الشيخ مسعود إمامي(*)
ترجمة: د. حسن طاهر / د. علي الرضا عيسى
المبدأ الثالث: الشرعيّة الدينيّة
إذا ثبت لدينا الحكم الشرعي بوجوب أو جواز الرجوع إلى الرأي العام، أو تفضيل رأي الأكثرية عن طريق أدلةٍ من داخل الدين، فسيكون مبدأ اعتبار رأي الأكثرية ـ في هذه الحالة ـ دليلاً شرعياً. وقد حاول العديد من الفقهاء بهذه الطريقة إثبات اعتبار أو عدم اعتبار رأي الأكثرية. اعتمد المؤيِّدون لرأي الأكثرية على أدلةٍ مثل: البيعة، والشورى، وروايات خاصة. من ناحيةٍ ثانية، عارضت مجموعة أخرى اعتبار رأي الأكثرية من خلال القدح في أدلة المؤيِّدين، أو سَوْق أدلة تدحض اعتبار رأي الأكثرية، مثل: ذمّ الأكثرية في القرآن.
ونخلص من دراسة آراء هذه المجموعة من النقّاد إلى أنهم حاولوا إثبات أن اعتبار رأي الأكثرية في نظام التشريع والفقه الإسلامي، أو الفقه الشيعي على وجه الخصوص، له مكانةٌ «من داخل الفقه» أو أنه فاقدٌ للاعتبار. وبعبارةٍ أخرى: فإن السؤال المطروح عليهم هو: هل تمّ رصد حالاتٍ معينة في الإسلام ـ وفي غير الحالات الكثيرة التي لا يحقّ للناس اتخاذ قرار بشأنها، مثل: التشريع في الأحكام التوقيفية كالصلاة والصوم وما إلى ذلك ـ جعل فيها الشرع حقّ اتخاذ القرار بأيدي الناس؟
ركّزت ذهنية العديد من الفقهاء باستمرار على نظام التشريع الإسلامي، ومحاولة العثور على حالاتٍ تشير إلى صنع القرار الجماعي من قِبَل الناس. وقد سعى مؤيِّدو اعتبار رأي الأكثرية إلى إظهار أن هناك «حرّية تشريعية» في الإسلام في بعض مجالات صنع القرار الجماعي، وأنه لا توجد أحكامٌ إلزامية للناس في تلك الحالات، لذلك يمكن للناس أن يقرِّروا بأنفسهم.
كما سعى المعارضون لإثبات عدم وجود مثل هذه الحالات في الشريعة.
والفرق بين هذا الرأي وبين مبدأ الحقّ في تقرير المصير على أساس اعتبار رأي الأكثرية، الذي دافع عنه المؤلِّف، هو أن أساس الحقّ في تقرير المصير يتعلّق بمرحلة ما بعد التشريع، أي نظام التكوين، واعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير تدلّ على «الحرية التكوينية» للناس في العمل بالشريعة، ومع ذلك ـ كما مرّ ـ استناداً إلى قاعدة الارتباط بين حكم العقل والشرع، فضلاً عن الأدلة القرآنية والروائية المعتبرة التي سنأتي على ذكرها، فإن لرأي الأكثرية شرعيةً دينية تأتي بعد مرحلة الأحكام الشرعية الواجبة.
ومن النتائج الواضحة للاختلاف بين هاتين القاعدتين أنه بناءً على الشرعية الدينية يكون للناس التخيير الشرعي في اختيار أيٍّ من الخيارات المطروحة أمامهم، ومهما كان اختيار أحدهم فإنه لن يكون عاصياً ومخالفاً لتكاليفه الشرعية. في حين أن الأمر يختلف في مبدأ حقّ تقرير المصير، فرُبَما يرتكب الناس المعصية باختيارهم.
ويكمن سرّ هذا الفارق بينهما في أنه بناءً على قاعدة الشرعية الدينية يتم استخراج اعتبار رأي الأكثرية من الحكم التكليفي للخيار الشرعي المنطبق على الناخبين، بينما يستخرج بناءً على مبدأ الحقّ في تقرير المصير من الحكم التكليفي بعدم الإجبار والإكراه المفروض على غير الناخبين، وهم أولئك الذين يمكنهم فرض شيءٍ ما مخالف لما يريده الناخبون.
1ـ مؤيِّدو ومعارضو مبدأ الشرعيّة الدينيّة، تقريرٌ وتحقيق
هناك الكثير من الشواهد في كلام الفقهاء تشير إلى أنهم كانوا يسعون لإثبات أو رفض اعتبار رأي الأكثرية على أساس الشرعية الدينية، ولم يلتفتوا إلى مبدأ الحقّ في تقرير المصير. وسنأتي على إيراد بعض هذه الشواهد أثناء دراستنا التفصيلية لآرائهم.
ومن الشواهد التي يمكن رؤيتها في كلام أكثرهم أنهم يذهبون إلى أن عدم اعتبار رأي الأكثرية والرأي العام في تعيين الحاكمية السياسية في عصر حضور المعصومين^ من الأمور القطعية والمسلَّم بها، بل يعتبرونها من ضروريات الإسلام؛ لأنه بحَسَب اعتقادهم يكون من العبث ونقض الغرض وضع قانون من أجل شرعية اتخاذ القرار من قِبَل الناس في حال وجود شخص المعصوم×، الذي هو حجّةُ الله، ومبرَّأٌ من الأخطاء، وله مقام الحاكمية والولاية السياسية.
ومن الواضح أن اعتبار رأي الأكثرية بناءً على مبدأ الحقّ في تقرير المصير صالح حتّى في عصر وجود المعصومين^؛ لأنه لا ينبغي إجبار الناس على قبول الحكم السياسي للمعصومين^ بالقوّة الخارجية والإكراه، ولو أنهم مكلَّفون بقبول حاكميتهم من الناحية الشرعية.
أدّى عدم اهتمام العديد من المفكِّرين المسلمين بمبدأ الحقّ في تقرير المصير إلى مواجهة تحدّيات جدّية، وظهور الكثير من الآراء المتباينة في ما يخصّ تقديم نظريةٍ شاملة ومتقنة قائمة على الفقه الإسلامي في الدفاع عن الرجوع إلى الرأي العام في مختلف مجالات الحكم، التنفيذية والتشريعية والقضائية.
لقد جهدوا باستمرارٍ لصياغة نظرية تستند إلى تعاليم الشريعة؛ للدفاع عن صحّة الرأي العام، ورأوا في هذا الطريق أن العديد من أوامر ونواهي الشريعة يتعارض مع الشرعية الدينية لاعتبار رأي الأكثرية بشكلٍ مطلق. لذلك، وبناءً على الفهم الفقهي لكلٍّ منهم، خصّصوا إطلاق هذا الأصل.
توصَّل أحد المعاصرين، بعد عرضه وانتقاده لخمسة آراء حول دَوْر الرأي العام في مجال التشريع في النظام الفقهي الشيعي، إلى استنتاجٍ مفاده: إنه «لا يتناسب في نظرية واحدة سنّ القوانين والأنظمة بالرجوع إلى الاستفتاء مع السلطة التشريعية بمقاربة للفقه الشيعي؛ والسبب في ذلك واضحٌ أيضاً، وهو أن طريقة التشريع الوضعي… هي مؤسّسة لم تتطوّر في سياق الحقوق الإسلامية»([1]).
ويرى أن دراسة المكانة القانونية للرأي العام في عصر الغيبة، وبسبب إهمال أساس الحقّ في تقرير المصير، أصبحَتْ خاضعة لهذه النقطة: «هل تمّ تنصيب الفقهاء جامعي الشرائط تنصيباً عامّاً أم لا؟»([2]). ويشير هذا الرأي إلى أنه درس أيضاً مسألة اعتبار الرأي العام في نظام التشريع. ولكي نكون على درايةٍ بآراء بعض الفقهاء في هذا الصدد نقدِّم تقريراً موجزاً:
يندر أن نصادف في مؤلفات العلماء الماضين حالاتٍ تتعلّق بالرضا العام للناس عن الحكومة. المناقشات التفصيلية والمكثّفة من هذا القبيل أكثر شيوعاً في القرن الماضي. يرجع قبول علماء الدين لهذه القضية في القرنين الماضيين إلى حدٍّ كبير إلى إلمامهم بالأنظمة الديمقراطية في البلدان المجاورة، ومواجهتهم لها. وازدادَتْ رقعة مثل هذه النقاشات بين فقهاء الشيعة بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، التي ادَّعت التمسُّك بالإسلام والفقه الشيعي، إلى جانب الجمهورية والديمقراطية.
يذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى اعتبار رأي الأكثرية في قضايا مثل: تحديد الحاكمية السياسية في عصر الغيبة؛ ويُضيّق بعضٌ آخر هذا المجال أكثر.
وعلى أيّ حال لم يَرَ المؤلّف أيّ تصريحٍ من الفقهاء الذين يؤيدون اعتبار رأي الأكثرية يخصّ إطلاق هذه القاعدة وشمولها لجميع العصور، وعلى الأقلّ معظم الفقهاء يستبعدون صراحةً حقبة وجود المعصومين^ من اعتبار رأي الأكثرية.
في يوم الخميس 26 رمضان 1326هـ وصلت برقية إلى محمد علي شاه القاجاري في طهران، وكانت موقَّعةً من ثلاثةٍ من كبار مراجع الشيعة في فترة الثورة الدستورية الإيرانية: الآخوند محمد كاظم الخراساني؛ والميرزا حسين الطهراني؛ والشيخ عبد الله المازندراني، وقد جاء في قسمٍ منها: «نحن الداعون ـ وبحَسَب وظيفتنا الشرعية والمسؤولية التي أخذناها على عاتقنا في محضر العدل الإلهيّ ـ لن نتوانى عن الحفاظ على البلد الإسلامي، ورفع ظلم الخَوَنة الذين لا يعرفون الله، ولن نتوانى عن تأسيس أساس الشريعة المطهَّرة، وإعادة حقوق المسلمين المغصوبة، ولن نقصِّر (قدر المستطاع) في تحقيق ما هو من ضروريات الدين، بأن تكون حكومة المسلمين في عصر غيبة حضرة صاحب الزمان# بيد الجمهور»([3]).
وهذه العبارة، وإنْ كانت قائلةً بإعطاء الحكومة في عصر الغيبة للناس (الجمهور)، إلاّ أنها؛ بسبب اختصاصها بعصر الغيبة، لا يمكن اعتبارها ناظرةً إلى مبدأ حقّ تقرير المصير، الذي لا يفرّق بين عصر الغيبة والحضور. ومن الواضح أن كاتبي هذه البرقية كانوا قائلين بمبدأ الشرعية الدينية، وأنهم جعلوا الحكومة في عصر الغيبة في نطاق منطقة الفراغ والتخيير الشرعي.
وقد بيَّن السيد إسماعيل الصدر، في تعليقاته على كتاب «التشريع الجنائي الإسلامي»، لعبد القادر عودة، رأي عموم فقهاء الشيعة حول الإمامة والحكومة، فهو يقول: «بل الإمامة لا تنعقد عند الشيعة الإمامية إلاّ بالنصّ من الله على لسان رسوله|، وأما الدولة الإسلامية في ظرف عدم وجود النبوّة وغيبة الإمام فإنما تكون بالشكل الذي تختاره الأمّة وترضاه، ومَنْ يتزعَّم الدولة الإسلامية، سواء كان واحداً أو جماعة، إنما يكون برأي الأمّة واختيارها»([4]). ورغم أن السيد الصدر اعتبر أن الحكومة في عصر الغيبة بانتخاب الناس، إلاّ أنه؛ بسبب اختصاص كلامه بعصر الغيبة، يتّضح أنه لم يُولِ اهتماماً بمبدأ حقّ تقرير المصير، بل كان مهتمّاً بمبدأ المشروعية الدينية فقط.
يدّعي السيد كاظم الحائري أن من ضروريات الإسلام رفض اختيار رأي الأكثرية والعمل به على فرض وجود الوليّ المنصَّب من قِبَل الله([5]).
وحاول الشيخ حسين علي المنتظري استخلاص موقفٍ دفاعي في الفقه السياسي من أجل «انتخاب الأمّة». واعتبر أن «انتخاب الأمّة» طريقةٌ لتحديد الحكومة إلى جانب «التنصيب الإلهي» و«قهر القاهر». وكان يؤكِّد باستمرارٍ أنه كلّما تمّ تعيين الحاكم بالتنصيب الإلهي يتمّ إغلاق الطريق أمام انتخاب الشعب([6]).
وهو، مثل كثيرين غيره، لم ينظر إلى مسألة اختيار الناس على أساس مبدأ «حقّ تقرير المصير»؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك فحتّى في حالة التعيين الإلهيّ ينبغي أن يعتبر اختيار الناس شرطاً لتعيين الحاكم. إنه يسوق ستّة وعشرين دليلاً على تعيين الحاكم من قِبَل الناس([7])، ولكنه لم يذكر صراحةً في أيٍّ من هذه الأدلة «حقّ الشعب في تقرير المصير».
وهو يعتقد أن رأي الأقلِّية مقدَّمٌ على رأي الأكثرية في الحالات التي تكون فيها أقلِّية المجتمع من النُّخَب والمفكِّرين، والأكثرية من العوامّ والأُمِّيين([8]).
وهذا شاهدٌ آخر على أنه لم يكن يلتفت إلى مبدأ «حقّ تقرير المصير».
وهناك شواهد أخرى على ذلك أيضاً في كتابه (دراسات في ولاية الفقيه).
ولكنّه أبدى في كتبه المتأخِّرة آراء يمكن حملها على مبدأ حقّ تقرير المصير، وإنْ لم تكن صريحةً في ذلك.
وبحَسَب رأي السيد محمد الشيرازي، تكون الحكومة في عصر الغيبة للفقيه الجامع للشرائط، وإذا وُجد فقيهٌ جامع للشرائط في زمنٍ ما تتعين حكومته، أما إذا تعدّد الفقهاء فالأمر يعود إلى الناس ليختاروا الحاكم من بينهم. ويستدلّ على ذلك بأصل الإباحة والحرّية الذي يجري أيضاً على سائر الأحكام الأخرى، مثل: إن الإنسان حرّ في اختيار المرجع، القاضي، وإمام الجماعة؛ وكذلك يستدلّ بآية ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38)؛ وبالعديد من الروايات؛ بالإضافة إلى حكم العقل على تفوّق النظام الناتج عن اختيار الناس وتحت إشرافٍ شعبيّ على النظام الديكتاتوري.
وبحَسَبه، فإن مدّة الحكومة وبقيّة الخصائص الأخرى التي لم يَرِدْ فيها حكمٌ من الشريعة ستكون أيضاً من اختيار الشعب. وإذا اختلف الناس في اختيار الحاكم فسيكون الملاك هو رأي الأكثرية. وهو يتمسّك بأدلّةٍ ـ معظمها نقليّة ـ على تفوّق رأي الأكثرية على الأقلِّية، ثمّ يحاول الإجابة عن إشكالاتٍ مثل: ذمّ القرآن الكريم للأكثرية([9]).
تُظهر العديد من الشواهد أن رأي السيد الشيرازي في مجال حقّ الناس في الاختيار لا يستند إلى حقّ تقرير المصير، ولكنّ الرجوع إلى الرأي العامّ هو أيضاً من داخل النظام التشريعي؛ إذ إنه يتمّ فقط في حالة وجود عدّة فقهاء جامعين للشرائط في وقتٍ معين، مثل: مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة، حيث يكون المكلف مخيّراً من الناحية الشرعية في اختيار أيٍّ منهم، بينما، لا يقتصر اختيار الناس على حالات التخيير الشرعي في مبدأ حقّ تقرير المصير.
يرى الشيخ جعفر السبحاني شرعية حكومة الإمام المعصوم× بالنص الإلهي، وبدون اختيار الناس. لكنّه يستدلّ في حالة حكومة غير المعصومين بآيات القرآن الكريم حول خلافة الإنسان على الأرض، وقبول الأمانة الإلهية من قِبَل الإنسان، وغيرها من الأدلة العقلية والنقلية؛ لإثبات حقّ الإنسان في اختيار الحكومة والحكّام. ثم يقول، في صدد توضيحه للفرق بين حقّ الاختيار في النظام الإسلامي وحقّ الاختيار في النظام الديمقراطي: على الناس في النظام الإسلامي أن يختاروا حاكماً متَّصفاً بالشرائط المعتبرة في الشريعة؛ لكنْ يحقّ لهم أن يختاروا أيّ شخصٍ كان في حكومةٍ ديمقراطية. لذلك فإن نظام الحكم الإسلامي يخلو من الإشكالات الموجَّهة إلى النُّظُم الديمقراطية.
ويصف بعض عيوب الديمقراطية على النحو التالي: أوّلاً: الحاكم المنتخب من قِبَل الشعب سيخضع دائماً لرغباتهم، وليس لمصالح الشعب. ثانياً: غالبية الناخبين الذين يشكِّلون المعيار لتفوُّق الأصوات في نظامٍ ديمقراطي لا يتمتَّعون عادةً بالبصيرة اللازمة والنضج الفكري، وهذا هو سبب أن اختيارهم غير صحيح. ثالثاً: تفوق رأي الأكثرية على الأقلِّية هو ظلمٌ للأقلِّية وحقوقها. ومن ثم يدّعي الشيخ السبحاني؛ استناداً إلى أن الإسلام يرى ضرورة توفّر المنتخبين والناخبين على صفاتٍ وشروط معينة، أن أيّاً من هذه الإشكالات لا يؤثِّر على الانتخابات في النظام الإسلامي([10]).
يتَّضح من هذه التصريحات أن اعتبار رأي الأكثرية في نظام التشريع يُفْهَم على أنه غريبٌ عن مبدأ الحقّ في تقرير المصير. من الواضح أن استثناء عصر وجود المعصومين^ من حقّ الناس في الاختيار، وكذلك الفروق التي ذكرها بين الديمقراطية وحقّ الاختيار في الإسلام، كلّها تشير إلى أنه ينظر إلى حقّ اختيار الناس واعتبار رأي الأكثرية من ضمن النظام الشرعيّ، وأنه لم يكن مهتمّاً بمبدأ حقّ تقرير المصير.
يشرح السيد محمد مهدي الخلخالي وجهة نظر الإسلام تجاه الأكثرية، وذلك بعد انتقاده للديمقراطية؛ لاعتمادها التام على آراء الأكثرية، التي قد تفتقر إلى المنطق والاستدلال، وتنبع من الميول والرغبات اللاعقلانية للمجتمع. وبحَسَبه، فإن الإسلام لا يقدِّر الأكثرية فقط لأنها أكثرية، بل نرى القرآن الكريم يذمّ الأكثرية الجاهلة والبعيدة عن التقوى، التي يقود اتباعها إلى الضلال، والمعيار الصحيح هو اتباع الحقيقة، التي هي طريق الله.
وفي هذا الجزء من حديثه لا يقبل اعتبار رأي الأكثرية على أنه مبدأٌ لكشف الحقيقة. ثم يحاول أن يجد مصداقيةً محدودة لرأي الأكثرية في نظام التشريع الديني، وفي هذا الصدد يستند إلى اعتبار «شهرة الفتوى» و«الشهرة الروائية» في الفقه، ويعتبر ذلك «نفسه أسبقية الأكثرية على الأقلِّية، وأسبقية الظنّ القويّ على الظنّ الضعيف».
ويخلص إلى أن الإسلام يقدِّر الأكثرية المذهبية والإسلامية؛ لأنها في هذه الحالة تكون أقصر طريقٍ إلى الواقع، كما يقرّها العقل والشرع. لذلك يجب أوّلاً تعريف المجتمع بالمبادئ الأخلاقية، والفضائل الإنسانية، والوعي، والتقوى، والشعور بالمسؤولية، ثم يُؤخَذ رأيه بعد ذلك؛ لأنه في هذه الحالة تكون الأقوال والآراء مبنية على الحقّ والعدالة، وليس الأنانية والمنفعة.
ثم يذكر جانباً آخر لاعتبار رأي الأكثرية من وجهة النظر الإسلامية، وهو تفضيل مصلحة الأكثرية على مصلحة الأقلِّية عندما تتعارض مصالح أفراد المجتمع. لذلك، «إذا كان هناك تضاربٌ بين مصالح الأكثرية والأقلية يجب إعطاء الأولوية لمصالح الأكثرية؛ بناءً على قاعدة الأهمية؛ لأن مراعاة الأكثرية أهمّ من مراعاة الأقلية»([11]). ويركز في هذا الجزء من كلامه على مبدأ المصلحة، وسيأتي الحديث عنه. وهكذا نراه يهتمّ بثلاثة مبادئ: كشف الحقيقة؛ الشرعية الدينية؛ والمصلحة، ولكنه لم ينتبه إلى حقّ تقرير المصير.
وبحَسَب السيد محمد باقر الصدر، فإن الولاية لله وحده، والإنسان متحرّر من سيادة وسلطة غير الله، ويتمّ العمل بولاية الله في المجتمع البشري عبر طريقي: الاستخلاف؛ والإشراف. من ناحيةٍ أخرى، جعل الله الإنسان خليفته على الأرض، وإدارة المجتمع البشري، والرئاسة، وتدبير الأمور، تكون أيضاً من شؤون الخلافة الإلهية للإنسان.
ووفقاً له، فقد مرّت حكومة الإنسان على الأرض بفتراتٍ مختلفة. ففي عصر الوحدة الأولى، عندما لم يكن قد نشأ اختلافٌ بين البشر، كان حقّ الحاكمية والاستخلاف لآحاد الناس. في المرحلة التالية، عندما ظهر الأنبياء، أصبحَتْ الخلافة حقّاً لهم؛ لأنهم كانوا شهداء ومشرفين على الناس، ولهم منزلة العصمة. وفي عصر وجود الأئمة المعصومين^ كان خطّا: خلافة الإنسان على الأرض؛ والإشراف على سلوك الناس والشهادة عليه، جزءاً من حقّهم الإلهي. وابتداءً من عصر الغيبة انفصل هذان الخطان عن بعضهما، وأصبحت الخلافة والحاكمية من حقّ الناس، ولآحاد الناس الحقّ في إدارة أنفسهم ومجتمعاتهم. ولكنْ بما أن الناس ملزمون بالعمل وفق الشرع والدين فإن إشراف الفقهاء يصبح ضرورياً، وأخيراً، في المرحلة النهائية يأتي حكم إمام الزمان#، ويتّحد خطّا: الخلافة؛ والإشراف، مرّةً أخرى، ويُجْمَعا في شخص الإمام المعصوم×.
ويعتقد، بحَسَب آية ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38)، أن الله جعل الناس أصحاب الحكومة الأصليين في عصر الغيبة، وعهد إليهم تولي إدارة المجتمع. ويعتقد، بحَسَب آية ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (التوبة: 71)، أن الناس متساوون في الحكم، والطريق الوحيد لأفضلية رأي بعضٍ على بعضٍ آخر هو ملاك الأكثرية. بالطبع، يجب أن يعيش الناس وفقاً للشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن حكومة الناس يجب أن يوافق عليها الفقيه([12]).
واعتبر أيضاً أن دَوْرَ الناس في تعيين الحاكم يكون ضمن الحدّ الذي أجازَتْه الشريعة، ووافق على الرجوع إلى الرأي العام على أساس مبدأ المشروعية الدينية، ولم يلتفت إلى مبدأ الحقّ في تقرير المصير.
يرى الشيخ حسين المظاهري أن حكومة وولاية المعصومين^ والفقيه الجامع للشرائط من قِبَل ا لله والتنصيب الإلهي، ولكنْ هناك فرقٌ بين الاثنين؛ فولاية المعصوم× ذاتية، ولا يرى أيّ دَوْرٍ لإرادة الناس في تحقُّق ولايته في الواقع؛ لكن تفعيل ولاية الفقيه يعود إلى اختيار الناس؛ لأنه يمكن للناس أن يختاروا جماعةً من الفقهاء ليختاروا بدَوْرهم الوليّ الفقيه([13]). إذن فهو يرى أن الرجوع إلى الرأي العامّ محدودٌ بحالات التخيير الشرعي.
وبحَسَب الشيخ فاضل الصفار، إذا كان النصّ يتعلّق بشخصٍ ما فلا يبقى مجالٌ لاختيار الناس، كما في ولاية النبيّ| والأئمّة^، فليس هنا أيّ حقٍّ للناس في الاختيار، ويلزمهم الطاعة والاتِّباع، ولا معنى للبيعة في عصر المعصومين^ سوى التعبير عن التسليم والانقياد([14]).
وتكون شرعية الحاكم في عصر الغيبة بأمرين: أوّلاً: ولاية الفقيه الجامع للشرائط؛ وثانياً: رضا الناس. والشرط الثاني مستمدٌّ من أدلّةٍ كثيرة؛ لأن الحكومة بحاجةٍ إلى التصرُّف في مختلف الشؤون المالية والشخصية للناس، والأصل الأوّلي هو عدم جواز التصرّف في شؤون الناس دون موافقتهم، ثمّ استدل بالعديد من الحجج العقلية والنقلية؛ لإثبات ادعائه([15]). ومن حججه: النصوص المتعلّقة بمجلس الشورى. ويؤكّد مرّةً أخرى، أثناء دراسة هذه الحجج، على أنه لا معنى للشورى في حال وجود نصٍّ على تعيين الحاكم؛ لأن الاجتهاد مقابل النصّ مرفوضٌ([16]).
يشير عدم اعتبار حقّ اختيار الناس في عصر حضور الأنبياء والأئمة المعصومين^ في كلام هؤلاء الفقهاء ـ فضلاً عن أدلّةٍ أخرى ـ إلى أنهم لم ينتبهوا أيضاً إلى مبدأ الحقّ في تقرير المصير، وكانوا يحاولون إثبات اعتبار رأي الأكثرية على أساس الشرعيّة الدينية.
اقترح الشيخ مهدي الحائري اليزدي نظرية الوكالة، وهي تختلف اختلافاً جوهرياً عن آراء غيره من الفقهاء. يعتقد أن للناس ملكيةً مشاعية للبلاد وما يرتبط بها، لذلك فإنهم يمنحون «توكيلاً» لأشخاصٍ أو شخصٍ ما بصفته حاكماً للتصرُّف في ما يملكون، ومن هذه الجهة لا يوجد ـ برأيه ـ فرقٌ بين عصر المعصومين^ وغيرهم، ولم تشرع الولاية السياسية في الإسلام لشخصٍ معين، مثل: المعصومين^، أو فئةٍ معينة، مثل: الفقهاء([17]).
تحاول هذه النظرية أيضاً ـ كما هو واضحٌ ـ إرساء شرعية عقلية أو عُقلائية للرأي العام، وإثبات التخيير الشرعي في انتخاب الحاكم. في حين أن حقّ تقرير المصير مرتبطٌ بالمرحلة التالية من الأوامر والنواهي العقلية أوالشرعية، ومتناسقٌ أيضاً مع النصّ على الحاكم من قِبَل الله.
يثبت الدكتور عبد الكريم سروش صحّة الرأي العام من خلال «حقّ المراقبة» للشعب. وبما أن الحاكم معرَّضٌ للوقوع في الخطأ فهو بحاجةٍ إلى هيئة رقابةٍ، وهذه الهيئة الرقابية لا يمكن أن تكون من طرف الحاكم؛ لأنها ستناقض الغَرَض الذي وُجدَتْ من أجله، وبالتالي فإن الهيئة الرقابية مؤسّسة شعبية، وحقّ الرقابة يتطلب حقّ العزل، وحقّ العزل يتطلّب حقّ التنصيب([18]). كما أن استدلاله لا يشمل حكومة المعصومين^، ولا ذكر أساساً لحقّ الناس في تقرير المصير.
2ـ عقيدة «الشورى»
لقد وظف العديد من الفقهاء والمفكِّرين المسلمين الحداثويين، طيلة السنوات المئة والخمسين الأخيرة عقيدة «الشورى» في القرآن والسنّة؛ بصفتها آليةً مناسبة لتحقق النظام البرلماني، المبني على المشاركة السياسية للشعب واتِّباع رأي الأكثرية. بالإضافة إلى الشيخ النائيني([19])، وبعض الفقهاء المعاصرين الذين تمّ الاستشهاد بآرائهم في الاستناد إلى أدلة الشورى؛ لإثبات صحة الاستفتاءات المتداولة، يمكن ذكر شخصياتٍ مثل: رفاعة الطهطاوي(1290هـ)، خير الدين التونسي(1899م)، السيد جمال الدين الأسدآبادي(1314هـ)، رشيد رضا(1354هـ)، أبو الأعلى المودودي(1320هـ)، ومستشار الدولة (1313هـ)، الذين عاشوا قبل النائيني، وشخصيّاتٍ مثل: محمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسن الأمين، وراشد الغنوشي، وتوفيق محمد الشاوي، الذين جاؤوا بعده([20]).
وطبق رأي هذه الجماعة من العلماء المسلمين فإن تعاليم الشورى في النصوص الدينية تدلّ على مشروعية الرجوع إلى الرأي العام في اتخاذ القرارات الجماعية. لكنْ يبدو أن تعاليم الشورى في لغة وثقافة وتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وكذلك في القرآن والسنّة، لا تحتمل هذه القراءة الجديدة، وإنْ كان بعضهم قد برَّر هذا التفسير وأكَّده([21]).
الفهم المتداول والتقليدي للشورى هو «التشاور» والاطّلاع على آراء وحجج الآخرين، واختيار أفضلها. وبعبارةٍ أخرى: الغرض من الاستشارة هو «كشف الحقيقة». ويمكن أن يكون التشاور مع الخبراء والمتخصّصين في أيّ مجالٍ وسيلةً مناسبة للوصول إلى الحقيقة. وعلى هذا الأساس ذكر بعض المفسِّرين أن رسالة الشورى قريبةٌ من معنى هذه الآية في القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾([22]).
ينسجم هذا التفسير مع ظواهر الآيات والروايات، فضلاً عن كونه متوافقاً مع جذره المعجمي، الذي يعني اختيار واستخراج شيءٍ من عدّة أشياء([23])، ويؤكّد ذلك أيضاً التاريخ والسيرة. يهدف هذا المعنى فقط إلى تقديم حلٍّ للوصول إلى القول الصائب من بين جملة الأقوال، ولا يتطرّق إلى الشكل الفردي أو الجماعي لاتخاذ القرار؛ لكن جهد المفكِّرون المعاصرون ـ ومن دون إنكار هذا الفهم للاستشارة ـ لاستخراج معنى «اتخاذ القرار الجماعي» منه؛ حتى يتمكّنوا من استخدامه كآليّةٍ مناسبة للمصالحة بين الإسلام والديمقراطية.
ونظراً للاختلاف بين مفهومي «الاستشارة» و«اتخاذ القرار الجماعي» يمكن القول بأن تسمية «البرلمان» بـ «مجلس الشورى» منذ عهد الحركة الدستورية في إيران إلى اليوم، وإنْ لم يكن خاطئاً، ولكنه لم يكن دقيقاً؛ لأن العنصر الأساس لهذه المجالس هو اتخاذ القرار الجماعي لممثِّلي الشعب على أساس نظام الأغلبية، بينما كلمة «الشورى» تخلو من هذا المعنى، ولها فقط خصائص الحوار وتبادل أصوات النواب.
رُبَما لهذا السبب تجنَّبت معظم الدول العربية استخدام كلمة «الشورى» ومشتقّاتها في أسماء مجالسها التشريعية، واستخدمَتْ أسماء أخرى، مثل: «المجلس الوطني» و«مجلس الأمّة»، «مجلس النواب»، «مجلس الشعب»، «مجلس الأعيان»، «الجمعية الوطنية»، وما شابه([24])، وفي المقابل، وبالنسبة لمجموعة مستشاري كبار المسؤولين، الذين لا يملكون الحقّ في اتخاذ قراراتٍ مستقلّة، ويقدِّمون وجهات نظرهم فقط للمسؤولين صنّاع القرار، استخدموا اسم «المجلس الاستشاري».
وهذا لا يعني أن المجلس التشريعي يفتقر إلى مكانة التوجيه في النظام السياسي الإسلامي، بل القصد أن عقيدة الشورى في الإسلام لا يمكن أن تكون مبرّراً دقيقاً وشاملاً له؛ لأن مكانة المجالس التشريعية في عالم اليوم منبثقةٌ من حقّ السيادة والتشريع للناس، وتعاليم الشورى في الإسلام غيرُ ناظرةٍ إلى حقٍّ كهذا.
وقد حاول أحد المعاصرين، من خلال تفكيكه بين «الاستشارة الطريقية»، المراد منها كشف الواقع؛ و«الاستشارة الموضوعية»، المراد منها رعاية حقوق المستشارين، حاول إثبات اعتبار رأي الأكثرية في ذيل القسم الثاني. وهو، وإنْ كان قد اقترب في الاستشارة الموضوعية إلى مبدأ حقّ تقرير المصير، إلاّ أنه وقع في إشكالاتٍ في تفسير النصوص الدينية التي تناولت موضوع الشورى؛ لأنه لم يوضِّح ولم ينقِّح مبدأ حقّ تقرير المصير بشكلٍ صحيح، وسعى أيضاً إلى تطبيق هذا المبدأ على تعاليم الشورى؛ وللسبب نفسه أيضاً لم يكن موفَّقاً في تفسير آيات القرآن الكريم التي ذمَّت الأكثرية([25])، وسيأتي التفسير الصحيح لهذه الآيات فيما بعد.
3ـ نتائج مبدأ الشرعيّة الدينيّة
وعلى ضوء ما تقدَّم توصَّلنا إلى هذه النتائج:
الأولى: مبدأ الشرعية الدينية هو التخيير الشرعي للمكلّفين في اختيار أحد الخيارات المطروحة أمامهم؛ في حين أن أساس حقّ تقرير المصير لا يعني التخيير الشرعي، بل عدم جواز إجبار وإكراه المكلَّفين على القواعد الإلزامية للعقل والشرع.
الثانية: لا يرتكب المكلَّفون على أساس مبدأ الشرعية الدينية معصيةً، ولا يعاقبون يوم القيامة، إذا قاموا باختيار ما يشاؤون من الخيارات المتاحة لديهم؛ ولكنْ وفقاً لحقّ تقرير المصير فإن الناس مكلّفون باختيار الخيار الذي يوافق عليه العقل والشرع، وإلاّ فسوف يخطئون ويعاقبون.
الثالثة: مدى صحة رأي الأكثرية في القرارات الجماعية المبنية على أساس الشرعية الدينية مرهونٌ بدلالات الأدلة الشرعية محلّ الاستدلال. لذلك، في رأي جميع الذين قبلوا هذا الأساس، فإن رأي الأكثرية ليس له اعتبار في اختيار المحرّمات الشرعية، وفي رأي معظمهم إن إطلاق الأدلة في هذا المبدأ لا يشمل تعيين الحاكمية السياسية في عصر وجود المعصومين^، ولكنْ لا يتمّ تخصيص نطاق اعتبار رأي الأكثرية في اتخاذ القرارات الجماعية على أساس الحقّ في تقرير المصير بأيّ شكلٍ من الأشكال، ويشمل كذلك اختيار المحرّمات التشريعية. وفقاً للحقّ في تقرير المصير إذا رفض معظم الناس في عصر وجود المعصومين^ انتخاب الإمام المعصوم× للحكم السياسي، وبايعوا شخصاً آخر، فإن رأيهم يكون معتبراً، ومقدّماً على رأي أولئك الذين اختاروا الإمام المعصوم×. لقد سبق أن قيل: إن الاعتبار لا يعني الحقّانية هنا، والذين اختاروا غير المعصوم× ارتكبوا معصيةً، وسوف يعاقبون؛ ولكنّ الاعتبار بمعنى أن رأيهم هو «الحكم النهائي» في النزاعات بين الناس، ويجب أن يكون كذلك.
إذن، يمكن إثبات الرجوع إلى الرأي العام على أساس مبدأ المشروعية الدينية، إلاّ أن ما يمكن إثباته على أساس هذا المبدأ إنما هي حالاتٌ محدودةٌ من الرجوع، فيما لا يمكن تبرير العديد من الحالات الأخرى، ومن جملتها: الرجوع إلى الرأي العام في حالات انعدام التخيير الشرعي، والناس مكلَّفون باختيار خيارٍ واحد مطروح أمامهم، ولا يحقّ لهم شرعاً اختيار خيارٍ آخر.
الرابعة: لا يمكن أن تكون الشرعية الدينية الحكم النهائي في حلّ الخلافات بين الناس؛ لأنه في بعض الأحيان يكون هناك خلافٌ في تشخيص الشرعية الدينية، ويجب أن يكون الحكم النهائي حقيقةً واضحةً لا جدال فيها.
المبدأ الرابع: المصلحة
بناءً على هذا الرأي؛ ولأن قيام الحكومة وإدارتها يتطلّب موافقة الجمهور، يتمّ الرجوع إلى آرائهم؛ لأن الحكومة التي لا تقوم على الأصوات إمّا لن يتمّ تشكيلها؛ أو إذا تمّ تشكيلها ستكون غير قادرة على إدارة المجتمع بشكلٍ صحيح.
ويتّضح من خلال كلام بعض المدافعين عن الرجوع إلى الرأي العام، واعتبار رأي الأكثرية، أن مبدأهم في اعتبار رأي الأكثرية هو «المصلحة» في إدارة شؤون المجتمع. يمكن في رأيهم لحكّام المجتمع إدارته بشكلٍ صحيح إذا كان الناس راضين عنهم، وعن قراراتهم. وبهذه الطريقة تتحسّن علاقة الحكومة بالشعب، ويكون الحاكم مبسوطَ اليد في إدارة المجتمع، وتتهيّأ الأرضية لتطبيقٍ أفضل لقرارات الحكومة وقوانينها. من الواضح أن الكراهية بين الحاكم والرعايا ليست في مصلحة أحدٍ، لذلك فإن أولئك الذين يشيرون إلى الرضا العام كمقدّمةٍ لبسط يد الحاكم، وبالتالي يعتبرون موافقة الجمهور ضروريةً، يصدرون عن هذا المبدأ.
1ـ مؤيِّدو مبدأ المصلحة
يعتبر الشهيد الأوّل (734 ـ 786هـ) أن رضا الناس عن الحاكم مقدّمةٌ لخير المجتمع، وصلاحه، ويذكر ثلاث حالات للسماح بعزل الحاكم: الأولى: عندما يشكّ الإمام المعصوم× في استحقاق الحاكم؛ الثانية: أن يكون هناك شخصٌ أكمل منه للحكومة؛ الثالثة : أن يكرهه الناس ويطيعوا وينقادوا لشخصٍ آخر، حتى لو لم يكن هذا الشخص أكمل منه.
ومن ثمّ يفترض افتراضاً آخر، وهو أن الناس غير راضين عن حاكمٍ ما، وراضون بحكم شخصٍ آخر، ولكنّ الشخص الثاني لا يملك الشروط الأساسية لحكم الناس، وبحَسَب الشهيد، في هذه الحالة الحاكم الذي يكرهه الناس لا يمكن إبعاده من الحكومة من قِبَل شخصٍ لا يملك شروط الحكم؛ لأن تعيين الحاكم لمصلحة الشعب، وكلما زادت المصلحة زاد الاستحقاق، وحكم مَنْ لا تتوفَّر له الشروط الأساسية ضدّ المصلحة([26]).
ولابن فهد الحلّي (757 ـ 841هـ) أيضاً كلمةٌ في هذا الشأن:
يسأله مجهولٌ: ما يقول مولانا الشيخ ـ زاد ا لله في نعمه وإنْ عظمَتْ، وبلَّغه آماله وإنْ انفتَحَتْ ـ في جماعةٍ من الناس تأمَّر عليهم أحدٌ بغير رضاهم، وهو قاصدٌ مع ذلك العدل بينهم، لا يمكنه ولا يتمكّن من العدل إلاّ بحصول الهَيْبة في قلوب هؤلاء، ولم يقصد بذلك إلاّ الإصلاح الديني الدنيوي، مع غلبة ظنّه أنه لو لم يتأمَّر عليهم لحصل الفساد العظيم، الذي يؤول ضرره إليهم وإليه، لما قد تقرّر من أن القوم إذا كان لهم رئيس عادل كانوا إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد، وإنْ كان العدل يتفاوت، فبقي يأخذ من أموالهم ما يدفع به عنهم ما هو أشدّ ضرراً، مع أنه يخرج من ماله أيضاً، ويؤدّب بالضرب والشتم والهجر، فهل فعل ذلك أَوْلى أم تركه؟ مع غلبة ظنّه بحصول الضرر عليه وعليهم، واستدلّ على ذلك بقرائن، مع أن الضرر أعظم من ذلك؛ لأنهم ليسوا في بلدٍ مستقرّ، ولا في طرفه الأعراب، ومَنْ هو أظلم من الأعراب، أو يشاكلهم في الظلم، وإنْ كانوا مؤمنين، فهم أهل ظلمٍ وغشمٍ، فالأَوْلى له ترك ذلك أو فعله؟ على تقدير أولوية الترك، لو كان قد فعل وندم على ذلك الفعل، وطلب منهم براءة ذمّته فما أمكنه؛ لأن منهم مَنْ مات، ومنهم مَنْ لم يبلغ الحلم، ومنهم مَنْ جهل حاله، فهل تقبل توبته مع ذلك أم لا تقبل إلاّ بعد الخروج من جميع ما في ذمّته من أموالهم وتأديبهم بالضرب أو شتم أعراضهم أوإخافتهم؟
الجواب: هنا مسائل: الأولى: لا يجوز التأمُّر على جماعةٍ بغير رضاهم، إلا أن يولِّيه المعصوم، ومع عدم ذلك لا يجوز قطعاً. الثانية: إذا رأى الإنسان أن التأمُّر عليهم فيه مصلحةٌ لهم، لكنه يحتاج مع ذلك إلى الضرب والشتم وأخذ بعض الأموال، وفيه ترقية عليهم أكثر ممّا يأخذ منهم، والضرر العائد إليهم بترك هذه التولية أكثر من الضرب وممّا يأخذ منهم، لا يجوز اعتماد ذلك، والساعي فيه كالشمعة يضيء للناس ويحرق نفسه، فهو ساعٍ في نفعهم، ومضرٌّ نفسه، وترك ذلك أَوْلى([27]).
يُفْهَم من هذا السؤال والجواب أن أساس السائل والمجيب في رضا الناس أو عدم رضاهم هو مصلحة المجتمع والشخص الحاكم، مع هذا الفرق، وهو أنه في رأي ابن فهد لا يصحّ أن يتصرّف الحاكم ضدّ مصلحته الشخصية؛ من أجل حماية مصالح المجتمع.
2ـ نتائج مبدأ المصلحة
إذا كان الرجوع إلى الرأي العامّ قائماً على مبدأ مصلحة المجتمع نصل إلى هذه النتائج:
الأولى: يكون اتباع رأي الأكثرية ضرورياً، وفق هذا المبدأ، حينما يواجه الحاكم مشكلةً مستعصية في تشكيل الحكومة أو بقائها أو تنفيذ قوائمها؛ نتيجة اعتراض الناس. ولكنْ إذا كان الحاكم قادراً بأيّ شكلٍ من الأشكال على تأسيس حكومته، أو استمرارها، وتنفيذ قراراته ضدّ رأي الأكثرية، فإن اتباع رأي الأكثرية يفقد ضرورته، وتنتفي الحاجة إليه. إذن، هذا المبدأ ـ على عكس مبدأ حقّ تقرير المصير ـ لا يمكنه تبرير كثيرٍ من حالات الرجوع إلى الرأي العامّ في اتخاذ القرارات الجماعية في مجتمع اليوم.
الثانية: لدرجة رضا الناس أو عدم رضاهم عن الحكومة دَوْرٌ مهمّ في وجودها، وهي ضروريةٌ لمصلحتها. ويرى الحكّام أن عدم الرضا الطفيف من جانب غالبية المجتمع عليهم، وعلى استمرار حكمهم وبعض قراراتهم، قد يكون أقلّ ضرراً من إخراجهم من ساحة الحكم، وتسليم الحكومة للآخرين. في هذه الحالة يفضِّل الحكّام المهتمّون بمصالح المجتمع أن يحكموا ضد أكثرية آراء الناس. ومن الواضح أن بعض الحكّام قد يستنتجون أن استياء الناس الشديد منهم أقلّ ضرراً من عزلهم عن السلطة. في هذه الحالة سيتمّ تشكيل أنظمةٍ سلطوية تعتبر أساليبها الاستبدادية مقدّمةً لمصلحة الشعب.
وبعبارةٍ أخرى: لا تقتصر المصلحة في إدارة المجتمع على الموافقة العامة، ولكنْ هناك عدّة عوامل أخرى تلعب دَوْراً، ويجب على صانعي القرار في المجتمع النظر في كلّ هذه العوامل، وقد يستنتجون في النهاية أن العوامل الأخرى تلعب دَوْراً أكثر أهمّية في مصلحة المجتمع. ومن ثمّ يجب التضحية بالرضا العامّ لعوامل أكثر أهمّية. وهذه النقطة يمكن استنتاجها أيضاً من كلام الشهيد الأوّل، فهو يفضِّل الحاكم الذي تتوفَّر فيه شروط الحكم، ويفتقر إلى الدعم الشعبي، على حاكمٍ يفتقر إلى شروط الحكم، ويحظى بدعم الشعب؛ لأنه يرى أن حكومة الحاكم الفاقد للشروط ليست في مصلحة المجتمع إطلاقاً.
الثالثة: وفق هذا المبدأ ليس الناس هم صنّاع القرار في المجتمع، ولكن أصحاب القرار هم فردٌ أو أفرادٌ معيَّنون يحتاجون إلى موافقة الجمهور؛ حتى تصبح الحكومة فاعلةً ومستمرة.
الرابعة: لا يمكن اعتبار وجود المصلحة هو الحكم النهائي في حلّ الخلافات بين الناس؛ لأنه يوجد خلافٌ في تحديد المصلحة، ويجب أن يكون الحكم النهائي حقيقةً واضحةً لا جدال فيها.
المبدأ الخامس: القبول
لا يعتبر الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي الرأي العام ورضا الناس شرطاً لشرعية الحكومة، وإنما هو شرطٌ لتحقيق الحكومة، وجعلها واقعاً قائماً. ويطلق على هذه الوظيفة للرأي العام ورأي الأكثرية اسم «القبول». وقد بيَّن هذه النظرية في كتبه المختلفة([28]).
وفقاً لرأي الشيخ مصباح اليزدي تكون شرعية الحكومة في عصر الأئمة المعصومين^ وعصر الغَيْبة من جانب ا لله فقط، ولا دَوْر لرأي الناس في إضفاء الشرعية على الحكومات. لذلك، أيّ حاكمٍ لا يعيِّنه الله فلا شرعيّة لحكومته. ويمكن التعبير عن هذه الشرعية على أنها «السلطة القانونية» للحكومة. ولكنْ لكي تصبح الحكومة فعّالةً فإنها تحتاج، بالإضافة إلى السلطة القانونية، إلى «السلطة الفيزيقية»، والتي يمكن تسميتها «القبول».
يكون الناس في الحكومة الإسلامية، وكذلك في سائر الحكومات الشعبية الأخرى، وخلافاً للحكومات الديكتاتورية، يكونون مصدراً لسلطة الحكومة، وإذا لم يوافق الناس على الحكومة، ولم يساعدوها، فلن تتمكَّن الحكومة أبداً من أداء واجباتها، وتحقيق أهدافها. «فالبيعة ووفاء الناس شرطٌ لازم للحاكم الإسلامي؛ من أجل القيام بالوظائف» ([29]).
ويجيب بالقول، ردّاً على سؤالٍ: إذا تمّ افتقاد القبول العامّ بحكم الفقيه في زمنٍ ما فما هو واجب الحاكم الإسلامي حينئذٍ؟: لا تلازم بين القبول والشرعية؛ فالقبول يعطي التحقُّق الواقعي فقط للحكومة الدينية؛ لأن «شرط إقامة حكومة دينية هو قبول الناس»، و«لا يحقّ للزعيم الديني استخدام القوّة لتحميل حاكميّته على الناس». وضرب مثالاً على عدم تشكيل الحكومة الشرعية؛ بسبب فقدان القبول، ألا وهو جلوس الإمام عليّ× في بيته 25 سنة، ويستشهد لفقدان قبول الحكومة الشرعية، التي وصلَتْ إلى السلطة بناءً على طلب الناس، بصلح الإمام الحسن×.
لا يرفض الشيخ مصباح اليزدي فقط تدخُّل رأي الناس في إضفاء الشرعية على الحكومة بشكلٍ مستقلّ، بل يرفض أيضاً تدخُّله من خلال الجمع بين التنصيب الإلهي وجزء العلّة، وكذلك تدخُّله كشرطٍ للشرعية. وبعبارةٍ أخرى: برأيه، إن عدم قبول الناس لا يجعل من الحكومة الشرعية حكومةً غير شرعية.
ويظهر من أغلب كلامه أن إرادة الناس تلعب دَوْراً في إضفاء العينية على الحكومة فقط، وبعبارةٍ أخرى: إن نظرية القبول تخبر عن ظاهرةٍ عينية وتكوينية فحَسْب. وبالإضافة إلى ما نقلناه من كلامه، فإن هذه العبارات من كتبه تدلّ أيضاً على هذا المعنى لنظرية القبول: «بالإمكان بحث دَوْر الأمّة على بُعْدَيْن: أوّلهما: في إضفاء الشرعية على الحكومة الإسلامية؛ والآخر: في إقامتها». «بَيْدَ أن دَوْراً حيوياً كان للأمة في إقامة حكومة النبيّ|، الذي لم يفرض حكمه بالقوّة على الأمّة، بل المسلمون هم الذين بايعوه قلباً ولساناً، وقبلوا حكومته طائعين، وقد ساهم دعم الأمة السخيّ في ترسيخ دعائم حكومة النبيّ|». «إذن شرعيّة الحكومة في عصر الغيبة إنما يأتي من قِبَل الله سبحانه، لا رأي في ذلك للأمّة، التي يتمثَّل دَوْرها بإضفاء العينية على الحكومة في عصر الغيبة وحَسْب، لا الشرعية»([30]). «إن الأمة لا تضفي أيّ شرعيّةٍ على حكومة الفقيه، بل إن رأيها وقبولها يؤدّي إلى تحقُّقها في الخارج»([31]).
وبناءً على هذا التفسير لنظرية القبول، الذي تؤيِّده أكثر كلمات الشيخ مصباح اليزدي، فإن حقّ الحاكمية من عند الله والشريعة، والله هو مَنْ يعين الحاكم، ولكنْ لا بُدَّ لتشكيل الحكومة من تأمين بعض الأدوات والوسائل اللازمة، التي من أهمّها: مقبولية الناس واستقبالهم لها. وفي هذه الحالة فإن تشكيل الحكومة وبقاءها بدون رضا الناس غير ممكنٍ أو يصعب تحقيقه. فهو يقول: «إذا ما فقدَتْ حاكمية الوليّ الفقيه مقبوليتها فإنها لا تفقد شرعيّتها، بل المشكلة تعترض تحقُّقها وتطبيقها»([32]). إذن إرادة الرأي العامّ ورضا الناس، طبق هذا التفسير، بُعْدُها أداتيّ فقط.
ونتيجة هذا الرأي إذا استطاعت الأقلِّية في مجتمعٍ استبدال الرأي العامّ بقوّةٍ قهريّةٍ أخرى، كالقوة العسكرية، فإن تشكيل الحكومة الدينية بهذه القوّة القهرية جائزٌ أيضاً، بل واجبٌ.
ويقرّ الشيخ محمد مؤمن بالنتيجة نفسها، ويقول: «إن مقتضى إطلاق أدلة إثبات الولاية، مثل: أدلة وجوب الطاعة، هو أن لا تكون البيعة شرطاً لإثبات أصل ولاية المعصومين^ ووجوب طاعتهم، وإنما النبيّ| والأئمة المعصومون^ واجبو الطاعة، ولو أن المسلمين لم يبايعوهم». وبحَسَبه، فإن بيعة الناس مجرّد سببٍ لتحقُّق حاكمية الحجج الإلهية. وعليه إذا تشكّلت الحكومة الإلهية بمساعدة مجموعةٍ من المؤمنين، وبدون بيعة عموم الناس، فحينئذٍ لا حاجة لأخذ بيعتهم([33]).
وفي الوقت نفسه هناك عباراتٌ في ثنايا كلام الشيخ مصباح اليزدي تستلزم تفسيراً آخر لهذه النظرية. فعلى سبيل المثال يقول: «لا يمتلك الحاكم الديني حقّ استخدام القوّة لغرض فرض حكومته»([34])، ويقول: «نحن نرى أن هنالك نمطاً ثالثاً من الحكم، لا تُكتَسَب الشرعية فيه من خلال آراء الناس، وإنما من خلال الحكم الإلهيّ، مع خلوِّه من كلّ صور الإجبار على الناس؛ لأننا نرفض اللجوء إلى القوّة لنيل الحكم»([35]). وتدلّ هذه العبارات على حكمٍ فقهي في نظرية القبول، وهو عدم جواز تشكيل حكومةٍ إسلامية أو استمرارها بدون إرادة الناس ورضاهم. وانطلاقاً من هذه العبارات فإن نظرية القبول لا تخبر عن ظاهرةٍ عينية وتكوينية فحَسْب، بل شأنها شأن كلّ النظريات الفقهية والقانونية، فهي بصدد بيان تصريحٍ إنشائي ودستوري.
التفسير الأوّل لنظرية القبول يتضمّن إشكالاً أساسياً، هو أن هذه النظرية لا تعطي جواباً عن السؤال الأصلي بشأن اعتبار أو عدم اعتبار رأي الأكثرية والإرادة العامة في مجال الفقه السياسي. نظرية القبول على هذا التفسير ناظرةٌ إلى الإبلاغ عن ظاهرةٍ عينية وخارجية؛ بينما النظريات في علمَيْ الفقه والحقوق لا يتكفَّلان ببيان الظواهر العينية والتكوينية، ويجب إبداء النظر حول هذه الظواهر في المجال التشريعي.
السؤال الأصلي الذي يجب أن تجيب عنه هذه النظرية، وسائر الآراء الفقهية، هو: هل يجوز شرعاً تشكيل حكومةٍ أو استمرارها بدون كسب إرادة الأكثرية أم لا؟ أصحاب هذه النظرية يتهرَّبون ـ عن عمدٍ أو غير عمدٍ ـ من الإجابة الصريحة عن هذا السؤال بنعم أو لا، وبَدَل أن يقولوا: إن تشكيل حكومةٍ بدون رأي الأكثرية واستمرارها جائزٌ، أو غيرٌ جائز، يقولون: إن تشكيل حكومةٍ بدون رأي الأكثرية واستمرارها غيرُ ممكنٍ، أو يواجه مشكلاتٍ. يجب على مؤيِّدي هذه النظرية إخراجَها من دائرة الإبهام، والإجابة عن هذا السؤال الأصلي بصراحةٍ ووضوح.
يبدو أن عدم التفكيك الواضح بين مبادئ اعتبار رأي الأكثرية هو الذي تسبَّب في تشكُّل نظرية القبول. تمّ اعتبار المشروعية في هذه النظرية مترادفةً مع التنصيب الإلهي. يقول الشيخ مصباح اليزدي: «الحقّ الإلهي والأمر الذي يمنحه هو المعيار في شرعية الحكومة»([36]). عندما يكون المراد بالمشروعية التنصيب الإلهي نصل بصورةٍ صحيحة إلى هذه النتيجة: إن إرادة الناس ورضاهم لا دَوْر له في التنصيب الإلهيّ، كما أن للإمام عليّ بن أبي طالب× منصب خلافة النبيّ|، سواء رضي الناس بذلك أم لم يرضوا، وسواء بايعوه أم لم يبايعوه.
والأمر الذي أُغفل في هذه النظرية الإجابة عن هذا السؤال: هل جعل الله تأسيس الحكومة المنصوبة بأمره وتشكيلها متوقِّفاً على شرط رضا الناس أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: إنْ لم يكن لإرادة الناس دَوْرٌ في التنصيب الإلهي، ولا يتسبّب عدم رضاهم في فقدان المنصوب من عند الله لمكانة التنصيب الإلهي، فهل لإرادة الناس دَوْرٌ في مرحلة «تشكيل» حكومة المنصوب من عند الله أم لا؟ على أساس مبدأ حقّ تقرير المصير فإن إرادة الناس لها دَوْرٌ في تشكيل الحكومة الإسلامية، وفي حفظها، وتشكيلُ حكومةٍ بدون إرادة الناس، واستمرارُها، غيرُ جائزٍ.
إذن، إذا كان المراد من «المشروعية» المعنى الفقهيّ المعروف نفسه؛ أي «الجواز الشرعي»([37])، لا التنصيب الإلهي، ففي هذه الحالة يمكن من خلال إثبات مبدأ الحقّ في تقرير المصير القول بسهولةٍ: إن تشكيل أيّ حكومةٍ بدون إرادة الناس، أو استمرارها، غير جائزٍ، ولا شرعيّة له، ولو كانت حكومة المعصومين×؛ فلإرادة الناس دَوْرٌ جزئيّ (على نحو جزء العلّة) في المشروعية.
نتيجة مبدأ القبول
إن نظرية القبول، بناءً على التفسير الأوّل، تتَّسع لتأسيس الحكومات الديكتاتورية وإدامتها؛ إذ في هذه النظرية لا دَوْر للناس في إضفاء الشرعيّة على الحكومة، بل هم مجرّد أداةٍ لتشكيلها واستمرارها. والنتيجة البديهية لهذا الرأي أنه إذا كانت الحكومة منصوبةً من قِبَل الله فيمكن أن تتشكّل بأداةٍ أخرى غير إرادة الناس، ككثيرٍ من الحكومات الديكتاتورية التي تشكَّلَتْ على مرّ التاريخ، وأن تستمرّ سنواتٍ بل قروناً متماديةً، من دون أن يخلّ ذلك بشرعيتها. وتأسيسُ حكومةٍ كهذه وحفظها لا حرمة شرعية فيه، بل هو واجبٌ أيضاً.
أما على التفسير الثاني فتصبح نظرية القبول هي نفسها نظرية حقّ تقرير المصير؛ إذ سيكون معنى هذه النظرية أن الحكومة الدينية والإلهية تتعين من قِبَل الله، إلاّ أنه لا يجب فرضها على الناس، بل يجب أن يختار الناس الحكومة الإلهية بأنفسهم.
خلاصة التحقيق في مبادئ اعتبار رأي الأكثريّة
يوجد مبادئ مختلفةٌ لاعتبار الموافقة العامة ورأي الاكثرية في القرارات الجماعية، وينبغي إجراء البحث حول صلاحيتها، بشكلٍ منفصل، وفقاً لكلٍّ منها. ومن بينها: الحقّ في تقرير المصير، وكشف الحقيقة، والشرعية الدينية، والمصلحة، والقبول. وليست هذه المبادئ نظرياتٍ متضادّةً ينفي بعضها بعضاً، بل هي زوايا وأبعاد مختلفة يمكن من خلالها اختبار اعتبار رأي الأكثرية على أساس كلّ واحدةٍ منها. وفي النتيجة يكون رأي الأكثرية غير معتبرٍ طبق بعض هذه المبادئ، ومعتبراً طبق مبدأٍ آخر، ومعتبراً أحياناً أيضاً ـ أو غير معتبر أحياناً ـ طبق قسمٍ ثالث من هذه المبادئ. وعدم اهتمام أهل النظر بالمبادئ المختلفة، وخصوصاً مبدأ حقّ تقرير المصير، أدّى إلى أن ينظروا إلى رأي الأكثرية من زاويةٍ واحدة فقط، دون التوجُّه إلى سائر الزوايا الأخرى، فوصلوا في نهاية المطاف إلى حكمٍ غير مصيب.
في غضون ذلك، فإن المبدأ القويّ الوحيد الذي يمكن على أساسه إثبات اعتبار رأي الأكثرية في جميع مجالات صنع القرار الجماعي هو «الحقّ في تقرير المصير». لم يتمّ إثبات أيّ نوعٍ من الاعتبار لرأي الأكثرية من خلال سائر المبادئ الأخرى، أو قد يتمّ إحرازه في نطاقٍ ضيق من اتخاذ القرارات الجماعية.
يمكن أن يكون رأي الأكثرية؛ نظراً لوضوحه وشفافيته الذاتية، وكذلك إطلاقه الذي استمدّه من أساس الحقّ في تقرير المصير، بمثابة «الحكم النهائي» في جميع حالات النزاع في القرارات الجماعية. وبهذه الطريقة يتمّ توفير حياةٍ اجتماعية مستقرّة، وحرّية إرادةٍ للناس، وهما مطلبان عظيمان للعقل والشرع، ويمثِّلان مقدّمةً ضرورية لنموّ وتطوُّر الفرد والمجتمع.
يبدو أن على الفقه السياسي أن يقطع شوطاً طويلاً، وما زال في أوّل الدرب. أدّى عدم اهتمام الفقهاء بالفقه السياسي على طول التاريخ إلى أن الكثير من مفاهيم العلم السياسي لم يتمّ شرحها بشكلٍ صحيح. في تصوُّر الكاتب أن عدمَ كون الدين إجبارياً، واحترامَ حقّ اختيار الناس، وهي أمورٌ أكَّد عليها القرآن الكريم وسنّة المعصومين^، مقبولةٌ عند كثير من الفقهاء وعلماء الدين([38])، ولكنْ تمّ تجاهل تطبيقها على مقولة الرجوع إلى الرأي العام وتفضيل رأي الأكثرية، وكثيراً ما جرَتْ مقاربة الديمقراطية وتفضيل رأي الأكثرية على مبدأ كشف الحقيقة، والشرعية الدينية، ومن هنا فقد تمّ رفض اعتبار رأي الأكثرية أو إطلاقه، أو التشكيك فيهما، وخصوصاً أن الرجوع للرأي العام وترجيح رأي الأكثرية في عالم اليوم من المنجزات التي جُلبَتْ إلينا من الغرب، وعلماء الدين في كثيرٍ من الأحيان يسيئون الظنّ بمنجزات الغربيين، ولا سيَّما أن الرجوع إلى الرأي العام عند كثيرٍ من المفكِّرين الغربيين مبنيٌّ على النسبية الفلسفية.
رأي الأكثريّة في القرآن الكريم
قيَّمنا فيما تقدَّم اعتبار رأي الأكثرية على أساس المبادئ المختلفة، وأثبتنا في النهاية اعتبار ذلك الرأي في اتخاذ القرارات الجماعية، عبر إثبات مبدأ حقّ تقرير المصير عقليّاً. وسنبحث هنا اعتبار رأي الأكثرية في نظر القرآن الكريم؛ وسيتّضح لنا في النهاية أن القرآن الكريم أعرب على أساس المبادئ المختلفة عن آراء مختلفة حول رأي الأكثرية. ولذلك فإن عدم توجُّه كثيرٍ من المفسِّرين وأصحاب النظر إلى تعدُّد المبادئ أدّى إلى عدم وصولهم إلى نتائج صحيحة في تشخيص رأي القرآن الكريم. وباختصارٍ، يمكن القول: في نظر القرآن لا اعتبار لرأي الأكثرية على مبدأ كشف الحقيقة، وإنما هو معتبرٌ على مبدأ حقّ تقرير المصير. وسنثبت هذا الادّعاء في ثنايا المباحث التي سنتناولها تباعاً.
1ـ الأدلّة على عدم اعتبار رأي الأكثريّة
تعتقد المجموعتان أن الإسلام يعارض الاعتماد على رأي الأكثرية في القرارات الجماعية؛ الأولى: مجموعة من علماء الدين؛ والثانية: مجموعة من المثقفين غير المتدينين. تنحاز المجموعة الأولى إلى جانب الإسلام في عدم توافقه مع حكم رأي الأكثرية، وتعتبر حكم رأي الأكثرية باطلاً؛ وتختار المجموعة الثانية حكم الأكثرية، وتترك الإسلام. لكنّ كلا المجموعتين تتفقان على الادّعاء بأن الإسلام لا يتوافق مع اعتبار رأي الأكثرية. أسباب كلا المجموعتين في هذا الادّعاء متشابهة إلى حدٍّ ما. ومن أهمّ أدلة هاتين المجموعتين بعض آيات القرآن الكريم.
أـ الذمّ والإدانة للأكثريّة
أوّل ما يتراءى لدى مطالعة القرآن الكريم؛ للوقوف على اعتبار أو عدم اعتبار رأي الأكثرية، هو ذمّ القرآن الشديد والمتعدِّد لأكثرية الناس. وقد دفع ذلك الكثيرين إلى الاستنتاج بأن القرآن الكريم يعارض بشدّةٍ اعتبار رأي الأكثرية.
في كثيرٍ من الحالات أدان القرآن الكريم أكثرية الناس؛ بسبب معتقداتهم وسلوكهم. يصف الله في أكثر من 60 آية معظم الناس أو أكثرية فئةٍ محدّدة منهم بالجهل([39])، عدم التعقُّل([40])، عدم الإيمان([41])، عدم الشكر([42])، الكفر([43])، الضلال([44])، الفسق([45])، الكذب([46])، الاعتراض على الحقّ([47])، واتباع الظنّ([48]).
وبعضُ هذه الآيات ما يلي: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾([49])، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾([50])، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾([51])، ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾([52])، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾([53])، ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾([54])، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾([55])، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾([56])، ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً﴾([57])، ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾([58])، ﴿وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾([59])، ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناً إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾([60]).
وجاء في إحدى الآيات بصراحةٍ أن معظم الناس يكرهون الحقّ: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (الزخرف: 78)، ويعتبر العلامة الطباطبائي هذه الآية إشعاراً دالاًّ على توصية الإسلام باتِّباع الحقّ، ورفضه لاتِّباع إرادة أكثرية الناس([61]).
ومن أهمّ الآيات التي يستدلّ بها المعارضون لاعتبار رأي الأكثرية هذه الآية الكريمة: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116).
وقد جادل بعضُ المعاصرين في كلّ هذه الآيات، أو بعضها، حول عدم اعتبار رأي الأكثرية في الانتخابات الحاليّة([62]).
إشكالٌ وردّان
قد يجيب بعضٌ على ذلك بادّعائه أن بعض هذه الآيات مرتبطٌ بشعبٍ وجماعةٍ معينة([63])، أو أن الضمير «هم» أو «كم» في كلمة «أكثرهم أو أكثركم» يعود إلى الكافرين والمشركين([64]). إذن فالقرآن الكريم لم يذمّ أكثرية الناس، بل أكثرية جماعةٍ معينة من الناس. لذلك لا يمكن استنتاج عدم اعتبار رأي الأكثرية من القرآن الكريم.
ويوجد ردّان على هذه الإجابة:
أوّلاً: لا يمكن أن تكون هذه المقولة جواباً عن تلك الآيات التي لا يرتبط فيها ذمّ الأكثرية بفئةٍ معينة، مثل: الآيات التي تُضاف فيها كلمة «أكثر» إلى «الناس»([65]). لقد ذمَّتْ هذه المجموعة من الآيات أكثريّة جميع البشر.
وثانياً: حتّى لو كانت هذه المجموعة من الآيات تخصّ شعباً معيناً أو مجموعةً معينة من الناس، مثل: المشركين والكفّار، وكان هذا الشعب أو المجموعة يشكِّلون غالبية المجتمع، فإن نتيجة ذلك أن أكثرية هذا المجتمع سيذمّها القرآن الكريم، وبالتالي لن يكون لرأي هذه الأكثرية أيّ اعتبارٍ في المجتمع الذي تنتمي إليه. وهذا يتعارض مع اعتبار رأي الأكثرية في أيّ مجتمعٍ.
تأمُّلاتٌ في دلالة الآيات
يتّضح من خلال التمعُّن في كلّ هذه الآيات أن القرآن الكريم لا يعتبر أن أكثرية المجتمع الذي يوجِّه له الخطاب، أو المجتمع المسلم، أو المجتمع البشري بأَسْره، أو بعض المجتمعات المحدّدة، نعم، لا يعتبرها على حقٍّ من حيث العقيدة أو الأخلاق والسلوك، وهم مصابون بانحرافاتٍ فكرية واعتقادية، كالجهل، واللاعقلانية، وعدم الإيمان، والشرك، والكفر، والضلال، أو انحرافاتٍ سلوكية، كالفسوق والكذب. تشير هذه الآيات بصراحةٍ إلى انحراف غالبية المجتمع عن الحقّ.
تؤكِّد إحدى الآيات بوضوحٍ أن معظم الناس يكرهون الحقّ([66]). وهكذا فإن القرآن في موقفه من تشخيص الحقيقة يسقط أكثرية المجتمع من الاعتبار، أي إنه يرفض رأي الأكثرية على مبدأ كشف الحقيقة، ويعلن أن معظم الناس ليسوا أهل اعتقادٍ وتصديقٍ للحقّ، وعملٍ به، لذلك لا يمكن أن يكون رأيهم كاشفاً للحقيقة.
لهذا السبب، فإن أولئك الذين يرفضون اعتبار رأي الأكثرية على أساس مبدأ كشف الحقيقة استدلّوا لإثبات وجهة نظرهم بهذه المجموعة من الآيات. هذا الاستدلال صحيحٌ، ونحن نشاركهم الرأي، ونرفض اعتبار رأي الأكثرية على أساس كشف الحقيقة، ونقبل الاستدلال بهذه الآيات. لكنْ من الواضح أن هذه الآيات لا علاقة لها بحقّ الشعب في تقرير المصير، ولا يمكن أن تشوِّه اعتبار رأي الأكثرية على أساس حقّ تقرير المصير. من وجهة النظر هذه لا يعتمد اعتبار رأي الأكثرية على كونها على الحقّ، لكنّ رأي الأكثرية، بغضّ النظر عما إذا كانوا يتَّبعون الحقّ أو الباطل، مُقدَّم على رأي الأقلِّية؛ لأن الناس أحرارٌ في اختيار طريق الحقّ أو الباطل، وتحديد مصيرهم.
الآيةُ 116 من سورة الأنعام، التي تمنع الرسول الأكرم| من طاعة أكثرية الناس على الأرض، وتعتبر أن هذه الطاعة تؤدِّي إلى الضلال، هي أيضاً في موقع الحكم بين الحقّ والباطل؛ لأن الكلام فيها حول الابتعاد عن الحقّ واتِّباع الباطل. لذلك فإن هذه الآية لا علاقة لها باعتبار رأي الأكثرية بناءً على مبدأ حقّ تقرير المصير؛ لأن عدم طاعة الأكثرية هو أمرٌ آخر غير فرض الرأي الحقّ على الأكثرية. ما يتعارض مع حقّ تقرير المصير وحرّية الإنسان هو الإكراه وفرض الحقّ على الناس، وليس عدم طاعتهم في طريق الباطل.
وكما تبين، هناك ثلاث افتراضات أمام الحاكم وقائد المجتمع، ولكنْ أيضاً أمام كلّ فردٍ من أفراد المجتمع ضدّ المطالب اللا مشروعة للشعب: أوّلاً: أن يعمل وفقاً لمطالبهم؛ ثانياً: أن يفرض عليهم الرأي الحقّ؛ ثالثاً: أن يتجنَّب القيام بالمطالب الجائرة للناس، ويترك المجال مفتوحاً أمامهم للعمل الحُرّ. تدلّ هذه الآية على نفي الفرضية الأولى، لكنْ لا يلزم من إنكار الفرضية الأولى إثبات الفرضية الثانية؛ لأن هناك احتمال الفرضية الثالثة، وما يتعارض مع حقّ الناس في تقرير المصير هو الفرضية الثانية، أي إجبارهم على فعل الشيء الصحيح.
استدلّ معارضو اعتبار رأي الأكثرية من العلماء المسلمين ـ الذين غالباً ما أسَّسوا وجهاتِ نظرهم المخالفة حول المسألة على مبدأ كشف الحقيقة ـ بمثل هذه الآيات فقط، والتي تشير أيضاً بوضوحٍ إلى عدم اعتبار رأي الأكثرية على أساس مبدأ كشف الحقيقة. ولكنْ ليس لديها ما يشير إلى عدم اعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير.
كما أن مفسِّري التفسير الأمثل اهتمّوا فقط بمبدأ كشف الحقيقة؛ من أجل إنكار اعتبار رأي الأكثرية؛ وفي الوقت نفسه حاولوا التوفيق بين الإسلام والرأي العام بطريقةٍ ما، لكنهم في هذا المسار لم يفكِّروا إلاّ في مبدأ كشف الحقيقة ذاته. في رأيهم: «إنّ الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين، الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل، لاستحقّوا الاحترام، وحَظِيَ رأيهم بالتقدير والقبول؛ أمّا إذا كانوا فئةً جاهلة، أو واعيةً لكنّها مستسلمةٌ لرغباتها وشهواتها على علمٍ منها، فلا طاعة لها ولا رأي؛ لأنّ اتّباعها يؤدّي إلى الضلالة والضياع، كما يقول القرآن المجيد. وعلى هذا الأساس، لو أردنا تحقيق «ديمقراطيةٍ سليمة» لوجب السعي أوّلاً لتوعية الناس، وتكوين جماعةٍ مؤمنة واعية، ثمّ الاستناد إلى رأي أكثريّتهم كمعيارٍ لسلامة الأهداف الاجتماعية، وإلاّ فإنّ ديمقراطية الأكثرية الضّالة لا تنتج سوى ضلال المجتمع، وجرِّه إلى جهنَّم»([67]).
يعود السبب في معارضة القرآن الكريم الشديدة لحقّانية الأكثرية، التي تُفْهَم من كثرة مثل هذه الآيات وتعدُّدها وتكرارها، إلى مواجهة أحد أهمّ الأضرار الاجتماعية عبر التاريخ من الماضي إلى الحاضر، وهو تأثُّر البشر بالجوّ السائد في المجتمع، والبُعْد عن الحياة العاقلة الحكيمة. يتأثَّر معظم الناس في الفكر والعمل بأجواء مجتمعاتهم، ولا تنبع معتقداتهم وسلوكهم من التفكير السليم، يقول أمير المؤمنين× عن هذه الفئة من الناس: «وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ العِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ»([68]).
ولذلك أكَّد القرآن الكريم في العديد من الآيات باستمرارٍ على قضيتين: الأولى: عدم اتِّباع الأكثرية للوصول إلى الحقيقة، والثانية: التفكُّر والتعقُّل. إن التركيز الكبير للقرآن الكريم على هاتين المسألتين يظهر النظرة العلمية والواقعية للقرآن في الدَّوْر البنّاء لهاتين القضيتين في تربية الإنسان ورشده.
ب ـ حكومة القضاء الإلهيّ على رأي الناس
إحدى الآيات الأخرى التي استند إليها أحدُ المعاصرين؛ من أجل رفض الديمقراطية والرجوع إلى الرأي العامّ في بعض القرارات الجماعية، هي هذه الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب: 36).
وفي اعتقاده إن هذه الآية تدلّ على أنه كلما تعارض رأي الناس مع حكم الله والرسول فالحكم الإلهيّ مقدّمٌ، وبالتالي «المحور في نظام الدولة الدينية هو الله عزَّ وجلَّ، وهو الحاكم على الديمقراطية ورأي الناس؛ لأن رأي الناس إنما يكون معتبراً ما لم يكن مخالفاً لما يريده الله»([69]).
تعليقٌ وبيان
هذه الآية أيضاً غريبةٌ عن اعتبار رأي الأكثرية بناءً على مبدأ الحقّ في تقرير المصير. الآية المذكورة في صدد توضيح وظيفة المؤمنين في مقام التشريع. رسالة الآية هي أنه كلما صدر أمرٌ من الله إلى النبيّ| فإن المؤمنين مُلْزَمون باتِّباعه، وليس لديهم من الناحية الشرعية خيارٌ آخر، وبعبارةٍ أخرى: تسعى الآية إلى رفض الحرّية التشريعية للمؤمنين في مقابل أوامر ا لله، في حين أن الرجوع إلى الرأي العام، واعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير، يرتبط بالحرّية التكوينية،و ليس بالحرّية التشريعية.
والناس في نظرية اعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير مكلَّفون شرعاً باتِّباع الحقّ والأحكام الإلهية، ولا تُقْبَل منهم الأعذار في خلافه، وليس لهم الحقّ في اختيار طريقٍ آخر، لكنهم أحرارٌ من الناحية التكوينية في العمل بالأحكام الإلهيّة؛ أي لا ينبغي لأحدٍ أن يجبرهم على فعل ذلك. لذلك فإن التمييز بين الحرّية في موقع التشريع، وهو نفس التخيير الديني، والحرّية في مقام التكوين، التي تمنع إجبار الآخرين على أداء واجباتهم، هو إجابةٌ منطقية على الاستدلال بهذه الآية والآيات المماثلة حول عدم اعتبار رأي الأكثرية.
2ـ الأدلة على اعتبار رأي الأكثريّة
اعتبارُ رأي الأكثرية بناءً على مبدأ الحقّ في تقرير المصير يعني الحرّية التكوينية للبشر في الحياة الجماعية في ما يخصّ العمل بالتكاليف الإلزامية للعقل والشرع، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الحقّ في الحرّية التكوينية في آياتٍ عديدة. ومن هنا أقرّ القرآن الكريم حقّ تقرير المصير للبشر في الحياة الجماعية.
إن الأدبيات القرآنية في الدفاع عن حرّية إرادة الإنسان ليست مَدْحاً للحرّية، لكنّ القرآن يتحدَّث حول ذمّ الإكراه والاستبداد. ومن ثمّ فإن التضمين الإلزامي لمثل هذه الآيات يمكن أن يؤدّي إلى استحسان «الحرّية» في القرآن.
أسلوب القرآن الكريم في إثبات حقّ تقرير المصير لآحاد الناس مطابقٌ لمنطق الاستنباط الفقهي. وقد مرّ قبل هذا أن حقّ تقرير المصير لآحاد الناس استنبط من الحكم الشرعي «عدم إجبار الغير»، وحقّ تقرير المصير لا يعني بحالٍ من الأحوال أن الناس يتمتَّعون بحقٍّ تشريعي في عدم القيام بالتكاليف الإلهية، بل يعني أن الآخرين لا يحقّ لهم إجبار الناس على القيام بالتكاليف الإلهية. وقد أوضح القرآن الكريم حقّ تقرير المصير هذا من خلال العبارات الدالة على عدم جواز إجبار الناس وإكراههم على التكاليف الإلهية.
في العديد من الآيات تمّ تذكير الرسول الأكرم| وآخرين غيره بأن واجب النبيّ الأكرم| والأنبياء الآخرين هو فقط تبليغ الرسالة الإلهية. ويتّضح من القرائن اللفظية وغير اللفظية في هذه الآيات أن القرآن، على طريقة «قصر الإفراد»([70])، بصدد رفض أيّ نوعٍ من إجبار الناس وإكراههم على اتباع الحقّ. وبتعبيرٍ آخر: كأنّ مخاطبي القرآن يحسبون أن واجب الأنبياء هو إيصال رسالة الحقّ، وإجبار الناس على قبول هذا الحقّ، فينصّ القرآن بوضوحٍ على أن وظيفة الأنبياء هي تبليغ رسالة الحقّ فقط، أي لا يحقّ لهم إجبار الناس على قبول الحقّ.
وتبين هذه المجموعة من الآيات هذه الرسالة بوضوحٍ من خلال استخدام أداة الحَصْر؛ ففي بعض هذه الآيات، بالإضافة إلى الجانب الإيجابي لوظيفة الأنبياء (ما يجب عليهم فعله)، ذكر الجانب السلبي منه (ما لا يجب عليهم فعله)، وما هو إلاّ إكراه وإجبار الناس. ومن هذه الآيات:
﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 20).
﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (المائدة: 92).
﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (المائدة: 99).
﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد: 40).
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ (الشورى: 48).
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (النحل: 35).
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (النحل: 82).
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54).
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (العنكبوت: 18).
﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (يس: 17).
﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (التغابن: 12).
يبين ا لله في معظم هذه الآيات، بعد أن يخبرنا عن عدم قبول دعوة الحقّ من قِبَل الناس، أو رفض دعوة الحقّ، في شكل جملةٍ شرطية، أن واجبَ النبيّ| أو الأنبياء× هو فقط تبليغ رسالة الحقّ. هذه الملاحظة قرينةٌ على أن الشيء الذي ورد في حقِّه النهي والرفض، والذي هو خارج وظائف الأنبياء^، يجب أن يتناسب مع افتراض معصية الناس، وهو إجبار الناس على الطاعة. ومن هنا ترمي هذه الآيات عبر حَصْر وظيفة الأنبياء× في تبليغ رسالة الله إلى رفض الإجبار.
وهناك مجموعةٌ أخرى من الآيات تمنع النبيّ| أو غيره بشكلٍ صريح من إجبار الناس على قبول الدين والحقيقة:
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99).
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 ـ 22).
﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام: 66).
﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام: 107).
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ (يونس: 108).
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الزمر: 41).
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (الشورى: 6).
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود: 28).
وتوجد مجموعةٌ ثالثة من الآيات أوكلَتْ قبول الحقّ والباطل إلى إرادة الناس، ومنحتهم الحرّية التكوينية لاختيار أحد هذين الطريقين:
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29).
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان: 3).
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (المزَّمل: 19؛ الإنسان: 29).
﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ (المدَّثر: 54 ـ 55؛ عبس: 11 ـ 12).
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً﴾ (النبأ: 39).
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 1 ـ 6).
ويحذِّر القرآن النبيّ| في إحدى الآيات من أن يقلق كثيراً؛ بسبب ابتعاد الناس عن طريق الحقّ؛ لأنهم هم أنفسهم يجب أن يختاروا الطريق الصحيح، ولو كانت المسألة بالإجبار فالله أقدر على إجبارهم: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ لاَ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ (الشعراء: 3 ـ 4).
وتوجد آيةٌ في القرآن الكريم ورد فيها رفضٌ صريح لأيّ شكلٍ من أشكال الإجبار والإكراه: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 256).
حَسْب الآيات السابقة، من الواضح أن القرآن الكريم يعارض أيّ نوعٍ من الإكراه أو إجبار الآخرين على قبول الحقّ. وعلى الرغم من أن القرآن يلزم البشر شرعاً بالعمل بما يقتضيه الحقّ، إلاّ أنه من الناحية التكوينية تركهم أحراراً في العمل بالحقّ؛ حتى يبلغوا النضج والسموّ عبر اختيارهم الحُرّ.
إذن، نحن أمام مجموعتين من الآيات في ما يخصّ تعامل القرآن مع إرادة الناس:
المجموعة الأولى: تدلّ بشكلٍ صريح ومؤكَّد على ذمّ اتِّباع الأكثرية، ولا اعتبار لرأي الأكثرية ـ استناداً إلى هذه الآيات ـ بناءً على مبدأ كشف الحقيقة.
والمجموعة الثانية: تشير بوضوحٍ إلى حرمة إجبار الناس وإكراههم على التديُّن. وبناءً على هذه المجموعة من الآيات فإن اعتبار رأي الأكثرية يقوم على حقّ تقرير المصير.
وتُظهر كثرةُ وصراحةُ هاتين المجموعتين من الآيات أن الإسلام يولي اهتماماً كبيراً لضررَيْن يتعرّض لهما المسلمون باستمرارٍ: الأوّل: الدَّمَقْرَطة (اتِّباع العوام) والخضوع للأجواء السائدة في المجتمع؛ والثاني: هو الاستبداد والإكراه وفرض الإسلام على الناس.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) باحثٌ في الفقه الإسلاميّ والدراسات القانونيّة المعاصرة، وباحثٌ في مؤسّسة دائرة المعارف لفقه أهل البيت^. له كتاباتٌ علميّة متعدِّدة.
([1]) محمود حكمت نيا، آراي عمومی «مباني اعتبار قلمرو» (الرأي العام، مجاله ومبادئ اعتباره): 223، پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي، طهران، ط1، 1382هـ.ش.
([3]) ناظم الإسلام كرماني، تاريخ بيداري إيرانيان (تاريخ الصحوة الإيرانية) 4: 230، تحقيق: علي أكبر سيرجاني، آگاه، طهران، ط1، 1361هـ.ش.
([4]) السيد إسماعيل الصدر، التشريع الجنائي الإسلامي في المذاهب الخمسة مقارناً بالقانون الوضعي: 54، التعليق 30، ط5، 1968م.
([5]) السيد كاظم الحسيني الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 171 ـ 178، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط3، 1428هـ.ش.
([6]) حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 493، 496، 497، 531، 541، دار تفكُّر للنشر، قم، ط2، 1429هـ.
([9]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه 99: 40 ـ 57، دار العلوم، بيروت، ط1، 1410هـ؛ السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه (السلم والسلام): 96، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1426هـ.
([10]) جعفر السبحاني، مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الإسلامية 2: 208 ـ 247، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط3، 1364هـ.ش.
([11]) السيد محمد مهدي الموسوي الخلخالي، الحاكمية في الإسلام: 28 ـ 43، آفاق، طهران، ط1، 1361هـ.ش.
([12]) السيد محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 106، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصيّة للشهيد الصدر، قم، ط1، 1421هـ؛ السيد محمد باقر الصدر، خلافة الإنسان: 38، مؤسسة البعثة، طهران.
([13]) حسين،المظاهري، ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية 1: 326، مؤسّسة الزهراء، قم، ط1، 1386هـ.ش.
([14]) فاضل الصفّار، فقه الدولة والحكومة الإسلامية 1: 452، دار الأنصار، قم، ط1، 1426هـ.
([15]) المصدر السابق: 453 ـ 476.
([17]) مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت (الحكمة والحكومة): 134 ـ 209، موج آزادي، ط2، 1388هـ.ش.
([18]) عبد الكريم سروش، مدارا ومديريت (المداراة والإدارة): 361، انتشارات صراط، طهران، ط1، 1376هـ.ش.
([19]) محمد حسين النائيني، تنبيه الأمّة وتنـزيه الملّة: 86، تصحيح وتحقيق: السيد جواد ورعي، بوستان كتاب، قم، ط1، 1382هـ.ش.
([20]) منصور مير أحمدي، إسلام ودموكراسي مشورتي (الإسلام والديمقراطية الاستشارية): 289 ـ 408، نشر ني، طهران، ط1، 1384هـ.ش.
([21]) محمد سروش محلاتي، دين ودولت در أنديشه إسلامي (الدين والدولة في الفكر الإسلامي)، 114، دفتر تبليغات إسلامي، قم، ط1، 1378هـ.ش؛ مير أحمدى، إسلام ودموكراسي مشورتي (الإسلام والديمقراطية الاستشارية): 289؛ حسين جوان آراسته، مباني حكومت إسلامي (مبادئ الحكومة الإسلامية): 76، بوستان كتاب، قم، ط3، 1382هـ.ش.
([22]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 18: 63، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط5، 1417هـ.
([23]) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 469، تصحيح: صفوان عدنان الداودي، دار العلم، لبنان، ط1، 1412هـ؛ حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن 6: 149، مركز الكتاب للترجمة والنشر، طهران، ط1، 1402هـ.
([24]) أحمد عطية الله، القاموس السياسي: 1134، دار النهضة العربية، القاهرة، ط3، 1968م؛ منير البعلبكي، موسوعة المورد العربية 2: 1090، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1990م.
([25]) كاظم قاضي زاده، اعتبار رأي أكثريت (اعتبار رأي الأكثرية)، المجلة الفصلية (حكومت إسلامي)، العدد 6: 149، 1376هـ.ش.
([26]) محمد بن مكّي (الشهيد الأوّل)، القواعد والفوائد 1: 405، تصحيح: السيد عبد الهادي الحكيم، المفيد، قم، ط1، 1400هـ.
([27]) أحمد بن محمد (ابن فهد الحلّي)، الرسائل العشر: 414، تصحيح: السيد مهدي رجائي، مكتبة السيد المرعشي النجفي، قم، ط1، 1409هـ.
([28]) محمد تقي مصباح اليزدي، نظريه حقوقي إسلام (النظرية الحقوقية في الإسلام) 1: 313، مؤسّسة الإمام الخميني، قم، ط1، 1382هـ.ش؛ مصباح اليزدي، پرسشها وپاسخها (أسئلةٌ وردود) 2: 16 ـ 38، مؤسّسة الإمام الخميني، ط3، 1377هـ.ش.
([29]) مصباح اليزدي، نظريه حقوقي إسلام (النظرية الحقوقية في الإسلام) 2: 201.
([30]) مصباح اليزدي، پرسشها وپاسخها (أسئلةٌ وردود) 2: 16 ـ 38.
([33]) محمد مؤمن، الولاية الإلهية الإسلامية أو الحكومة الإسلامية 1: 230 ـ 233، مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، قم، 1425هـ.
([34]) مصباح اليزدي، پرسشها وپاسخها (أسئلةٌ وردود) 2: 34.
([37]) الجواز بالمعنى الأعمّ، الذي يشمل الإباحة والوجوب.
([38]) مصباح اليزدي، پرسشها وپاسخها (أسئلةٌ وردود) 2: 25.
([39]) الأعراف: 131، 187؛ يوسف: 21، 40، 68؛ النحل: 38، 57، 101؛ الروم: 6، 30؛ سبأ: 28، 36؛ غافر: 57؛ الجاثية: 26؛ الأنعام: 37، 111؛ الأنفال: 34؛ يونس: 55؛ القصص: 13، 57؛ الزمر: 49؛ الدخان: 39؛ الطور: 47؛ الأنبياء: 24؛ النمل: 61؛ لقمان: 25؛ الزمر: 25.
([40]) المائدة: 103؛ العنكبوت: 63؛ الحجرات: 4.
([41]) هود: 17؛ الرعد: 1؛ غافر: 59؛ يوسف: 103؛ يس: 7؛ البقرة: 100؛ الشعراء: 8، 67، 103، 121، 139، 158، 174، 190.
([42]) البقرة: 243؛ يوسف: 38؛ غافر: 61؛ الأعراف: 17؛ يونس: 60؛ النمل: 73؛ يوسف: 106؛ الروم: 42.
([43]) الإسراء: 89؛ الفرقان: 50؛ النحل: 83.
([45]) المائدة: 29؛ الأعراف: 102؛ آل عمران: 101؛ التوبة: 8.
([47]) الأنبياء: 24؛ فصِّلت: 4.
([49]) الأعراف: 187؛ يوسف: 21، 40، 68؛ النحل: 38؛ الروم: 6، 30؛ سبأ: 28، 36؛ غافر: 57؛ الجاثية: 26.
([50]) الأنعام: 37؛ الأنفال: 34؛ يونس: 55؛ القصص: 13، 57؛ الزمر: 49؛ الدخان: 39؛ الطور: 47، 72؛ الأنبياء: 24.
([52]) المائدة: 104؛ العنكبوت: 63؛ الحجرات: 4.
([54]) الشعراء: 8، 67، 103، 121، 139، 158، 174، 190.
([55]) البقرة: 243؛ يوسف: 38؛ غافر: 61.
([57]) الإسراء: 89؛ الفرقان: 50.
([61]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 103.
([62]) ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (التفسير الأمثل) 14: 281؛ 5: 415، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط1، 1374هـ.ش؛ محمد جواد النجفي الخميني، تفسير آسان (التفسير السهل) 13: 356، انتشارات إسلامية، طهران، ط1، 1398هـ؛ السيد محمد حسين الحسيني الطهراني، ولاية الفقيه في حكومة الإسلام 3: 183، دار المحجّة البيضاء، بيروت، ط1، 1418هـ؛ الخلخالي، الحاكمية في الإسلام: 111؛ السيد جواد المدرسي، أكثريت در نگاه قرآن (الأكثرية من وجهة نظر القرآن)، نشريه فرهنگ كوثر (نشرية ثقافة الكوثر)، العدد 30: 24 و25، 1378هـ.ش؛ محمد علي مير علي، اعتبار رأي أكثريت أز منظر فقه القرآن شيعه (اعتبار رأي الأكثرية من منظور فقه القرآن عند الشيعة)، نشريه شيعه شناسى (نشرية معرفة الشيعة)، العدد 33: 155، 1390هـ.ش.
([63]) الحجرات: 4؛ آل عمران: 110.
([64]) النحل: 101؛ الأنعام: 37، 111؛ الأنفال: 34؛ القصص: 57؛ الطور: 47؛ الأنبياء: 24؛ المائدة: 103؛ البقرة: 100؛ يونس: 60.
([65]) الأعراف: 187؛ يوسف: 21، 38، 40، 68، 103؛ الروم: 603؛ سبأ: 28، 36؛ غافر: 57، 59، 61؛ هود: 17؛ الرعد: 1؛ يس: 7؛ البقرة: 243؛ الإسراء: 89؛ الفرقان: 50.
([67]) ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (التفسير الأمثل) 14: 283.
([68]) الشريف الرضي، نهج البلاغة: 433، تحقيق: صبحي الصالح، دار الهجرة، قم، ط1، 1414هـ.
([69]) محسن قراءتي، تفسير نور (تفسير النور) 9: 368، مركز فرهنگي درسهايي أز قرآن، طهران، ط11، 1383هـ.ش.
([70]) قصر الإفراد مصطلحٌ في علم المعاني يقع في مقابل قصر القلب، والمرادُ به أن تنسب للموصوف صفةٌ واحدة، بينما يعتقد المخاطب باشتراك صفتين أو أكثر في الموصوف. أما قصر القلب فالمراد به أن تنسب للموصوف صفةٌ واحدة، بينما يعتقد المخاطب أن الموصوف لديه صفةٌ عكس الصفة المنسوبة.