أحدث المقالات

السيد محسن الموسوي الجرجاني(*)

ترجمة: حسن علي مطر

العدالة لغةً تعني المساواة، والأمر المتوسِّط بين طرفي الإفراط والتفريط. وقد استُعملت كذلك في معانٍ أخرى أيضاً، من قبيل: رعاية الحقوق، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، وإفاضة الوجود بمقتضى الاستحقاق، وتوازن الأجزاء في إطار هدفٍ خاص.

إن جميع الموارد التي استُعمل فيها لفظ العدالة يثبت أنه لا يُراد منها سوى معنىً واحد، بمعنى أن جميع هذه المعاني تعود إلى ذات المعنى اللغوي المراد من العدالة، وهو إقامة المساواة بين طرفي الإفراط والتفريط. وبطبيعة الحال فإن المراد من هذه المساواة ليس هو المساواة العقلية الدقيقة، وإنما المراد منها هو المساواة العرفية التقريبية.

أقسام العدالة

يتمّ تقسيم العدالة بوجهٍ من الوجوه إلى: عدالة إلهية؛ وعدالة غير إلهية. والعدالة الإلهية على ثلاثة أقسام، وهي: العدالة التكوينية؛ والعدالة التشريعية؛ والعدالة الجزائية.

والعدالة التكوينية بأن يعطي الله تعالى كلَّ شخصٍ بمقدار استحقاقه من الكمال الوجودي. وإلى هذا المعنى أشار النبيّ الأكرم| بقوله: «بالعدل قامت السماوات والأرض».

إن العدالة التشريعية تعني أن الله تعالى يعمل في كلّ عصرٍ على تذكير الناس ـ بواسطة الأنبياء والأوصياء ـ بما يوجب كمالهم، ويقدِّم لهم ـ تحت عنوان الشريعة ـ وسائل الاعتدال في الدنيا والآخرة، ولا يكلِّفهم بما لا يستطيعون، ولا يضنّ عليهم بما يضمن لهم سعادتهم.

ومعنى العدالة الجزائية بالنسبة إلى الله تعالى أنه في مقام المكافأة يفرِّق بين المحسن والمسيء. فإنْ كان عمل الشخص حسناً حصل على الأجر والثواب، وإنْ كان سيّئاً فإنه سيكون مستحقّاً للعقاب. وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله:

ـ ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة: 286).

ـ ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة: 225).

ـ ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 281؛ آل عمران: 161).

ـ ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ (إبراهيم: 51).

ومن الواضح بداهةً أن مقتضى هذه العدالة أن يُعطَى المحسن من الأجر والثواب بمقدار إحسانه، وأن يعاقب المسيء بمقدار إساءته؛ وذلك أن لكلّ واحدٍ من مفهومي الإحسان والإساءة طيفاً واسعاً من الشدّة والضعف، والعدالة تقتضي أن تكون درجات الثواب والعقاب مختلفةً في الشدة والضعف، بما يتناسب مع شدّة وضعف الإحسان والإساءة.

العدالة عند غير الله

تعرَّضنا حتّى الآن إلى التعريف بالعَدْل الإلهي على نحو الإشارة. وفي ما يلي نتعرّض إلى العدل غير الإلهي؛ لأن العدالة عند غير الله على أقسامٍ مختلفة أيضاً.

العدالة الفردية

إن هذا النوع من العدالة ـ التي هي من مصطلحاتنا الخاصّة ـ يجمع بين العدالة الأخلاقية والفقهية؛ وذلك لأن فقهنا يتصدّى لجانبٍ من الأمور المشروطة بالعدالة، ومن ذلك أن المرجعية والقضاء والشهادة والإمامة ـ على سبيل المثال ـ يشترط فيها أن يكون المتصدي لها عادلاً. ولكنْ وقع خلافٌ شديد بين الفقهاء في تحديد ماهية العدالة؛ فذهب بعضٌ إلى القول: إن العدالة عبارةٌ عن قوّةٍ نفسانية توجب مراعاة التقوى والمروءة؛ وقال بعضٌ: إن العدالة ليست سوى الإسلام وعدم إظهار الفسق؛ وقال آخرون: العدالة عبارة عن حُسْن الظاهر([1]).

ولا يخفى أن كلّ واحدٍ من هذه المعاني الثلاثة مرادٌ للشريعة، وهذا غير المعنى المذكور في علم الأخلاق، رغم أنه قد يكون المراد من المعنى الأوّل هو المعنى المبحوث في علم الأخلاق. ولكنْ حيث إن هذا الاحتمال بعيدٌ جداً، ويحتمل أن يكون قد تمّ قبوله تحت تأثير افتراض المعنى الأخلاقي، فإنه لا يحظى بالاهتمام كثيراً، ولا سيَّما أن هناك روايات تشير إلى صحّة المعنى الثالث. وعلى هذا الأساس فإن معنى العدالة الفردية في مصطلح الفقهاء معنىً مستقلّ ومنفصل عن معناها الأخلاقي، ويجب أن يكون كذلك؛ لأن هذا المعنى قد تمّ انتزاعه من روايات أهل البيت^، وهو من مصطلحات (الحكمة) العملية. وعلى الرغم من عدم وجود أيّ منافاةٍ بين هذين الطريقين يبدو أن هناك شرخاً عميقاً بينهما في هذا المعنى.

العدالة الفردية في علم الأخلاق

يوجد هنا اختلافٌ شديد أيضاً؛ لأن البعض يقول: إن العدالة عبارةٌ عن تهذيب القوّة العاملة الموجودة في نفس الإنسان. وقال بعضٌ: إن العدالة عبارةٌ عن سيطرة القوة العاقلة على القوى العاملة والشهوية والغضبية. قال المولى محمد مهدي النراقي([2]) في هذا الشأن: «قد تبيَّن في العلم الطبيعي أن للنفس الناطقة قوتين: أولاهما: قوّة الإدراك؛ وثانيتهما: قوة التحريك. ولكلٍّ منهما شعبتان: الشعبة الأولى: العقل النظري، وهو مبدأ التأثُّر عن المبادئ العالية بقبول الصور العلمية؛ والشعبة الثانية لها: العقل العملي، وهو مبدأ تحريك البدن في الأعمال الجزئية. وهذه الشعبة من حيث تعلُّقها بقوّتَيْ الشهوة والغضب مبدأٌ لحدوث بعض الكيفيات الموجبة لفعلٍ وانفعال. ثمّ إذا كانت القوّة الأولى غالبةً على سائر القوى، ولم تنفعل عنها، بل كانت هي مقهورةً عنها مطيعة لها في ما تأمرها به وتنهاها عنه، كان تصرُّف كلٍّ منها على وجه الاعتدال، وانتظمت أمور النشأة الإنسانية، وحصل تسالم القوى الأربع وتمازجها، فتهذّب كلُّ واحدٍ منها، ويحصل له ما يخصّه من الفضيلة، فيحصل من تهذيب العاقلة العلم وتتبعه الحكمة، ومن تهذيب العاملة العدالة، ومن تهذيب الغضبية الحلم وتتبعه الشجاعة، ومن تهذيب الشهوية العفّة وتتبعه السخاوة. وعلى هذا تكون العدالة كمالاً للقوة العملية. [ولكنْ] قيل: إن النفس لما كانت ذات قوى أربع: العاقلة والعاملة والشهوية والغضبية، فإنْ كانت حركاتها على وجه الاعتدال، وكانت الثلاثة الأخيرة مطيعة للأولى، واقتصرت من الأفعال على ما تعيَّن لها، حصلت أوّلاً فضائل ثلاث، هي: الحكمة والعفّة والشجاعة، ثم يحصل من حصولها المترتِّب على تسالم القوى الأربع وانقهار الثلاث تحت الأولى حالةٌ متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها، وهي العدالة. وعلى هذا لا تكون العدالة كمالاً للقوة العملية فقط، بل تكون كمالاً للقوى بأسرها»([3]).

ولا يخفى أن معنى الحكمة والعفّة والشجاعة على كلا النظريتين واحد، إلاّ أن معنى العدالة بناءً على النظرية الأولى عبارةٌ عن انقياد وتبعية العقل العملي للقوة العاقلة أو اتباعها للعقل النظري والشرع في السيطرة على الغضب والشهوة. وبناءً على النظرية الثانية فإن العدالة عبارةٌ عن تَبَعية جميع القوى للقوّة العاقلة، التي هي كمالٌ لها بأجمعها.

العدالة الاجتماعية

النوع الآخر من العدالة غير الإلهية هي العدالة الاجتماعية. إن هذا النوع من العدالة يرتبط بالمجتمع، وإن المتَّصف بها تابعٌ للمجتمع وأحد أفراده. وتتجلّى هذه العدالة ضمن ثلاثة أشكال، وهي: العدالة الإدارية؛ والعدالة الاقتصادية؛ والعدالة القضائية.

العدالة الإدارية: إن المراد من العدالة الإدارية هو أن يعمل مَنْ يدير أمور المجتمع على النظر في كمالات وصفات وخصائص أفراد ذلك المجتمع، وأن يتعامل مع كلّ شخصٍ بالشكل الذي يستحقّه، وأن لا يفرِّق بين الذين يتساوون في الكرامات والكمالات الإنسانية، بل عليه أن يتعاطى معهم على قَدَم المساواة، وأن يجعل لكلّ واحدٍ منهم سهماً مساوياً في بيت المال.

العدالة الاقتصادية: قد يتبادر إلى الذهن أن ذكر العدالة الاقتصادية بعد العدالة الإدارية ـ بناء على التفسير الذي قدَّمناه ـ هو من قبيل: ذكر الخاصّ بعد العام، إلاّ أن واقع الأمر غير ذلك؛ لأن المراد من العدالة الاقتصادية التي تحصل في تعاملات المجتمع أن تكون على طبق معيار خاصّ من المساواة التقريبية. فإن نسبة العمل الذي يقوم به النجّار في صنع خزانة الثياب ـ على سبيل المثال ـ تساوي العمل الذي يقوم به الحدّاد في صنع درع للمقاتل، ومن هنا تكون المعاوضة والمعاملة بينهما عادلة. أو إذا كانت قيمة كتابٍ تعدل عملة ذهبية، وكان بالإمكان شراء علبة عسل بتلك العملة الذهبية، كان شراء الكتاب بتلك العلبة من العسل معاملةً عادلة. إن التدقيق في هذين المثالين يثبت بوضوحٍ أن المراد من العدالة الاقتصادية غيرُ ما يُفْهَم من العدالة الإدارية. وعليه من المناسب جدّاً ـ دَفْعاً لمحذور التوهُّم ـ أن نسمّي هذا النوع من العدالة بالعدالة التعاملية.

العدالة القضائية: إن الشعبة الأخيرة من العدالة الاجتماعية هي العدالة القضائية. والمراد من هذه العدالة أنه إذا كان أفراد المجتمع الإنساني متساوين من ناحية الحيثية والحقوق الإنسانية ـ وهو كذلك على ما يبدو ـ وجب في مقام الحكم استرداد حقّ الشخص الذي تمّ الاعتداء عليه، دون أن يكون هناك نظرٌ للأمور الاعتبارية التي يتمتَّع بها المعتدي. إن العدالة بهذا المعنى تتوقَّف على إحقاق الحقّ المضيَّع.

علاقة الدين بالعدالة

ما ذكرناه حتّى الآن بشأن العدالة كان في توصيفها وتقسيمها. وفي ما يلي نحاول أن نرى ما إذا كان هناك توصيةٌ في هذا الشأن أم لا؟ وإذا كان هناك من وجودٍ لمثل هذه التوصية فهل هي عقلية أم عقلانية أم شرعية أم هي شرعية وعقلية في وقتٍ واحد؟

لا شَكَّ في وجود توصية بشأن العدالة. ومن هنا يدور البحث حول القسم الثاني من السؤال. وهنا مكمن النزاع القديم بين الأشاعرة والمعتزلة. وعلى الرغم من أن النزاع المذكور يدور حول ما إذا كان الحُسْن والقُبْح في الأشياء ذاتياً أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: هل العقل هو الذي يحدِّد الحُسْن والقُبْح، أم أن الحَسَن هو ما يحسِّنه الشرع، والقبيح ما يقبِّحه الشرع؟ ولكنْ حيث إن العدل واحدٌ من مصاديق الحَسَن، والظلم واحد من مصاديق القبيح، فإن إسناد العدل إلى الشرع أو العقل رهنٌ بحلّ هذه المسألة؛ إذ إن الأفعال إذا كانت بنفسها تشتمل على حالة تتّصف بالحُسْن أو القُبْح لذاتها أو بالعَرَض، ولم يكن هذا المعنى متوقِّفاً على الشرع والقضايا الشرعية، فإن التوصية الواردة بشأن العدل سوف تكون واحدةً من مصاديق هذا الحكم العقلي. ومن البديهي إذا كان هذا الافتراض صحيحاً ومبرهناً فإنه لا يختص بأفعال البشر؛ إذ لا معنى للتخصيص في الأحكام العقلية. وأما إذا صحّ كلام الأشاعرة، ولم يكن الحُسْن والقُبْح في الأفعال، أو كان العقل عاجزاً عن إدراك ذلك، فمن البديهي أن يتغيَّر اتجاه البحث، وتعود العدالة من مختصّات القضايا الشرعية، وهذه هي النقطة التي تكون سبباً للتردُّد في العدل الإلهي.

الحُسْن والقُبْح العقلي

بالالتفات إلى ما تقدَّم ندرك أن طرح مسألة الحُسْن والقُبْح ضروريّ، ولا يمكن اجتنابه. وفي هذا الشأن لا يقع النزاع في الحُسْن والقُبْح بمعنى الكمال والنقص، أو ما يكون متناسباً ولا يكون متناسباً مع الطبع؛ إذ يتفق الجميع على أن الحُسْن والقُبْح بهذين المعنيين أمرٌ عقلي، ولا ربط له بالشرع. وعليه فإن النزاع يقع في ما إذا كانت الأفعال الاختيارية بحيث إن العقل يحكم بحُسْن أو قُبْح هذه الأشياء، دون الاستعانة بالشرع أو الأمور الأخرى، ويرى فاعلها مستحقّاً للمدح أو الذمّ والثواب أو العقاب، أو أن الأمر ليس كذلك، وأن الحُسْن والقُبْح رهنٌ بصدور الأمر والنهي من الشارع، وليس لهما أيّ صلةٍ بالإدراك العقلي؟

يذهب المعتزلة والشيعة إلى الاعتقاد بالحُسْن والقُبْح العقليّين، وأما الأشاعرة فإنهم أنكروا ذلك، وقالوا بالحُسْن والقُبْح الشرعيّين.

إن من أهمّ الأدلة التي يذكرها القائلون بالحُسْن والقُبْح العقليين أننا نعلم بالضرورة بحُسْن بعض الأشياء وقُبْح بعضها الآخر، وإن هذا العلم والوَعْي لا يتوقَّف على الشريعة أبداً. فكلّ عاقلٍ يدرك أن الإحسان وفعل الخير حَسَنٌ، وأن الظلم قبيحٌ ويستحقّ الذم. إن هذا الحكم يمثِّل قضيةً واضحة جدّاً، ولا تستند إلى الشرع. وإن الجميع ـ بمَنْ فيهم المنكرون للشرائع ـ يؤمنون بهذه القضايا. وهذا يثبت أن منشأ الحكم في هذه القضايا يكمن في ضرورتها العقلية، وبداهتها القطعية، وليس الأحكام الشرعية أو الملاحظات والتعاليم العقلانية.

وأما دليلهم الآخر فهو أن الحُسْن والقُبْح إذا كانا شرعيين كان لازم ذلك أن لا يكون لدينا حُسْنٌ وقُبْحٌ شرعيّ، ولا حُسْنٌ وقُبْحٌ عقليّ. وبطلان التالي موضع إجماعٍ، وتشهد عليه البديهة؛ إذ يؤمن الجميع في الجملة أن هناك حُسْناً وقُبْحاً. ثم إن هذا القياس يستلزم بطلان الشيء في فرض وجوده، وهو واضح البطلان.

تقرير الملازمة أن حُسْن وقُبْح بعض الأشياء إذا لم يكن عقليّاً لن يكون قُبْح الكذب واضحاً، ولن يكون الكذب قبيحاً على الله تعالى. وعليه لا نطمئن إلى صدق إخبار الله بقُبْح بعض الأمور وحُسْن بعضها الآخر؛ إذ إنّا لا نفهم الحُسْن والقُبْح دون حكم الشارع، كما أننا في شكٍّ من صدق حكم الشارع. إذن بناءً على هذه النظرية لن يكون لدينا حُسْنٌ وقُبْحٌ شرعيّ أيضاً، وقد نشأ ذلك من اعتبار الحُسْن والقُبْح الشرعي، وهذا هو التالي الفاسد الذي أشَرْنا له آنفاً([4]).

والإشكال الذي يَرِدُ من قِبَل القائلين بالحُسْن والقُبْح الشرعيّين هو أن العلم بحُسْن وقُبْح بعض الأشياء ـ كما يقول العَدْلية ـ ليس ضرورياً ولا بديهياً؛ إذ لو كانت هذه القضية واضحة وبديهية لما وقع الاختلاف في تحديد معناها، كما لا يشكّ أحدٌ في أن الكلّ أكبر من الجزء.

وخلاصة هذه الشبهة هي أن أهمّ أدلة القائلين بالحُسْن والقُبْح العقليّين إدراج هذه القضية ضمن دائرة البديهيات التي لا يمكن إنكارها، وأن إنكارها من قبيل: إنكار سائر القضايا البديهية، وإنكار البديهيات ليس سوى سفسطة وتشكيك. ولكنْ كما أشار المحقِّق الطوسي فإن جواب هذه الشبهة واضحٌ؛ إذ ليست جميع القضايا البديهية على نَسَقٍ واحد، وإنما بعضها يحتاج إلى انتباهٍ وتأمُّلٍ غير فكري، ولذلك فإن هذا الأمر قد يؤدّي إلى الاختلاف والنزاع، ولا سيَّما إذا انضمَّتْ إلى ذلك مسائل أخرى. ولا يخفى أن اعتبار المسألة مورد البحث مساوية لقضية «إن الكلّ أعظم من الجزء» ناشئٌ من الغفلة عن المورد المشار إليه؛ وذلك لأن المشبّه به في هذا الاستدلال من البديهيات الأوّلية التي يكون فيها تصوُّر الأطراف والارتباط فيما بينها مساوياً للاعتقاد بها، ولذلك لا يمكن قياس سائر البديهيات ـ التي لا تبلغ هذا الحدّ ـ بها، وإلاّ وجب إنكار أكثرها، وهو ما لا يُعَدّ معقولاً ولا مقبولاً. ونرى أن التوضيح المقتضب الذي قدَّمناه بشأن أدلة العدلية يبدو كافياً لإثبات وجود الحُسْن والقُبْح العقليّين، ولكنْ لا بأس بتقديم المزيد من التوضيح في هذا الشأن، لعلّ ذلك يساعد على إزاحة الغموض المحيط بهذه المسألة، والذي لا يزال موجوداً في عصرنا بتأثيرٍ من كتابات الأشاعرة والغربيين.

كما سبق أن أشرنا فإن أساس نظرية العدلية يقوم على أن إدراك الحُسْن والقُبْح عقليٌّ وبديهي. وإذا لم تكن هذه القضية تامّة، وكان مناط حُسْن الأشياء وقُبْحها هو الأمر والنهي الشرعي، لن يكون لدينا حُسْنٌ وقُبْحٌ عقليّ، ولا حُسْنٌ وقُبْحٌ شرعيّ. ولكنْ ألا يمكن اعتبار بداية هذا الدليل ـ الذي هو دليلهم الأوّل ـ مشكوكاً فيها بالقول: إذا كانت قضية «العدل حَسَنٌ» و«الظلم قبيحٌ» من بديهيات العقل العملي لما وقع فيهما كلّ هذا النزاع والاختلاف أبداً. يُضاف إلى ذلك أن محل النزاع يكمن في أن فرضية حكم العقل العملي بمفاد هذا النوع من القضايا إدراك العقل النظري للكمال والنقص والملاءمة وعدم الملاءمة العامّة والكلية. ولا حاجة إلى القول بأن هذا المعنى غير قابل للإثبات؛ إذ من الممكن أن يكون ما نتلقّاه بوصفه حكماً عقلياً عملياً بواسطة فرضيات العقل النظري هو من المدركات والأحكام التي تتحقَّق بواسطة الافتراضات العاطفية والعادية والنفسانية والتلقينية. ومع وجود هذا الاحتمال وعدم الدافع القطعي لا يكون مدَّعى العدلية قابلاً للإثبات بالدليل الأوّل، ولا يمكن بذلك اعتبار العدل الإلهي مدركاً عقلانياً بَحْتاً وبديهياً.

وباختصارٍ إن شبهتنا لا تعني أن الضرورات الأخلاقية، ولا سيَّما واجباتنا فيها، لا تنبثق من الكينونات، وإنما هي اعتبارية مَحْضة، وهي بمعنى أن نشأتها من العقل النظري الخالص، بحيث تندرج ضمن المستقلاّت العقلية، لا يمكن إثباتها بالدليل الأوّل للعدلية؛ وذلك أوّلاً: لأن بداهتها موضع خلاف؛ وثانياً: إن منشأ هذه الأمور ليس واضحاً، ويمكن لأمور أن تكون منشأً لجميع هذه الموارد أو بعضها. ولا يخفى أن تحقُّق هذا المعنى في بعض الموارد، أو مجرَّد احتماله، يجعل من استدلال القائلين باعتبار العقل النظري منشأً لها ـ الذي لم يكن في الدليل الأوّل سوى ادّعاء البداهة ـ ضعيفاً ولا أساس له.

وأما نهاية تلك القضية الأساسية، والتي تمّ انتزاعها من دليلهم الثاني، وتبلورت على شكل أن الحُسْن والقُبْح العقليّ إذا لم يكن موجوداً، واعتبرناه نتاج بعثة الأنبياء، سوف لا يكون هناك حُسْنٌ وقُبْحٌ قابل للإثبات، فإن هذا الدليل ـ للإنصاف ـ غير قابل للخدش في الجملة؛ إذ يتَّفق جميع المتنازعين على أن معرفة وإطاعة الأوامر والنواهي الشرعية أمرٌ واجب وحَسَن. والسؤال المطروح هنا يقول: من أين جاء هذا الوجوب والحُسْن؟ إذا قيل في الجواب: من قِبَل الشرع وبأمر الشرع سوف يعود السؤال مجدَّداً، ويقول: لماذا يجب إطاعة هذا الأمر من الشارع؟ ولا سيَّما أن احتمال العبث من قِبَل الشارع ليس منتفياً؛ وإلاّ نكون قد أقرَرْنا بالحُسْن والقُبْح العقليّ. لا يخفى أن هذا السؤال لا جواب له، إلاّ بعد الإقرار بالحُسْن والقُبْح العقلي، وإلاّ لزم التسلسل الباطل. وعلى هذا يجب أن نذعن بأن إدراك الحُسْن والقُبْح إدراكٌ عقلاني، وأن الضرورة التي لا يمكن إنكارها تقتضي أن تكون جميع الواجبات الأخلاقية والفقهية مرتبطةً بواجبٍ عقلي. إذن عندما يتَّفق الطرفان على أن أصل الشريعة وإطاعة النبوة رهنٌ بوجوبٍ عقلاني، ولا يمكن أن يكون شرعياً، وإلاّ لزم الدَّوْر؛ وجب أن يقرّ الجميع أن هناك حُسْناً وقُبْحاً عقليّاً، وإلاّ لن يكون هناك حُسْنٌ وقُبْحٌ عقليّ، ولن يكون هناك دينٌ ولا إيمانٌ.

وبطبيعة الحال إن هذا النوع من الأدلة جميلٌ ومتقن على مستوى إقناع وإلزام الطرف الأشعري. ولكنْ لا يمكن إثباته بعباراتٍ من قبيل: «اتفاق الطرفين على هذا». إذن يجب أن يكون بحيث يمكن إثبات هذه المسألة لغير الأشاعرة أيضاً.

أرى أن علينا أن نبدأ من قضية أن لهذا العالم وما فيه مبدأً واجباً وضرورياً بحكم الضرورة الأزلية، وهو ثابتٌ بالأدلة والبراهين المختلفة، التي لا يتَّسع المجال لذكرها في هذه المقالة. ولذلك يتعيَّن على القارئ لهذا المقال أن يأخذ هذا الأمر كأصلٍ موضوعي ثابت، ليسهِّل عليه حلّ المسألة مورد بحثنا؛ إذ بعد الإقرار بالمبدأ وصفاته الجمالية والجلالية على نحو الأصل الموضوعي أو البراهين القطعية ستكون نتيجته الضرورية هي حكم العقل بضرورة الحاجة إلى النبيّ والوسيط والرابط بين الله والخلق، بوصفه أمراً بديهياً لا يقبل الإنكار. وإذا تمّ إنكار هذه البديهية فإن قاعدة اللطف تثبت هذه الحاجة، ولا شَكَّ في أن حكم العقل بقبح ترك الله العالم والحكيم لعبده الجاهل والضعيف إلى نفسه، مع كلّ ما أودعه في جِبِلَّته ويعلم به، وما أطلع عليه الملائكة من أفعاله وسفكه للدماء، ليس بالشيء الذي يخفى على أحدٍ. كما أن مدّ يد العون للعباد أمرٌ يستحسنه العقل؛ وذلك لأن الحالة الأولى ظلمٌ والثانية عدل، وإن البرهان العقلي قائمٌ على ذمّ الأول ومدح الثاني، بمعنى أن البرهان العقلي يثبت بعث الأنبياء، ويصرِّح بأن الله يجب عليه أن يرسل لعباده نبيّاً، ولا يخفى أن لهذا «الوجوب» دعامةً عقلية، فهو وجوبٌ ضروري ومنطقي؛ إذ إن نقض الغرض فسادٌ منطقي واضح تعمل البداهة العقلية على تنزيه ساحة الله تعالى منه. وهنا لا يعود هناك احتمالٌ للخلاف يضعف أساس الاستدلال. ومن هنا يُجْمِع أتباع كافّة الأديان ـ حتّى الجاهلين بتعاليم أديانهم ـ على إدراك هذه المفاهيم. ولأجل هذه المشاهدة العينية استفدنا ـ مثل غيرنا ـ من كلمة بداهة الحكم العقلي. ويبدو أنه ليس هناك من شَكٍّ في هذا الشأن.

انتزاع القضايا الخبرية؟

لا شَكَّ في أن مجرّد اعتبار إنشائية قضايا لا يمكنه أن يجعلها ضمن دائرة الاعتباريات البَحْتة، بل يمكن في موارد القضايا الإنشائية و«الضرورات» جعل قضايا خبرية صحيحة تكون في ذاتها قابلة لأن تتّصف بالصدق والكذب، وتكون صادقة في الواقع ونفس الأمر. فمثلاً: بالنسبة إلى القضية القائلة: «يجب على الله تعالى أن يُرسل نبيّاً وهادياً إلى الناس» يتمّ تحليلها على النحو التالي: إن إرسال الرُّسُل من قِبَل الله واجبٌ وضروري، وهذه قضيةٌ خبرية محتملة الصدق والكذب في حدّ ذاتها. ومن الناحية البرهانية ـ التي تثبت مطابقتها للواقع ونفس الأمر ـ تكون صادقةً. وعلى هذا الأساس فإن إنشائية قضيّةٍ ما لا تدلّ على اعتباريتها، كما أن عودة القضايا الأخلاقية إلى قضيةٍ مشتملة على «وجوب» لا يعني أن القضايا الأخلاقية قضايا قِيَمية واعتبارية لا تتمتَّع بأدنى واقعيةٍ ثابتة؛ إذ لو كان ذلك «الوجوب» الأمّ عبارة أخرى لمعنى ضروري وحتمي كانت لوازمه وتفريعاته تتمتَّع بنوعٍ من الواقعية والذاتية بالبداهة أيضاً. وعلى أساس هذه المحاسبة الدقيقة جدّاً يتّضح التناقض في كلمات بعض المحقِّقين([5])؛ إذ يقال من جهةٍ: إن الحُسْن والقُبْح من المدركات العقلية، وإلاّ فإن إثبات النبوة والشريعة سيتعرَّض إلى اختلالٍ عجيب، ومن ناحيةٍ أخرى هناك إصرارٌ على أن قضية «العدل حَسَنٌ» و«الظلم قبيحٌ» من القضايا العقلائية والآراء المحمودة، حيث لا واقعية وراء اتفاق العقلاء بشأنها.

من الواضح أنه لا وجود لأيّ تناغمٍ وانسجام بين هذين النوعين من الآراء؛ إذ لو كان الحُسْن والقُبْح من المدركات العقلية، وبغضّ النظر عن ذلك لم تكن النبوة والشريعة قابلةً للإثبات، فأيّ معنىً سيبقى لعقلائية واعتبارية الحُسْن والقُبْح؟ هل يمكن إثبات النبوّة والشريعة بالقضايا الاعتبارية، مع أن غاية ما تقوم به هذه القضايا هو تنظيم الحياة المادّية للعقلاء؟ وإذا كان الظلم قبيحاً والعدل حَسَناً بحكم العقل، وعلى هذا الأساس يجب على الله أن يكون عادلاً، ومنزَّهاً عن الظلم، تثبت النبوّة والشريعة، أمر مفهوم ومدرك بالضرورة ولا يمكن إنكاره، بَيْدَ أنه لن يعود هناك وجهٌ للكلام القائل بأن الحُسْن والقُبْح من الآراء المحمودة لدى العقلاء. إذن لا يمكن من جهةٍ اعتبار إثبات توقُّف النبوّة على الحُسْن والقُبْح، والاعتقاد من جهةٍ أخرى بعقلائية الحُسْن والقُبْح.

كما نشاهد هذا التهافت في كلمات بعضٍ آخر من علمائنا الكبار أيضاً؛ لأنه قام في موضعٍ بإثبات العدل الإلهي، وأقامه على أساس الحُسْن والقُبْح العقليّ المتين والواضح، ولكنّه للأسف الشديد اعتبر الحُسْن والقُبْح في موضعٍ آخر أمراً عقلائياً واعتبارياً، وتصوَّر أن البرهان الذي يُقام في هذا النوع من المبادئ برهانٌ جَدَلي وإقناعي وكلامي، ولهذا السبب جعل الكلام في مقابل الفلسفة([6]).

دفع شبهةٍ

قد يعترض أحدٌ علينا ويقول: إنكم بادّعائكم بداهة الضرورة المنطقية واعتبار قاعدة اللطف قد أثبتُّم ضرورة وجود النبيّ، وبذلك فقد اعتبرتم جميع الواجبات الأخلاقية متفرِّعة عن هذه الضرورة المنطقية، ومن هنا فقد شككتم في اعتباريتها، في حين أنكم أنفسكم قد شككتم في البداهة المذكورة. وإن قاعدة اللطف في حدّ ذاتها واحدة من ثمار الحُسْن والقُبْح العقلي، وليست منشأً لهما. وعلى هذا الأساس يكون مدّعاكم مخدوشاً، وغير مقبول أيضاً.

وجوابنا عن هذه الشبهة هو أن كلامنا بشأن الحُسْن والقُبْح العقلي غير ذلك الشيء الذي يقوله العَدْلية. وعلى الرغم من أن كلام العدلية بشأن ترتُّب قاعدة اللطف والعدل الإلهي على الحُسْن والقُبْح العقلي صحيحٌ أيضاً، إلاّ أننا نرى أن عكسه هو الأصحّ؛ لأننا نفترض أن الإيمان بالمبدأ المتعالي على أساس البراهين القطعية، والالتفات إلى تنظيم عالم الخلق، والالتفات إلى الصفات الجمالية والجلالة لله سبحانه وتعالى، يكون حكم العقل في قضية خبرية أو إنشائية بضرورة وجود النبوّة أمراً بديهيّاً. وإذا شكك أحدٌ بهذه البداهة فإنه يتمّ بيانها ببرهان الخلف واجتماع النقيضين، بمعنى أن اللطف في هذا التحليل العقلاني يتمّ إثباته في إطار قياسٍ منطقي، ولا تتمّ الاستعانة في مقدّمات هذا القياس بمقدّمة «الحُسْن والقُبْح العقلي»، بل إن البرهان العقليّ يشكِّل دعامة لفهم اللطف الإلهيّ المشتمل على ضرورةٍ منطقية. وإن هذا المعنى في قضيّةٍ خبرية يعبِّر عن ضرورة وجود النبيّ. ولا يخفى أن هذه القضية بلحاظ نفسها تحتمل الصدق والكذب، وهذا ما نحن بصدد إثباته؛ إذ مع القول بهذه الفرضية، سواء على أساس البداهة المدّعاة من قِبَل العدلية أو على أساس التقريبين اللذين ذكرناهما، فإن جميع الضرورات الأخلاقية التي تندرج ضمن مجموعة العدل سوف تحظى بواقعيةٍ، ولن يعود أحدٌ يستمع إلى تلك الكلمات الاعتباطية القائلة: حيث إن القضايا الأخلاقية عبارة عن ضرورات إنشائية يجب عدم النظر إليها بوصفها قضايا واقعية، بل هي قضايا قِيَميّة واعتبارية تتغيَّر وتتحوَّل على طول الزمان باستمرارٍ؛ وذلك أوّلاً: لأن جميع هذه القضايا تنشأ من ضرورة منطقية، ولا يخفى أن هذه الضرورة المنطقية حيث تشتمل على واقعية، وإنها تنشأ من واقعيةٍ ثابتة، فإن متفرّعاتها سوف تشتمل بدَوْرها على نوع من الواقعية، وتكون اعتبارية وقِيَميّة؛ وثانياً: حيث يمكن صبّ تلك الضرورة المنطقية في قالب القضية الخبرية، وبالتالي تكون ضروراتها المنتجة مبتلاة بذات المصير، يمكن الاعتقاد بأن جميع القضايا الأخلاقية وأمّهاتها ذات واقعية ثابتة لا يمكن اجتنابها.

وبطبيعة الحال يجب عدم الغفلة عن هذه الحقيقة، وهي أن واقعية كل شيء بحَسَبه، وأن جميع الواقعيات لا تبدو على نَسَقٍ واحد، بل الواقعية على درجاتٍ متنوعة وكثيرة للغاية. وإذا أرَدْنا أن نذكر مثالاً على ذلك فمن المناسب أن نمثِّل له بالعلم؛ وذلك لأن العلم في درجةٍ من درجاته واجب الوجود، وفي درجةٍ أدنى جوهرٌ مجرّد عقلي، وأدنى منه النفس المجرَّدة، وفي المنتهى موجودٌ عرضي هو إما ملكة أو حال. وإذا ألقينا نظرةً أدقّ على الوجود سندرك كيف تختلف درجات الواقعية في الشدّة والضعف. وعليه لن يكون هناك شكٌّ في أن مجرّد عدم الإحساس بشيءٍ لا يشكِّل دليلاً على عدم وجوده، إلاّ إذا كان ذلك الشيء من المدركات الحسّية. وعليه من أكبر الخطأ القول: إننا حيث لا نحسّ بحُسْن وقُبْح الأفعال فيجب أن لا يكون لها واقعية خارجية؛ وذلك لأن الواقعية أعمّ من المحسوسات والمعقولات. وإن مدّعى العدلية في مسألة الحُسْن والقُبْح هو أن العقل يدرك حُسْن الأفعال العادلة بالبداهة. والشاهد على صحّة هذا المدّعى أنه على طول التاريخ لم يمرّ على البشرية زمنٌ تعلَّموا فيه التحسين والتقبيح وجعلوه عادةً، بل تمّ تعليم البشرية في الغالب ـ في إطار الرضوخ للظلم والاستبداد ـ على ترك تعاليم الأنبياء والمصلحين. إن هذا المعنى قد أثار اهتمام قادة المجتمعات المتنوِّعة بحيث أصبح عادةً، ولذلك لم يتمكَّن أيُّ نبيٍّ من إخضاع أفراد مجتمعه تحت تأثير التعاليم الدينية. ومن هنا لا يمكن القول: إن هذه الاستحسانات والتقبيحات التي لا يمكن إنكار وجودها بين الناس قد تحوّلت إلى عادةٍ بفعل تعليم وتلقين الأنبياء وغيرهم من المصلحين؛ وذلك لأننا في الحدّ الأدنى على درايةٍ بتأثير وتأثُّر تعاليم نبينا، ونعلم جيداً أنه قلّ أن يكون هناك أناسٌ قد خضعوا تحت تأثير تعاليمهم الدينية، واليوم أضحَتْ الاتجاهات والنزاعات أسوأ مما كانت عليه بالأمس في سلوكها لذات المسار المنحرف. بَيْدَ أن جميع هؤلاء وغيرهم دون التفات إلى التعاليم الدينية يذهبون بشكلٍ قاطع إلى اعتبار بعض الأعمال قبيحةً وبعض الأعمال حسنةً، ولا يتطرَّق لهم أدنى شَكٍّ في حكمهم هذا. ونحن بدَوْرنا مع افتراض التخلّي عن مصالحنا، ومع افتراض نَبْذ الجهات السلبيّة الأخرى، نعتبر بعض الأعمال حسنةً، وهذا أوضح دليلٍ على عقلية حُسْن وقُبْح الأشياء والأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان وعن الله.

العدل في القرآن الكريم

من المناسب بعد ما تقدَّم أن نقف عند إشارات القرآن الكريم إلى العدل، وأن نتناولها بالبحث والتأمُّل أيضاً. ومن ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ (النساء: 58).

ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة قد اعتبر العدالة القضائية والتنفيذية في المجتمع واجبةً على الحكام. ولكنّه لم يبيِّن ماهية هذه العدالة، وهذا يعني أن العدالة كانت واضحةً، وأن الناس يعرفون حدودها وأبعادها جيداً، وكانوا يجلّونها ويقدّرونها؛ إذ إنه في ختام هذه الآية يأمر بردّ الأمانات إلى أهلها وتطبيق العدالة باعتبارهما من المواعظ الحسنة، معلِّلاً ذلك بكونه سميعاً وبصيراً.

وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90).

نرى أن هذه الآية؛ حيث تشتمل على عددٍ من النقاط، تبيّن ما نسعى إلى إثباته بشكلٍ أفضل من الآية السابقة؛ وذلك أنه بعد افتراض وضوح العدل قد تمّ اعتباره موضوعاً للحكم بوجوب العدالة، وذكر العدل بشكلٍ مطلق، مستنداً إلى مصداقين واضحين من مصاديق العدل، وبذلك يكون قد ذكر الخاصّ بعد العام، ثم قرن ذلك بالنهي عن الفحشاء والمنكر والظلم، وهو نوعٌ من التأكيد على الأمر بالعدالة. والأهمّ من ذلك كلِّه أنه صرَّح في نهاية الآية بأن الفلسفة من ذلك هي تذكير الإنسان، وهذا هو الذي نسعى إلى إثباته؛ إذ عندما تكون علّة الأمر بالعدل والنهي عن الظلم هو تذكير الإنسان بماهية العدل والظلم سوف يكون معنى هذا الأمر والنهي هو الإرشاد إلى حكم العقل في هذا السياق، أي إن هذه الآية تقول: إن حُسْن الأمر بالعدل والنهي عن الظلم أمرٌ تعرفونه بأنفسكم، وتؤمنون به، وإن أمر الله ونهيه قد جاء لتنبيهكم وتذكيركم، وليس أمراً جديداً وتأسيسياً غير مسبوق. ولا يخفى أن هذا المعنى ليس سوى التذكير بالحُسْن والقُبْح العقلي.

وقال تعالى: ﴿…فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لاَ تَعُولُوا﴾ (النساء: 3).

إن هذه الآية تحتوي قبل كلّ شيء على بيان الأهمّية الكبيرة للعدالة؛ إذ مع احتمال عدم رعاية العدالة يتمّ التخلّي عن حكمٍ شرعي وفقهي ثابت، ويتمّ تحديد عدد الزوجات؛ خشية ترك العدالة، هذا أوّلاً. وثانياً: إن تعليل هذا الحكم بأن تطبيق هذا القانون أقرب إلى العدالة وأبعد من الظلم إنما يكون له معنى إذا كان قُبْح الظلم وحُسْن تركه ـ الذي يعني إقامة العدل ـ واضحاً للناس، ولو بقرينة المقام، وهذا ليس شيئاً آخر غير الحُسْن والقُبْح العقلي.

وقال تعالى: ﴿…فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ…﴾ (الشورى: 15).

نفهم من هذه الآية الكريمة نقطتين في غاية الأهمّية بشأن العدل أيضاً، وهما: أوّلاً: الأهمّية البالغة المعطاة إلى العدل، حيث جعل مساوياً للإيمان بكتاب الله تعالى. وثانياً: إن الله تعالى يقول لنبيِّه في هذه الآية: قل للمسلمين: إني أُمرتُ أن أعدل بينكم. ومن الواضح أن هذا الكلام إنما يكون موافقاً لمقتضى الحال وفي محلّه إذا كان معنى العدالة وحُسْنها واضحاً للمخاطبين. كما أن الآية تقول: قل: إنّي أُمرتُ لأعدل بينكم، لا أن كلّ ما أقوم به هو عدلٌ. وهذا هو الشيء الذي نقوله، وهو أن العدالة معلومةٌ، وحُسْنها معروفٌ، ولكنْ لا بمعنى توافق العقلاء على حسن العدالة، وإنما بمعنى عقليتها.

كان ما تقدّم بعض الآيات بشأن العدل، والتي هي، بالإضافة إلى بيان أهمّية العدالة في الدين، تثبت ما نحن بصدد إثباته. وفي ما يلي ننتقل إلى ذكر بعض الآيات الواردة بشأن الظلم، والتي تؤيِّد كلامنا أيضاً.

ومن ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 135).

من الواضح بداهةً أن هذه الآية ـ مثل الآيات المتقدمة ـ تثبت مرادنا أيضاً؛ لأنها تقول: إنهم عندما يرتكبون عملاً قبيحاً أو يظلمون أنفسهم فإنهم يشعرون بالذنب. وظاهر هذا الكلام أنهم يدركون قبح الظلم، ويعرفون العمل القبيح، وإلاّ كان معنى هذه الآية أنهم كلّما ارتكبوا عملاً منهيّاً عنه من قِبَل الله فإنهم يتذكرون الله، ومن الواضح أن هذا المعنى، رغم احتماله، على خلاف الظاهر من الكلام.

وقال تعالى: ﴿لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ…﴾ (النساء: 148).

إن المراد من هذه الآية هو أن الشخص إذا تعرَّض إلى الظلم يمكن أن يتلفَّظ بكلماتٍ مسيئة، ويجهر بهذه الكلمات في مواجهة الظالم، أو أن يكشف عن سيئات الظالم ويعدِّد قبائحه أمام الملأ، وبذلك يدعو الآخرين إلى نصرته ضدّ الظالم.

لا تخفى على أحدٍ دلالة هذه الآية على أن الظلم والعدوان على الآخرين قبيحٌ، وقد ترك تحديد ذلك إلى العقلاء أنفسهم. ولذلك قالت هذه الآية بشكلٍ مطلق: إن المظلوم ـ الذي يتعرَّض للإساءة ـ يمكنه أن يتحدَّث عن سوء ذلك العمل، أو أن يذكره بسوءٍ. وظاهر هذه الآية أنها أخذت معلومية القبيح وسوء الأفعال والأعمال أمراً مفروغاً عنه، وهذا هو الحُسْن والقُبْح العقليّ ليس إلاّ.

وقال تعالى، حكايةً عن قوم إبراهيم×: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 59).

لا شَكَّ في وضوح دلالة هذه الآية على مرادنا؛ لأن هذه الآية تعبِّر عمّا قاله قوم إبراهيم× بشأن تحطيم أصنامهم، ولا داعي إلى القول بأن صحّة معنى الآية متوقِّف على أنهم يعرفون الظلم وقبحه؛ لأنهم إنما قالوا هذا الكلام في مقام ذمّ الفعل الذي وقع على أصنامهم، وهذا إنما يصحّ إذا كان قبح الظلم معلوماً للكافرين، وبديهيٌّ أنهم لم يتعلَّموا أبداً أن الظلم يجب اجتنابه، وهذا يثبت أن قبح الظلم واضحٌ بالنسبة لهم على أساس البداهة العقلية.

لقد استعمل الله تعالى مفردة الظلم ومشتقّاتها في القرآن الكريم لأكثر من مئتين وتسعين مرّة، وكان استعمالها غالباً بوصفها موضوعاً لحكمٍ من الأحكام، وهذا يشكِّل دلالةً واضحة على أن الظلم والعدل وما إليهما كانت من المفاهيم الواضحة، وكان الناس في حينها ـ رغم تخبُّطهم في مستنقع الجهل ـ يدركون هذه المفاهيم وحُسْنها وقُبْحها.

نرى أن كلّ شخصٍ يدقِّق في هذه الآيات وآيات القسط والعدل سيطمئنّ إلى أن الكثير من هذه الآيات قد تمّ بيانها بعد أخذ هذا المعنى أمراً مفروغاً عنه، بل إن بعض الآيات لا يمكن أن نتصوَّر لها معنى صحيحاً إذا تمّ تجاهل هذه النقطة. كما أن الناظر في كلمات وخطب الإمام عليّ× في نهج البلاغة يستيقن أن العدل ليس هو ما قاله الشارع، والظلم ليس هو ما نهى عنه الشارع، رغم أن الشريعة لا تحتوي على غير العدل، وليس فيها شيءٌ من الظلم. كما أن النصوص الدينية زاخرةٌ بالأوامر التي تدعو الناس إلى إقامة العدل ومقارعة الظلم، ولكنّ هذا لا يعني أن الحُسْن والقُبْح والعدل والظلم شرعيّ فقط، بل يعني كذلك أنها من المستقلاّت العقلية، والتي يستقلّ العقل بمعرفتها. وعليه فإن قطار الدين وإنْ كان لا يسير إلاّ على سكّة العدالة، إلاّ أنه في الوقت نفسه يعتبر العدالة أمراً عقلانياً، وحقيقة واضحة لا يمكن للمجتمع البشري أن يجتنبه.

الهوامش

(*) باحثٌ، وأستاذ البحث الخارج (الدراسات العليا)، في الحوزة العلميّة في مدينة قم. له دراساتٌ فقهيّة متعدِّدة.

([1]) للمزيد من التوضيح انظر: الحدائق الناضرة، ج10، بحث صلاة الجماعة.

([2]) المحقِّق النراقي (1128 ـ 1209هـ): من علماء الدين الشيعة ومؤسِّس الحوزة العلمية في مدينة كاشان. ولد في نراق، ثم انتقل إلى كاشان لطلب العلم، وهاجر بعدها إلى أصفهان ـ حيث كانت هي المركز العلمي آنذاك ـ، فدرس على علمائها الفقه والأصول والحديث والتفسير والطب والكلام والرياضيات، واغتنم فرصة وجوده هناك فتعلَّم العبرية واللاتينية على يد جماعةٍ من اليهود والنصارى؛ كي يسهل عليه الرجوع إلى كتبهم ودراستها. عاد بعدها إلى كاشان ليؤسِّس حوزة علمية هناك. له الكثير من المؤلَّفات، ومن أشهرها: كتاب (جامع السعادات). المعرِّب.

([3]) النراقي، جامع السعادات 1: 50 ـ 52.

([4]) انظر: العلاّمة الحلّي، شرح تجريد الاعتقاد.

([5]) مثل: المحقِّق الشيخ محمد رضا المظفر.

([6]) لاتّضاح المسألة أكثر انظر: مؤلَّفات الشهيد مرتضى مطهَّري.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً