أحدث المقالات

أ. نبيل علي صالح(*)

الخلاصة

يحاول البحثُ الإضاءةَ على الاجتماع السياسي العربي والإٍسلامي في آليات تأسيسه التاريخية الأولى، ويدرس إمكانية انسجامها ـ كارتكازاتٍ عقدية وشعورية قارّة ـ مع تطوّرات الحياة والعصر؛ بهدف بناء رؤية قد تكون تأسيسية ـ على المستوى المعرفي النظري ـ تخصّ عملية إنشاء نُظُم حكمٍ سياسية إسلامية (مدنية) فاعلة ومنتجة، في وقتنا الحاضر أو في المدى المستقبلي، ترتكز بدَوْرها على مجتمعات سياسية حضارية منفتحة، بعيدة عن العصبيات والانغلاق الهوياتي ورفض الآخر، ومتأصّلة دَوْماً بثوابت العقيدة والإيمان؛ لتبقى الدولةُ التي تمثِّل واجهةَ هذا الاجتماع مؤسّسةً على آليات عملٍ سياسية متغيرة.

ويحدّد البحث دوافع استمرار الأزمات وتفشّي الأمراض في داخل جسد هذا الاجتماع، ويرجعها إلى أسباب سياسية ثقافية، لا علاقة للدين بها.

يقرِّر البحث أن ثمّة قابلية نوعية متوفّرة في مجالنا الاجتماعي والحضاري الإسلامي لقبول آليات تطوير هذا الاجتماع، والانفتاح العملي عليها.

ويخلص البحث إلى أنّ شرعية الحكم في الاجتماع السياسي الإسلامي أهمّ من نوعيّته، ومن الولاء له، وأن قوّة الدولة فيه تأتي من قوّة مجتمعها، وهذا لا يتحقّق من دون منظومة حقوقٍ كاملة متجسِّدة في السلوك والتطبيق.

 

مقدّمةٌ

بلغَ المجتمع العربيّ أوْجَه وذَرْوَته مع قدوم الإسلام في رسالته الخاتمة، القائمة على الدعوة لبناء الإنسان (وتمكين وجوده) على رؤيةٍ إيمانية جديدة، قوامها التوحيد والحقوق والأخلاق؛ ليتحوّل هذا المجتمع في عهد الرسول الكريم| إلى مجتمع حَضَري (مديني = من المدينة والمدنية) بالمعنى الدقيق للكلمة، من خلال تأسيسه ـ بحَسَب تعاليم القرآن والرؤية الرسولية ـ على أواصر العقيدة، وروابط الانتماء الرسالي لله والأمة، وإقامة بنيانه على قواعد متينة من القِيَم الحضارية الإنسانية([1])، من عدلٍ وكرامة وتسامح وتعايش وقبول للآخر…، وغيرها.

وكانت تجربة الرسول الكريم محمد| مصداقاً عملياً حقيقياً لتلك القِيَم المعيارية على صعيد الاجتماع السياسي، والعلاقات بين مكوّنات المجتمع، في مجال الحوار وقبول الآخر والتسامح الفكري والعقيدي، ورفض الإقصاء، وتركيز معاني التعايش السِّلْمي بين المختلفين.

لقد جاء الإسلام إلى مجتمعاتٍ متعدّدة ومتنوّعة في مكوّناتها الاجتماعية والدينية والقومية والجهوية، ولم يغفل مطلقاً عن هذه الحقيقة التاريخية البشرية التي سنّها الله في حركة الواقع البشري؛ فالاختلاف والتعدّد والتنوّع سنّة الحياة والوجود كما يقول القرآن: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود: 118)، ولهذا جاءت «الصحيفةُ ـ المعاهدة»([2]) التي نظَّمها النبي| بين المسلمين من جهةٍ ومختلف الفئات القاطنة في المدينة (وخاصّة اليهود) من جهةٍ أخرى، جاءت ـ في هذا السياق ـ لتكون أوّل دستور (ونظام حقوقي مديني) يصوِّر لنا أحوال (وأوضاع) المجتمع الإسلامي، الذي أصابته تغيُّرات كثيرة، بحيث أصبح قائماً (نتيجة لتأثيراتها) على أُسُس وضوابط تنظيمية جديدة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.

لقد كانت تلك «الوثيقة ـ المعاهدة» من أهمّ الدلائل([3]) التي تشير بوضوحٍ إلى ذلك التأسيس الأوّلي للمجتمع المديني الإسلامي، وذلك من حيث اعتبارها:

1ـ أوّل دستور وقانون عملي يجسّد معنى العقد الاجتماعي بين الناس المكوّنين للمجتمع الوليد، وللدولة الإسلامية الفتية.

2ـ وأوّل نظام داخلي لجماعة المسلمين والمؤمنين في شؤون الجنايات والحرب من جهة، ومعاهدة بين الرسول| وبين اليهود من جهةٍ ثانية.

3ـ وأوّل عقد «اجتماع ـ سياسي» تأسَّست عليه الدولة الإسلامية التي انضوَتْ تحت جناحَيْها كثيرٌ من المكوّنات التاريخية، والانتماءات الدينية المتعدّدة، والقوميات المختلفة، والاتنيات المتنوّعة، كالنصارى واليهود، والعرب والعجم، وغيرهم؛ باعتبارها من ارتكازات المجتمع الإسلامي ودعائمه الأساسية.

وهنا لا بُدَّ من التركيز على نقطة محورية جدّاً، وهي أن هذه المعاهدة كانت منسجمةً مع الأجواء العامة التي كانت تحكم علاقة المؤمنين ببعضهم؛ فهي جزء من هذه العلاقة، ممّا يوحي بأنّ النبي| أراد أن يجعل من المجتمع المديني وحدةً متكاملة لجميع الفئات والمكوّنات الاجتماعية المتعدّدة الموجودة فيه، سواء منها المهاجرون والأنصار من المؤمنين، أو من أهل الكتاب من اليهود على اختلاف قبائلهم وطوائفهم؛ لأن المصير الأمني والحياتي مشترك بينهم، دون أيّ تعقيداتٍ من جانبه كدينٍ جديد، بحيث نستطيع تقرير الفكرة التالية، وهي: إن الإسلام لم يكن ليخطِّط لأيّ مشاريع حربية أو سلوكيات عدائية ضدّ أهل الكتاب، سواء من النصارى أو من اليهود، بل كان ـ على العكس من ذلك ـ يخطّط لمشاريع سلمية طويلة الأَمَد؛ لخلق التعايش السلمي بين الأديان([4])، وتنظيم العلاقات في المدينة على ضوء المستجدّات والتغيُّرات الجديدة. أي بعد اعتناق طائفةٍ من الأوس والخزرج الإسلام، وبعد هجرة الصحابة وعيشهم في المدينة بجوار قبائل أخرى، وكذلك بعد قبول عرب يثرب بالرسول| كحَكَمٍ بينهم.

إننا نعتقد أن وجود دلائل ومعطيات تاريخية تشير إلى قيام مجتمعٍ مديني متعدّد منذ بدء مسيرة الدعوة الإسلامية ـ كما يتّضح من خلال هذه المعاهدة المتقدمة في الوَعْي السياسي الإنساني ـ يمكن أن يعطينا إضاءاتٍ متنوّعة على طريق مسيرتنا الحاضرة والمستقبلية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وترسم لنا بعض المعالم المعرفية على طريق إعادة موضعة مفاهيم الاجتماع الإسلامي في سياقٍ راهنٍ معاصر؛ ليكون فاعلاً وقادراً على تمثُّل معنى الدولة السياسية الحديثة، والمجتمع المدني المؤسّساتي الحديث، بالاستناد إلى مفاهيم الإسلام ونظرته إلى الحياة والإنسان في وجوده الذاتي والموضوعي، والمنطلق من حيث إنه خليفةٌ مسؤول أمام خالقٍ، ومؤتمنٌ على قِيَم تستمدّ طاقتها منه.

لكنْ مع تطوّر الحياة وتعقُّدها وتطوّر حاجات الناس فيها، والتداخل المادي وغير المادي الكبير الحاصل بين الأمم والحضارات، كيف هو السبيل العملي (وليس النظري فقط) للوصول إلى إعادة بناء وتأسيس اجتماعٍ عربي إسلامي ناهض، يحترم حقوق الفرد والجماعة، ويؤمن بالتعدُّدية السياسية والفكرية، ويقدِّر الاختلاف والتباين في الآراء والنظريات والمذاهب والتكوينات؟!

وهل يتقبَّل الإسلام ـ في تاريخه الحالي وفي المستقبل ـ نشوء مجتمعاتٍ مدنية إسلامية، تأخذ بأجواء العصر الإيجابية، وتعيش حسّ الحياة المعاصرة ونبضها الحديث، وتتبع حركيّة التغيير والتجديد في مناهج فكرها ومختلف رؤاها الأخرى، بما يتناسب مع الضرورات المستجدّة الملحّة للحياة الراهنة، مع معرفتنا بأن هناك أجواء فكرية وسياسية واجتماعية واسعة تعارض فكرة المدنية بحدّ ذاتها، وتعتبرها غَزْواً ثقافياً وسياسياً يستهدف البِنْية والجَوْهر الديني المكنون([5])؟!

ثمّ هل هناك إمكانياتٌ ومعطيات واقعية حاليّاً يمكن أن تجعل عموم «الإسلاميين» يؤمنون بأفكار وطروحات سياسية مَدَنية وضعية (بالمعنى العملي والحركي التنفيذي، في سياق الاستفادة من وجود منطقة الفراغ التشريعية التي تركها المشرِّع للفقهاء والعلماء؛ من أجل أن يملأوها بحَسَب ما يناسب وضع العصر أو المجتمع الإسلامي)، كالديمقراطية والتعدّدية السياسية، والمدنية بمعناها الغربي؛ باعتبار أنها تشكِّل ـ كما يزعم ـ العمودَ الفقري لأيّ مجتمعٍ مدني حديث؟!

انطلاقاً من تلك التساؤلات الفكرية سنحاول الإجابة عن مجمل الإشكاليات المطروحة أعلاه، من خلال بحثنا في طبيعة المدلولات والآثار السياسية والاجتماعية الكامنة في طبيعة التركيب النفسي والمفاهيمي العقائدي، ضمن رؤيةٍ قد تكون تأسيسيةً ـ على المستوى المعرفي النظري ـ، تخصّ عملية إنشاء نظامٍ سياسي إسلامي، في وقتنا الحاضر أو في المدى المستقبلي.

الارتكازات العَقْديّة والشعوريّة للاجتماع السياسيّ الإسلاميّ

أوّلاً: يقدِّم الإسلامُ ـ في نصوصه المُحْكَمة بالذات ـ الدينَ عموماً (وليس الإسلام بالذات والخصوص) للناس بحكم كونه سُنّةً كونية ثابتة ومعيارية من سنن الحياة والوجود، ومرتكزاً فائق النوعية في كلّ الحركة التاريخية البشرية. إنه قرارٌ تكويني وقانونٌ اجتماعي ثابت وحاكم، وليس مجرّد قرارٍ تشريعي اعتباري، أو علاقةٍ روحية شعورية خلاصية؛ يقول تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).

ووفقاً لهذا المفهوم تكون وظيفةُ الإنسان ـ في سياق وَعْيه الفعّال لمسألة الدين ـ أن يعمل على ملاحقة الأهداف الكبرى، وتجسيد القِيَم السامية العالية والنبيلة لحركة الدين، من خلال مضمونه الداخلي، وبنيته النفسية والشعورية الممتزجة ـ فطرياً ووجودياً ـ بحقيقة الدين، وجوهر الحياة. والإسلام ـ ذاته ـ يؤمن (كنظريّةٍ وممارسة) بأن للإنسان دَوْراً فاعلاً رئيسياً وحاسماً، وحضوراً نوعيّاً مميّزاً، في كل حركة التاريخ والوجود؛ فهو الذي يصنع ـ بفكره ووَعْيه الذاتي ـ كلّ الغايات والتطلُّعات والإبداعات، ويتمثَّل كلّ الأهداف العليا والطموحات الكبرى للمسيرة الإنسانية في الحياة، المنطلقة أساساً من وَعْيه للمثل الأعلى الذي هو الله تعالى، المبدأ والعلّة.

ومن الضروري، والحال هذه، أن تكون مسيرة المجتمع (الإسلامي) هادفةً واعية وصادقة. فكلّ حركةٍ حضارية دينية أو وضعية لها غايةٌ وطموحٌ ما تسعى نحوه، وتستمدّ قوتها وطاقاتها ووقودها وزخم اندفاعها من خلاله؛ فالهَدَف هو المموِّن الحقيقي الداخلي للحركة، وهي ـ في الوقت نفسه ـ القوّة التي تمتصّها عند تحقيق الهدف، فتتحوّل الحركة إلى سكونٍ باستنفادها لغايتها ومقصدها. والهدف الوحيد   ـ الذي يقترب منه الإنسان، ويواصل مسيرته المتصاعدة وجَذْوته المتّقدة باستمرارٍ ـ هو الهدف الذي يكتشف فيه ـ كلّما اقترب منه ـ آفاقاً جديدة وامتداداتٍ غيرَ منظورةٍ، تزيد الجَذْوة اتّقاداً، والحركة نشاطاً، والتطوّر إبداعاً([6]).

وهنا يأتي دَوْر المجتمع الإسلامي ليضع الله هَدَفاً أعلى وأرقى للمسيرة الإنسانية.، ويطرح صفات الله وأخلاقه وقِيَمه كمعالم لهذا الهدف الكبير. فالعدل والعلم والقوة والرحمة والجود والسلام…إلخ تشكّل بمجموعها هَدَف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة. وكلما اقتربت خطوةً نحو هذا الهدف، وحقَّقت شيئاً منه، انفتحت أمامها آفاقٌ أرحب، وازدادَتْ عزيمةً وجَذْوةً لمواصلة الطريق؛ لأن الإنسان المحدود لا يصل إلى الله، ولكنّه كلما توغَّل في الطريق اهتدى إلى جديدٍ، وامتدّ به السبيل سعياً نحو المزيد؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69).

إنّ اللهَ يطلب من الإنسان أن يتعامل ـ ويتفاعل إيجاباً ـ مع صفات الله وقِيَمه ومبادئه؛ بوصفها حقائق عينية، يمكنها أن تعايش تجربة الإنسان، الذي يستطيع بدَوْره أن يعمل على الالتزام بها في حياته، بما يعود بالنَّفْع والفائدة الكبيرين على حياته الفردية الذاتية والاجتماعية الموضوعية؛ لأن القِيَم لم تأتِ من فراغٍ أو سكونٍ، بل انبثقت من واقعٍ عيني ملموس، ارتبط بالواقع اليومي. وقد أرادها الله أن تكون رائداً وهادياً ومرشداً للإنسان في طريق الحياة، وهَدَفاً أساسياً لمسيرته العملية فيها. ومن خلال هذا الفهم الاجتماعي الرفيع لفلسفة الوجود الحقيقة الهادفة ـ التي امتاز بها الإسلام عن غيره من الأفكار والنظريات والأدبيّات الأخرى ـ نجد أن الاجتماع الإسلامي المتجدِّد (الذي تقوم أركانه على الأُسُس الإسلامية الصلبة في الرؤية والمسار والهدف) قادرٌ لا محالة على الاستجابة الفاعلة لمتغيِّرات وشروط الحياة الجديدة؛ لأن الطريق إلى المثل الأعلى (الله تعالى) غير محدودةٍ، ولا تقف عند حدٍّ بذاته، لذلك تكون مجالات الإبداع والتطوُّر والإنتاج والنموّ والتصاعد الفكري والعملي قائمةً بشكلٍ دائم، ومفتوحةً أمام الإنسان باستمرارٍ، ومن دون توقُّفٍ. إن هذا الهَدَف والمَثَل الأعلى ـ حينما يُبتنى ـ سوف يمسح من الطريق كلّ الآلهة المزوَّرة التي أنشأها وأقامها أفراد المجتمع القبلي الساكن (نقيض المجتمع المدني)، وسوف يزيل كلّ الأصنام والأقزام المتصنِّمة المتعملقة، التي تقف حاجزاً على الطريق بين الإنسان وبين وصوله إلى الله، كما سيكون (ذلك الهَدَف) قادراً على إعطاء الحلّ الموضوعي للجَدَل والتناقض الإنساني، بمعنى إعطاء الشعور والمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان الذي ينشأ لديه ـ من خلال إيمانه بالله ووَعْيه له في طريقه بحدوده الواقعية والكونية ـ إحساسٌ وشعورٌ معمّق بالمسؤولية تجاه المَثَل الأعلى، ومن ثمّ تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، والذي يشكِّل انعكاساً حقيقياً لقِيَم ذلك المَثَل الأعلى على أرض الواقع([7]).

إذن، يقوم التركيب العقائدي للمجتمع الإسلامي على قاعدة الإيمان بالله تعالى، والانفتاح على صفاته وقِيَمه، ويجعل من هذا الإيمان هَدَفاً للمسيرة الحياتية للإنسان، وغاية للتحرُّك الحضاري الصالح والمنتج على الأرض. وهذا التركيب النفسي والعملي هو التركيب الوحيد الذي يمدّ الحركة الحضارية للإنسان بمؤونةٍ ووقود لا ينفدان: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109).

ثانياً: ينعكس التركيب النفسي والروحي للمجتمع الإسلامي على طبيعة توجُّه وسلوك الاجتماع السياسي، وطبيعة النظام الاجتماعي الإسلامي الخاصّ والعامّ، الذي لا يمارس دَوْره في فراغٍ، وإنما يتجسَّد في أفعالٍ أخلاقية([8]) عادلة، في علاقة المسلم بذاته وبغيره من مفردات محيطه ووجوده؛ إذ يعمد هذا النظام الاجتماعي الإسلامي إلى تعبئة الجهود، وحشد الطاقات([9]) والقدرات المختزنة في المجتمع، وتفجيرها في أفراده، تَبَعاً لمدى انسجامه، إيجاباً أو سلباً، مع التركيب النفسي والنسيج العقائدي والتاريخي لهؤلاء الأفراد؛ لأنّ البناء الحَضاري والثقافي الواعي والمتين، الخاصّ بتقدُّم الأمة([10]) ـ على طريق توليدها لمجتمعاتٍ مدنية منفتحة ومتفاعلة مع باقي الحضارات والثقافات من موقع النّد للندّ، وليس من موقع التماهي والمحاكاة ـ، لا بُدَّ أن يأخذ بعين الاعتبار نفسيّة وروحيّة الأمة التاريخية، وطبيعة مشاعرها الوجدانية، وتركيبها العقائدي والفكري الإسلامي؛ لأن عملية النهوض والارتقاء بواقع المجتمع الحالي ـ واستنهاضه نحو مَدَنيّةٍ حديثة راقية، محورها وأساسها الإنسان نفسه ـ لا يمكن أن تتحقّق من دون إدماجٍ حقيقي طَوْعي للمجتمع كلّه في عملية النهوض والارتقاء المفترضة، بحيث يقوم ذلك النظام الاجتماعي على مبدأ وقاعدة التفاعل الحيّ المباشر مع تلك الأمّة. فحركة الأمة كلّها شرطٌ أساسٌ لازم لإنجاح أيّ عمليّة بناءٍ حضاري واجتماعي جديدة، وأيّ معركة شاملة ضدّ التخلُّف؛ لأنّ حركتها تعبيرٌ عملي حيّ عن إرادتها ووَعْيها الذاتي، وانطلاق مواهبها الداخلية نحو الفعل الخارجي المبدع. وحيث لا تنمو الأمة لا يمكن لأيّ منهجٍ أو صيغٍ جامدة ومنحطّة أن تغيِّر من الواقع شيئاً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

من هذا المنطلق يجب أن تبقى تلك الحقائق ماثلةً وحاضرةً في بنية المجتمع، وأذهان أبنائه؛ لكي يعملوا بها، والتفتيش ـ في ضوئها ـ عن مشروعٍ عربي وإسلامي اجتماعي، يستطيع تنشيط المجتمع والأمّة وتحريكهما، وتعبئة كلّ قواهما وطاقاتهما في مواجهة الواقع المريض والمتخلِّف.

وهذا يعني أنه إذا كانت الثقافة الغربية، وطبيعة الظروف السياسية التي عاشها الغرب، قد أفضَتْ إلى بناء النَّمَط الحديث المعروف عن المجتمع المَدَني الغربي، فإنه يجب علينا في المقابل ـ كما نفعل الآن ـ أن نفتِّش (من خلال ثقافتنا وروحنا الحضارية الإسلامية) عن الأُسُس اللازمة لبناء نَمَطٍ آخر لمجتمعٍ مدني من صلب فكرنا وتراثنا وعقيدتنا؛ لأنه لا يمكن بناء مجتمعٍ سياسي (مدني) حديث في العالم العربي والإسلامي ـ له قواعد الثابتة والقوية ـ من دون وَعْي التراث الإسلامي وَعْياً إيجابيّاً من الداخل، ومحاولة دارسة مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية، وصياغتها ضمن مقولاتٍ وأنظمةٍ وأفكار حديثة، يمكنها الاستفادة من التجربة الغربية المتطوِّرة في هذا المجال.

ورغم قناعتنا بأهمِّية الاستفادة من تجارب الآخرين، يجب أن ندرك ضمناً أنّ هذا المجتمع السياسي الإسلامي متميِّزٌ([11]) عن غيره من المجتمعات الأخرى ـ الغربية منها وغير الغربية ـ؛ بكونه تجسيداً لعقيدةٍ وشريعةٍ ورسالةٍ حضارية إنسانية، فليس المجتمع الإٍسلاميّ مجرّد تعبير عن ضرورة الإنسان إلى الاجتماع؛ لحفظ حياته، واستمرار وجوده، والحصول على خَدَمات ومكاسب أكثر ممّا يستطيع أن يحقِّقه بجهده الفردي. إن المجتمع الإسلامي ـ قبل ذلك ـ تعبيرٌ عن التزامٍ رسالي، ومهمة حضارية، وهذا هو مبرِّر وجوده في التاريخ، وإلاّ فقد كان يمكن ـ من دون ذلك ـ أن يبقى الاجتماع العربي ـ الحضري والبدوي ـ وغيره على ما كان عليه، دون تغييرٍ في معناه ومبناه([12]).

ثالثاً: يقومُ التركيبُ النفسي والشعوري للإنسان المسلم أيضاً على ضرورة تحريره من قيود الواقع، النظرية والعملية، وتربيته على أساس تعميق الدوافع وروح المبادرات، بحيث تنبع من الشعور العالي بالمسؤولية، والإحساس بخطورة وأهمِّية الواجب؛ وذلك من أجل إقامة الحقّ والعدل، وتحمُّل الصعوبات والمشاقّ المختلفة التي تتطلَّبها عملية البناء (بناء الإنسان وتطوير المجتمع). ومن الطبيعي أن يؤثِّر الجوهر الإنساني ـ في هذا المجال ـ على نوعية التحرُّك الخارجي نحو الهَدَف المرسوم، من خلال مواجهته لبعض العقبات في الطريق. ولعلّ من أبرزها: الانشداد إلى الدنيا، والتعلق الأرضي بالحياة، بغضّ النظر عن شكلها ونوعها وخيرها وشرها. وهذا أمرٌ يؤثِّر ـ كما ذكَرْنا ـ على المسيرة البنائية، وقد يوقفها في بداية انطلاقتها.

لذلك ـ ولكي تُجسَّد الطاقات عمليّاً وتُربَّى مواهب أفراد الأمّة ـ لا بُدَّ من تركيبٍ عقائدي ونفسي، له أخلاقيّة خاصّة، تنمّي في داخل الإنسان محبّة الله؛ بحيث يكون الله هو المحور الأساس في حركة الوجود كلّه؛ ليكون الإنسان عبداً لله ـ لا مالكاً وسيّداً حُرّاً ـ، وحُرّاً أمام كلّ مفردات الحياة والوجود، ومنطلقاً إلى حياةٍ أوسع وأغنى وأعلى من حياة الأرض، ومؤمناً بأن التضحية بأيّ شيء على الأرض هي تحضيرٌ بالنسبة إلى تلك الحياة التي أعدَّها الله للمتقين من عباده. وهذا لا يتمّ إلاّ بانتزاع ذلك التعلُّق الإنساني بالأرض؛ لكي تتحوّل الدنيا من كونها مسرحاً للتنافس والبأس ـ والتكالب على المال والزعامات، والشهوة، والنزوع نحو المادّية العمياء ـ إلى مسرحٍ للبناء الصالح، والكدح الهادف، والإبداع المستمرّ في الحياة([13]). وبذلك يتحرَّر الإنسان، في ظلّ المجتمع الإسلامي، من مغريات الأرض، ويرتفع عن الهموم والهواجس الصغيرة التي تفصله عن الله، وعن الناس، وتبعده عن التفكير بالأساسيات الكبرى؛ ليعيش من أجل الهموم والقضايا الكبيرة الواسعة والعالية، التي تتّصل بحركة الحياة وهَدَف الوجود. ومن خلال ذلك يواجه أعظم مسؤوليات البناء الاجتماعي بصدرٍ رَحْبٍ، وقلبٍ مطمئنٍّ، وعقلٍ مفتوح، ونفسٍ قوية ومؤمنة.

رابعاً: ضرورة بناء الإنسان المسلم (في إطار عمله المستمرّ على بناء مجتمعٍ مدني إنساني مواكبٍ لتغيُّرات الحياة وتحوُّلات الواقع) على الإيمان العميق بقابلية الدعوة الاجتماعية الحضارية للإسلام ـ بمفاهيمها وتصوُّراتها الفكرية والعملية الفراغية (نسبة لمنطقة الفراغ التشريعية) المتغيِّرة (وليس الثابتة) ـ للتجديد، ومراجعة الاجتهاد، والاستجابة لتطوُّرات الوَعْي البشري، وقدرتها على مواكبة المتطلّبات العملية للناس في شتّى العصور والمراحل التاريخية([14])؛ لأن الله تعالى لم يُرِدْ للإسلام ـ كدينٍ سماوي خالد، مهتمٍّ بشؤون الإنسان والمجتمع الخاصّة والعامّة ـ أن يبقى مجرّد أفكار ونظريات مخزونة في بطون الكتب والأسفار، من دون أن يكون لها دَوْرٌ أساس في الحياة، في أن تتجسَّد في مواقع التجربة البشرية، وتعايش ظروف ومناخات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية([15])، وتشقّ طريقها إلى حياة الناس وممارساتهم اليومية، الأمر الذي يتطلَّب ـ وبشكلٍ مستمرّ ـ قدرةً فائقة لدى هذا الدين على تجديد أبنيته الفكرية، وتحديث آليات تطبيق منظومته الفكرية والعقائدية في الواقع، بما يتوافق مع تجدُّد أفكار البشر، واتِّساع مداركهم المعرفية، وتعقُّد ظروفهم الاجتماعية، وتراكم احتياجاتهم ومتطلّباتهم الاقتصادية.

إن فاعليةَ هذا الدين (الذي نطلب تعزيز الجانب الحضاري التعدُّدي فيه، من خلال حركة التجديد وسلوك طريق التأويل العقلي)، وقابليته على البقاء والثبات، والاستمرار والإنتاج، والتأثير في الحياة العملية للناس، مرهونةٌ ـ إلى حدٍّ كبير ـ بمدى قدرته على الاستجابة الإيجابية لتحدِّيات العصر، ومتغيِّرات الواقع، التي تتَّسم بدوام التجدُّد والتطوُّر والتغيُّر من حالٍ إلى حالٍ، ممّا يستدعي حلولاً وتصوُّرات عملية متطوّرة ومنسجمة مع ذاتها أوّلاً، ثمّ مع الواقع ثانياً، وقادرة على المساهمة في حلّ مشاكل الإنسان والمجتمع.

إن الدين الذي يريد أن يبقى حاضراً في حياة الأمّة ـ ومؤثِّراً بقوّةٍ في حركة أبنائها ـ يجب أن يمتلك الطاقات والقدرات الحركية اللازمة لفتح الآفاق المستجدّة، من الوَعْي والتفكير المنطقي السليم لمعتنقيه ومتَّبعيه. والأمور التي تعطي للأمّة هذا المستوى المتطوّر من الوَعْي بطبيعة الاجتماع السياسي والمدني الإصلاحي هي معرفتها بخصائص المجتمع، ونوعية القِيَم والمعايير التي تتحكَّم في صياغة مواقف أفراده، وردود أفعالهم، والمرونة في التعامل مع مستجدّات المجتمع، وتفهُّم الأساليب المناسبة لتغييره وتطوّره بما يتناسب والأوضاع الجديدة، والانفتاح على مشاكل كلّ عصر وظروفه الخاصّة. لذلك يجب أن يدخل وَعْيُ الإنسان المسلم بضرورة مراعاة تغيرات الأحوال والظروف المحيطة بحركة هذا الإنسان والمجتمع والأمّة في صميم تركيبته النفسية والشعورية؛ لأن الإسلامَ ـ كفكرٍ حيّ ـ يؤمن بالسببية ومبدأ العلّة، الذي هو أساس نظام الخَلْق والوجود، وهو ـ بحَسَب ذلك ـ يتحرّك في كلّ مواقع ومسالك الحياة بالاستناد إلى الطرق الطبيعية والسُّنَن العادية الناظمة لحركة الواقع الكوني والوجودي، ولا يعطي الجانب الغَيْبي تلك الأهمِّية الكبرى في حركة الإنسان في إطار طبيعة تنظيمه الاجتماعي المدني؛ لأن الغَيْب نفسه أقام النظام الوجودي للموجودات جميعاً على أساس منطق وقانون السببية والعلم، والله سبحانه أبى إلاّ أن يجري الأمور على أسبابها، كما أسند الغَيْبُ نفسُه الوجودَ الإنساني إلى العلم؛ يقول تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 151)، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31). لذلك لا بُدَّ أن يراعى دائماً منطق الطبيعة ونظام الأسباب وقانون العلية الناظم للمسيرة الطبيعية والبشرية.

وعندما يقف هذا الفكر ـ الذي يعكس ذلك المنطق ـ في بعض المحطّات الحياتية، ويفقد قدرته على التجاوز في بعض الميادين، التي قد توضع فيها حواجز وعراقيل أمام تقدُّمه، فإن ذلك ليس عَيْباً أو نقصاً فيه بشكلٍ ذاتي، ولا يعتبر ضعفاً في أيّ عقيدةٍ أو نظريّةٍ تتحرّك في الحياة، ثم تأتي القوى المادّية لتمنعها من مواصلة مسيرتها وحركتها؛ لأنّ الإسلام ـ كما أشَرْنا ـ لا يركِّز على المبدأ الغَيْبي([16]) في المطلق، كأساسٍ عمليّ في مواجهة تغيُّرات الحياة وتحوُّلات المجتمع، في أن يحكم الغَيْب ساحة الحياة، لتتحوَّل عناصر الحياة المختلفة إلى مواقع غيبية تخضع للغيب وتفكِّر فيه، وإنما أن يكون الغَيْب وارداً في ذهنيّة الأمة وأفراد المجتمع، من حيث المبدأ، وفي الوقت نفسه يختزن الإنسانُ المسلم في داخله قانونَ السببيّة، الذي يقول بأنّ لكلّ ظاهرةٍ في الكون أسبابها المودعة في داخله، وأن الله قد جعل لكلّ شيء قَدْرَه، وأنّ الحياة ـ بمختلف مجالاتها (وخصوصاً الاجتماعية) ـ تحكمها القوانين والأنظمة، التي يمكن للإنسان أن يكتشفها ويتعرَّف عليها، ويجعلها منطلقاً لحركته الاجتماعية المدنية. وهذا الأمر محكوم بضرورة توفُّر شرطٍ أساس، هو تغييرُ شروط حياتنا بما يتَّفق مع معايير العصر. ومن الطبيعي أن الذي لا ينجح في ذلك يُهمَّش وينهار ويتداعى من الداخل، ثمّ يخرج من التاريخ، كما هو حال أُمَّتنا في الوقت الراهن.

خامساً: المُعْطى التأسيسي النظري الآخر، في المسألة الاجتماعية الإسلامية في سَعْيها نحو بناء تنظيمها الدولتي الحديث (إذا صحّ التعبير)، هو تعميقُ إحساس الإنسان بمسؤوليته تجاه خلافة الله في الأرض.

وهذه الصيغةُ الفكرية والعملية تعبِّر ـ في نظري ـ عن غنىً فكري، وطموحٍ واعٍ، في بناء المجتمع على العقلانية والموضوعية والشعور العالي بالمسؤولية؛ كونها تؤكِّد على قدرة وأهليّة وفاعلية المضمون الإنساني في عملية الخَلْق والإبداع، من خلال اعتبار الإنسان السيد المطلق في هذا الكون الفسيح.

وهذا التوجُّه العالي نحو تعميق تلك الصِّلَة بالسماء لا يعني ـ بأيّ حالٍ من الأحوال ـ تثبيط طاقة الإنسان عن الفعل والعمل، أو شعوره بالعجز عن التجديد والخلق المستمرّ، باستسلامه ـ كما يزعم ـ للقضاء والقَدَر، واتِّكاله على الظروف والفرص هنا وهناك، طبعاً هذا الأمر غيرُ واردٍ، حتّى لو سلك الإنسان في العالم الإسلامي بعض تلك السبل ـ وسلك بعض المسالك ـ التي أدَّتْ إلى إحساسه بذلك الشعور بطريقةٍ غير متوازنة، وبالتالي ساهمَتْ في إفشال عملية البناء الحضاري، والتنمية الاجتماعية الشاملة لمجتمعه وأمّته.

إننا نعتقد أنّ الإحساس العميق للإنسان في عالمنا الإسلامي بأهمّية وَعْيه لمسألة الخلافة الربانية يحتوي في مضمونه الداخلي على معنى المسؤولية والحكمة والتوازن تجاه ما يستخلف عليه؛ إذ لا مسؤولية بدون حرّيةٍ، وشعورٍ بالاختيار، والتمكُّن من التحكُّم في الظروف، وإلاّ فأيُّ استخلافٍ هذا إذا كان الإنسان مقيّداً أو مسيَّراً. ولهذا من الضروري إلباس الأرض إطار السماء، وإعطاء العمل مع الطبيعة ـ والسعي نحوها، وتسخير إمكاناتها ـ صفة الواجب الشرعي، ومفهوم العبادة؛ لأن ذلك يفجِّر في الإنسان المسلم طاقاته، ويثير إمكاناته. بينما قطع الأرض عن السماء يعطِّل في الخلافة معناها، ويجمِّد نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء، ويعطِّل قوى التحريك والتجاوز الهائلة ـ في هذه النظرة ـ بتقديم الأرض إلى الإنسان في إطارٍ وصيغةٍ لا تنسجم مع تلك النظرة([17]).

وهذا الموضوع برأيي يتعزَّز أكثر مع إيلاء أهمِّيةٍ كبرى لمشروع إحياء الأنسنة في الفكر الإسلامي «التقليدي»، المغيَّب عن ساحة الحضور الكوني، وضرورة وَعْي أفكار الدين الإسلامي ذاته، وإدراك مرتكزاته وأبعاده القِيَمية الإنسانية، من حيث إنه ـ في الأساس والمرتكز الجوهري ـ دينٌ إنسانيّ شامل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، ومن حيث إنه دينُ التواصل والتعارف بين كلّ المكونات البشرية: ﴿…وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…﴾ (الحجرات: 13)، وذلك في سياق وخضمّ ما نعانيه اليوم من تأثيرٍ وحضورٍ للديني (المقدَّس) في الدنيوي (السياسي)، على هذه الدرجة العالية من الكثافة والحضور الكمّي، أكثر من النوعي، وعلى حساب قِيَم الدين ومبادئه الأصيلة، ومقاصده الأولى نفسها، المعروف أنها مقاصد فطرية البنية، وإنسانية الطابع والهوية والتوجُّه والامتداد، تتمحور حول الدعوة للتحرُّر من أَسْر المقولات النهائية، والخلاص من التفسيرات المغلقة والنهائية، والتحوُّل عن سُبُل اتِّباع سُنَن الآباء والأجداد، وتقليدهم، والاستلاب لمعاييرهم وتفكيرهم؛ وذلك بالاستناد إلى العقل والاجتهاد العقلي، المفترض أنه حاضرٌ دَوْماً حتّى في وَعْي النصّ المقدَّس، وتأويله لصالح تطوير الحياة وخدمة الإنسانية، وليس خدمة الدين فقط؛ لأنّ الإنسان ليس هو المسخَّر لخدمة الدين، بل الدين هو الذي جاء من عند الله تعالى من أجل خدمة الإنسان وتكريمه وهدايته، وتعظيم شأنه كخليفةٍ ربّاني، وتحسين قدراته، وتوسيع آفاقه الوجودية، وإثارة قابليّاته واستعداداته، وتحريض أجمل ما فيه من قِيَم الخير والمحبة والعطاء والانفتاح والتجدُّد الحياتي؛ استجابةً لمنحى ومعنى «الخلافة»، التي هي أمانةٌ ومسؤوليةٌ في آنٍ واحد.

الاجتماع السياسيّ والمدنيّ الإسلاميّ المعاصر

يجد المتابع والمدقِّق في طبيعة الاجتماع العربي، في مسيرته الزمنية وتحوُّلاته التاريخية، أنه:

ـ بعد مرور حوالي قرنٍ ونيِّف على انطلاق خطاب النهضة العربية والإسلامية، واتِّساع شروحاته وأدبيّاته في تحليل ونقد الواقع الإسلامي، ومحاولة تظهير حلول ومعالجات جدّية لأمراضه، وهو بالمناسبة خطابٌ لم يصِلْ إلى مستوى الطموحات والآمال؛

ـ وبعد مرور عقودٍ عديدة على تحقُّق الاستقلال «الشكلي» من رِبْقة المستعمر الخارجي، وإنشاء الدولة القطرية الحديثة، التي كانت تعبيراً عن نشأة مجتمعٍ سياسيّ ومدني عربي مأزوم، فاقد لركيزتي: الإجماع؛ والشرعية؛

ـ وبعد إقامة (وفَرْض) نُظُم سياسية «علمانية» فجّة على المجتمعات العربية والإسلامية، تتبنّى مشاريع قومية واشتراكية و…إلخ، عزلت الفرد (المواطن) عن السياسة، وعقَّمته من شؤونها، وأبعدته عن المشاركة الحيّة الفاعلة في الحياة العمومية، وقامَتْ بتغييب الأنسجة السياسية والاجتماعية والثقافية لبناه التقليدية، وزعزعة مرتكزات الاستقرار والثبات الاجتماعي والاقتصادي التقليدي؛

ـ وبعد تجريب كلّ أنماط التنمية والتحديث القَسْري، وأشكال وأنماط التنمية الفوقية، شرقيّةً كانت أم غربية؛

ـ وبعد دفع أثمان باهظة، مادّية ومعنوية، من خَيْرات الشعوب ومواردها وثرواتها؛ نتيجة انعدام التفكير السياسي العقلاني الصحيح، وفقدان المشاركة الطوعية في فعاليات السياسة المجتمعية؛

بعد ذلك كلِّه نجد أن هذه الاجتماع العربي الإسلامي ما زال يقف أمام طرق مسدودة في كلّ اتجاهاته ومواقعه، رغم ما حدث فيه (في بعض مجتمعاته) من حداثةٍ ظاهرية استهلاكية، قشرية كسيحة؛ حيث نقف اليوم في تلك المجتمعات أمام سلطناتٍ قبلية، حديثة نوعاً ما في الشكل، لا في المضمون، تجمعها سياسةٌ مشتركة واحدة، هي حاصل جمع مصالح الفئات أو النُّخَب الزبائنية، المسيطرة على الثروات الوطنية والموارد الاقتصادية والمالية معاً. وهذه السياسة هي التي تفسِّر الفشل أو (النجاح) في تحقيق الأهداف الوطنية الحقيقية ـ المفترض أن تتمحور حول الاستقلال الاقتصادي والسياسي وإفشاء الحقوق والمشاركة ـ. فالطبقات السياسية الحاكمة والمهيمنة في اجتماعنا العربي الإسلامي ـ التي زرعها الاستعمار الغربي ـ هي مَنْ تتحكَّم بالموارد والثروات، وتضطلع بمسؤولية توزيعها والإشراف على استثمارها والانتفاع بها، ومن وراء ذلك بتوجيه المجتمع، وتكوين عناصره ومقوّماته المادية والأخلاقية([18]). ولا نغالي إذا قلنا بأن العلّةَ الحقيقية والسببَ الأساس الذي يقف وراء كلّ هذا الانحطاط والتفسُّخ السياسي والتاريخي العربي والإسلامي الحالي عائدٌ بالعنوان الأوّلي إلى تجذُّر عقلية (وثقافة) القبيلة والعشيرة في واقعنا التاريخي العربي والإسلامي، وسيطرة (نُخَبها) على المفاصل القيادية العليا، واستحواذها على مواقع العمل والإنتاج والثروة في المجتمع، كما قلنا.

لقد عملت هذه النخبة السياسية القبلية ـ التي لا تزال تدَّعي وصايتها على الحرِّية والفكر والوطن والقِيَم الاجتماعية الإنسانية ـ على زرع الفتنة والفوضى والاضطراب في داخل بنية المجتمعات العربية الإسلامية، من خلال سياساتها المختلفة، التي أدَّتْ في المآل الأخير إلى العجز الفاضح عن إقامة الدولة الحديثة، وعن بناء علاقاتٍ قانونية متوازنة مع أفراد الشعب والمجتمع المدني المهمَّش والموجود خارج دائرة فاعلية الحضور في آليات التشارك الوطني؛ باعتبارها دولةً قهرية غير قانونية في كلّ مواقعها، حيال أكثر مواطنيها.

وقد قاد هذا النزوع السلطوي للنُّخْبة الحاكمة ـ في استمراريّتها على رأس الحكم، وتحكُّمها بمفاصل القرار ـ إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير النُّظُم القائمة، بعد أن يتلاشى أو يموت كلِّياً الأمل في إصلاحها، أو العمل على إيجاد حلول ناجعة (لأزماتها) من داخلها. كلّ ذلك كان نتيجة تفاقم حالة الاستبعاد والتهميش المنظَّم لمختلف قطاعات وهيئات ومواقع هذا الاجتماع السياسي، وحتّى الأهلي، وانعدام الوزن للعديد من الفئات والشرائح الاجتماعية الأهلية، الشعبية وغير الشعبية.

كما عانت تلك المجتمعات من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية، التي نراها في التخبُّط السياسي العامّ والخاصّ، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (الفساد الإداري)، وبناء حداثةٍ ديكتاتورية هشّة مزعزعة، غير عقلانية ومستهلكة، وغير قادرة على إحداث النموّ والإنتاج الفاعل.

لقد كانت الغاية الأساس للدولة العربية الحديثة متمحورةً حول غَرَضٍ واحد، هو ضمان أمن النُّخَب السياسية ومركّباتها التسلُّطية المتعدّدة الواسعة، بأيّ أسلوبٍ وشكلٍ كان، والحفاظ على استقرارها وثباتها في مراكزها ومناصبها العليا، وضمان بقائها واستمرار نموذجها التسلُّطي، ولو بالقوّة العضوية الرعناء.

وفي سياق الحفاظ على المستنقعات القائمة تقوم تلك النُّخَب بمواجهة أيّ محاولاتٍ للتغيير أو الإصلاح السياسي أو الثقافي، يمكن أن يفكِّر فيه أبناء الأمة ونخبتها المفكرة؛ لأن المترفين (وهم الطبقة المالية، والعسكرية، والأمنية، المهيمنة على واقع المجتمع والناس، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً) لا يرغبون مطلقاً بتغيير الواقع من حولهم، في أيّ جانبٍ من الجوانب، حيث إنّ مبدأ التغيير السياسي والفكري إذا اخترق بنية المجتمع الظالم فإنه سوف يؤدّي إلى تدمير ونسف كثيرٍ من البنى والأُسُس التي يرتكز عليها هؤلاء في فرض هيمنتهم وتسلُّطهم واستبدادهم وتحكُّمهم بالبلاد والعباد. لذلك نجد أن الطبقات السياسية المسيطرة والحاكمة ـ في أيّ مجتمعٍ ـ تعمل على تجميد هذا المجتمع، وترفض أن ينفذ التغيير إلى داخله؛ لأنهم يشعرون أنه إذا ما اهتزَّتْ بعض القواعد في المجتمع ـ على مستوى القِيَم أو الفكر ـ فرُبَما تقوم هناك ثوراتٌ أو انتفاضات شعبية، تنسف كلّ القواعد التي يرتكزون عليها في تضليل الناس، وتزييف وَعْيهم، وإبعادهم ـ طَوْعاً أو كُرْهاً ـ عن ضرورة التغيير الجَذْري في المجتمع، وبالتالي إبقاء هذا المجتمع رهينةً للسكون والجمود والتخلف الدائم؛ حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم المادية الخاصة.

ومن هنا:

كيف يمكن تجاوز وإسقاط تلك القبليات والعصبيات، التي لا تزال تعمل على استيلاد شروط ومناخات جديدة؛ للتكيُّف مع متغيرات الواقع؛ من أجل الحفاظ على مكاسبها ومواقعها؟!

وما هي الأجواء المناسبة لإنماء وإيقاد عملية المواجهة المستمرّة مع تلك الذهنيات البدائية، التي تفكِّر دائماً بكيفيّة المحافظة على شرعيّتها المفقودة جماهيرياً؛ من أجل بناء المجتمع المدني، وولوج القرن المقبل بطموحاتٍ سياسية وفكرية جديدة، تعبِّر عن آمال الأمّة في النهوض الحضاري؟!

ثمّ إلى أين يتحرَّك مستقبل الأجيال القادمة؟!

إنني أعتقد ـ إتماماً للحديث السابق ـ أن الذي يعيق اشتعال قِيَم التقدُّم والنهضة العقلية والسياسية مجدَّداً في اجتماعنا العربي والإسلامي، البالغ حدّ الانحطاط الكامل، ويقف في وجه تفجُّر وانبثاق كلّ تلك الطموحات والآمال في ولوج العالم العربي والإسلامي العصر الحديث، علميّاً وحضارياً وتقنياً، وحتّى قِيَمياً وإنسانياً، هو نوعية الآليّات والسياسات الظالمة المختلفة، التي طبَّقتها ـ ولا تزال تصرّ على تطبيقها ـ تلك الحكومات والأنظمة (صاحبة عقلية القبيلة)، التي تعكس مصالح خاصّة لنُخْبةٍ فاقدة لمصداقيّتها وشرعيّتها في الشارع العام، انعزلَتْ عن الجماهير، وانغلقَتْ على مصالحها ومكاسبها وهمومها، وراحت تنشط ـ بحماسٍ وعزيمةٍ منقطعة النظير ـ من أجل الدفاع عن مواقعها وامتيازاتها، ولا تفكِّر مطلقاً بهموم الناس وحاجات المجتمع، إلاّ بالحدّ الأدنى الذي تحافظ من خلاله على وجودها حيّةً على رأس السلطة، ولا تعطي أيّ اهتمامٍ بمستقبل المجتمعات والجماهير الواسعة وكوادرها العملية النوعية العاطلة عن العمل، والمغيَّبة عن ساحة التأثير والفعل الإبداعي، ومحاولة تأمين فرص العمل لأجيال الأمة القادمة، بقدر ما تفكِّر وتهتمّ بضمان الأمن، واستتباب المواقع، وثبات الأحوال على ما هي عليه.

إن النُّخَب القبلية العربية الحديثة ـ في سياق محاربتها للتغيُّر الاجتماعي، ومحاولات تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمعاتٍ حضارية متطوّرة ـ تقف بقوّةٍ في وجه أيّ عامل تقدُّمٍ، علميّ أو تقنيّ، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات، إذا كان يمكن أن يشتمّ من دخوله أيّ رائحةٍ للتغيير، أو نَفَسٍ بسيطٍ لقلب الأوضاع، من أيّ نوعٍ كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.

ولأن منع التغييرات وضمان أمن النُّخَب الحاكمة واستقرارها يؤدّي ـ لا محالة، وفي كلّ المجتمعات ـ إلى فسادها؛ ولأن فسادها يدفع إلى تقهقر أحوال الناس، وتدهور معيشتهم، ويثير النقمة على النظام، صارت الحياة العمومية في داخل اجتماعنا العربي والإسلامي عموماً رهينةً للصراع الخفيّ (وأحياناً العلنيّ) بين الطبقات والفئات الاجتماعية المتضرِّرة والمختنقة، الساعية بأيّ ثمنٍ للتغيير، والضاغطة بشدّةٍ على النُّظُم القائمة، وبين أصحاب السلطة الذين يضطرّون إلى تكريس قسمٍ أكبر من الموارد والوسائل المادّية والمالية والبشرية؛ لحماية نُظُمهم، وفرض الاستقرار، ومنع تطوُّر الأحداث المناوئة لهم. وهكذا لم يبْقَ هناك ـ في معظم البلاد العربية والإسلامية ـ أيّ هامشٍ للحاضر والمستقبل.

من هذا المنطلق، فإنّ الأمل بحدوث تقدُّمٍ حقوقي قِيَمي وعملي وصناعي وتقني، في هذه المجتمعات، ليس مرهوناً فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتطوّرات الحياة والزمن، وإنما هو مرهونٌ أيضاً ـ وبشكلٍ أساس ـ بضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد آليات الحكم والسلطة والمشاركة، وضمان تجسُّد الحقوق، وعلى رأسها: قيمة الحرّية والعَدْل؛ لأننا لن نستفيد من أيّ تطوُّرٍ عملي يمكن أن توفِّره الحضارة الحديثة إلاّ إذا ساهمنا وشاركنا في إنتاجه وإبداعه، ومن باب أَوْلى فَهْمه ووَعْيه.

ونحن لا يمكن أن نطوِّر العلم، وننتج منجزاته الحديثة، مع وجود واتِّساع قاعدة عقلية القبيلة المتحكِّمة بوجود الفاعل البشري، والتي يعمل أصحابها على تدمير أيّ فرصةٍ لربط ـ مجرّد ربط ـ البلاد العربية بتيّارات التقدُّم العلميّ والتقنيّ، بل  ـ على العكس من ذلك ـ إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي، وحفظ بقاء نظامٍ قائم على مفاهيم القمع والضبط والردع، عبر تمويل ودعم احتياجاتها الأمنية، من خلال نهب خيرات المجتمعات، وسرقة ثروات الأمّة. والمجتمعات العربية بالنتيجة هي التي تدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات الفاشلة للنظم السياسية العقيمة وضيِّقة الأفق، التي تقوم على تعقيم الإنسان، وشلّ قدراته، وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرّر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات التي تسيطر عليها.

حقيقةً لقد أصبح سفهاء الأمّة وأشرارها الولاة والقائمين بالأمر، كما يعبِّر عن ذلك الإمام علي× في قوله: «ولكني آسى أنْ يلي أمرَ هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتَّخذوا مالَ الله دولاً، وعبادَه خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً؛ فإنّ منهم الذي قد شرب فيكم الحرامَ، وجلد حدّاً في الإسلام؛ وإنّ منهم مَنْ لم يُسْلِمْ حتى رضخَتْ له على الإسلام الرضائخ»([19]).

إنني لا أستطيع أن ألوم المثقَّف أو الشعب؛ لأن مَنْ لا يمتلك سلطة تقرير النفقات العامة لميزانية الدولة، واستثماراتها الاقتصادية، وإدارة المعارك الحربية (مع مَنْ؟!)، ومَنْ لا يمتلك سلطة محاسبة رجال الأعمال، الذين يهرِّبون مليارات الدولارات نحو الأسواق الخارجية، ومَنْ لا يمتلك سلطة وقف الهَدْر الكبير في الميزانيات العامّة عندنا (هذه الميزانيات المخصَّصة فقط لحفظ وتنمية الثروات الشخصية للنُّخَب الحاكمة، وإنشاء الشركات الرأسمالية الضخمة، وتبذير الثروات العامّة على طريق الشهوات والغرائز)، لا يصحّ مطلقاً أن نسأله عن الخسائر والهزائم فيها، الناتجة عن سوء إدارتها. إن المسؤولية تتجلّى في أعلى تعبيراتها من خلال درجة السلطة التي يمتلكها الفرد صاحب المسؤولية، أو الفريق المنتمي إليه.

ولأن المسؤولية ليست تهمةً لأفراد المجتمع، وليست تلبُّساً للناس، وإنما هي نقدٌ ومساءلةٌ لصاحب المسؤولية عن كيفية ممارسته لسلطته، واستخدامه لها، لذلك إنني أنصح أولئك الذين يكيلون الاتهامات للشعب والمثقَّفين (المحرومين من أبسط حقوق الحياة الكريمة) بأنهم المسؤولون عن أزمات المجتمع وفساد الدولة، أنصحهم بأن يعملوا على مساءلة ومحاسبة أصحاب القرار والسلطة الحقيقيين في النظام السياسي العربي الإسلامي، الذي تغيب عنه أيّ مظاهرٍ لدولة القانون المدني، والذي يلغي الرأي الآخر العام، ويحرم الناس من قول الحقيقة، ويواجه المجتمع بسلاح الأمن والترهيب، ويمنع المثقَّف من حرية التفكير والتعبير والنشر. نعم، هناك كثيرٌ من المثقَّفين السلطويين الانتهازيين الذين تحوَّلوا إلى بوقٍ للسلطان، ورأس حربة لأفكاره وطموحاته الشخصانية، لكن الثقافة عموماً يجب أن لا تُلام، وبقية المثقَّفين يجب عدم رَمْيهم وقذفهم والتشهير بهم على المنابر هنا وهناك. إن هؤلاء جميعاً محاربون حتّى في سلطتهم المعنوية التي امتلكوا ناصيتها بقوّة فكرهم ووَعْيهم. وهناك مثقَّفون معروفون بعمق التزامهم بخطّ الأمة والجماهير يؤمنون بوجود الأمّة العربية الإسلامية، ويسعَوْن إلى تجاوز خلافاتها ونزعاتها الداخلية.

إنّ مسؤولية المثقَّف تكمن في عمله الدائم على أمرين اثنين:

1ـ تسليح الرأي العامّ (ممثَّلاً بمؤسَّسات المجتمع الأهلي والمدني) بمختلف الأدوات النظرية والعملية اللازمة لإكسابه الوَعْي الرسالي، الذي يجعل استقرار النُّظُم ـ التي تقود إلى الفساد، وسرقة أموال الدولة والمجتمع، والاستهتار بالمصالح العامة ـ أمراً مستحيلاً. هنا يجب أن يشتغل المثقَّف الجماهيري الملتزم، يجب أن يبني الوَعْي الفعّال لدى أفراد الأمّة؛ لمواجهة وإسقاط العقليات القبلية، التي تسبَّبت في تفشيل التنمية والتقدُّم، وقامت بتثبيت الأمن والاستقرار (استقرار بعض الدول عندنا يشبه وجود النار تحت الرماد)، وأهدرَتْ موارد ومقدّرات الدولة في مشاريع تنموية خاصّة. كما يجب تعميق الشعور العالي بالمسؤولية الرسالية لدى الأمّة تجاه الإسلام وقِيَمه ومبادئه، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة عن السلطة وتوزيع الثروة والأموال، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمّة من ممارسة حقّ النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوَعْي وتشويه الرسالة.

2ـ نقد نظرتنا الفكرية التقليدية لتاريخنا الثقافي واجتماعنا السياسي والمدني العربي والإسلامي، وذلك في إطار سَعْينا الحثيث والمتواصل لمعالجة واقع التراث الإسلامي، واستنهاضه، وتفعيل دَوْره في حياة الأمّة مستقبلاً، من خلال جعله أكثر صلةً بواقع الحياة المعاصرة، ومناهج التفكير والعلم الحديثة؛ حيث يجب أن يكون (النقد) موضوعياً رصيناً، بمعنى أن تكون معانيه خاليةً من الادِّعائية والاحتكارية والنخبوية، التي تحاول أن تتلبَّس كلّ هذا التاريخ (بسلبيّاته ونقائصه وكلّ ما فيه من أوهامٍ وانحرافاتٍ فكرية وعملية) كظاهرةٍ طبيعية قائمة بحدّ ذاتها؛ وذلك من أجل أن ينعكس هذا الإجراء ـ المطلوب بإلحاحٍ معرفي محمودٍ ومرغوبٍ ـ إيجاباً على صعيد تعميق الحسّ النقدي المباشر لمنظومة التراث المفاهيمية، التي نريد أن نجدِّد فيها؛ لتناسب حياتنا في عصرنا الحالي أو المستقبلي؛ باعتبار أن الفكر (أيّ فكر) لا يمكنه أن يعيش بمعزلٍ عن حركيّة الفعل البشري، وعن تغيُّرات الحياة والوجود، وهو المعنيّ مباشرةً بكلّ التحوُّلات والتطوُّرات الجارية فيه.

من هنا ـ وفي إطار الإجابة عن الأسئلة المطروحة سابقاً ـ أرى أن الخللَ الكائن والقائم في مجتمعنا العربي والإسلامي هو في البنية السياسية العربية المُسْتَغِلّة للدين، وليس في الدين؛ لأن هذه السلطة الرسمية العربية عملَتْ على فرض رؤيةٍ أحادية للدين في أذهان الناس، ثمّ انطلقت لتحاسب الشعب عن هذه الرؤية التي كوَّنتها هي عن الدين، ما يعني أن تحقيق الشروط الأولى لعملية التقدُّم والتجديد ليس مرهوناً بتهديم البنى التقليدية (الدينية تحديداً) في المجتمع؛ والدليل على ذلك أن حداثتنا العسكرية والمدنية قد هدمَتْ ـ باسم العلمانية ـ كلّ الركائز والمؤسّسات التقليدية التي كانت قائمةً في المجتمع، وصار الفرد يقف وحيداً أمام سلطةٍ فردية مطلقة، لا يجرؤ أحدٌ على منازعتها سلطانها، فماذا كانت النتيجة؟!

كانت النتيجة أن التحديث والحداثة والتقدُّم قد فشل في المجتمع العربي، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن أنتج لدينا مجتمعاً أهليّاً متخلِّفاً تمّ تركيبه من قِبَل أجهزة الدولة العربية المستوردة الحديثة.

إننا نعتقد أن واجبنا الديني والأخلاقي والإنساني، ورغبتنا الملحّة في نهضة أمتنا المستقبلية، كلّ ذلك يلزمنا بضرورة أن نعمل ـ بكلّ إصرارٍ وتصميمٍ، وضمن إمكانياتنا المتواضعة ـ على تنظيف دواخلنا من عناصر التخلُّف، وتحطيم هيكله الذي نقبع في ظلِّه، وإجراء تغييرٍ جَذْري شاملٍ كأفراد، وفي مجتمعاتنا كنظام علاقات، وأسس تعامل، وتوزيع قوى وطرائق معيّنة في الحياة، وفي المعيشة والتفكير، بهدف بناء مجتمعٍ تسوده قوانين موضوعية تطبّق على المجتمع، مجتمعٍ يرتكز على العقل والمنطق والعلم في إدارته ومؤسّساته المدنية، مجتمعٍ يكفّ مثقَّفوه وأبناؤه عن البحث عن مثالٍ وحيد للحرّية والعمل السياسي والاجتماعي، يصلح للتعميم على الأمم كلّها، مجتمعٍ يسعى إلى أن نؤمن عملياً بفكرة الحوار، والاعتراف بالأخطاء، وتحمُّل بعضنا البعض، مجتمعٍ ينفتح على الإسلام؛ ليكون فكر الإسلام ومعاييره هي الصورة الجوهرية للإطار القومي، الذي أُرهق وهو يبحث عن صورته.

من خلال ذلك أرى أن مستقبلنا هو رَهْنٌ لفعلنا الراهن، إنه ثمرة أعمالنا وحصاد ما نزرعه في لحظتنا الحاضرة، التي يجب أن نعمل فيها على تغيير أوضاعنا، وتحسين مواقعنا، ومضاعفة جهودنا ودَوْرنا في العالم، وتكثيف مساهمتنا في المسيرة الإنسانية العالمية، وانفتاحنا على الآخرين؛ ليكون لنا نصيبٌ وموقعٌ ودَوْرٌ في الحضارة الحديثة، وذلك بالارتكاز ـ كما أكَّدْنا على ذلك في السابق ـ على الثوابت الفكرية العقائدية للأمّة، والاهتمام الجدّي المسؤول بنسيجها التاريخي الحيّ (أي الإسلام)؛ باعتباره البوتقة الشاملة لها، وأساس طموحها وعاطفتها وفكرها، الذي يجب أن نجتهد فيه ونشتغل عليه؛ من أجل بناء ثقافة الحوار والوَعْي والانفتاح والتواصل مع الآخر، وإنشاء النظام السياسي الخاصّ بهذه الثقافة، الذي يستطيع أن يقلِّص الفارق والثغرة الكائنة بين الحلم السياسي المعلَّق في سماء الرسالة (ما يجب أن يكون) وبين الفعل السياسي الأرضي (ما هو كائنٌ)، الجاثم بقوّةٍ على صدر الإنسان.

إننا نعتقد أن المجتمع المدني والسياسي الإسلامي كفيلٌ ببناء دول المؤسّسات والقانون التي يريدها الجميع؛ وذلك لأن هذا الفكر ـ الذي تقوم عليه مدنية المجتمع الإسلامي، المناهض والمناقض لأُسُس المجتمع القبلي السابق (والقائم حالياً) ـ يمتلك معايير، وضوابط عملية، وآليات عامّة، هي من صلب الحياة والفكر الإسلامي الأصيل، ويستطيع أن يؤمِّن ـ بالحدّ الأدنى ـ مشاركةً كثيفة للناس والمبدعين في عملية الإنتاج والإثمار والبناء الحضاري المستقبلي. لذلك من الضروري جدّاً الإيمان بأن بناء وتأسيس مجتمعٍ مدنيّ في العالم الإسلاميّ ـ له قواعده الثابتة وأُسُسه القوية الواضحة ـ لا يمكن أن يتمّ من دون وَعْي التراث الإسلامي وَعْياً إيجابياً من الداخل، ومحاولة دراسة وتفكيك وتحليل مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية، وصياغة مقولاته وأفكاره بما يتناسب والحاجات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عصرنا الحاضر.

وإذا كانت العملية التطوُّرية للفكر والثقافة والتراث المعرفي الغربي قد أفرزَتْ النَّمَط الحديث المعروف للمجتمع المدني في الغرب، فإنه يجب علينا في المقابل أن نعمل ـ من خلال فكرنا وثقافتنا وهويّتنا الإسلامية ـ على إيجاد نواةٍ حقيقية لبناء نَمَطٍ اجتماعيّ آخر من صلب مبادئنا وتراثنا.

من هذا المنظور نؤكِّد على أن آلية العمل المؤسّساتي المدني بصيغته الإسلامية تفترض ـ مبدئياً ـ الارتكاز على ما يلي:

1ـ عقلنة السلطة، وجعلها شأناً بشرياً نسبياً، واستبدال البنى والسلطات التقليدية العائلية بسلطة القانون الاجتماعي المدني ـ إذا صحّ التعبير ـ، المتَّفق عليه في المجتمع.

2ـ الإيمان بأن أيّ تحوُّلٍ أو تغيير في الحياة لن تكون له أيّ فاعليّةٍ أو تأثير إلاّ إذا استند إلى قاعدةٍ إنسانية شاملة، ومشاركةٍ واعية وواسعة للبشر في الحكم السياسي؛ لأن الصراع والتنافس السياسي السلمي هو المقوِّم الفعلي للحياة الاجتماعية المدنية.

3ـ الإيمان بوجود المعارضة السلمية، وحقّها في التعبير والشرعية المقنّنة.

4ـ مراعاة رأي الأغلبية في البلاد، والاحتكام إليها في اللحظات الحَرِجة والضرورية.

5ـ ضرورة وجود فكرٍ وعقيدةٍ مستقرّة في داخل الأمة، تجعل من حضور الإنسان ـ في كلّ مجالات وآفاق الحياة، ومشاركته الحرّة في العمل المجتمعي ـ شرطاً ضرورياً في عملية التغيير والتقدُّم.

6ـ العمل الجدّي على تعميق وتوسيع مساحة الحرّية في المجتمع كشرطٍ أساس لحدوث أيّ تحوُّلٍ إيجابي فيه؛ باعتبار أن وجود فكرٍ مستقرٍّ وفاعلٍ لا يمكن أن يتحقّق، أو يكون له أيّ معنى، إلا في إطار الحرّية الواعية والمسؤولة، حرّية الفكر، وحرّية التعبير، وحرّية الاجتماع، وحرّية محاسبة الحكومات ومساءلتها.

إن الإسلام يؤمن بضرورة بناء المجتمع المدني (التعدُّدي المنفتح والحرّ)، ويفرّق فيه بين نوعين من المشروعية: السياسية؛ والدينية، أي مشروعية النظام السياسي القائم على أُسُس ومعطيات بشرية، لها امتدادات فاعلة في البُعْدين: الفكري الإسلامي؛ والواقعي الحياتي، وإن الناس هم مصدر هذه المشروعية السياسية، ورغبتهم بها شرطٌ أساس لقيام وضمان دوامها واستمراريتها.

أي أن تكون السلطة شأناً بشرياً صرْفاً، يجب على البشر أن يتدبَّروه بمعرفتهم وظروفهم وحاجاتهم وتقديرهم لظروفهم؛ بدليل أن القرآن الكريم لم يحدِّد صيغةً معينة للسلطة، على رغم خطورة هذا الموقف، وأهمِّيته في حياة الناس([20])، بينما حدَّد لهم منظومةً متكاملة من الواجبات والمحرّمات في باب التعامل، هي أقلّ شأناً بكثير من خطر السلطة وهيبتها. وفي مجالٍ آخر خاطب الله تعالى رسوله| في القرآن الكريم بقوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر﴾ (الغاشية: 22). وهذا يعني أنك لا تستطيع أن تجبرهم على الاختيار حتى في المجال العقائدي([21])، ولكنْ إذا اختاروا ما تأمرهم به بملء إرادتهم فعليك أن تحترم وتحمي هذا الاختيار. وهذا ما مارسه الرسول|([22]). وأما بالنسبة إلى المشروعية الدينية فهي التي ترسم القواعد الكلِّية والمعايير العامّة المنظِّمة لحركة النظام السياسي الإسلامي في نطاق الثوابت الفكرية للإسلام. وهذا يعني أن الدولة ليست كياناً إلهيّاً مقدّساً؛ لأن الناس فيها هم المسؤولون عن إنتاج السلطة، وتداول الحكم، وبناء مؤسّساتها الحاكمة كلها. نعم، تسعى الدولة في الإسلام ـ من ضمن برامجها وخططها العامّة ـ إلى تعميق وتطبيق القِيَم والأخلاق الإسلامية بين أفراد المجتمع، بالوَعْي والحوار والأساليب «التي هي أحسن»؛ لأنه من المستحيل بمكانٍ أن يستمرّ وجود وبقاء الدولة (أيّ دولة) خارج إرادة الناس ووَعْيهم ورغبتهم الطبيعية. طبعاً، يمكن أن تقوم دولةٌ لا تأخذ رأي ومشاركة الناس في السلطة بعين الاعتبار، لكنّها لا يمكن أن تدوم، أو تبقى مستقرّةً؛ لأنها بالأساس غير مطلوبة، وغير مرغوبة بالمطلق. فللشعب إذن دَوْرٌ حاسم في قيام الدول وسقوطها، والتاريخ خيرُ شاهدٍ على ذلك.

من هذا المنطلق، نؤكِّد على أنه إذا اختار الناسُ لأنفسهم تطبيقَ الشريعة الإسلامية فإنّ الإسلام يحمي ويحفظ هذا الاختيار، الذي يدعو إليه أساساً؛ وأما إذا اختار الناسُ نظاماً آخر يتّصل بمسألة تداول السلطة وآليّة تنفيذها فهذا الأمر شأن بشريّ نسبيّ، يحميه الإسلام، ويدافع عنه أيضاً؛ لأنه يؤكِّد حقّ الاختيار الحُرّ للإنسان، ويدعو لحمايته ورعايته.

وما يبدو أنه مهمّة رسالية جوهرية في سياق هذا الاجتماع الإسلامي، والتي يجب أن تكون ذات أولوية للمسلمين، هي تحقيق الإسلام في مشروع الأمّة، وأما مشروع الدولة فيأتي في رتبةٍ متأخِّرة من حيث الأهمّية والتكليف، بعد مشروع الأمّة. وأولوية مشروع الأمّة ـ بحَسَب الشيخ محمد مهدي شمس الدين ـ لا يعني استبعاد المشروع السياسي (وهو مشروع الدولة)، ولكنّ الأدلة لا تدلّ على أن عناية الإسلام بهذا المشروع تبلغ حدّ العمل من أجله، وإنْ استلزم ذلك حَرْباً أهليّةً تهدِّد مشروع الأمّة، بل تدلّ على خلاف ذلك.

من هنا نصل إلى حقيقةٍ واقعية تقول: إن مصطلح أو كلمة الديمقراطية([23]) ـ التي عمل الكثيرون على مواجهتها ورفضها ووضعها في مقابل الإسلام كبُعْدَين متعارضين ـ هي مجرّد آليةٍ للحكم، ووسيلةٍ لتداول السلطة، في أيّ نظامٍ سياسي، ولا علاقةَ عضوية لها بالعلمانية أو بالليبرالية أو بالعقائد البشرية، بمعنى أن العلمانية أو الليبرالية ليست شرطاً جوهرياً لبناء الديمقراطية في أيّ بلدٍ. هي فقط نوعٌ من التنسيق والترتيب المؤسّساتي لأجهزة أيّ دولةٍ؛ للوصول إلى القرارات السياسية العامّة التي تحدِّد مصلحة الأمة والشعب، من خلال تمكين الناس من اتِّخاذ القرارات المصيرية عبر الانتخاب والحكم، وتَبَعاً لذلك ينتج عن الديمقراطية مجموعةٌ من المعايير والقِيَم، ومن أبرزها:

ـ المشاركة العامّة في اتخاذ القرار وضمان حرّية الإفراد.

ـ مسؤولية الفرد عن أفعاله.

ـ تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.

ـ العناية الفائقة بحقوق الإنسان.

لقد أدّى هذا الترتيب المؤسّساتي ـ في الغرب الحديث ـ إلى العلمانية والليبرالية؛ حيث لا تلازم مطلقاً بين العلمانية والديمقراطية، أو بين الليبرالية والديمقراطية. ولا بُدَّ له من أن يؤدّي ـ في اجتماعنا العربي الإسلامي ـ إلى شكلٍ يساير فكر الناس الإسلامي، ويخرج من صميم إيمانهم، ولا يتناقض مع أنسجتهم التاريخية الحيّة، بل يقوم على نظامٍ سياسي ينبع من فكرهم وعقيدتهم الإسلامية، وبما يتناسب إيجاباً مع مفاهيمهم وتصوُّراتهم؛ حيث إن هذه المفاهيم والقِيَم الإنسانية والأخلاقية التي قامَتْ عليها وتكوَّنَتْ منها فكرة الدولة (وعموم الاجتماع الديني) في الإسلام هي القِيَم التي يتَّجه إليها طموح البشر في العصر الحديث، على مستوى الدولة الوطنية والقومية، وعلى مستوى النظام الدولي المرتجى، وهي قِيَم العدالة، والحرّية الواعية، وكرامة الإنسان، وتيسير سبل التكامل الروحيّ والمادّي لبني البشر([24]).

إنني أعتقد أنه إذا كان ثمة مشروعٌ جادّ ومسؤول للولوج في مشروع الحرّية ومنظومة الحقوق الإنسانية ـ بتجلِّياتها وعناوينها الشوروية (التعدُّدية) الإسلامية ـ فلا بُدَّ من بذل الجهد العالي في التفكير في كيفية استنباط الديمقراطية في أرضنا، بكلّ ما يعنيه مفهوم الاستنبات من شروط، وتهيئة البذور، وتربةٍ صالحة، وريٍّ، ومناخٍ مؤات، ومنشِّطات([25]).

أي إن ذلك يحتاج إلى اعتماد طريق الحوار العقلاني في بلداننا غير المستقرّة سياسياً واجتماعياً، وحلّ الخلافات بروح التفاهم والتعاون والجدال «بالتي هي أحسن» حول مختلف القضايا والإشكاليات المتّصلة بآليات تنفيذ وتطبيق التعدُّدية في مجالنا السياسي والاجتماعي العربي الإسلامي، ودراسة الشروط والخصائص التاريخية الخاصّة بتطبيق نظام التعدُّدية في بلداننا، وإيمان جميع الأطراف والقوى بضرورتها، وقبولهم لنتائجها. لكننا يجب أن نضع في حسباننا مسألةً هامّة جداً، وهي أن كيان الدولة العربية الحديثة ـ من حيث وجودُها كدولة ـ ما يزال لا يحتمل التعدُّدية والديمقراطية؛ لأن التعدُّديات العصائبية المترسِّبة لم تنصهر في بوتقة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث([26]).

وهذا النوع القديم من التعدُّدية سرعان ما يطغى على التعدُّدية الديمقراطية، ويحلّ محلها بشكلٍ يتجاوزها إلى ما يشبه الفوضى أو الحرب الأهليّة. وقبل قرونٍ شخَّص ابن خلدون هذه الظاهرة بالقول: «إن الأوطان كثيرة العصائب قلّ أن تستحكم فيها الدولة». إننا نريد بناء نظامٍ سياسي تعدُّدي يعطي المجتمع المدني السلطة والقوّة الأكبر في ممارسة أوجه ونشاطات وفعاليات العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بحيث تكون الدولة خادمةً له، لا أن يكون المجتمع خادماً لها ولسياستها وحكمها.

وأوّل خطوةٍ نحو النظام المستقبلي ـ الذي يهدف إلى خلق إطارٍ سياسي واجتماعي يساعد المرء على تحقيق نفسه ككائنٍ إنساني ـ تكمن في تغيير النظام الثقافي والسياسي القائم، أي تغيير القاعدة التي يقوم عليها الحكم، وآلية السلطة في البلدان العربية والإسلامية عموماً، وهي قاعدةٌ عصائبيّة استبداديّة موروثة، فلا يمكن ـ والحال هذه ـ أن يكون هناك أملٌ بالمستقبل (من خلال نشوء سياسةٍ حكيمة تأخذ في الاعتبار المصالح والمنافع العامة للسكّان جميعاً، وللبلاد عموماً) إلاّ عندما يكون مصير الحكومات التي تخطّ هذه السياسة، وتصوغها، وتحدِّد الاختيارات، وتوزِّع الموارد، مرتبطاً مباشرة ـ كما سلف القول ـ بإرادة السكان ورضاهم ورغبتهم وعقيدتهم الفكرية والسلوكية، أي بإرادة الاجتماع العربي والإسلامي نفسه، ممثَّلاً بهيئاتٍ وتنظيماتٍ وكتلٍ فكرية وسياسية عقلانية حديثة.

في هذه الحالة فقط تنشأ ـ أو يمكن أن تنشأ ـ سياسةٌ وطنية عقلانية بامتيازٍ، ويزيد موقع ومكان المصلحة الوطنية العامّة في حجر الدولة، ويحدث التفاعل الإيجابي المطلوب بين الحكومة والشعب، على حساب المصالح الجزئية والفئوية.

إن النُّظُم السياسية العقيمة، الفاقدة لشرعيتها ومصداقيتها، والتي وصلَتْ إلى أعلى درجات الطغيان السياسي، والقمع الفكري والثقافي، في خططها وأعمالها المناقضة حتّى لشعاراتها هي نفسها، أقول: إن هذه النُّظُم الجامدة والبالية والمتخلِّفة لن يكون بمقدورها أن تقاوم وتجابه قوّة التغيير القادم لفترةٍ طويلة؛ فتطوّرات الحياة، ومتغيّرات السياسات الكبرى، وآمال الناس في تحقيق متطلّبات وجودها الحيّ الفاعل، ستضغط بقوّةٍ لإحداث صدمة التغيير، الذي ينطلق من خلال حركتين:

الأولى (داخلية): وهي حركة الضغوط المجتمعية الهادفة إلى المشاركة في البناء الحضاري والسياسي والاجتماعي والتنموي، وتحسين شروط أداء الحكومات والأنظمة الوطنية القائمة.

والثانية (خارجية): وهي حركة المنافسة الاقتصادية، والعلميّة (التقنية)، والإعلامية، العالمية.

إننا ـ ومن خلال إيماننا العميق بضرورة إحداث تغييرٍ شامل في مجتمعاتنا كلِّها ـ نؤكِّد على أنه يجب علينا أن نؤسِّس لنوعية التغيير القادم، ونساهم ـ بعقلانيّة التخطيط والفاعلية ـ في بناء صورته، وتأسيس ملامحه في طبيعة تفكيرنا، وطريقة اتِّخاذنا لقراراتنا المصيرية، والأساليب التي نتَّبعها، والمناهج التي نلتزمها في تنظيم حياتنا. وهذا الأمر بالغ الأهمِّية، وهو مقدّمةٌ ضرورية جدّاً لبناء المجتمع «المدني» المنشود، وصناعة الحياة التي نطمح إليها.

ومن خلال ذلك يمكن أن يحدث عندنا انبعاثٌ حضاريّ يبدأ من ثقتنا بذاتنا، ونقدها، ومراجعتنا لكثيرٍ من حساباتنا الفكرية والعملية، بحيث يؤهِّلنا هذا النهوض والانبعاث لنكون ـ كأمّةٍ رائدة ـ معادلةً مستقلّة، تفرض وجودها في مواجهة (مقابل) المعادلات التي فرضَتْها الدول الأخرى الكبرى ـ والحكومات الدائرة في فلكها ـ علينا. ولا شَكَّ في أن السبيل إلى ذلك هو تغيير ما بالنفس كأساسٍ لتغيير ما في الواقع، والتغييرُ قِيَميٌّ حقوقي قبل أيّ شيءٍ آخر.

الهوامش

(*) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر العربيّ والإسلاميّ. من سوريا.

([1]) عندما نتحدّث عن «القِيَم الحضارية الإسلامية» (كالمحبّة والتسامح والإخاء ومنظومة الحقوق الإنسانية، من الحقّ والعدل والحرّية والمساواة)، وهي قِيَمٌ إنسانية بطبيعة الحال، فإننا نعني بها ـ من حيث تمثُّلاتها الواقعية ـ المعايير والأحكام النابعة من تصوّرات أساسية عن الكون والحياة والإنسان والإله، كما صوَّرها الإسلام، وتتكوّن لدى الفرد والمجتمع من خلال التفاعل مع المواقف والخبرات الحياتية المختلفة، بحيث تمكِّنه من اختيار أهدافٍ وتوجُّهاتٍ لحياته تتَّفق مع إمكانياته، وتتجسَّد من خلال الاتجاهات أو الاهتمامات أو السلوك اللفظي أو العملي بطريقةٍ مباشرة وغير مباشرة. (راجع: علي خليل مصطفى أبو العينين، القِيَم الإسلامية والتربية: 34، مكتبة إبراهيم الحلبي، السعودية ـ المدينة المنورة، ط1، 1988م).

([2]) يمكن العودة لـ «الوثيقة ـ المعاهدة» في أكثر من مرجعٍ تاريخي، وهي من الشهرة بحيث إن كل المظانّ التاريخية المعروفة تطرَّقَتْ إليها، وتوسَّعَتْ فيها، ومنها: كتاب السيرة النبويّة، لابن هشام. (راجع: ابن هشام، السيرة النبوية 1: 348، دار الكتاب العربي، لبنان ـ بيروت، ط1، 1985م).

([3]) هناك علاماتٌ ودلائل نظرية فكرية كثيرة أخرى في هذا المجال، يمكن أن تؤسِّس لرؤية حضارية مدينية جديدة، لعلَّ من أبرزها: كتاب نهج البلاغة، للإمام علي×؛ ورسالة الحقوق، للإمام علي بن الحسين زين العابدين×؛ والموروث الفكري الكبير الوارد إلينا عن مؤسِّس المذهب الجعفري الإمام جعفر الصادق×، وعن الإمام عليّ الرضا×، وعن بقيّة أئمة أهل البيت^، في كثيرٍ من كلماتهم وخطاباتهم ومواقفهم الفكرية والسياسية، وبخاصّة خلال فترة حكم الإمام عليّ×، الذي أقام دولةً على قِيَم الحق والعدل والمساواة والتنوُّع والاعتراف بالآخر المُخْتَلِف.

([4]) محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن: قواعده، أساليبه، معطياته: 141، دار الملاك، لبنان ـ بيروت، ط5، 1996م.

([5]) هناك موجات نقد جَذْرية لما آلتْ إليه أوضاع الفرد في النظم الغربية الليبرالية، وعالم ما بعد الحداثة. وغالباً ما يكون هذا النقد صائباً في توجُّهه المعرفي على مستوى المنطلقات والأسس المكوِِّنة. ولكن حتى يكون النقد متوازناً، خالياً من النظرات الأحادية، علينا أن لا ننسى أنه في حضارتنا العربية الإسلامية اعتبرنا الإنسان خليفة لله على الأرض (وممثِّلاً له مبدئياً بقِيَمه وصفاته)، ومع ذلك قتلناه وحوَّلناه إلى مجرّد شيءٍ بالٍ لا قيمة له، على مستوى الحقوق والكرامة والفاعلية الوجودية، لا اليوم فقط، بل منذ أمدٍ زمنيّ طويل. فتاريخنا العربي الإسلامي عموماً يفتقر ـ حتّى تاريخه ـ إلى آليات عملية تطبيقية حقوقية (مع أنه غنيٌّ نظرياً ومفاهيمياً بها)، تُعلي من شأن هذا الخليفة الذي جاءت الأديان من أجله. واقعنا العربي المعاصر ليس فيه للأسف سوى احتقار لهذا الإنسان العربي المسلم، وهدر لكرامته، ونهب لخيراته وموارده، وإخضاعٍ له، ومنعٍ لسبل نهوضه وتطويره وازدهاره. وسؤالُنا: مَنْ فعلها به: الغرب والاستعمار أم بنو جلدته؟! بطبيعة الحال، نحن لا نبرِّئ ساحة الغرب، فكراً وأيديولوجيات ونظماً سياسية نفعية ذرائعية، في حروبهم وصراعاتهم ضدّ مصالحنا، واحتكارهم واحتقارهم للآخر العربي المسلم أو غيره، لكنْ أساس الارتكاب وشناعة الفعل له جَذْر داخلي، وهو انطلق كسببٍ ودافع من هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم موضع الخلاص الوجودي له. إنهم نُخَب وممثلو نُظُم الاستبداد والقهر والفساد، إنهم الطغاة والفراعنة الجُدُد. وهذه ـ بطبيعة الحال ـ ليست محاكمةً أخلاقية، بقدر ما هي نظرة تفكيكية لبنية واقعنا العربي الإسلامي في حقيقته العارية، التي يحصد الناسُ نتائجها الكارثية في ما يمرّون به اليوم، من ظروف قاهرة ومأساوية، ويعيشونه من مِحَنٍ وأزماتٍ اقتصادية وسياسية واجتماعية قاسية متواصلة، في كلّ ما يتعلّق بحياتهم ومعاشهم واقتصادهم وتنميتهم وعلاقتهم وسياساتهم.

([6]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 162، دار التعارف للمطبوعات، لبنان ـ بيروت، 1990م.

([7]) محمد باقر الصدر، التفسير الموضوعي والمدرسة القرآنية: 145، دار التعارف، لبنان ـ بيروت، 1989م.

([8]) طبعاً نحنُ، مع تأكيدنا على الأهمية النوعية الفائقة للانضباط العقائدي الأخلاقي الديني، واعتباره ضرورةً من ضرورات أيّ نظام «اجتماعي ـ سياسي» لأيِّ بلدٍ أو مجتمعٍ بشري، نرى أن هذا الانضباط الأخلاقي أو الرادع القِيَمي الأخلاقي لا يعمل وحده، ولا يشتغل تطبيقاً في حركة البشرِ، من دونِ بيئةٍ تسودها القوانين والحقوق والعدالة، وحاضنةٍ واعية تنفِّذ وتطبِّق، وإلاّ تنقلب الأمور إلى فوضى ومظالم وانهيارات اجتماعية واقتصادية يتحكَّم بها قانونٌ وشرعٌ واحد، هو قانون وشرع الغاب.

([9]) لا نقصد به تحويل أفكار ومشاعر وعواطف الأفراد إلى صيغ قانونية، وكتل تنظيمية جامدة لا روح فيها؛ بسبب طبيعة المناخ الانهزامي المحبط والضاغط السائد حالياً في أوساطنا الاجتماعية والسياسية العربية والإسلامية، الناجمة عن ضخامة التحديات السياسية وغير السياسية، وثقلها وتعقيدها، لكننا نريد به وضع وبناء آليات عمل وأُطُر سليمة يتَّفق عليها المجتمع، وتكون موضع قبول ورضا (طوعي) من قِبَل أبنائه؛ بهَدَف تنمية الأمّة اقتصادياً وسياسياً، وإثارة إمكانياتها البشرية ومواردها الطبيعية الهائلة كلّها في معركتها الحاسمة ضدّ كلّ مواقع التخلُّف والاهتراء، في الشكل وفي المضمون.

([10]) من الضروريّ أن نشير هنا إلى أن مفهومَيْ الأمّة والدولة في الإسلام يختلفان في المعنى والاصطلاح:

فالأمّة الإسلامية تعني أنّ هناك أناساً ينتمون عقائدياً إلى الإسلام، حتّى لو وجدوا وعاشوا في دولةٍ أخرى يوالونها، أو في مكانٍ جغرافيّ آخر لا يدين رسميّاً بدين الإسلام، بمعنى أن الأمّة مصطلح يتكوَّن ويتظهَّر عملياً على أساس اعتقاد المنتمين إلى دائرته بالإسلام، والالتزام به تشريعاً وعقيدةً، دون أيّ اعتبارٍ آخر، وبذلك تبقى الأمّة في تكوُّنها سيرورةً ناميةً باستمرارٍ، على مستوى الإيمان والاعتقاد؛ لاستيعاب مسلمين جُدُد، والنموّ والاتساع بهم كمّاً ونوعاً، وليست مغلقةً على أقوامٍ مخصوصين، لا تتعدّاهم إلى غيرهم. وهذا الاتساع ليس له دلالة سياسية بالمعنى الحركي للكلمة.

أما مفهوم الدولة فهو يتمثَّل واقعياً في عناصره المعروفة، من خلال وجود شعبٍ وأرضٍ جغرافية محدّدة ومعترف بها، ومتميّزة عن غيرها من الأوطان والدول، يمارس عليها الحكم (من خلال السلطة أو الحكومة) سيادته على أرضه، ويحكم بموجب قوانين ملزمة للجميع، بلا تفاضلٍ ولا تمييزٍ.

ولم يحدث التطابق بين المفهومين إلاّ في فترات حكمٍ سابقة، وخاصّة خلال عهد النبوّة، حيث كانت الأمة كلّها مشكّلةً في دولةٍ واحدة. وما عدا ذلك فالأمّة بقيَتْ مكوّنة من دولٍ عديدة، لكلٍّ منها نظامها السياسي وحدودها الجغرافية وسلطتها السياسية وعلاقاتها الخارجية. (للاستزادة راجِعْ: محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: محاولة تأصيل فقهي وتاريخي: 93، المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، لبنان ـ بيروت، ط1، 1992م).

([11]) طبعاً التميُّز هنا لا يعني الفوقية والتمركز على الذات، ولا الانغلاق الهوياتي ورفض الآخر، بل هو تمايزٌ طبيعي تفرضه طبيعة الانتماء التاريخي للمجتمع الإسلامي في وظيفته الحضارية ودعوته الرسالية ومهمته الإنسانية. وبهذا المعنى هو تمايزٌ غير ناشئٍ عن عصبية دينية أو قومية أو اتنية، خصوصاً مع معرفتنا بأن الله أمر هذا المجتمع بأن يكون منفتحاً متعايشاً مع الآخر المُخْتَلِف، وضرورة الانفتاح عليه والتفاعل والتعاون معه لما فيه الخير الإنساني العام؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125)، ويقول: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ (العنكبوت: 46).

([12]) محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: 98.

([13]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 165.

([14]) المتطلبات الجديدة هي الحاجات المستجدّة في حياة الناس، على صعيد رغبتهم وذوقهم وطبيعتهم. وهنا نؤكِّد على أنه ليس من الضروريّ أن تكون كلّ ظاهرةٍ جديدة صحِّيةً ومنطقية ومتناسبة إيجاباً مع الإنسان، وتعود بالفائدة والمنفعة والاستقرار على حياة الناس والمجتمع، وتجب مواكبتها والاستجابة لها. إن المطلوب هنا أن تكون المواكبة ـ في ما يتَّصل بالمفاهيم العامة وبأساليب الحياة ـ متوازنةً وعقلانيةً ومنسجمةً مع مصلحة الإنسان والمجتمع، وغيرَ منطلقةٍ من عقدة التجديد والانبهار بكلّ ما هو جديد في عالم الحياة والإنسان، وأن تكون لها أصولها وقواعدها وجذورها المنسجمة مع الواقع الفكري والعملي.

([15]) لا بُدَّ للدين ـ كأيّ نظامٍ ثقافي أو اجتماعي أو سياسي يريد أن يتجذَّر في الواقع، ويمارس عملية الدعوة إلى فكره ـ من أن يتأنسن؛ ليكون حياً في الواقع، من خلال تجذُّره في وَعْي الإنسان. لذلك كان من الطبيعيّ له (للدين) أن يبحث عن الوسائل والآليّات والأُطُر الواقعية، التي تحوِّل هذا النظام إلى واقعٍ حيٍّ وملموسٍ، ينـزل من خلالها إلى أرض الواقع، ويواجه التحدِّيات والصعوبات التي تواجه الإنسان في الحياة، في كلّ قضايا الحقّ والباطل، والعدل والظلم، وما إلى ذلك. والسياسةُ تمثِّل ـ بحدّ ذاتها ـ الوسيلةَ العملية الواقعية الوحيدة لتأكيد العناوين الكبيرة الإنسانية في الحياة. ومن هنا يكون اتصالُ الدين بالسياسة من جهة اتصال الدين بالحياة، وبالقِيَم والمبادئ الكبرى، التي لا يمكن تقييمها إلاّ من خلال السياسة، والتوفُّر على مناخاتها وأجوائها المختلفة. فالعدلُ لا يمكن تحقيقه من دون السياسة، كما لا يمكن أن نحقِّق عدالةً من دون حكمٍ وقانونٍ وشرعيّة.

والحديثُ عن هذا الجانب السياسي ـ في بنية الفكر الديني الإسلامي ـ لا ينطلق من خلال الفَهْم المتداول عن السياسة، بادّعاء كونها لعبةً واستهلاكاً من دون معنى، أو أنها طموحٌ ذاتيّ سياسي يحاول أن يطرح أفكاره في الهواء فحَسْب، بل إنه ينطلق من خلال كون السياسة منهجاً وتنظيماً عملياً للحياة في ما تحقِّقه من أهداف الحياة في الواقع. والإسلام ـ الممثَّل بالخطّ الفكري العقيدي ـ يجب أن يُظْهِر الطبيعة والجانب المدني في الدين، في الإطار القانوني من حياة الإنسان. أما الآليات التي يحقِّق فيها الفكرُ الإسلامي وجودَه وامتداده فهي آلياتُ عملٍ سياسية، كما أسلفنا.

([16]) لا شكَّ بأن اعتماد النظرة الغيبية ـ بالشكل الذي تمَّتْ عليه ـ كأساسٍ وقاعدة في الواقع الإسلامي قد تسبَّب بإلحاق الكثير من الخسائر المادّية والمعنوية بالإسلام والمسلمين، من خلال ما حدث من تراجعٍ ملموس في حركة المسلم الإنتاجية على مستوى حاضر الأمّة ومستقبلها. وقد تجلّى هذا الأمر ـ أكثر ما تجلّى ـ عندما انطلق الإنسان المسلم عندنا (كما يؤكِّد الشهيد الصدر) لتبنّي مواقف سلبية حادّة تجاه المادّة؛ تتَّخذ شكل الزهد تارةً؛ والقناعة تارةً أخرى؛ والكسل ثالثةً. صحيح أن هذه الغيبية قد روَّضَت الإنسان المسلم على الشعور الدائم برقابةٍ فاعلة غير منظورة، قد تعبر ـ في وعي الإنسان المسلم التقي ـ عن مسؤوليّةٍ صريحة بين يدي الله؛ وقد تعبِّر في ذهن مسلم آخر عن ضميرٍ محدّد وموجّه، وهي على أيّ حالٍ تبتعد بإنسان العالم الإسلامي عن الإحساس بالحرّية الشخصية، والحرّية الأخلاقية بالطريقة التي أحسّ بها الإنسان الأوروبي؛ حيث إن هذا التحديد في وَعْي الحرية وممارستها جعل الفرد المسلم يتَّجه بقوّةٍ ـ بدافعٍ داخلي مسؤول ـ لينسجم مع جماعته، ويشعر برابطةٍ عميقة في تعامله معها. وبذلك اختلفَتْ هذه الرؤية عن فكرة الضدّ والصراع التي سيطرَتْ ـ ولا تزال تسيطر ـ على الفكر الأوروبي الحديث. كلُّ هذا صحيحٌ، ولكنّ الذي حدث ـ في داخل اجتماعنا السياسي ـ هو أن المحصّلة الاجمالية، والنتاج العملي للتنمية الحضارية، لم تكن بالمستوى الذي يبعد مجتمعاتنا عن شبح التخلُّف والتَّبَعية والاستلاب، وبالتالي الوقوع في وادي الفشل الحضاري الشامل، مثل الذي نعاينه اليوم في بلداننا ومجتمعاتنا المتعيِّشة على نتاجات حضارات الآخرين.

([17]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 24، المجمع العلمي للشهيد الصدر، إيران ـ طهران، ط2، 1986م.

([18]) برهان غليون، الوطن العربي وتحدّيات القرن الواحد والعشرين، مجلة المستقبل العربي، المجلد 6، العدد 32: 286، 1998م.

([19]) عزّ الدين ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 1: 217، تحقيق: محمد عبد الكريم النمري، دار الكتب العلمية، لبنان ـ بيروت، 1998م.

([20]) وهذا ما بحثه كثيرٌ من علماء الإٍسلام؛ فها هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين يقول بأن الإسلام، كتاباً وسنّةً لم يتضمَّنْ قسماً خاصاً بمسألة الحكم والنظام السياسي، منفصلاً عمّا عداه من مسائل وقضايا العقيدة والشريعة. إنّ الموقفَ الذي يواجه به الإسلاميون تساؤلات هذه الاتجاهات ـ في الاجتماع السياسي الإسلامي ـ موقفٌ دفاعي، يلوذ غالباً بالتبرير بأنّ مسألة الحكم السياسي هي تشريعٌ إلهي، وتكليفٌ شرعي، غيرُ قابلٍ للأخذ والردّ، معتمدين على نصوص غير مسلّمة الدلالة على المدعى؛ حيث يقوم هذا المنهج عند الإسلاميين على مسلَّمةٍ فكرية، تعتبر عندهم بديهيّةً سياسية، وهي: إن المسلمين في المجال الوطني أو القومي لا بُدَّ أن يكون نظام حكمهم إسلامياً؛ بينما المسلَّمة البديهية وفقاً لهذا المنهج هي: إن كلّ شعبٍ مسلم، على المستوى الوطني أو القومي، يجب أن يكون له نظامُ حكمٍ وحكومة يحفظانه، ويضمنان سلامته وتقدُّمه. أما أن يكون هذا النظام وهذه الحكومة إسلاميين فقضيّةٌ غير مسلَّمةٍ، وغير بديهيّةٍ، كما هو الشأن في أيّ مجتمعٍ سياسي معاصر آخر خارج العالم الإسلامي…، إلخ. (راجِعْ: محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: المجتمع السياسي الإٍسلامي: 14 وما بعدها).

([21]) تعتبر قضية العقائد من الموضوعات الخارجية المرتبطة بالعقل والوَعْي بالحياة والكون والوجود، لذلك فهي ليست من اختصاص المجتهدين، بمعنى أن رأي الفقيه المجتهد في الموضوعات الخارجية (ومنها: العقيدة) ليس حجّةً ملزمةً للإنسان، إلاّ إذا اقتنع به من خلال المعطيات التي يملكها. لذلك إذا كان الإسلام يقف بقوّةٍ ضدّ العقلية الجَبْرية والحَتْمية (عقلية الفَرْض أو الإكراه) على صعيد العقيدة، التي هي ركنٌ أساس في الإيمان الديني، فإنه (ومن باب أَوْلى) أن تكون موضوعة السلطة والسياسة ـ وهي في مرتبةٍ أدنى من العقيدة ـ ضمن النَّسَق نفسه. طبعاً هذا لا يعني عدم وجود رابطة مشتركة بين العقائد وبين الواقع والحياة الإنسانية، تفترض أن يكون سلوك وأخلاق وأفعال الإنسان في الحياة انعكاساً حقيقياً لوَعْيه وإيمانه العقائدي؛ لأن انفصال العقيدة التوحيدية عن الحياة الاجتماعية يترك ـ كما ترك سابقاً، ولا تزال آثاره السلبية تتراكم يوماً بعد يوم ـ نتائج سلبية خطيرة، تنعكس من خلال تحوُّل العقيدة عند الفرد إلى ممارسات طقوسية جامدة، وشعارات مجزّأة فارغة من أيّ مضمونٍ أو محتوىً عملي واقعي. إن المسألة هنا هي أن يكون هناك تفاعلٌ إيجابي بين المعادلة ذات الأطراف الثلاثة (الإلهية، الطبيعية، الإنسانية)؛ لتكون الحياة فاعلةً على صعيد الإنسان والمجتمع والأمة.

([22]) محمد حسن الأمين، العلمنة والدين والدولة: قراءة في الإشكالات، المركز الثقافي للبحوث والتوثيق، تاريخ النشر: 18 / 12 / 1997م. الرابط التوثيقي:

https://markazthakafisaida.org/

([23]) تعني الديمقراطية ـ كمصطلحٍ فكري «يوناني المنشأ» ـ حكم الشعب نفسه وبنفسه ولنفسه. وهذا التعريف الكلاسيكي تطوّر (وتنامت ديناميته) مع تطوُّر حركة المجتمعات البشرية وازدهارها، لكنّ الأسس والمبادئ القاعدية التي أقام عليها هذا المصطلح بنيانه الفكري والعملي، كالحرّية والعدالة والمساواة، بقيت ثابتةً، غير كونها تتَّصل بثبات التكوين الفطري والنفسي عند الإنسان، الناظر دَوْماً لتجسيد الحقوق في حياته العملية. والواقع أن لكلمة الشعب ـ الواردة في تعريف الديمقراطية عند اليونانيين ـ مفهومين أو معنيين أساسيين: الأوّل: اجتماعيّ، يشمل جميع الأفراد الذين ينتمون لدولةٍ ما، أي النساء والأطفال والرجال والشيوخ والمساجين والمجانيين ومَنْ إليهم، ممَّنْ فقدوا الأهلية السياسية. والثاني: سياسيّ، لا يمتدّ إلى كلّ هؤلاء، بل يقتصر على مَنْ لهم حقّ مباشرة الحقوق السياسية. وإذا كنا نقول: إن الشعب في الديمقراطية هو صاحب السلطة الفعلية ومصدر السيادة فإن ذلك ينصرف إلى الشعب بمدلوله السياسيّ فقط، أي مَنْ لهم حقّ الانتخاب، وهم هيئة الناخبين. لكنّ تلك المفاهيم تطوّرت ـ كما أشَرْنا ـ، حتّى أصبحت غايةُ الديمقراطية حالياً خلقَ إطار «سياسي ـ اجتماعي» يساعد المرء على تحقيق ذاته، والتعاون مع الآخرين؛ لإيجاد الشروط والموارد الروحية والمادّية؛ لتحقيق الأنا. وإنني أرى أن شروط النظام التعدُّدي (كأساس المجتمع المدني الإسلامي) متوافرةٌ بكثرة في داخلنا، وفي نسيجنا الاجتماعي والسياسي والتاريخي العربي الإسلامي، بالرغم من وجود مواقع مظلمة كثيرة في هذا المجال. فالتسليم بإمكانية وجود المعارضة مبدئياً، والاستعداد لإعطائها قَدْراً من الشرعية المقنَّنة، ووضع آليةٍ عملية لتداول السلطة التشريعية والتنفيذية، سلمياً وقانونياً، ومراعاة رأي الأغلبية في البلاد، والاحتكام إليها في الحالات الضرورية والمصيرية، كلها شروط سياسية ودستورية وقانونية لها جذورٌ في بيئتنا، وهي تمثِّل الحدّ الأدنى لاستنبات بذرة التعدُّدية عربياً وإسلامياً، وهي شرائط «سهلة ـ ممتنعة»، نتمنى أن نتوافر عليها حالياً بالحوار والانفتاح وتعميق حسّ الوَعْي النقدي في ذهنية المجتمع، بقياداته وقواعده. صحيحٌ أن سياسة الاستبداد المناقضة لأبسط قواعد المجتمع المدني الحديث ما تزال ساريةَ المفعول حتّى الآن، وصحيحٌ أن تخريب الفضاء الحياتي قد تمّ ـ عربياً وإسلامياً ـ باسم الحرّية، ومناهضة الحرّية باسم الدفاع عن الدين ومصلحة البلد، وهي كلّها علاماتٌ سيِّئة تدلّ على المرض التاريخي المزمن لمجتمعنا الإسلامي، الذي أفضى إلى أن نعيش مع فكرة الحرّية والتعدُّدية بمزاجٍ سيّئ لا ينسجم مع المعنى الحقيقي لمفهوم الحرّية والتعدُّدية، لكنْ علينا أن نسعى بقوّةٍ لخلق أجواء مناسبة، نستطيع من خلالها أن نتحمّل بعضنا، وأن نجتهد في تراثنا وفكرنا الإسلامي؛ كي نصل إلى تحديد معالم وأُسُس واضحة، ترضي الجميع؛ للتحرُّك الفعّال على المسار التعدُّدي، والحرّية الإنسانية. وفي وضعٍ كهذا رُبَما ستغدو عملية التحوّل ـ نحو التعدُّدية والحرّية ـ أسرع وأضمن، وتصير المسيرة أكثر اطمئناناً وأمناً واستقراراً ووَعْياً.

([24]) محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: 93.

([25]) محمد جابر الأنصاري، الديمقراطية ومقوّمات التكوين السياسي العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 23: 11، 1996م.

([26]) المصدر السابق: 10.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً