونما تحقق ما يخصصه.
 
المناخ العام ودوره في تكوين عقوبة الارتداد، الفهم التاريخي للنصوص
ولن ندخل في بحث اعتبار هذه الرواية؛ نظراً لتضارب الآراء بشكل قوي الذي يعرفه سهل بن زياد.
ما أحببنا الإشارة إليه هو أنّ الفقه الإمامي تعامل مع مجموعة من الروايات مغلباً إحداها على الأخرى دون أن ينتبه إلى الفترات الزمنية التي تخصها، وانعدام التحقيب الفقهي هو من أخطر الأمور التي يعاني منها الفقه الإسلامي على عمومه.
وما نقصد بالتحقيب التاريخي الفقهي هو النظر إلى الإطار العام الذي كانت تمرّ به الأمة الإسلامية والتي على ضوئها كانت تصدر أقوال الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، لأنّ التمعير في العقوبات تظل غير متيسرة، وهو ما قد يراه البعض الآخر بدوران الزمان والمكان في المجال الفتوائي، لكن هذا خلاف ما نراه في ما يخص التحقيب الفقهي، فمدار البحث ليس هو عامل الزمان والمكان في الاجتهاد الفقهي، لأنّ مدماكاً كهذا يظل مسلماً به، لكن ما نقصده بالتحقيب هو التركيز على التمعير الحكمي الشرعي في مظان معينة، أي أنّ الحكم الشرعي يعرف شرائح عدة تدور مع مجموعة من المظان، كالثقافة الدينية والشرعية للمرتد، والإطار النفسي الذي يمتح منه المرتد، والإطار الاجتماعي الذي يتحرك فيه والجو الديني العام وطريقة تكوين العقيدة عنده.
بمعنى أنه لا يمكننا أن نقف أمام زيد نقول: بعقله وفطرة إسلامه ارتد فنقتله بدون استتابة، في جو يعرف انجرافاً فكرياً مادياً إلحادياً والمجتمع ينحو نحو التغربن شكلاً وسلوكاً، فمن المؤكد أن ارتداد زيد ناتج عن هذا الجو العام، والذي لا يمكنه بتاتا أن يكون دافعاً للمساءلة الإسلامية، هذه على الأقل تظل من أبجديات تطبيق الحدود في الإسلام، وهو تحقق أشراط تطبيقها من ذيوع جو إسلامي وانعدام المؤثرات السلبية على الأقل وفق القنوات العامة لتصريف الأفكار. وإلاّ فإنّ تطبيق الحدّ دون استتابة يكون انتكاسة أنطولوجية خطيرة تهدد الوجود الديني نفسه.
فالتحقيب الفقهي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار موارد صدور الدليل الشرعي، وفي أي إطار تمّ ذلك، ثم بعدها يتم استخلاص الأحكام الشرعية الدائرة مع تغير الأوضاع، مما يجعل من الأحكام الشرعية متكثرة حول الموضوع نفسه.
بمعنى أنه لا نقول بتعليق الحكم الشرعي لانتفاء شروط تطبيقه، بل نقول بتكثر الأحكام الشرعية مع تلك الشروط، فنقول مثلاً: الحد بدون استتابة في الإطار <أ> والحد باستتابة في الإطار <ب> وعدم تطبيق الحد في الإطار <ج> وتطبيق التعزير في الإطار <د>، فالحكم لا يدور مع الزمان والمكان بقدر ما يدور مع الأوضاع.
ناهيك عن أنه وبغض النظر مثل هذه العملية فإنه وحتى على مستوى استنباط الحكم الشرعي الذي يظل معيارياً وتقنياً، فإنّ هناك مجموعة من الروايات تظل عامل فرملة له، ولا يمكنه أن يتجاوزها بالتخفيف من وزنها. فمسألة عدم استتابة المرتد الفطري تظل محل نظر حتى على مستوى السقف الروائي، ولا يمكن الحسم في مسألة عدم استتابة المرتدّ الفطري، إلاّ بتوجيه لمجموعة من الروايات لفائدة روايات أُخرى، بمعنى تحقيق موازنة بين الأدلة مما يدفع إلى طرح السؤال التالي إلى أي حدّ ظلت هذه الموازنة مطابقة للبرهان العقلي؟
 
ثانياً: توبة المرتد الفطري تحت سقف العقل
يعدّ المذهب الإمامي من أقوى المذاهب الإسلامية، ليس فقط لتماسك مداركه المعرفية الكبرى، بل أيضاً لمنحه للعقل أساساً تشريعياً، فالعقل هذا الموجود الكوني حائز على مكانة ملكوتية قبل أن يكون له دورٌ شهودي….
والعقل بما له من كاشفية ليس فقط لأحكامه المستقلة، بل أيضاً نجد كاشفيته تنجر للأُصول التشريعية الأُولى نفسها، لأنّه لا يمكن قراءة النص الديني بدون إعمال للعقل.
وهو ما دفع الأصوليين إلى تقسيم أدوار العقل إلى قسمين كبريين، يتبعها تقسيم تفصيلي.
ذلك أنهم قسموا العقل إلى قسمين كبيرين: قسم يستقل العقل بإدراكه، وقسم لا يستقل بإدراكه، ثم عادوا فقسموا القسم الأول إلى قسمين آخرين هما: تارة تكون هذه المدركات من المستقلات العقلية، وتارة تكون من غير المستقلات العقلية([8]).
وهو ما أوضحه الشيخ المحقق جعفر السبحاني نفسه في رسالته الموسومة (قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع) حيث أوضح في هذه القاعدة في مقام تعريف الدليل العقلي ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي و <أنّ الدليل العقلي بما أنه يقع ذريعة إلى الحكم الشرعي، ينقسم إلى عقلي مستقل، وعقلي غير مستقل فلو توقف استنتاج الحكم الشرعي على وجود خطاب شرعي من الشارع بالنسبة إلى الصغرى أو الكبرى فهو من العقليات المستقلة، وأما إذا كانت كلتا المقدمتين عقليتين، والعقل لا يعتمد في مقام الاستدلال إلى مبدأ غيره فهي من المستقلات العقلية>([9]).
ونحن عندنا مجموعة من الملاحظات على الخلاصات الأصولية لدور العقل في مقام استنباط الحكم الشرعي وترتيب الآثار عليه في استقراء النص الديني، لكن قبل ذلك لا بأس من إبداء وجهة نظرنا في الفهم في مقام النقل، قبل الانتقال إلى تفصيل البحث في دور العقل في توليد الحكم الشرعي.
 
الفهم الخارجي للنص الديني
لو حرصنا على محاولة بحث نقطة التوبة ودورها في تعليق تنفيذ الحدّ على المرتدّ الفطري، بحثاً تخومياً للنص الديني فإننا حقيقة سوف نجد أنفسنا نصل إلى خلاف ما هو متسالم عليه فقهياً، فالقراءة التي سوف نعملها لا تهم الروايات وحسب، بل سوف نقف على البعد الاجتماعي والإطار العام الذي أتت فيه الروايات CONTEXTE، ذلك أنه لو راجعنا الروايات التي سبق لنا أن أوضحناها في الشطر الأول من البحث، سوف نخلص إلى نتائج مخالفة لما انتهى إليها علماء الجعفرية، وخصوصاً تلك المختصة بفترة أمير المؤمنين×.
ذلك أنّ الروايات الصادرة والمختصة بفترة أمير المؤمنين×، تؤكد ما سوف نعمل على توضيحه في هذا الشقّ من البحث.
فأمير المؤمنين× كان يعيش في فترة زمنية متسمة بغبش معرفي ديني كلي اختلط فيها الحابل بالنابل، لا يمكن تفصيل السليم من المنظورات المعرفية إلاّ بالرجوع إلى رمزية معرفية معينة، ومقولة أمير المؤمنين× في هذا المقام جاءت قاطعة <لا يعرف الحق بالرجال، اعرفوا الحق تعرفوا أهله>، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ ثمة تناقضاً في فحوى الرواية مع ما أوضحناه من ضرورة الركون إلى رمزية معرفية دينية معينة، فالواضح من الرواية أنّها موضوعية لا شخصية، لكن ما يجب الانتباه إليه ابتداءً أنّها موضوعية كمسلكية لا كنهاية، فمعرفة أهل الحق والتي تكون خاتمة الطريق المعرفي، هي عين الشخصانية التي نرمي إليها.
فالمراد من الرواية هو الارتكاز على نظرة ثاقبة للحق والحقيقة، وأنه بعد القيام بهذه العملية الجهادية يمكن معرفة أهل الحق الذين يتناسب عقلاً ومنطقاً ملازمة أفكارهم، وأنه بخلاف مثل هذه المسلكية يقع الغبش، فتكون ثمرة هذه العملية الجهادية وضوحاً معرفياً دينياً كلياً، في قبال الغبش المعرفي الديني الكلي، لكنّ المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، بل لا بد أن تنجرّ إلى الجانب العملاني في الفكرة، وهو البعد التطبيقي والتقمصي لها، بمعنى أنه يجب قراءة الروايات ببعدها المكاني والزماني وتنزيلها على الواقع المعاش، وليس بجعلها أيقونات معرفية صالحة لكل زمان ومكان على أساس فهم واحد.
ونحن عندما اعتمدنا مثال التوبة عند المرتد الفطري، فلكي ننوه إلى أنّه هناك تصورات فقهية تتولد نتيجة الجسم الروائي، هذا الجسم الذي يظل ليس فقط هادياً، بل أيضاً آليات لاستقراء الواقع، وخصوصاً في الجنبة الفقهية منه.
فتكون الروايات بطبيعتها خاضعة لإسفين الزمان والمكان، وإلاّ كيف نفسر قاعدة أنّ الأئمة يحدثون الناس على قدر عقولهم؟ بمعنى أنّ المُحدَّث به يكون ثمرة لدينامية التلقي الزماني والمكاني([10]) وليس ثمرة مجمل علم الأئمة، فيكون من باب العقل العملي الصرف التعامل مع الروايات في سقف الإطار الخارجي الذي صدرت فيه، على أنْ تشكّل على عمومها ـ وهو ما أسميناه الجسم الروائي ـ حجة نقلية وعقلية تفي بغرض عملية التنزيل والتطبيق على الواقع.
فروايات أمير المؤمنين× جاءت في بحر فتنوي، حيث كان أهل الحق يحتاجون إلى اعتراف بصفتهم هاته، أمام مجموعة من المترامين على السقف المعرفي الديني، أي أنه كان ثمة فسادٌ في تشخيص المرجعية الدينية، وهو عين ما اعتبره فتنة. ففي هذا الإطار كانت توبة المرتدّ الفطري لها دورها في إيقاف الحدّ من عدمه؛ لأنّ مجال الخلط المعرفي يشكل عذراً مخففاً من العقاب بالأصالة.
لذا ففي هذه الظروف كان الارتداد أمراً وارداً، إلاّ أنّ الحاكم الشرعي أمير المؤمنين× لم يكن ليحكم بقتل كل مرتدّ، وهو يعلم بأنّ ارتداده جاء نتيجة هذا الخلط في الأفكار الدينية والمعتقدات التوحيدية، فأخذ على عاتقه استتابتهم، والاستتابة تهمّ المناقشة، إذا ما رؤي في موضوع دعوى الارتداد خلط ما يتسنى رفعه، لذلك نجده ـ وعلى مستوى الروايات التي أوردناها ـ اهتم باعتراف الظنين وتراجعه عن ارتداده، معلما إياه <أما أنك لو كذّبتَ الشهودّ لضربتُ عنقَكَ، وقد قبلت منك فلا تَعد، وإنّك إن رجعتَ لم أقبلْ منكَ رجوعاً بعده >، بمعنى أنّ المرتدّ كان حاملاً لبذرة جيدة، وهي الصدق في موطن الخطر، وقد قبل أمير المؤمنين× منه رجوعه، وهي توبة حاملة لتفاصيلها المعتبرة.
الشيء نفسه نجده في القاعدة العامة التي أنشأها <المرتدُّ تعزلُ عنهُ امرأتهُ، ولا تؤكلُ ذبيحتهُ، ويستتابُ ثلاثةَ أيامٍ فإن تابَ وإلاّ قُتلَ يومَ الرابع >، بمعنى أنّ الظرفية الفكرية والعقدية ما كانت لتسمح بالقتل مباشرة دون استتابة، وصراحة هذا الكلام يؤكده الإمام جعفر الصادق× في الرواية المروية عن سهل بن زياد نفسه، وعن أحمد بن محمد جميعاً عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: >كلُّ مسلمٍ بينَ مسلمينَ ارتدّ عن الإسلامِ وجَحدَ محمداً نبوتَهُ، وكذبَهُ فإنّ دمهُ مباحٌ لكلّ مَن سَمِعَ ذلك منهُ، وامرأتُهُ بائنةٌ منهُ يوم ارتدّ فلا تقربهُ، ويقسّمُ مالُهُ على ورثتهِ وتعتدُّ امرأتهُ عدةَ المتوفى عنها زوجُها، وعلى الإمامِ أن يقتلهُ وَلا يستتيبهُ>، حيث نجد أنّ صفة جحود النبوة تظل محورية، أي أنّ المرتد الجاحد هو مرتدّ مكابر أحبّ الكفر عن الإسلام مع يقينه بأنّ الإسلام هو دين الحق، وبطبيعة الحال العمل على إثبات الجحود تستلزم وقوفاً على تحقق اليقين في صحة الإسلام، وأنّ الأمر لا يعدو أن يكون مكابرة ليس إلاّ.
فالحقيقة أنه حتى بعض الروايات والتي يجب أن لا يتم تجاهلها، تتجه في اتجاه الاستتابة ولا يمكن حمل سعتها على أنها تهم المسلم الملّي؛ لأنّ الأصل عقلاً هو السعة لا التضييق بدون موجب.
وهنا موطن الخلاف بين العقل الفقهي والعقل الكلامي الجديد، فالمسألة ليست اختلافاً في الموضوعة التي يتعاطى معها كل عقل، لكن الكيفية التي يقرأ بها الكون القدسي، والكون القدسي كما نحب الإشارة إليه هو كلّ الموجودات الخارجية التي لديها علقة ما مع الشأن الديني، حيث يضحى الكون كله مقدساً، ليس بمعنى أنّ لديه جنبة تعبدية، لكن بمعنى أنه مسلك تعبدي يجب التعامل معه على هذا الأساس.
فالعقل الفقهي تحولّ إلى دينامية للتفكير النصي، حتى عندما يتراءى له الدليل العقلي نجد هذا الأخير إمّا أن يكون منقذاً عندما لا يتوفر نص، أو أن يكون آلية تعضيدية للنص المحتاج لركائز استدلالية، أي نصاً مزبور الدليلية.
وهذا خلاف المراد من العقل الكلامي الجديد الذي نرى أنه يبتني على أكسيومة حية جداً، تتوافق مع الإرادة الإلهية له، بوصف العقل الكلامي الجديد ذا بعد أنطولوجي يحافظ على جوهريته في قلب المادة، وبرغم تمظهراته الكثيرة في أحقاب زمنية مختلفة إلاّ أنّ ذلك لا يمس بصبغته الأنطولوجية.
فهو الحجة في غياب المعصوم، وما النص إلاّ دليل ظني الصدور، فكيف يمكن الاستجابة لقاعدة خلق جسر وسط بين الحجتين بما هو ظني الصدور.
رب قائل بأن حجية المعصوم لا تتوقف بغيابه، بل تستمر مع مروياته، وهذا يظل صحيحاً، لكن فقط في القطعي الصدور، فأين القطعي (أي الحديث المتواتر) من الظني (خبر الآحاد) وغيرها من تراتبيات الأحاديث.
فعلى هذا المستوى لا بد من أن يكون العقل الكلامي له دوره المحوري في استظهار الحكم الوقتي المناسب، وخصوصاً أنّ ثمة تقاطعات ذات طابع خارجي واقعي لا بدَّ من استدخالها في عملية استنباط الحكم الشرعي، هذه التقاطعات المتركزة في البعد النفسي والاجتماعي والسياسي ربّما للحدث الارتدادي تحتاج إلى إعادة صياغة إبيستمي جديد يرأب صدع الاجتهادات المراوحة في مكانها.
والغريب في المسألة أنّ العقل الفقهي يظل عقلاً انتقائياً بامتياز، ذلك أنه في مقام الاستنباط لا يستحضر مجمل الجسم الروائي بأبعاده التربوية والأخلاقية والأنطولوجية، بل يكتفي بعملية الشرح على المتون الروائية الزجرية، مما يجعله مقطوعاً ليس فقط عن فلسفة الإسلام والتي تحتاج إلى بحث مطول جداً، بل عن ملاك الحدث الفقهي.
وخصوصاً أنه إذا راجعنا أول كتاب فقهي إمامي لوجدنا أن شيخ الطائفة الطوسي ركز على الردة وعلى تفاصيلها من ثبوتية وآثارها على الزوجية وخصوصية المرتدّ على أساس روايات العوام، التي تظل ساقطة الاعتبار ما لم تصل حدّ الحديث الموثق، فالكتاب كان ثمرة استدلال مقطوع بعدم الصحة ما لم يثبت توثيق الرواة، ومع ذلك خلص إلى حكم يظل خطيراً في حدّ ذاته.
فدوران الزمان والمكان مع اللحظة الاجتهادية، والتركيز على جدلية الواقع والخطاب ليستا إلى ضلعين في تركيبة الإبيستمي الفقهي الذي نحاول الإلماحة إليه في هذه المقالة.
 
إعادة تشكيل الإبيستمي الفقهي
ما نقصده من الإبيستمي الفقهي هو نفس ما أصرّ عليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عندما صاغ مفهوم الإبيستمي جاعلاً منه <مجموعة العلاقات التي يمكن اكتشافها بين العلوم، في عصر معين، عندما نحللها على مستوى المنظومات الخطابية> FOUCAULT ARCHEOLOGIE DU SAVOIR الصفحة 250، وعليه فهو ليس لا بنمط عقلاني ولا بمعرفة في حدّ ذاتها. فالإبيستمي الفوكالدي يقصد به الآليات المفاهيمية الكبرى الحاملة لتشكلاتها الخاصة والتي تنتج معارف متطابقة مع لوازمها، وهو عين ما أوضحه الباحث الفرنسي فرنسوا كرو في مقالته عن ميشيل فوكو بين يدي الموسوعة الجامعة.
les scansions d’épistémès, c’est-à-dire de formidables machines formelles à produire des savoirs vrais en fonction de factures déterminées.
دون أن يعني هذا أنّ ثمة (إبيستمي) يظل متحكماً في زمن معين، بل قد يتصادف أن يتجاور معه ابيستمات مختلفة، فمثلاً لو أردنا أن ننزل مفهوم الإبيستيمي على الثقافة الإسلامية لقلنا بأنّ هناك أربع إبيستيمات عرفت تداخلاً مرحلياً فيما بينها خلال أزمنة مختلفة، فهناك الإبيستمي النصي، وهناك الإبيستيمي الجدلي وهو العقل الاعتزالي، وهناك الإبيستمي العقلي، وهو العقل الفلسفي، وهناك الإبيستمي الفيضي، وهو الموجود في العقل العرفاني، وخلال مراحل زمنية كثيرة عرفت هذه الإبيستمات تداخلاً فيما بينها، فليست ثمة قطيعة متحققة، لكن في نفس الوقت الوقت ثمة تداخل ماهوي متحقق في نفس الوقت، لكننا مع ذلك نقول بأنه في المشهد المعرفي الفقهي ظل للإبيستمي النصي القول الفصل، وكثيراً ما سارع إلى ردع باقي الإبيستمات عن الدخول في هذا المجال أو السعي إلى كسر التخوم، مما جعلنا نوقن بأنّ الإبيستمي الإسلامي الفقهي هو واحد، وبرغم أنّ الإبيستمي يتغير في الزمان والمكان (فالمشروع الفوكالدي انبنى أساساً على التحقيب والحفر) فإنه في المشهد الفكري الفقهي الإسلامي ظل جامداً رافضاً للحفر، في اتجاه اكتشاف القطائع المعرفية، بل أقصى ما يمكن الوقوف عليه هو حدوث تغير تفصيلي في نقطة معينة ابتدأت من زمن واستمرت أو انتهت، ولكن أبداً لا يمكننا الحسم معرفياً بحدوث قطيعة كلية في المنتوج الفقهي، مثلاً بين الأخبارية والأُصولية، حيث إنّ كلا التوجهين لا زالا مستمرين، بل حتى إنهما كثيراً ما يتداخلان في تفاصيل فقهية وعقدية عندما يتخبرن الأصولي أو يتأصل الأخباري.
فالتحقيب يظل ممكناً، لكن الحفر للوقوف على القطائع المعرفية يظل ممتنعاً بشكل كامل في المشهد الفكري الفقهي، فالزمن ظل مغيباً، والتحقيب لم يتحقق إلاّ في ضوء دخول علوم مساعدة على الخط، لكن وللأسف أنّ هذه العلوم لم تقم بتصحيح الأوضاع، بل كان ولوجها ولوجاً تدعيمياً وتعضيدياً ليس إلا.
لذا لا يمكن أن نكون جادين إذا ادعينا السعي في إيجاد إبيستمات فقهية إسلامية، فالواقع أنّ هناك (إبيستمي) واحداً متحكماً في حركة العلوم المساعدة في إطار انضباط معرفي كلي هو الإبيستمي النصي، إلاّ أنّ هذا الأخير، ونظراً لتداخل بعض علوم الآلة العقلية في عملية استنباط الحكم الشرعي نجده يرتكن تبييئياً لبعض النتائج العقلية من إبيستمات مختلفة، لكنه بعد أن يعمل على هضمها وكسر مائزها الخارجي، ونقصد بالمائز الخارجي الآلية المفاهيمية التي بها نشأت النتيجة العقلانية المتبناة فقهيا.
فالإبيستمي الفقهي الإسلامي الذي يتحرك فيه العقل الفقهي ينطلق من مقدمتين مهمتين تشكلان إرادة البقاء وصمود الهوية، لم يتم تجاوزهما بتفصيلة معرفية ضابطة منذ قرون انصرمت.
أُولى المقدمتين: حكمة الشارع، فالباري جلّ وعلا حكيم في أحكامه ولا يمكنها بتاتاً أن تتناقض مع فلسفة النوع البشري.
المقدمة الثانية: عقلانية الأحكام الشرعية حتماً، ومفاد هذه المقدمة أنّ الحكم الشرعي مهما ظهر بأنه مخالف للعقل فإنّه أكيد يظل عقلياً، فقط أن العقل الكسبي قد لا يصل لمرحلة متقدمة تسمح له باستيعاب نتائج العقل اللدني.
ولهاتين المقدمتين استتباعات خطيرة نجد العقل الفقهي راكعاً فيها، فالعقل الفقهي يعلم جيداً بأنّ هاتين المقدمتين من مسلمات الإبيستمي الإسلامي نفسه، وأنها تظل اللحمة التكوينية بين مختلف المجالات المعرفية، وإلاّ لما صحّ إضافة ضميمة الإسلام إلى الفلسفة أو الحكمة أو الفقه أو الشعر وغيرها من المجالات المعرفية الكثيرة.
لكن التسليم بهاتين المقدمتين لا يشكل دعامة معرفية للمنتوج الفقهي ـ والفقهاء أنفسهم يفهمون ذلك ـ لأنّ أقصى ما يمكن أنّ يصل إليه الفقيه الفطحل هو ظاهرية الحكم الشرعي وليس واقعيته، بمعنى أنّ الفقيه في أغلب الأحكام الشرعية لا يمكنه الفصل بأنّها مطابقة للمقدمتين.
بمعنى أنّ العقل الفقهي يتدثر بمقدمتين في الكبرى لا نقاش بخصوصهما، ثم يعود ويخرج إنتاجاً لا يمكنه الحسم في سلامة اتفاقه مع المقدمتين، ومع ذلك يرتب عليه آثاراً تقف في وجه العقل.
نقول بأنّ المقدمتين في الكبرى لا نقاش بخصوصهما، لكن في الصغرى يظلان موضوع مناقشة، ذلك أنّ حكمة الشارع وإن كانت شيئاً مؤكداً، لكن الحكمة التفصيلية تكون منبنية على ملاكات وعدم الإلمام بالملاكات يؤدّي لا محالة إلى مخالفة مراد الشارع الحكيم، في مقام التفعيل على أرض الواقع.
ناهيك عن أنّ المقدمة الثانية لا تدور مع تحقق العقلانية المطلقة، بل تدور مع الإلمام بالملاك، وهي معضلة معرفية يعايشها المتدين دائماً، وليست أزمة في العقلانية الكسبية.
يطيب لنا أن نعرض قصة طريفة تفي بالغرض، كان أحد التجار جالساً بمحله مع صديق له، فقال التاجر لصديقه: هل تريد أن ترى أغبى طفل في المنطقة ؟ فأجاب صديقه، نعم. فنادى التاجر على طفل كان يلعب بالحي، فطلب من الطفل أن يختار بين الدولار الموجود في اليد اليمنى للتاجر أو 25 سنتاً الموجودة في اليد اليسرى، فاختار الطفل كعادته الـ 25 سنتاً، ثم ضحك التاجر كثيراً ناظراً إلى صديقه الذي ظل مذهولاً، مصرحاً له: ألم أقل لك بأنه أغبى طفل في المنطقة؟ فبادر الصديق لتعقب الطفل الذي اشترى بالـ 25 سنتاً بوظة، فسأل الطفل: يا حبيبي، لماذا لم تأخذ الدولار بدل 25 سنتاً، فرد عليه الطفل: لأنني لو اخترت الدولار لانتهت اللعبة، وقد كسبت بهذه الطريقة أكثر من الدولار.
فالمعنى واضح أنّ الملاكات هي التي تفسر الكثير من القرارات، ولا علاقة لها بالعقلانية من عدمها، وملاكات الشارع الحكيم هي غير ملاكات العبد، والجهد المعرفي الديني يتجلّى في هذه الحيثية، وهي السعي لفهم ملاك الشارع الحكيم، والبون شاسع بين السعي لضبط الملاك وبين القول بأن المنتوج الفقهي عنوان الحقيقة الإلهية، ولا يمكن مناقشتها إلاّ من داخل السياج الفقهي.
وهنا بالضبط تتجلى أهم معضلة عند العقل الفقهي، ففي حين يقر بأنّ ثمة تناقضات في مجموعة من الأحكام الشرعية، إلاّ أنه ومع ذلك لا يقبل بالآراء القادمة من الخارج، إلاّ إذا جاءت تعضيدية للمراد الداخلي الفقهي.
وقد سبق للأُستاذ أبي القاسم فنائي أن نوه إلى هذه المسألة، لكن من جانب آخر، عندما بيّن مبتنيات العقلانية الفقهية والمتسالمة على ما يلي:
<1 ـ الله حكيم، والشريعة بوجودها في اللوح المحفوظ لا تعارض العقل أبداً في أي حكم.
2 ـ يستحيل ظهور أحكام لا عقلانية في النصوص الدينية، إلاّ أنّ الاعتماد على الظن لا يمكننا من رفع اليد والتخلي عن نص ديني يحتوى حكماً من هذا القبيل أو عدم العمل به، أي أنّ النصوص الدينية تفقد اعتبارها في حالة واحدة، وهي أن يحصل لنا علم ويقين بمناهضتها للعقل ومعارضتها له.
3 ـ إنّ الأحكام التي تكون معارضة للعقل من وجهة نظر التفكير العلماني من الممكن أن لا تكون كذلك في واقع الأمر، وعليه: لا يمكننا الحكم بأنّ تشريعاً ما مناقض للعقل، إلاّ إذا حصلنا على يقين بذلك.
إننا عقلاء، لكن الشارع سبحانه وتعالى سيد العقلاء ورئيسهم، ومن الطبيعي أن يعرف رئيس العقلاء أشياء لا يعرفها العقلاء أنفسهم.
إنّ تحديد مناقضة التشريع للعقل من شؤون الله تعالى لا البشر>([11]).
ذلك أنّ موطن الخلاف مع مقاربتنا نحن للمسألة، وهي أنّ العقلانية الفقهية تنطلق من نصوص تشريعية وحسب، ولا تتوسع في مجال الجسم التشريعي برمته، كما أنها كثيراً ما تتجاهل البعد الأخلاقي الأنطولوجي المراد التركيز عليه في الدين الإسلامي، وعليه لا يكون المحك العقلاني الفقهي قبالة العقلانية العرفية، بل ينجر إلى بحث فلسفة الدين نفسه، والتي كثيراً ما تظل مغيبة.
فمثلاً وحتى نبقى في قلب الموضوع ما هي الحكمة من استتابة المرتدّ الملّي، وعدم استتابة المرتدّ الفطري، مع لحاظ بأنّ المرتدّ الملّي يكون قد دخل الإسلام برغبته الخاصة وبعد اطلاع مقبول عقلاً بمضمنات الديانة الإسلامية بشكل مؤكد، بخلاف المرتد الفطري الذي ولد مسلماً، وربما كان يرتع في الأُمية المعرفية لزمن قد يطول وقد يقصر.
هذا من ناحية أولى، والكل ولو سلمنا بأنّ الفقه الإسلامي يصل للأحكام الواقعية دائماً، لكنّ واقع الأمر أنّ أقصى ما يصل إليه الفقه هو الحكم الظاهري، فهل الحكم الظاهري يقطع بإصابته للحكم الواقعي ؟ لا، لذلك يكون للعقل مدماكيته الخاصة ليس بوصفه جهة تعضديدية كما ينظر إليه الفقه، بل بوصفه جهازاً معرفياً مولداً لقراءة نقدية لبعض الاجتهادات الفقهية.
فالعقل الفقهي يرى حجية الظن النقلي، بل نجده كثيراً ما يرفعها إلى مقام القطع، في حين يرفض الظن العقلي والنفسي. يصرح الأُستاذ فنائي بهذا الخصوص: يتلخص رأي العقلانية الفقهية في هذا المجال في أنّ المكلف ـ من ناحية معرفية ـ يكون على إحدى حالات ثلاث: إما اليقين، أو الظن، أو الشك، وحكمه في كل من الحالات الثلاث على الشكل التالي:
1 ـ حالة القطع، وهنا يكون القطع ـ مطلقاً ـ حجة.
2 ـ حالة الظن، وهنا :
أ ـ الظن النقلي ضمن شروط خاصة يكون حجة.
ب ـ الظن النقلي المعتبر يكون محكوماً بحكم القطع.
ج ـ لا حجية للظن العقلي والنفسي.
3 ـ حالة الشك، وهنا:
أ ـ لا بد من الرجوع إلى الأُصول العملية.
ب ـ إنّ الظنون العقلية والحسية ـ وكذا الظنون النقلية غير المعتبرة ـ كلها محكومة بحكم الشك.
ج ـ إنّ الفقه يحل محل الأخلاق.
د ـ إنّ الفقه يحل محل القانون والحقوق>([12]).
فالواضح أنّ العقلانية الفقهية تأخذ بالظن النقلي ولا تأخذ بالظن العقلي، وهو ما سوف نحاول أن نستوعبه الآن.
اتحاد الظنين وافتراق الحجية:
فاعتماد العقل في مقام تحقق اليقين ـ وبطبيعة الحال المقصود اليقين الموضوعي ـ يظل ضئيلاً جداً إن لم نقل منعدماً، وهنا بالضبط سياسة العقلانية الفقهية أنها بعد أن تسلم بحجية العقل تسعى جاهدة إلى تحجيم آثاره بدعوى ضرورة تحقق اليقين الموضوعي مع علمها بأنّ احتمال تحقق هذا اليقين يظل شبه منعدم، وأخيراً يتم تغييب دور العقل إلى أقصى درجة ممكنة، والحال أنه العقلانية الفقهية تسلم بالظن والاطمئنان كحجة فقهية، فأين هو الاطمئنان الذاتي من اليقين الذاتي ؟ ولماذا لا نكتفي باليقين الذاتي قبالة الاطمئنان ؟ ولماذا نؤخر اليقين الذاتي العقلي ونقدم الاطمئنان الفقهي ؟ هي أسئلة كثيرة تجعلنا نشكك في حقيقة أن مصدرية العقل التشريعية مطبقة فعلاً في المجال الفقهي الإمامي.
فأين اليقين الموضوعي في المسألة من حجية الأحكام الشرعية المتنزلة إلى مقام الظن في الغالب، بل تصل في حيثيات كثيرة إلى الاطمئنان، صحيح أننا نتفهم سعة المأزق الاحتجاجي في العقل الفقهي ونثمن مجهودات فقهائنا الكبار، لكن هذا لا يكون على حساب تحجيم دور العقل ليصير صامولة في آلة كبرى اسمها الفقه.



الهوامش

([1]) الطوسي، أبو جعفر، المبسوط في فقه الإمامية 7: 282، صححه وعلق عليه محمد الباقر البهبودي، مؤسسة الغري للمطبوعات، سنة 1992م.
([2]) الطوسي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة 137:10؛ الاستبصار 4: 252؛ الكافي 2: 310.
([3]) الطوسي، التهذيب 10: 138، الاستبصار 4: 252؛ الكليني، الكافي 2: 310؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 91.
([4]) الطوسي، التهذيب 138:10 و139؛ الكليني، الكافي 2: 310.
([5]) الطوسي، التهذيب: 193، الاستبصار 4: 254؛ الكليني، الكافي 2: 311؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 89 مع زيادة في آخره.
([6]) الطوسي، التهذيب 10: 139؛ الاستبصار 4: 254؛ الكافي 2: 311؛ من لا يحضره الفقيه 3: 89 مع زيادة في آخره.
([7]) الطوسي، التهذيب 10: 139.
([8]) الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي، دور العقل في تشكيل المعرفة الدينية: 140، دار الهادي، الطبعة الأولى 2005م.
([9]) الرسائل الأربع قواعد أُصولية وفقهية، تقرير البحث الفقيه المحقق الشيخ جعفر السبحاني، بقلم عدة من الأفاضل، مؤسسة الإمام الصادق، قم، إيران 1415هـ.ق.ـ
([10]) أهم مثال في ذلك سؤال الكون وعدسة العين، فهناك روايتان: الأولى صادة عن أمير المؤمنين×، والثانية عن الإمام جعفر الصادق×.
([11]) الفنائي، أبو القاسم، العقلانية العلمانية والعقلانية الفقهية، قراءة وتقويمية مقارنة: 111؛ مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الرابع، السنة الأُولى، خريف 2006م.
([12]) الفنائي: 115.

___________________________________________

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً