أزمة الحديث النبوي عند أهل السنّة
د. يحيى محمّد(*)
مقدّمة
يعدّ الحديث النبوي المصدرَ الثاني من مصادر التشريع؛ حيث يتقدّمه القرآن الكريم، ويأتي بعده الإجماع، ثم سائر المصادر الأخرى المتعلّقة بالاجتهاد فيما لا نصّ فيه، كالقياس وما إليه. ومن حيث التشريع، يعتبر الحديث عند العلماء أهمّ هذه المصادر قاطبة؛ وذلك باعتباره يحظى بميزتين لا ينافسه في جمعهما مصدر آخر، ذلك أنّ له مرجعية إلهية مثلما للقرآن الكريم، كما أنّه من المصادر المفصّلة مثلما هي الحال مع القياس وما إليه من مصادر الاجتهاد فيما لا نصّ فيه؛ وبذلك يختلف القرآن الكريم على أساس كونه من المصادر المجملة لا المفصّلة؛ وعليه يستعان بالحديث في تبيان ما هو مجمل من القرآن، حتى جاء عن مكحول أنه قال: القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن، كما قال يحيى بن أبي كثير: السنّة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنّة ([1]).
كذلك يختلف الحديث عن الإجماع، باعتبار أنّ مصاديق هذا الأخير قليلةٌ للغاية، وللسبب عينه يختلف عن العقل المعدّ أحد مصادر الاجتهاد والتشريع لدى الإمامية الإثني عشرية، كما يختلف عن القياس وغيره من أدوات الاجتهاد فيما لا نصّ فيه، باعتبارها غير معصومة ولا تمتّ إلى المرجعية الإلهية بصلة؛ لذلك عدّت من مصادر المعرفة الموضوعة للاضطرار، وليس الحال كذلك مع الحديث، حيث يعدّ الوحيد الذي يحظى بجمع الميزتين المشار إليهما، ممّا يجعل مبرّر الاعتماد عليه قوياً مقارنةً بغيره من المصادر المذكورة.
وهذا هو السبب الذي جعل العلماء يعوّلون فيه على الحديث أكثر من غيره. لكن السؤال الذي يرد بهذا الصدد: هل للحديث مصداقيةٌ من الحجية كما يصوّرها لنا البيانيّون؟ فهل يحظى بحجية كحجيّة القرآن؟ وهل طُلب من المسلمين الأخذ به واتّباعه كما يزعم أهل البيان؟ وهل وصل إلينا كاملاً من غير تبديلٍ وتغيير وزيادة ونقصان؟ وهل سلك المتأخرون مسلك السلف الأوّل في التعامل معه؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية.
بادئ ذي بدء، هناك عصران مختلفان ومتضادان، نطلق على الأوّل منهما: عصر التحفّظ، ويشمل ما كان عليه كبار الصحابة والتابعون، وعلى الثاني: عصر الانشغال والاشتغال، ويتجلّى في أعمق صور تطوّراته لدى المتأخرين من علماء القرن الثالث الهجري وبعده. وتفصيل البحث عن هذين العصرين سيكون كالآتي:
1 – عصر التحفّظ
أـ المنشأ
مرّت على الحديث النبوي مراحل وأطوار تختلف كثيراً عن تلك التي جرت على القرآن الكريم؛ فقد بدأ القرآن بالتدوين، ومن ثم الجمع، ومن بعده الإقرار بنسخةٍ مصحّحة تناقلتها الأجيال منذ زمن ثالث الخلفاء الراشدين وحتى يومنا هذا، وهي المعروفة بمصحف عثمان، أمّا الحديث فأمره يختلف؛ ذلك أنه لم يجد تشجيعاً على تدوينه بالشكل الذي حصل مع القرآن، بل على العكس وردت الأخبار الكثيرة عن النبي(ص) والصحابة والتابعين ما تفيد كراهة كتابته، ومع أنّه وردت في القبال أخبار أخرى تدعو إلى الكتابة، لكن هذا الأمر لا يلغي حقيقة كون النبي(ص) لم يُرد لحديثه أن يدوّن تدويناً عاماً؛ إذ من الجائز أنّه كان يتقبّل الكتابة الشخصية كالذي تدلّ عليه الكثير من الأخبار، وقد عدّها الحفّاظ ليست بأقوى من تلك التي أبدت الكراهة في الكتابة، وبعضها لا يتنافى مع مضامين الأولى؛ كالكتابة المعلّلة لأجل الحفظ، أو لطلب ما فات من خطبة النبي(ص)، وربما قام بمنع الكتابة أحياناً عندما خشي أن تتحوّل إلى التداول العام، كما تدلّ عليه بعض الأخبار ([2]).
وفي الأحوال كافّة، ليس هناك ما يدلّ على اهتمام النبيّ بأمر كتابة الحديث مثلما فعل مع القرآن الكريم، وبقي هذا الحال على ما هو عليه طيلة قرنٍ من الزمان، وذلك في عهد كلّ من الصحابة والتابعين، وقد ذكر الحفّاظ أكثر من تفسير لما حدث من منع كتابة الحديث، أو الأمر بمحوه وإزالته، ومن ذلك احتمل ابن الصلاح أمرين: أحدهما أنّ النبي(ص) أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عنها لمن وثق بحفظه مخافة الاتكال على الكتاب، والآخر هو أنه نهى عن الكتابة خوفاً من أن يختلط الحديث بصحف القرآن، ومن ثم أذن في كتابته حين أمن من ذلك ([3]).
وعلى هذه الشاكلة، اعتبر ابن حجر في مقدّمة فتح الباري، أنّ سبب نهي النبي عن تدوين آثاره، وكذا استمرار ذلك في عصر الصحابة والتابعين، يعود إلى أمرين: أحدهما خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن، وثانيهما سعة حفظ هؤلاء وسيلان أذهانهم؛ ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة([4])، كما ذكر الرامهرمزي أّنّ علة كراهة الكتابة من قبل الصدر الأول للصحابة قرب العهد وتقارب الاسناد، ولئلا يعتمد على ذلك الكاتب فيهمل الحفظ ولا يعمل به ([5]).
لكن حقيقة الحال توحي إلى أعمق مما ذكر؛ إذ يبدو أنّ العلّة في الكراهة والنهي هو منع الانشغال بالحديث والاشتغال فيه؛ وذلك لعدد من الأسباب، أبرزها أن لا يُتخذ الحديث كتاباً يضاهي ما عليه القرآن، كما هو عادة الناس، وسنرى أنّ السيرة الفعلية للصحابة والتابعين تؤيّد هذا المعنى، وقريب منه ما أشار إليه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ذكره للوجه الأوّل من علّة كراهة الكتابة، حيث ذكر وجهين بهذا الخصوص، هما: ألا يتخذ مع القرآن كتابٌ يضاهى به، ولئلا يتكل الكاتب على ما كتب فلا يحفظ فيقِلّ الحفظ ([6]).
ويؤيّد هذا المعنى أنّ الكراهة لم تقتصر على كتابة الحديث، بل امتدّت إلى كراهة الإكثار منه، فالإكثار يفضي إلى الانشغال به والاشتغال فيه، كما يفضي إلى الكذب على النبي، حيث تكثر احتمالات تحوير كلامه أو التقوّل عليه بشكل أو بآخر، ومن ثم يؤدّي الأمر إلى إحلال دينٍ بدين، كالذي حلّ بالأديان السماوية السابقة للإسلام؛ من هنا ظهر التحفظ في كلّ من كتابة الحديث والإكثار من روايته، بل وظهر التثبّت في سماعه والرغبة في إحالته أحياناً إلى من هو دون النبي(ص) خشية الكذب عليه؛ وذلك لما ورد عنه أنّه توعّد بالنار لكلّ من كذب عليه.
من المهمّ بمكان أن نعرف أنّه ليس في الروايات التي رويت عن النبي ما يفوق حديث الكذب على النبي أهميةً وصحّة؛ وذلك لعددٍ من الأسباب؛ فمن جهة أثّر هذا الحديث تأثيراً بليغاً على سائر ما روي من الأحاديث، إذ كان له تأثيره على عدم كتابة الحديث والإقلال من الرواية، والتثبّت والتدقيق في ما ينسب إلى النبي، وحتى الإقلاع عن الرواية كلياً، يُضاف إلى أهميّته الخاصّة في المنع من الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، كالذي تدلّ عليه السيرة الفعلية لكبار الصحابة والتابعين؛ ذلك أنّ فيه ما يقتضي التحذير لأولئك الذين يكثرون من الرواية.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فهو أنّ لهذا الحديث خصوصيةٌ لا يدانيه فيها حديثٌ آخر قطّ من حيث الصحّة والتواتر؛ إذ ليس هناك خبرٌ كثرت طرق روايته وتخريجه كهذا الحديث، حتى صوّره العلماء والحفّاظ بأنّه فاق حدّ التواتر، ولم يكن هناك حديث قطّ بلغ المدى الذي بلغه، وقد ورد الحديث في الصحيحين وغيرهما، وذكر بعض الحفّاظ أنّ من بين من روى هذا الحديث العشرةَ المشهود لهم بالجنة، وقال: ليس في الدنيا حديثٌ اجتمع على روايته العشرة غيره، ولا يُعرف حديثٌ يروى عن أكثر من ستين نفساً من الصحابة عن رسول الله(ص) إلا هذا الحديث ([7]).
وقيل: إنّ الحديث متواتر لفظاً ومعنى، فمن حيث التواتر اللفظي جاء بصيغة: من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، حيث رواه بضعة وسبعون صحابياً منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، أمّا من حيث التواتر المعنوي، فكما جاء عن النووي أنّ الحديث روي عن مائتين من الصحابة ([8])، ويبدو أنّ طرق الحديث أخذ تخريجها بالازدياد مع تقادم الزمن، حتى قال ابن الصلاح: إنّ هذا الحديث لم يزل عدد رواته في ازدياد، وهلمّ جرّاً على التوالي والاستمرار([9])؛ الأمر الذي يجعل المصداقية الفعليّة لهذه الطرق تنحصر بتلك التي رواها المتقدّمون لا المتأخرون.
هكذا تتبيّن أهميّة هذا الحديث الذي به يمكن فهم الكثير مما جرى لكبار الصحابة والتابعين؛ حيث أقلّوا من الرواية وتحفّظوا فيها، ولا ينكر أنّ هناك عدداً من الصيغ التي روي فيها الحديث، ومن ذلك صيغتان لهما دلالتان متضادتان، إحداهما ذكر فيها الكذب المتعمّد، والأخرى دون هذا القيد، وفي بعض الروايات أنّ عبد الله بن الزبير سأل أباه: إني لا أسمعك تحدّث عن رسول الله(ص) كما يحدّث فلان وفلان؟ فأجابه الزبير: والله يا بنيّ! ما فارقته منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار، والله ما قال: متعمّداً، وأنتم تقولون: متعمّداً ([10]).
لكن مع هذا، يلاحظ أنّ سلوك الصحابة والتابعين يتّسق مع دلالة الصيغة الأخيرة التي تخلو من لفظة: متعمّداً وما شاكلها، وفي هذا تحذير قويّ للاحتراز من أن يكون هناك تحويرٌ لكلام النبيّ، وبالتالي المنع من إحلال دينٍ آخر غير الدين القائم على القرآن، ويساند ذلك ما ورد من قرائن كثيرة دالّة على المنع من الانشغال بالحديث والاشتغال فيه؛ حيث إنّ الانشغال والاشتغال في الحديث يفضيان في الغالب إلى تحوير كلام النبي والكذب عليه، كما يفضيان إلى تحويل المسائل الشخصية والإدارية الخاصّة إلى أمور دينية ما أنزل الله بها من سلطان، وهو ما يؤول إلى إحلال دينٍ آخر خلاف ما عليه دين النبي والقرآن.
وهذا يعني أنّ النبي لا يريد من أقواله وأحاديثه أن ترتسم ديناً إلا تلك التي تتعلّق بالسنّة العملية العامة، وتدلّ عليها قرائن أنها من الدين، وميزتها التكرّر، وقد تعاطاها الصحابة بالحفظ والعمل، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ وما إليها.
ب – التداعيات
هناك مسالك متعدّدة سلكها الصحابة والتابعون لا يمكن فهمها إلا بعنوان كراهتهم الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، وذلك لسببين: أحدهما الخوف من الكذب على النبيّ كما قدّمنا، والآخر المنع من أن يكون هناك شاغل آخر غير القرآن.
وتدور هذه المسالك حول محورين أساسيين، هما: الامتناع عن تدوين الحديث أو محوه، وكذا الإقلال من الرواية والتحفّظ في سماعها ونقلها. وسنسلّط عليهما الضوء خلال الفقرتين التاليتين.
أولاً: هناك الكثير من الأقوال والأفعال التي رويت عن الصحابة، وهي تفيد منع تداول الحديث المكتوب، كمحو الحديث وإحراقه، وكذا كراهة الكتابة عموماً، والذي يتأمّل الروايات التي وردت بهذا الشأن يجد أنّ بعضها يعلّل المنع المذكور بعلّة الخوف من الانشغال بشيءٍ غير القرآن، كما يجد بعضاً آخر يعلّله بعلّة الخوف من الكذب على النبي لاحتمالات الزيادة والنقيصة في النقل المكتوب، خاصّة وقد كان العرب أمّيين لا يألَفون التدوين والكتابة، وكلا التعليلين يصبّان في غاية واحدة هي المنع من الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، وهناك روايات أخرى عامّة تطالب بمحو الحديث المكتوب من غير تعليل.
وذهب بعض العلماء إلى تحميل عمر بن الخطاب مسؤولية ترك كتابة السنن ومنعه التدوين، فكما يرى الطوفي الحنبلي أنه لو ترك الصحابة يدوّن كلّ واحد منهم ما روي عن النبي لانضبطت السنّة، ولم يبق بين أحد من الأمّة وبين النبيّ في كلّ حديث إلاّ الصحابي الذي دوّن روايته، لأن تلك الدواوين تتواتر عنهم إلينا، كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما ([11]).
لكن المسألة لا تخصّ عمر وحدَه؛ فقد روي عن غيره من الصحابة كراهتهم كتابة الحديث ومنعها أو محوها، كالذي جاء عن أبي بكر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر، وهناك من الروايات ما يروى عن الإمام علي أيضاً، وهو أنه خطب يقول: أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم ([12])، وإن كان يروى عنه أيضاً أنه كانت له عددٌ من الصحف، منها صحيفة في الديات كان يعلّقها بسيفه.
على أنّ ظاهرة الكراهة في كتابة الحديث لم تتوقّف عند عصر الصحابة، بل امتدّت إلى عصر التابعين، حيث إنّ الكثير منهم كانوا يهابون الكتابة لذات العلّتين المشار إليهما في السابق، وهما خشية الانشغال بشيء غير القرآن، وكذلك الخوف من الكذب على النبي ومنه الدسّ في الكتب، وهذا ما جعل اهتمامهم منحصراً في الحفظ وفي الكتابة الشخصية ثم محوها، كالذي روي عن القاسم بن محمد ومنصور بن المعتمر ومغيرة والأعمش وإبراهيم النخعي والضحّاك بن مزاحم وعبيدة وابن سيرين وأبي قلابة وطاوس وشعبة الحجاج وعامر الشعبي وسفيان الثوري وسعيد بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد وعلقمة وخالد الحذاء وعاصم بن ضمرة وعيسى بن يونس وغيرهم.
ثانياً: كما تحفّظ كبار الصحابة والتابعون من الرواية وأقلّوا منها؛ للعلّتين المشار إليهما سلفاً، إذ من شأن الإقلال أن يمنع الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، كما أنّه يدعو إلى ضبط كلام النبي(ص) وعدم الكذب عليه، وجاء في الرواية أن النبيّ قال: يا أيها الناس! إيّاكم وكثرة الحديث، ومن حدّث عني فلا يقل إلا صدقاً – أو حقاًً – ومن افترى عليّ فليتبوّأ بيتاً في النار ([13]).
وقد تمسّك كبار الصحابة بهذا المضمون، وكما وصفهم ابن القيّم الجوزية: إنّهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ويعظّمونها ويقلّلونها خوف الزيادة والنقص، ويحدّثون بالشيء الذي سمعوه من النبي مراراً ولا يصرّحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول الله([14]).
ومن الروايات التي وردت بهذا الخصوص ما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير أنّه قال لأبيه: إني لا أسمعك تحدّث عن رسول الله(ص) كما يحدّث فلان وفلان؟ فأجاب الزبير: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار ([15])، ومثل ذلك روي عن عثمان بن عفان أنه قال: ما يمنعني أن أحدّث عن رسول الله(ص) أن لا أكون أوعى صحابته عنه، ولكن أشهد لسمعت رسول الله(ص) يقول: من قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار ([16])، وكذا قال عمران بن حصين: والله إن كنت لأرى أنّي لو شئت لحدّثت عن رسول الله(ص) يومين متتابعين، ولكن أبطأني عن ذلك أنّ رجالاً من أصحاب رسول الله(ص) سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدّثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبّه لي كما شبّه لهم ([17])، وبالشاكلة عينها ما جاء عن أنس بن مالك وصهيب وزيد بن الأرقم وغيرهم.
وهناك من الصحابة من كان يحتاط في نقله عن النبي(ص)، فلا يقطع باللفظ، بل يقول: إنّه هكذا أو على نحوه، وأحياناً يرتعد حين يحدّث عمّا سمعه منه، وذلك خشية أن يكون قد كذب عليه، كالذي روي عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وأنس بن مالك وغيرهم، بل ومن الصحابة من كان ينسب الأمر إلى نفسه ولا ينسبه إلى الله والنبي؛ خشية أن يكون كذباً عليهما، كالذي روي عن عمر وعبد الله بن مسعود.
كذلك عُرف عن كبار الصحابة أنهم يتثبّتون في النقل والرواية عن النبي؛ إمّا بطلب شاهدٍ آخر لمن يدّعي سماعه للحديث عن النبي، أو بتحليف الراوي؛ فقد جاء أنّ أبا بكر وعمر لا يقبلان الحديث إلا من اثنين؛ فإذا جاءهما واحدٌ بحديث طلبا منه أن يؤيّده آخر يشهد له، كما جاء أنّ الإمام علياً لا يقبل الحديث إلا بعد استحلاف قائله، فكان يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله(ص) حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني، وإذا حدّثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته ([18]).
وعن التابعين قال الشعبي: قد كره الصالحون الأوّلون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدّثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث، وقال إبراهيم النخعي: أقول: قال عبد الله، وقال علقمة أحبّ إلينا ([19])، وقد كانت هذه سيرة عددٍ من الفقهاء في تحبيذ الاستدلال بأقوال الصحابة والتابعين، علماً منهم أنها أحاديث منقولة لكنهم جعلوها موقوفة، كالذي قاله إبراهيم النخعي ([20]).
هكذا يتّضح أنّ هناك عدداً من الخصائص التي امتاز بها عصرُ كبار الصحابة والتابعين، أبرزها: كراهة تدوين الحديث، ومحو المكتوب منه لئلا ينتشر، والإقلال من الرواية ومنع الإكثار منها، والتحفّظ من نسبة الحديث إلى النبيّ، وعدم التدقيق في بحث الرجال والاسناد، والتثبّت من الحديث غير المعروف.
وقد عرفنا أنّ هذه الخصائص جاءت لسببين هامّين: أحدهما الخوف من الكذب على النبي، والآخر كراهة الانشغال والاشتغال بغير القرآن.
2ـ عصر الانشغال والاشتغال
بعد ذهاب العصر الأوّل ظهر عصر جديد يحمل معاني الانقلاب على ما سلكه كبار الصحابة والتابعون إزاء التعامل مع الحديث، حيث برزت سمات جديدة هي على الضدّ من تلك التي شهدها العصر الأوّل، لكن هذه السمات لم تظهر دفعةً واحدة، بل بدأ بعضها مع وجود العصر السابق، وأخصّ بالذكر ما ظهر من الإكثار في الرواية لدى ما يطلق عليهم: صغار الصحابة؛ فقد علمنا كيف أنّ بعض كبار الصحابة كان ينهى عن الإكثار في الرواية ويعاقب عليها، ومع ذهاب الكبار أخذ بعض الصغار يكثرون فيها من غير تحفّظ، يضاف إلى ما شهدته هذه الفترة من اهتمام أوّلي بمعرفة الرجال، بعد أن تجرّأ الناس على الكذب في الحديث، ثم تطوّر الحال بعد تفشيه إلى البحث عن الاسناد.
وبعد ذلك، بدأ الاهتمام بتدوين الحديث وجمعه والكشف عن الصحيح منه؛ وبهذا أخذ العصر الثاني يتمظهر بخصائص جديدة لم تكن معهودةً من قبل، ويمكن تصنيفه إلى طورين: الإسناد والتدوين؛ إذ ظهرت البداية عند البحث في الإسناد، ثم أعقبها العمل بالتدوين، وقد مرّ كلّ منهما بمراحل وتطوّرات مختلفة فيها بعض التداخل، كالذي سنعرضه خلال الفقرات التالية:
1ـ طور الإسناد
أوّلاً: ظهرت فكرة إسناد الحديث والبحث في الرجال عندما شعر صغار الصحابة والتابعون أن من الناس من يتجرأ الكذب على النبي، وهناك من الآثار ما يبدي أنّ وضع الحديث بدأ بعد نشوء الفرق العقدية والسياسية في عهد خلافة الإمام علي، وكان ابن عباس يقول: إنّا كنّا نحدّث عن رسول الله(ص) إذ لم يكن يُكذب عليه، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه([21])، وروي عن أحمد وشعبة والبخاري ومسلم قولهم: إنّ نصف الحديث كذب، كما ذكر بعضهم أنّ الوضّاعين للحديث هم أكثر من ثلاثمائة وضّاع، ووجد لخمسةٍ منهم من الحديث الموضوع خمسة وثلاثين حديثاً([22])، وقيل: إنّ الكذابين المعروفين بوضع الحديث على النبي أربعة، وهم: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام ([23]).
ولا شك أنّ دوافع الكذب في الحديث متعدّدة ومختلفة، فتارةً كانت لنصرة المذهب وإبطال غيره من المذاهب، وثانية لاعتبارات سياسية، حيث كانت السلطة والمعارضة لا تتورّع عن اختراع الحديث لأجل دحض الخصوم، وثالثة باعتبار ما دخل من الأمم الأخرى في الإسلام لأجل تزييفه وإظهار تناقضاته وإبطاله، ومن ذلك وضع الأسانيد الصحيحة لمتون مزيفة، ورابعة لدعوى إصلاح المجتمع بعد العجز عن إصلاح فساده كما فعل الزهّاد الصالحون.
وقد قال شيخٌ من الخوارج بعد أن تاب ورجع عن مذهبه: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فإنّا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً ([24])، وروي في وضع الزنادقة عن النبي ما ذكره حمّاد بن زيد من أنّهم وضعوا على رسول الله أربعة عشر ألف حديث([25])، وورد عن الزهاد والصالحين الكثير من الوضع، حتى قال أبو عاصم النبيل: ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث([26]). وجاء أنه اعتز قوم من الزهاد فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب على النبي، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته([27]).
ثانياً: يتفق الباحثون على أنّ البحث في الاسناد والتكلّم في الرجال قد بدأ في عصر التابعين إثر تنامي الكذب وانتشاره، وتعد شخصية محمد بن سيرين (110هـ) من أبرز ما اعتمد عليه في التكهن بتأريخ بداية الاسناد، فقد روى عنه مسلم في صحيحه أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم([28]). ويحتمل أن يكون ابن سيرين قد قصد بالفتنة فتنةَ عبد الله بن الزبير عندما طرح نفسه خليفةً للمسلمين والتي انتهت بمقتله على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، وقيل: إن أول من فتش عن الاسناد هو عامر الشعبي (103هـ)([29])، كما رأى البعض أن بداية الاسناد تعود إلى ابن شهاب الزهري، وهو المنقول عن مالك بن أنس([30]).
ويبدو أن البحث عن الاسناد قد سبق القرن الثاني، وعلى الأقل فإن الوعي بأهميته قد بدأ منذ ذلك الوقت، كما تشير إليه بعض النصوص، أبرزها نص ابن سيرين الآنف الذكر، وله نص آخر وجد صدى لدى غيره من العلماء، حيث يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم([31]). وقد روي النص أيضاً عن الضحاك بن مزاحم (105هـ) ([32])، وكذا عن مالك بن أنس. وعلى هذه الشاكلة روي عن عبد الله بن المبارك ويزيد بن زريع وغيرهما. بل هناك من الروايات ما يشير إلى أن الاسناد بدأ منذ خلافة الإمام علي، إثر ما ظهر في عصره من الكذب على النبي(ص)، إذ روي عنه شبيه ما روي عن ابن سيرين وغيره، وهو أنه قال في مسجد الكوفة: انظروا عمّن تأخذون هذا العلم فإنما هو الدين([33]).
ثالثاً: كانت بداية العمل بالاسناد لدى التابعين هي قبول الاسناد المرسل عن الثقة، والمقصود بالمرسل لدى أهل الحديث هو رواية التابعي عن النبي(ص) مباشرةً، فيقول: قال النبي، دون أن يذكر اسم الصحابي الذي ينقل عنه، وهي طريقة سلّم بها التابعون واعتادوا عليها، وربما نظروا إليها بأنها تتسق مع قبول رفع الصحابي للحديث عن النبي رغم عدم سماعه منه. وتبعهم في ذلك علماء القرن الثاني للهجرة، ومن ثم اعترض عليها المتأخرون؛ حيث بحثوا عن إيجاد الأسانيد المتصلة التي تنتهي بالصحابة والنبي.
كما أخذ العلماء يبحثون عن الأسانيد التي تتصف بقدر أكبر من العلوّ والصحة. وقيل: إن المجمع على صحته هو المتصل السالم من الشذوذ والعلة، وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة وعدم تدليس([34]).
وقد كان التابعون المعوّل عليهم في الإحاطة بالحديث قليلين، فكما يرى أبو داود الطيالسي أن الحديث موجود عند أربعة؛ هم: الزهري، وقتادة، وأبو إسحاق، والأعمش، فكان قتادة أعلمهم بالاختلاف، والزهري أعلمهم بالإسناد، وأبو إسحاق أعلمهم بحديث علي وابن مسعود، وكان عند الأعمش من كل هذا ولم يكن عند واحد من هؤلاء إلا الفين الفين([35]).
2ـ طور التدوين
أ – مرحلة البدء
عرفنا أن الصحابة والتابعين أبدوا تحفظات عديدة حول كتابة الحديث، إذ كانوا يحفظونه ويؤدونه لفظاً، لكن بتقادم الزمان أخذ الحفظ يقلّ بموت العلماء وضعف الذاكرة، مع انتشار الكثير منهم في الأمصار، وقد رافق ذلك ازدياد الكذب على النبي وكثرة ظهور الفرق والابتداع، فخيف عليه من المحو والاندراس؛ ومن هنا بدأت فكرة التدوين العام، كما يشير إليها الكثير من العلماء والحفاظ. وكما ذهب ابن حجر إلى أن تدوين الآثار وتبويب الأخبار قد حصل في أواخر عصر التابعين بعد أن انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، حيث أراد العلماء تقييد الأمر بقوانين تمنع الابتداع والفرق الجديدة فكان لابد من التدوين([36]).
هكذا، أن العلة التي استند إليها العلماء في تفسير ظاهرة التدوين تعود إلى عدد من العوامل، هي كل من ضعف الذاكرة وذهاب العلماء وانتشار الكذب وكثرة الابتداع وظهور الفرق العقدية. وقد يشار إلى مثل هذه العوامل بعدد من الأخبار، أهمها أن بدء التدوين حدث بفعل الأمر الذي صدر عن السلطة السياسية في أواخر العصر الأموي؛ فقد جاء أان عمر بن عبد العزيز أمر عامله في المدينة أبا بكر بن عمرو بن حزم وكتب إليه قائلاً: انظر ما كان من حديث رسول الله(ص) فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي(ص)، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً([37]). وفي رواية أخرى: إنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب (الزهري)؛ فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنّة الماضية منه ([38]).
ومع أن الكثير من الباحثين المعاصرين يعطون لهذا القرار السياسي أهمية خاصة في الكيفية التي بدأت فيها عملية التدوين، لكن ما يبدو هو أن هذه العملية لم تحدث بفعل ذلك القرار، فهناك أسباب أخرى أجبرت العلماء على التدوين، ويحضرنا بهذا الصدد خبران آخران، كل منهما يبيّن كيف جاءت البداية، وكلاهما منقولان عن أب التدوين ابن شهاب الزهري (124هـ)؛ فأحد الخبرين ينسب علّة التدوين إلى عدوى الوضع والكذب الآتي من جهة المشرق (العراق)، إذ يقول الزهري: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه. أما الخبر الآخر فيعود بالعلّة إلى الإكراه الذي مارسته السلطة الأموية على كتابة الحديث لأغراض خاصة وضمن حدود شخصية، لكنه أثر على تعميم تداول التدوين لدى عامة المسلمين، وكما يقول: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين([39])، فقد جاء أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يملي على بعض ولده شيئاً، فأملى عليه أربعمائة حديث، وخرج الزهري فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟! فحدّثهم بتلك الأربعمائة، ثم لقي هشاماً بعد شهر أو نحوه فقال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا بكتاب فأملاها عليه، ثم قابل بالكتاب الأول فما غادر حرفاً واحداً([40]).
ومن الناحية التاريخية، بدأ التدوين وهو يحمل سلاحاً ذا حدين، ففي البداية كان علماء السلف والتابعون يتحاشونه لأسباب عديدة، منها أنه يكون موضعاً للدس في الكتب والقراطيس، كما أن عن طريقه يمكن أن يتعامل بالحديث من ليس أهلاً له، فيشيع تداوله بين عوام الناس ويكثر الكذب والتحريف. وقد كان الأوزاعي يقول: >كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهلهv([41]). فهذا هو الجانب السلبي من التدوين، أما الجانب الإيجابي منه فهو أنه يساعد على منع الكذب وتحديد الوضع والتحريف الذي تتناقله الشفاه، لذلك عمل الحفاظ على كتابة الحديث لصونه من الكذب والتغيير والتحوير عبر الأفواه، بل إن إحدى الروايات المنقولة عن الزهري تشير إلى أن علة تدوين الحديث جاءت لهذا الغرض، حيث في الرواية أنه اضطر إلى كتابة الحديث بفعل ما شاهده من الأحاديث غير المعروفة القادمة من المشرق، وقد آل الأمر عند بعض المتأخرين إلى الوصية بأن يكون التعامل بالرواية من خلال الكتاب، ومن ذلك ما قاله أحمد بن حنبل: لا تحدثن إلا من كتاب([42]).
ولنعد إلى الزهري الذي يعتبر المسؤول الأول عن تدوين الحديث، فهو أول من شرع بكتابة الحديث بعد أن كان التابعون قبله يكرهون كتابته لأسباب سبق عرضها. ويعدّ الزهري من صغار التابعين ومن فضلاء أهل الفقه والحديث في المدينة، وكان يعرف بحفظه لعلم الفقهاء السبعة المعروفين، وقيل: إنه أدرك عشرةً من الصحابة. وذكر الكثير من العلماء فضل هذا الرجل، فجاء عن سفيان بن عيينة قوله: كان الزهري أعلم أهل المدينة. وقال عنه عمر بن عبد العزيز: ما ساق الحديث أحد مثل الزهري([43]).
كما ذكره عمرو بن دينار بقوله: لقد جالست جابراً وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، فما رأيت أحداً أنسق للحديث من الزهري([44])، وفي رواية أخرى عن عمرو بن دينار أنه قال فيه: والله ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي قط. وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قال ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال ابن شهاب([45]). ومن بين ما تعود إليه أهمية الزهري هو أن له من الأحاديث الكثيرة التي لم يروها غيره. فقد ذكر مسلم في صحيحه أن له ما يقارب تسعين حديثاً عن النبي بأسانيد جياد لا يرويها غيره ([46]).
على ذلك، يكون الزهري هو الممهّد الأول لجميع التطوّرات التي جرت على الحديث المدوّن، إذ اتكأ عليه من جاء بعده، فبدأت مراحل جديدة؛ أولها التبويب، ثم المساند، ومن بعدها الصحاح. وهذا ما سنتعرف عليه كالآتي.
ب – مرحلة التبويب
جاءت عملية جمع الحديث وتبويبه كخطوة متمّمة لما بدأه الزهري من التدوين؛ إذ نشط العديد من العلماء في وقت متقارب لجمع وتدوين كلّ من الفقه والتفسير والمغازي والتاريخ وغيرها من العلوم. وعلى تقدير الذهبي فإن هذا الحدث العظيم قد حصل في منتصف القرن الثاني للهجرة (143هـ). وقيل: إن أول من جمع الحديث وبوّبه هو مالك بن أنس، كما قيل: إن أول من فعل ذلك هو الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، إلى أن قام بعدهم عدد من العلماء فدوّنوا الأحكام في الحديث ([47]).
ومعلوم أن أهم كتاب وصلنا عن تلك المرحلة هو (الموطأ) لمالك، وقد كتبه بناءً على طلب من أبي جعفر المنصور ([48])، واستغرق مالك في تصنيف كتابه أربعين سنة، وقيل: إنه روى فيه من الآثار ما سلم في معيار النقد وجرب من جهات الصحة، واعتبرت أحاديثه أصحّ الأحاديث، حتى قيل في الكتاب: إنه أنفع كتاب بعد القرآن الكريم ([49]). وروي أن المنصور شاور مالكاً في تعليق الكتاب بالكعبة لأهميته الفائقة فرفض([50]).
وجاء في الثناء على علم مالك أن عبد الرحمن بن مهدي لا يقدم على مالك أحداً. وقال عبد الرزاق: يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة، أي مالك. كما سأل عبد الله أباه أحمد بن حنبل: من أثبت أصحاب الزهري؟ فأجاب: مالك أثبت في كل شيء، ومثله نقل عن يحيى بن معين ([51]).
وأهم ما امتاز به كتاب الموطأ هو أن معظم رواته كانوا من الحجاز، وقد أكثر فيه مالك المرسل والمنقطع، وأغلب ما نقله من اسناد هو أقوال الصحابة والتابعين. وهو في أحيان قليلة كان يمارس التدليس، لكنه اشتهر بشدّة نقده للرجال وأنه حريص على أن لا يضع في كتابه إلا من كان ثقة، وكان يرى أن من لم يرو عنه من المعاصرين له في المدينة فهو ممن لم يوثقه. كما اشتهر أيضاً بتحفظه في رواية الحديث ومراعاته للصحّة بأكبر قدر ممكن، إلى درجة أنه كان يسقط الكثير من أحاديثه بين فترة وأخرى، حتى اختلفت الرواية في عدد أحاديثه ومقدار ما أسقط منها عبر السنين، ومن ذلك ما ذكره الكيا الهراسي من أن مقدار أحاديثه كانت (7000) ثم أخذ العدد يتناقص عنده إلى (700) حديث. وقال سليمان بن بلال: لقد وضع مالك الموطأ وفيه (4000) حديث، فمات وهي (1000) حديث ونيف، يخلصها عاماً عاماً بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين ([52]). كما ذكر عتيق الزبيري أنّ ما وضعه مالك في (الموطأ) هو على نحو من (10000) حديث، فلم يزل ينظر فيه ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو عاش قليلاً لأسقطه كله. وقال صفوان بن عمر بن عبد الواحد: عرضنا على مالك (الموطأ) في أربعين يوماً فقال: كتاب ألّفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً، ما أقلّ ما تتفقهون فيه([53]). وقد ذكر أبو بكر الأبهري أن جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي(ص) وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثاً؛ المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديث، والموقوف ستمائة وثلاث عشر حديث، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون ([54]). وهذا يعني أن ما نقله مالك عن النبي(ص) من الحديث المتصل يقارب ثلث المجموع، أو أنه يقارب نصف ما نقله من الحديث غير المتصل.
وأهم خصوصية امتازت بها هذه المرحلة وما قبلها هي تعويلها على الحديث المرسل والمنقطع، كالذي اشتهر لدى مالك وأبي حنيفة وغيرهما، إذ كان العلماء آنذاك يتقبلون أن يقول التابعي: قال رسول الله، وإن لم يذكر اسم الصحابي الذي ينقل عنه، وهو معنى المرسل عند أهل الحديث.
ج – مرحلة المساند
ما إن انتهى القرن الثاني للهجرة حتى بدأت مرحلة جديدة شرعت بوضع المساند من الحديث، فقد رأى جماعة من الحفاظ أن يُفردوا للحديث النبوي بما يرويه كل صحابي من أحاديث في مختلف القضايا؛ دون التقيّد باعتبارات التصحيح والتوثيق، أي سواء كان مما يحتجّ به أم لا، وسواء كان راويه ثقة أو غير ثقة. وقيل: إن أوّل من صنف المسند هو عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، ومن ثم ظهرت بعدهما المساند الأخرى؛ كمسند أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، والدارمي، وأبي يعلى الموصلي، والحسن بن سفيان، وأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبرهيم الحنظلي، وأبي خيثمة زهير بن حرب، ومسدد بن مسرهد البصري، وأسد بن موسى الأموي، ونعيم بن حماد الخزاعي وغيرهم. ومن هؤلاء من صنّف بحسب التبويب والمساند معاً، كأبي بكر بن أبي شيبة([55]).
وتختلف هذه المرحلة عن سابقتها بميزتين: فأولاً اهتمت بكتب المساند التي أفردت فيها لكلّ صحابي الأحاديث المروية عنه، وذلك على خلاف المرحلة السابقة التي عوّلت على فكرة التبويب حسب الموضوعات دون أن تفرد لأحد شيئاً من الحديث الجامع. أما ثانياً فهو أن هذه المرحلة – بخلاف سابقتها – لا تعوّل على المرسل والمنقطع من الحديث.
هذه هي مرحلة المساند التي كان لها تأثيرها البالغ على فكرة كتابة الحديث المتصل الصحيح كما دشّنها الامام محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ)، فصنف كتابه (الجامع المسند الصحيح) كأول مصنف توخى به الصحيح من أحاديث النبي.. وجاءت هذه الفكرة كمحاولة للجمع بين كمال مرحلة التبويب وكمال مرحلة المساند مع ترك ما اتصفا به من نقاط ضعف، فعوّل البخاري على ما اهتمّت به مرحلة التبويب من توخي الحديث الصحيح مع ترك المرسل والمنقطع، كما عوّل على مرحلة المساند بأخذ الاتصال في الحديث المؤدي إلى النبي مع إهمال الحديث الضعيف؛ وبذلك أصبحت فكرة الحديث المتصل الصحيح فكرةً مألوفة سار عليها العديد من أصحاب المصنفات الحديثية كما سنعرف.
د – مرحلة الصحاح
قلنا: إن ما دعا البخاري إلى تأليف جامعه الصحيح هو أنه رأى التصانيف التي سبقته حول المساند قد جمعت بين الصحيح والضعيف من الحديث، فحرّك همّته لجمع الحديث الصحيح وترك غيره من الحديث الضعيف. وقيل: إنه ألهم بفكرة الصحيح في الحديث المتصل بعد سماعه ما تمنّاه أستاذه إسحاق بن راهويه. وكان البخاري يقول: ما أدخلت في الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحّته ([56]). ويقول أيضاً: كتبت عن ألف شيخ أو أكثر، ما عندي حديث لا أذكر إسناده ([57]).
وقد ساد الاعتقاد بأن كتاب البخاري هو أول صحيح في الحديث حسب ما اصطلح عليه علماء الحديث، ومن ثم صحيح مسلم بن الحجاج القشيري (261هـ)، وبعدهما عدد من كتب الصحاح، قيل: إن أفضلها ثلاثة، وهي تعود إلى كل من: أبي داود السجستاني(275هـ)، وأبي عيسى الترمذي (279هـ)، والنسائي (303هـ).
ويتميّز الحديث الصحيح عن غيره بحسب حال الرواة في السلسلة، ومعناه عند البخاري هو ما دار على عدل متقن واتصل سنده، بحيث يروى الحديث عن عدل ضابط فمثله، وذلك بصورة متصلة غير منقطعة حتى ينتهي الحديث إلى الصحابي، ومنه إلى النبي(ص)، وفي هذا التعريف قيد، وهو أن يكون الراوي العدل يمتاز بالضبط والإتقان. وللحديث الصحيح مراتب متعددة، آخرها ما استكشفه الترمذي وأطلق عليه الحديث الحسن، وأراد به أن يسلم راويه من أن يكون متهماً، وأن يسلم من الشذوذ، وأن يروى نحوه من غير وجه ([58]).
وعرف البخاري ومسلم أنهما لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، وذلك أنهما صحّحا أحاديث ليست في كتابيهما، على ما نقله الترمذي وغيره. وجاء عنه أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. وكذا روي عن مسلم أنه قال: أخرجت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة([59]). وقد بلغت الأحاديث التي كانت متداولةً في عصر البخاري ستمائة ألف حديث، إذ روي عنه قوله: خرّجت الصحيح من ستمائة ألف حديث. وذكر ابن الصلاح أن الأحاديث في صحيح البخاري بلغت أكثر من سبعة آلاف حديث (7275) مع المكرّر، وبلغت من غير المكرّر أربعة آلاف حديث. لكن بحسب تحقيق الحافظ ابن حجر فإن الأحاديث بلغت أكثر من تسعة آلاف حديث (9082) مع المكرر، وهذا العدد خارج عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين، وجملة ما في الكتاب من التعاليق (1341) حديثاً، وأكثرها مكرّر، كما أن جملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات (341) حديثاً ([60]). وقيل: إنه يزيد عدد أحاديث البخاري في رواية الفربري على عددها في رواية إبراهيم بن معقل النسفي بمائتين، ويزيد عددها عند هذا الأخير على عددها عند حماد بن شاكر النسفي بمائة ([61]). أما أحاديث مسلم فقد بلغت – بلا تكرار – نحو أربعة آلاف حديث([62])، وبالتكرار فقد زادت على عدّة كتاب البخاري بكثرة طرقه، وبلغت الأحاديث – بالمكرّر – اثنا عشر ألف حديثاً([63]).
ومما اشتهر به البخاري قوّة الحفظ إلى درجة غير عادية، وقد وظّفها في تصنيفه للجامع الصحيح، ذلك أنه – بخلاف ما اعتاد عليه المصنفون – أخذ يسمع الأحاديث بمساندها من شيوخه دون أن يكتبها مباشرة، بل يؤجل ذلك مدّة طويلة اعتماداً على حفظه، وكانت هذه الخصوصية مدعاةً للافتخار لدى مريديه، لكنها في الوقت ذاته كانت مدعاةً للتشكيك لدى نقاده، خصوصاً وأن له بعض العبارات التي تدعو إلى مثل هذا الشك، ومن ذلك قوله: إنه صنّف كتابه ثلاث مرات، وأنه لم يؤكد دقة ما كتبه عمّا سمعه بالتمام والكمال ([64]).
وقيل: إن البخاري خرّج من الرواة الذين روى عنهم في جامعه الصحيح بما لا يتجاوز الألفين، فهو لم يخرّج على ذلك جميع الرواة الذين روى عنهم، مثلما لم يخرّج جميع الصحيح من الحديث([65])، فله كتاب (التاريخ الكبير) جمع فيه أسامي من روى عنهم الحديث من زمان الصحابة إلى (205هـ)، فبلغ عددهم قريباً من (40 ألف) رجل وامرأة، ومن هؤلاء حوالي ألفين، هم موضع خلاف بين البخاري ومسلم، وقد بلغ عدد الذين جرحهم النقاد (226) رجلاً فقط، مما يعني أن أغلبهم ثقات، فالدرجة الأولى من الرواة محتجّ بهم في الصحيحين، وأغلب ما تبقى هم من الثقات ([66])؛ فقد اشترط البخاري ومسلم أن يكون الراوي معروفاً بالعدالة، وهذا ما جعل كتابيهما – لدى أهل السنة – ذوي قيمة لا تقدّر، حيث اعتبر كل راوٍ ورد ذكره فيهما عدلٌ لا يقبل الطعن فيه إلا بقادح واضح أو مفسر السبب، وذلك لأن أسباب الجرح مختلفة ومدارها لدى علماء الحديث على خمسة أشياء: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند، بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلّس أو يرسل([67]).
وقد قيل: إن في الصحيحين جماعة مجهولي الحال لدى الحافظ أبي حاتم، لكنهم معروفون لدى غيره، وفي الصحيحين عدد غير قليل لم ينص أحد على وثاقتهم. وذكر الحافظ عبد القادر القرشي أنّ ما يقوله الناس bإن من روى له الشيخان قد جاوز القنطرةv هو من التجوّه، أي طلب الجاه، حيث روى مسلم في صحيحه عن الكثير من الضعفاء رغم أنهم يقولون: إنما روى عنهم للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهو توجيه غير صحيح باعتبار أن مسلماً التزم في كتابه الحديث الصحيح، فكيف يكون ذلك بطرق ضعيفة؟ وأيضاً فإن البخاري ومسلم لم يسلما من التدليس، حيث كثيراً ما ورد في كتابيهما أداتا (إن وعن) المقتضيتان للانقطاع، ومن ذلك ما رواه مسلم في كتابه عن أبي الزبير عن جابر أحاديث كثيرة بالعنعنة وهو تدليس، رغم أن الحفاظ يقولون: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال، وذلك على سبيل التجوّه ([68]). وفعلاً استخدم البخاري ومسلم أداة العنعنة في أواسط الاسنادات التي غطّت رواياتهما، وقلما أخرجا حديثاً لم تتكرّر فيه هذه الأداة. ومن الواضح أن ذلك لا يدل على السماع المباشر.
على أن المشهور لدى الحفاظ هو أن البخاري ومسلم كانا يدلسان أحياناً قليلة، ففي بعض الحالات كان البخاري يقول: قال فلان وقال لنا فلان، وهو تدليس، لكن هناك من اعتبر ذلك غير مضرّ، لأنه يكون ضمن الموقوفات أو على غير شرطه. كذلك كان مسلم يقول فيما لم يسمعه من مشايخه: قال لنا فلان، وهو تدليس ([69]).
ومن الملاحظات التي شوهدت عند البخاري ومسلم أنهما – كما يقول الكوثري – لم يخرجا في الصحيحين شيئاً من حديث أبي حنيفة، رغم أنهما أدركا صغار أصحاب أصحابه وأخذا عنهم، ولم يخرجا من حديث الشافعي شيئاً، مع أنهما لقيا بعض أصحابه، كما لم يخرج البخاري من حديث أحمد إلا حديثين: أحدهما تعليقاً والآخر نازلاً بواسطة، مع أنه أدركه ولازمه، كذلك لم يخرج مسلم في صحيحه عن أحمد إلا قدر ثلاثين حديثاً، ولا أخرج أحمد في مسنده عن مالك عن نافع بطريق الشافعي وهو أصح الطرق أو من أصحها إلا أربعة أحاديث، وما رواه أحمد عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثاً مع أنه جالس الشافعي وسمع موطأ مالك منه، وعدّ من رواة مذهبه القديم. وقد قال الكوثري معلّلاً ذلك: والظاهر من ديدنهم وأمانتهم أن ذلك من جهة أنهم كانوا يرون أن أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع لكثرة أصحابهم القائمين بروايتها شرقاً وغرباً.. ومن ظن أن ذلك لتحاميهم عن أحاديثهم أو لبعض ما في كتب الجرح من الكلام في هؤلاء الأئمة، كقول الثوري في أبي حنيفة، وقول ابن معين في الشافعي، وقول الكرابيسي في أحمد، وقول الذهلي في البخاري ونحوها فقد حمّلهم شططاً([70]).
كذلك جاء أن البخاري لم يروِ عن أئمة أهل البيت إلا ما ندر، إذ ذكر أنه لم يروِ شيئاً عن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكذا لم يروِ عن جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد والحسن العسكري الذي عاصره، ولم يروِ عن الحسن بن الحسن، وزيد بن علي بن الحسين، ويحيى بن زيد، والنفس الزكية محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم بن عبد الله، والحسين الفخي بن علي بن الحسن، ويحيى بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إدريس بن عبد الله، ومحمد بن جعفر الصادق، ومحمد بن إبراهيم، وأخيه القاسم الرسي، ومحمد بن محمد بن زيد بن علي، ومحمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين وغيرهم، مع أنه روى عن الخوارج والموالين للسلطة الأموية ومن كانت لهم عداوة مع أهل البيت، مثل عمران بن حطّان([71]).
مقارنة بين الصحيحين
إن من شروط الصحيح لدى البخاري ومسلم أن يكون إسناد الحديث متصلاً، وأن يتصف الراوي بصفات الصدق والعدالة والضبط وسلامة الاعتقاد مع عدم التدليس والاختلاط، ورغم هذا الاتفاق بينهما إلا أنهما اختلفا حول بعض الشروط الخاصّة بطبقات الرواة، فهناك أعلى الطبقات التي تمتاز بالحفظ والاتقان، ثم يتنزل الأمر حتى الوصول إلى الطبقات الضعيفة التي لا يعوّل عليها. ويمكن إيضاحها بما قام به بعض الحفّاظ من مثال حول أصحاب الزهري، وهم على خمس طبقات، ولكل منها مزية على التي تليها؛ فالطبقة الأولى تجمع بين طول الملازمة للزهري وبين الحفظ والإتقان، وهي تعد الغاية في الصحة، والتي قصدها البخاري. وتتصف الطبقة الثانية بأنها تشارك الأولى في التثبت لكنها دون الأولى في الإتقان، وذلك لأنها لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس الحديث مثل الأولى، وهذه الطبقة هي شرط مسلم. وهناك طبقة ثالثة كانت ممّن لزمت الزهري كالطبقة الأولى، إلا أنها لم تسلم من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهي شرط أبي داود والنسائي. وكذا هناك طبقة رابعة تشترك مع الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل، لكنها لم تصاحب الزهري كثيراً وتفرّدت بقلّة ممارستها لحديثه، وهي شرط أبي عيسى الترمذي الذي اعتمدها في الشواهد والمتابعات. أما الطبقة الخامسة فهي نفر من الضعفاء والمجهولين.
وتعدّ الطبقة الأولى شرط البخاري، وقد يخرج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب، وهي التي يعتمدها في التعليق، كما قد يخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقاً أيضاً. وأما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين الأولتين على سبيل الاستيعاب، ويخرج أحاديث الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاري في الثانية([72]). ويمكن القول: إن البخاري يخرج من أحاديث الطبقة الثانية انتقاء، أما مسلم فيخرجها أصولاً. وأما الطبقتان الرابعة والخامسة فلا يعرج عليهما الشيخان، وبهذا يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالاً وأشد اتصالاً([73])، ويتضح ذلك من العلامات التالية:
1ـ إن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أكثر من (430) رجلاً، وقد نقد الحفاظ منهم (80) رجلاً عدوا ضعفاء. أما الذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري فهم (620) رجلاً، وقد نقد الحفاظ منهم (160) رجلاً وصفوهم بالضعف ([74]).
2ـ إن أكثر الذين نقدوا من رجال البخاري ممن انفرد بتخريج أحاديثهم هم شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم، وذلك بخلاف الرجال الذين نقدوا ممن انفرد مسلم بتخريج أحاديثهم، حيث أكثرهم ممن تقدّم عن عصره، ولا شك أن المحدّث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدّم منهم([75]).
3ـ إن الإسناد المعنعن عند مسلم – كما حكاه في مقدّمة صحيحه – له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، وذلك ما لم يكن المعنعن مدلّساً. وبعبارة أخرى إن مسلماً لم يشرط ثبوت اللقاء، بل شرط إمكان لقاء من أضيفت إليه العنعنة. أما البخاري فهو يشرط ثبوت اللقاء ولا يعوّل على إمكانه؛ لأنّه لا يدل على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة. وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه([76])، وذلك على شاكلة كل من علي بن المديني وأبي بكر الصيرفي الشافعي([77])، وهذا التشديد من قبل البخاري جعل مسلماً يعرّض به في النقد دون ذكر اسمه، فقد ذكر في مقدّمة صحيحه ضمن باب (صحّة الاحتجاج بالحديث المعنعن) معتبراً أن ذلك الشرط – الذي وصفه بالطعن في الأسانيد – هو قول مخترع ومستحدث لم يسبق أن عوّل عليه أهل العلم من قبل، وهو أقل من أن يعرج عليه ويثار ذكره لما فيه مخالفة مذهب العلماء([78]). فبحسب ادعاء مسلم إن الإجماع قائم على أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف الأمر على العلم باللقيا([79]).
مع أنه سواء أخذنا بما ذهب إليه مسلم أو حتى بما شرطه البخاري من شرط ثبوت اللقاء، ففي كلا الحالين ليس هناك ما يدلّ على السماع المباشر، كما لا توجد قرينة خارجية تدلّ عليه؛ مثل أن يدلي الراوي بأن عنعنته تفيد السماع المباشر اختصاراً للثنا كلفظة حدثنا أو أخبرنا.
4ـ لقد بلغت الأحاديث التي انتقدت في الصحيحين (210) حديث، اختصّ البخاري منها بـأقلّ من ثمانين حديث منفرداً، والباقي يختص بمسلم. أما ما اختصّ به البخاري وشاركه مسلم في بعضها فهي (110) حديث، حيث اختص البخاري منها منفرداً بـ (78)، وشاركه مسلم بـما تبقى، وهو (32)، يضاف إلى ما اختص به مسلم منفرداً ([80]). فيكون مجموع ما يتعلّق بمسلم (132) حديثاً، وبالتالي فأكثر الأحاديث التي انتقدت هي في صحيح مسلم لا البخاري. ونقل أن مسلماً أقر بفضل البخاري ومكانته في الحديث، حتى قال وهو يخاطبه: دعني أقبّل قدميك يا أستاذ الأستاذين وطبيب الحديث في علله([81]). والعلماء يقدّرون حجم ما استفاده مسلم من البخاري، حتى كان الدارقطني يقول: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء ([82]). وإن كان – من جهة أخرى – لم يذكر للبخاري حديثاً ولا سمّاه في صحيحه، بل اعتبر أبو بكر الخطيب أن مسلماً لحدّةٍ في خلقه انحرف عن البخاري فافتتح كتابه بالحط على من اشترط اللقاء لمن روى عنه بصيغة (عن)، ووبخ من قال بذلك، والبخاري هو القائل بذلك مع شيخه علي بن المديني ([83]).
5ـ لقد وجد كتاب البخاري استحساناً لدى فرسان الحديث في زمانه عند عرضه عليهم، لكن الأمر مع صحيح مسلم يختلف، ذلك أن البعض انتقده كما هو الحال مع أبي زرعة الرازي وغيره ([84]).
بمثل هذه المقارنة، استنتج علماء الحديث أن كتاب البخاري أصحّ من كتاب مسلم، وإن كانت عبارات القليل منهم تفيد تفضيل كتاب مسلم، كما هي الحال مع عبارة أبي علي النيسابوري وجماعة من علماء المغرب، وربما يكون هذا التفضيل لاعتبارات فنية كالذي يراه ابن حجر ([85]).
مشاكل الحديث في عصر الاشتغال
هناك عدد من الإشكالات التي تلوح العصر السابق تبعاً لما أجراه من تغيير وتبديل للسلوك الذي عهده كبار الصحابة والتابعون. ويمكن تحديد هذه الإشكالات وفق الفقرات التالية:
أولاً: كنا قد علمنا أن العصر الذي تلا الصحابة حتى القرن الثاني للهجرة شهد كثرة المراسيل والمنقطعات، في حين كانت المدوّنات الحديثية خلال القرن الثالث للهجرة غارقةً بالاسناد المتصل وتجريد الحديث الصحيح. فما حدث في القرن الأخير وما بعده لم يكن معهوداً من قبل. ومن ذلك أن ابن عبد البر صنّف كتاباً خلال القرن الرابع للهجرة في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل، معتبراً أن عدداً من الحفاظ المتأخرين حسبوا أن ما في الموطأ من المراسيل حجّة؛ وذلك لأن كل حديث مرسل في الموطأ له ما يعضده بعاضدٍ واحد أو أكثر ([86]). والسؤال الذي يرد بهذا الشأن: من أين أتت هذه الكثرة من الاسناد المتصل، ولماذا لم يطّلع عليها التابعون وعلماء القرن الثاني للهجرة؟ وبعبارة أخرى كيف يمكن أن تكون مثل هذه الأسانيد مجهولةً وغائبة عن السلف والتابعين مع قربهم من عصر الصحابة؟ ويؤيّد ذلك ما قاله أحمد بن حنبل: ثلاثة أمور ليس لها أصل أو إسناد: التفسير والملاحم والمغازي. وذلك لأن الغالب عليها المراسيل ([87]). فأغلب روايات هذه القضايا لا تتمتع بالصحة جرّاء غياب الإسناد المتصل، والقليل منها يمكن أن يحمل الإسناد المتصل الصحيح، مع أن كتب الصحاح حملت الكثير منها، خاصة في مجال التفسير.
وعلى هذه الشاكلة الأحاديث المتداولة قبل القرن الثالث للهجرة فلم تكن كثيرة مثلما هي عليه في هذا القرن، وهو قرن المدوّنات الكبرى للحديث، حيث بدلاً من أن يذهب الكثير من الحديث بسبب موت الحفاظ وذهاب الذاكرة؛ فإن جريان الحال شهد العكس من ذلك. فقد نقل عن أحمد بن حنبل قوله: صحّ من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، مع أخذ اعتبار ما اعتبره بعض الحفاظ من أن مراده بذلك عدد الطرق وليس المتون. كما قيل إن في مسند أحمد (40 ألف) حديث ولم يلتزم الصحة فيه، وإنما أخرج فيه من لم يجتمع الناس على تركه. وقيل: إن في مسند أحمد (30 ألف) حديث سوى المكرر وغير ما ألحق به ابنه عبد الله، ونقل عن أحمد أنه قال فيه: هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من (750 ألف) حديث. وقد كان من العلماء من يحفظ خمسمائة ألف حديث. وجاء عن محمد بن إسحاق بن راهويه أنه أملى سبعين ألف حديث حفظاً. كما جاء عن أبي بكر بن أبي دارم أنه كتب عن أبي جعفر الحضرمي مطين مائة ألف حديث. وجاء عن محمد بن المسيب أنه قال: كنت أمشي بمصر وفي كمّي مائة جزء وفي كل جزء ألف حديث. وقال: كتب في عصرنا جماعة بلغ المسند المصنف على تراجم الرجال لكل واحد منهم ألف جزء، منهم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة الإصفهاني وأبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الماسرجسي([88]). وقد علمنا أن البخاري قد أخرج صحيحه من ستمائة ألف حديث، وأنه كان يقول بأنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. ونقل عنه أنه قال: ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث فإذا نحو مائتي ألف حديث. وقال أيضاً: لو قيل لي: تمنّ لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة. كما قيل: إنه عمل كتاباً في الهبة فيه نحو (500) حديث، مع أنه ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب عبد الله بن المبارك خمسة أو نحوها ([89]).
ولا شك أن هذه الأعداد الضخمة من وفرة الحديث وحفظه تبعث المرء على التفكير والتأمل، إذ كيف غابت هذه الأحاديث عن القرن الثاني؟ فقد علمنا أن مالكاً رغم تحرّيه فإنه لم يكن يملك من الحديث أعشار أعشار ما ذكر من أكداس الحديث، وحتى إن الحديث الذي استطاع تحصيله إنما الكثير منه من المراسيل والمنقطعات، وكان مع ذلك متشككاً غاية التشكك فيما جمعه من الحديث، وكان ينقص منه شيئاً فشيئاً طوال حياته، رغم قرب عهده بالصحابة مقارنةً مع علماء القرن الثالث للهجرة. فكيف انقلب الموقف وتحوّل الحال إلى التفاخر بكثرة ما يوجد من الحديث وحفظه؟ فمن أين جاءت هذه الأكداس من الأحاديث الموصولة المتصلة والصحيحة السند؟
وقد يقال – في الجواب عما سبق -: إن هذه الكثرة جاءت بفعل البحث عن المزيد من الحفاظ في مختلف البلاد الإسلامية دون التوقف عند حدود منطقة ما، كالمدينة والحجاز التي اكتفى بها مالك في جمع حديثه. وقد طاف البخاري مختلف البقاع الإسلامية بحثاً عن حفظة الحديث الثقاة، واستطاع أن يجمع ما أمكنه من الحديث، حتى قال فيما جمعه من البصرة: ما تركت بالبصرة حديثاً إلا كتبته ([90])؛ وعليه لو فعل مالك أو غيره من علماء القرن الثاني مثل ما فعل البخاري وغيره لتوصّل إلى النتيجة نفسها التي توصل إليها هذا الأخير تقريباً.
مع هذا، فالجواب السابق غير كافٍ، وذلك لعلمنا أن الكثير من علماء السلف قد شكّكوا في الأحاديث التي لم يكن لها أصل في الحجاز. وسبق أن عرفنا كيف أن الزهري علّل اضطراره إلى كتابة الحديث بسبب ما ورد من الأحاديث غير المعروفة من قبل المشرق. وكان هشام بن عروة يقول: إذا حدّثك العراقي بألف حديث فألقِ تسعمائة وتسعين وكن من الباقي في شك([91]). كما أن الشافعي كان يقول: كلّ حديث لا يوجد له أصل في حديث الحجازيين فهو واهٍ وإن تداولته الثقات ([92]). وذهب الكثير من الحجازيين إلى المنع من الاحتجاج بحديث عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز، حتى قال قائلهم – وهو مالك بن أنس – : نزّلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدّقوهم ولا تكذبوهم. وقيل لآخر: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة، قال: إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا. وواضح أن مثل هذه النصوص صريحة في عدم التعويل على الحديث المتداول خارج أرض الحجاز باعتبارها المحط الرئيس للصحابة والتابعين. وقد علّل بعض العلماء ذلك بأن أهل الحجاز ضبطوا السنّة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها([93]). ومع ذلك فقد كان مالك لا يعوّل على الكثير من مشايخ المدينة ولا يأخذ الحديث منهم، إذ جاء عنه يقول: لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين – وأشار إلى مسجد الرسول(ص) – يقولون: قال رسول الله(ص)، فما أخذت عنهم شيئاً، وإنّ أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً، الا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب وهو شاب فنزدحم على بابه. كما جاء عن أبي الزناد أنه قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون لا يؤخذ عنهم العلم؛ كان يقال: ليس هم من أهله([94]).
كذلك قد يقال: إنه لو كان تعليل الكثرة التي شهدناها للحديث في القرن الثالث يعود إلى أسباب الكذب والوضع؛ لكنا نتوقع أن نجد العدد الأكبر من الإسناد موصولاً بكبار الصحابة عوض صغارهم، وذلك بغية تقوية الحديث الموضوع، مع أن الواقع خلاف هذا الأمر.
والجواب على هذا الإشكال هو أن المتأخرين كانوا يدركون بأن صغار الصحابة هم مصدر الإكثار في الرواية بخلاف ما كان عليه الكبار منهم، وهذا في حدّ ذاته يمكن أن يكون دافعاً في جعل الأسانيد الموضوعة موصولةً بهم، فلا يتميز عندئذ الصحيح من الأحاديث من غير الصحيح.
ثانياً: لقد كانت هناك مظاهر لعصر التابعين وتابعيهم هي على الضدّ مما شهده القرن الثالث وما بعده، فقد شهد العصر الأول شكوى من الزمان وكثرة الجهال، إلى الدرجة التي قيل فيها: قد تمّ تبديل الكثير من الأحكام والسنن بفعل أهل البدع والأهواء. ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله)، حيث ذكر عدداً من الروايات التي تُبدي هذا المعنى الذي جعل بعض السلف في حيرةٍ من أمرهم. ومن ذلك ما نقله عن الزهري أنه قال: دخلنا على أنس بن مالك بدمشق وهو وحده يبكي، قلت ما يبكيك؟ قال لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت. وجاء عن الحسن البصري أنه قال: لو خرج عليكم أصحاب رسول الله(ص) ما عرفوا منكم إلا قبلتكم. كما جاء عن عروة بن الزبير أنه خاطب بعضهم: ألم أخبر أن الناس يضربون إذا صلوا على الجنائز في المسجد؟ فقيل له: نعم، قال: فوالله ما صلّي على أبي بكر الصدّيق إلا في المسجد ([95]).
فهذه الشكوى التي يصفها لنا عدد من حفاظ القرنين الأول والثاني من السلف؛ لا نجد مثلها لدى حفاظ القرن الثالث الذين أبدوا اعتدادهم بما حملوه من العلم وضبطوه من السنّة والحديث الصحيح. وقد أبدى التابعون وتابعوهم كراهة الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، وأظهر بعضهم الندامة فيما شغلوا أنفسهم به، إلى الدرجة التي اعتبروا التعامل بالحديث من الشر. والغريب أن تعليلهم للشرّ في الحديث هو تزايده، باعتبار أن الخير ينقص والشر يزداد. وهذا يعني أنهم لو أدركوا المسلك الذي سلكه خلفهم من أصحاب المساند والصحاح؛ لوصموه بأبلغ حالات الشر والكراهة. وقد أورد ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) نصوصاً مستفيضة عنهم تعلن صراحةً كراهة الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، واعتبار ذلك من الشرّ المتزايد، وبعض هذه النصوص يعلّل هذه الكراهة لكثرة الكذب في الحديث، وآخر يعللها بأنها تأتي على حساب الانشغال بالقرآن وذكر الله. لذلك ظهر لدى الكثير منهم الندم والرغبة في سدّ باب هذا الشر المستطير.
ومن ذلك ما قاله سفيان الثوري: لو كان في هذا الحديث خير لنقص كما ينقص الخير، ولكنه شرّ فأراه يزيد كما يزيد الشر. وقال أيضاً: ليس طلب الحديث من عُدد الموت ولكنه علّة يتشاغل به الرجل. وقال الشعبي: ليتني انفلت من علمي كفافاً لا لي ولا علي. وقال سفيان بن عيينة وهو ينظر إلى أصحاب الحديث: أنتم سخنة عين لو أدركنا وأياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضرباً. وقال الأعمش – وهو يخاطب أصحاب الحديث – : لقد رددتموه حتى صار في حلقي أمرّ من العلقم، ما عطفتم على أحد ألا حملتموه على الكذب. وخاطب فضيل بن عياض أصحاب الحديث قائلاً: لم تكرهوني على أمر تعلمون أني كاره له، ولو أعلم أني لو دفعت إليكم ردائي هذا ذهبتم عني لدفعته إليكم. وقال مغيرة الضبي: والله لأنا أشدّ خوفاً منهم من الفساق، وهو يعني أصحاب الحديث. وقال مسعر: من أبغضه الله جعله محدّثاً، وددت أن هذا العلم كان محلّ قوارير حملته على رأسي فوقع فتكسّر فاسترحت من طلابه. وقال شعبة: كنت إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث يجيء أفرح به فصرت اليوم ليس شيء أبغض إليّ من أن أرى واحداً منهم. وقال الضحاك بن مزاحم: يأتي على الناس زمان يعلق فيه المصحف حتى يعشعش عليه العنكبوت لا ينتفع بما فيه ويكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث. وقال أبو خالد الأحمر: يأتي على الناس زمان تعطّل فيه المصاحف لا يقرأ فيها يطلبون الحديث والرأي، ثم قال: إيّاكم وذلك فإنه يصفق الوجه ويكثر الكلام ويشغل القلب.
وجاء أنه قيل لداود الطائي: ألا تحدّث؟ قال ما راحتي في ذلك أكون مستملياً على الصبيان فيأخذون على سقطي؛ فإذا قاموا من عندي يقول قائلٌ منهم: أخطأ في كذا، ويقول آخر: غلط في كذا، ما راحتي في ذلك ترى عندي شيئاً ليس عند غيري. وعن أحمد بن عبد الله بن أبي الحواري أنه قال لأبي بكر بن عياش: حدثنا، فأجابه ابن عياش: دعونا من الحديث فإنا قد كبرنا ونسينا الحديث؛ جيئونا بذكر المعاد والمقابر، إن أردتم الحديث فاذهبوا إلى هذا الذي في بني داواس – يعني وكيعاً – فقال له أحمد بن عبد الله: تقصد رجل من أهل الشام، قال: ذاك أهون لك عندي. وجاء أن إياس بن معاوية قال لسفيان بن حسين: أراك تطلب الأحاديث والتفسير؛ فإياك والشناعة فإن صاحبها لن يسلم من العيب. وقال عمار بن رزيق لابنه حين رآه يطلب الحديث: يا بني! إعمل بقليله تزهد في كثيره. وقد اتهم الرواة بالجهل، وجاء في ذلك ما قاله عمر الكلبي: إن الرواة على جهل بما حملوا مثل الجمال عليها يحمل الودع؛ لا الودع ينفعه حمل الجمال له، ولا الجمال بحمل الودع تنتفع.
فهذا ما رآه التابعون وتابعوهم في الحديث، وهو أنه من الشرّ المتزايد وقد أوصوا بالابتعاد عنه وعدم الانشغال به والاشتغال فيه، الأمر الذي لم يلتزم به أصحاب الصحاح، إذ رأوا الخير في الاشتغال فيه والعمل على تكثيره.
كما يلاحظ أن الحديث ما إن دخل التدوين والتبويب في أرض الحجاز حتى بدت فيه علامات الشك والتردد من قبل مدوّنيه. فرغم أن منبته أصحّ منبت باعتراف العلماء، ورغم قرب العهد بالصحابة مقارنة مع ما بعده من العهود؛ فمع ذلك كانت الشكوك تراود أولئك الذين نذروا أنفسهم لنقله وتدوينه، معترفين بالجهل وقلّة البضاعة. وهو خلاف ما شعر به حفاظ القرن الثالث الهجري وما بعده، حيث أبدوا الثقة التامة في الحديث، كما فخروا بالعلم به والإكثار منه، رغم تباعد الزمان والمكان عن مصدر الحديث ومنبته. فالمقارنة بين ما سلكه مالك وما سلكه أصحاب الصحاح في الموقف من الحديث يكشف عن هذه الحقيقة. فبينهما تفاوتٌ بالقرب والبعد عن مصدر الحديث ومنبته، كما بينهما تفاوت في قلّة الحديث وكثرته، وكذا التردّد به والثقة فيه. فرغم أن مالكاً عاش في منبت الحديث وكان أقرب نسبياً إلى مصدره، لكن ذلك لم يمنعه عن التردّد فيه والإقلال منه باستمرار، وهو على عكس ما فعله أصحاب الصحاح رغم بعدهم عن المنبت والمصدر، حيث لم يمنعهم ذلك من الثقة في الحديث والإكثار منه دون أن يصيبهم التردّد والشك جراء هذه الكثرة والبعد عن المصدر، وكذا التعويل على الأماكن البعيدة عن المنبت كالبصرة والشام ومصر وغيرها. يضاف إلى أن مالكاً كان يعترف في كثير من الأحيان بعدم اغتراره بالحديث واعتبار الكثير منه ضلالة، ومن ثم ندامته على ما رواه منها، ومن ذلك قوله: كثير من هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطين وأني لم أحدّث به ([96]). وهو على خلاف ما كان يصرّح به أصحاب الصحاح من الاعتزاز بعلمهم وتباهيهم بكثرة حفظهم، واعتدادهم بأنفسهم أحياناً، كالذي يُبديه البخاري في عدد من المناسبات، ومن ذلك أنه قال يوماً: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، فعلّق هذا الأخير على قوله عندما بلغه ذلك فقال: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه ([97]).
ثالثاً: اعتمد أصحاب الصحاح وغيرهم من المهتمّين بالحديث على المكثرين في الرواية من الصحابة، وهو خلاف السيرة التي عليها كبارهم، حيث كانوا من المقلّين في الحديث لخوفهم من الكذب على النبي والانشغال بما سوى القرآن، كالذي مرّ علينا من قبل. فقد عرف من صغار الصحابة سبعة بلغت روايات كلّ منهم أكثر من ألف حديث، وليس في غيرهم من زاد على الألف، وهم عبارة عن: أبي هريرة الذي بلغت أحاديثه عن النبي (5374)، وعبد الله بن عمر (2630)، وأنس بن مالك (2286)، وعائشة (2210)، وعبد الله بن عباس (1660)، وجابر بن عبد الله (1540)، وأبي سعيد الخدري (1170). أما سائر الصحابة فرواياتهم لا تعدّ بشيء سوى عدد محدود منهم، حيث روي عن عبد الله بن مسعود أكثر من (800) حديث، وجاءت أحاديث الإمام علي (586) قيل: إنه لم يصحّ منها إلا خمسون، أما عمر فأحاديثه قد قدرت بـ (537) حديثاً لم يصح منها – كما قيل – إلا خمسون، في حين كانت أحاديث أبي بكر (142) حديثاً ([98]). وقد علل الشيخ الأسلمي ما سلكه كبار الصحابة من الإقلال في الرواية هو إن هؤلاء ماتوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكلّ أصحاب رسول الله كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عنهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدّوها، فكان الأكابر من أصحاب رسول الله أقلّ حديثاً من غيرهم، ولم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله، وذلك لأنهم بقوا وطالت أعمارهم في الناس فاحتاج الناس إليهم ([99]).
لكن هذا التعليل لو أخذناه على محمل الجد لكان من المتوقع أن تكون روايات عثمان أكثر من روايات عمر وأبي بكر؛ حيث ولي بعدهما وكان الناس أكثر حاجةً للحديث في عهده؛ لأن الكثير منهم لم يدرك السماع عن النبي. والأهم من ذلك هو أن هذا التعليل لا يبرّر معاقبة بعض كبار الصحابة لمكثري الحديث وتكذيبهم أحياناً، وذلك على خلاف المسلك الذي سار عليه المتأخرون من الحفاظ في التشبث بهؤلاء المُكثرين من صغار الصحابة، وعلى رأسهم أصحاب المساند والصحاح. ويعدّ أبو هريرة أبرز من يصدق عليه هذا الأمر من المكثرين، حيث اعتمد عليه أصحاب الصحاح وغيرهم بما ليس له نظير، وجاء أنه روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، وذكر البخاري أنه روى عنه ما قد يزيد على الثمانمائة رجل. وأخرج له البخاري من المتون المستقلة (446) حديثاً على التحرير، وأنه لا يوجد من يناظره في كثرة الرواية، حيث بلغت أحاديثه كما علمنا أكثر من خمسة آلاف حديث، بالرغم من أنه لم يصحب النبي أكثر من ثلاث سنين فقط([100]).
لكن ورد عنه ما يدفع الشبهة في إكثاره للرواية، حيث يقول: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله(ص)، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدّثون مثله، وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة ألزم رسول الله(ص) على ملء بطني فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله(ص) في حديث يحدّثه يوماً: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى مقالته جمعتها إلى صدري فما نسيت من مقالة رسول الله(ص) تلك من شيء ([101]).
وعلى فرض صحّة هذه الرواية فإنها تفيد أمرين غير عاديين: أحدهما أن العلم أو الحفظ يؤخذ من خلال الثوب، فهو أمر معجز لا يفهم معناه. أما الثاني فهو يدلّ على أنه لم يكن بين صحابة النبي من يهتم بمقالة النبي وحفظها غير أبي هريرة، وهو أشد غرابة من الأول، خاصة وكما يبدو أن هذه الرواية لم ترو إلا عنه فحسب، ومضمونها يفيد مصلحة شخصية تتعلق بتبرير إكثاره للحديث.
كما جاء أن أبا هريرة شهد لنفسه بأنه أكثر أصحاب النبي حديثاً عن النبي باستثناء عبد الله بن عمرو بن العاص، وكما يقول: إنه كان يكتب وكنت لا أكتب([102]). وقيل: إن هناك نسخة عند آل عبد الله بن عمرو كان قد كتبها عن النبي([103]).
مع هذا، يلاحظ أن بعض كبار الصحابة وقفوا من أبي هريرة موقفاً معارضاً للطريقة التي نهجها، تارة بتهديده على إكثاره الحديث، وأخرى بنقده على ما سلكه من طريقة سردية، وثالثة بتكذيبه. وجاء عن عمر بن الخطاب أنه هدّده بالقول: لتتركن الحديث عن رسول الله(ص) أو لألحقنك بأرض دوس، وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. وكان أبو هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله– حتى قبض عمر رضي الله عنه؛ كنا نخاف السياط ([104]). ومثل ذلك جاء عن أبي سلمة أنه قال لأبي هريرة: أكنت تحدّث في زمان عمر هكذا؟ فردّ عليه الأخير قائلاً: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته أو بالدرّة ([105]). وجاء عن السيدة عائشة أنها نقدت طريقة أبي هريرة السردية في الحديث ([106]). كما جرى لهذه السيدة أن كذبت أبا هريرة فيما يرويه أحياناً من أحاديث ([107]). كما اتهم عدد من الصحابة أبا هريرة بالكذب؛ لكثرة ما روى من الحديث بما لم يأت مثله أحد، وكان منهم عمر وعثمان وعلي(ع) وغيرهم، إذ أنكروا عليه أشياء عديدة. ومن ذلك أن أبا هريرة كان يقول: حدثني خليلي وقال خليلي ورأيت خليلي، فقال له علي(ع): متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة؟! وروى أبو هريرة أنه من أصبح جنباً فلا صيام له، فأرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة يسألهما، فقالتا: كان النبي(ص) يصبح جنباً من غير احتلام ثم يصوم، فقال للرسول: اذهب إلى أبي هريرة حتى تعلمه، فقال أبو هريرة: إنما حدثني بذلك الفضل بن العباس، وكان الفضل الذي استشهد به أبو هريرة ميتاً آنذاك، كما أنه أوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله(ص) ولم يسمعه ([108])، وهو التدليس الذي تقبله الحفاظ عن الصحابة كما سنعرف.
وجاء أن أبا هريرة كان يحدث أحياناً لكنه قد ينكر ما حدّثه في السابق، ومن ذلك ما رواه البخاري عنه أن النبي قال: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله(ص): فمن أعدى الأول؟! لكن أبا سلمة سمع أبا هريرة ينكر ذلك الحديث الذي رواه من قبل ويروي عن النبي حديثاً آخر، وهو قول النبي(ص): لا يوردن ممرض على مصح، فقيل له: ألم تحدّث أنه لا عدوى؟ فرطن بالحبشية، قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثاً غيره ([109]).
ولمثل هذه الأسباب، منع جماعة من التابعين أخذ الحديث عن هذا الصحابي، ومن ذلك ما جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: كان أصحابنا يدَعون حديث أبي هريرة. وقال أيضاً: ما كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلا ما كان حديث جنة أو نار([110]). وهذه كانت صفة العلماء حيث يشدّدون في قضايا الأحكام من الحلال والحرام ويتسامحون في غيرها، وكما جاء عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال تساهلنا في الإسناد وسمحنا في الرجال، وإذا روينا الحلال والحرام والأحكام تشددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال ([111]).
والغرض من كل ما سبق هو أن أصحاب الصحاح والمُكثرين من الحديث قد غايروا سيرة كبار الصحابة في عدة أمور؛ أهمها الإكثار من الحديث والاشتغال فيه، وأنهم استعانوا في الغالب بمن كان متروكاً لدى الصحابة رغم أن هؤلاء عايشوا النبي وعرفوا حال حديثه. حتى أن الحافظ الذهبي شعر بهذا المأزق، ولو ضمن الحدود التي سمحت له ذلك، إذ روى عن أبي هريرة قوله: إني لأحدث أحاديث لو تكلّمت بها في زمن عمر لشجّ رأسي، وعلق عليه فقال: هكذا كان عمر يقول: أقلّوا الحديث عن رسول الله–، وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث، وهذا مذهب لعمر ولغيره، فبالله عليك إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، بل هو غضّ لم يشب، فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد وكثرة الوهم والغلط، فبالحريّ أن نزجر القوم عنه، فياليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف، بل يروون والله الموضوعات والأباطيل والمستحيل في الأصول والفروع والملاحم والزهد، نسأل الله العافية([112]).
وهذا الذي ذكره الذهبي لا يعفي أصحاب التكثير في الحديث من القدماء، مع علمهم أنه لو كان عمر حياً بينهم لما سامحهم في ذلك، خاصة أن غالب تعويلهم على أولئك الذين منعهم عمر من الرواية، مثل أبي هريرة وكعب، وقد كانت بينهما صحبة وشراكة في بث الأساطير والإسرائيليات، وفي رواية أن أبا هريرة لقي كعباً فجعل يحدّثه ويسأله، فقال كعب: ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة. وقد كان يحصل بعض الالتباس من الطريقة التي سلكها هذان الشريكان من الحديث المختلط، إلى الدرجة التي قد يتوهّم البعض أن أبا هريرة يحدث عن النبي(ص)، بينما هو يحدّث عن كعب وأساطيره، ومن ذلك ما جاء عن بسر بن سعيد أنه قال: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله(ص) ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله(ص) ([113]).
هكذا لو أجرينا مقارنة بين موقف كبار الصحابة من الحديث وبين مرحلة التكامل لدى الصحاح؛ لوجدنا فروقاً كبيرة في عدد من النقاط، حيث جرى لأصحاب الصحاح من العمل ما هو ضدّ المسلك الذي سار عليه كبار الصحابة رغم قرب عهدهم من النبي. إذ كان الصحابة يخافون من الخطأ والكذب على النبي، وأنهم لأجل ذلك منعوا التدوين وأقلوا الرواية وتثبتوا من الحديث غير المعروف، وجعلوا كفايتهم الرئيسة بالقرآن والسيرة العملية للنبي، ولم يعتنوا بالاسناد والرجال، ومنعوا من الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، وعاقبوا من خالف ذلك، لكن هذه الأمور قد انقلبت إلى الضدّ في عهد الصحاح وقبله.
ومن العجب أن يعترف الحفاظ بما كانت عليه سيرة الصحابة من التحفظ في الحديث والنهي عن الإكثار منه؛ خشية الخطأ والكذب على النبي، أو لغرض عدم الانشغال بسوى القرآن، فهذا الاعتراف لم يمنع أصحاب الصحاح والموسوعات الحديثية من العمل بعكس ما كان عليه كبار الصحابة، رغم الفاصلة الزمنية الطويلة التي تفصلهم عن زمن النبي، وقد نقل عن عثمان بن عفان أنه كان يمنع الرواية التي لم تُسمع في عهدي الخليفتين قبله لبعد زمانه عن زمن الحديث، فماذا يقال عن البعد الذي يفصل بين زمن أصحاب الصحاح وزمن الحديث؟! إذ جاء عن عثمان قوله: لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله(ص) أن لا أكون أوعى أصحابه عنده، إلا أني سمعته يقول: من قال عليّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار ([114]).
رابعاً: قيل: إن عدد الذين رووا عن النبي من الصحابة هم أربعة آلاف رجل وامرأة([115]). كما قيل: إن عددهم كبير غير قابل للضبط، وقد سئل أبو زرعة الرازي عن ذلك فقال: من يضبط هذا؟ شهد مع النبي(ص) حجة الوداع أربعون ألفاً، وشهد معه تبوك سبعون ألفاً ([116]).
لكن رغم العدد الكبير للصحابة وأن الكثير منهم روى عن النبي؛ إلا أن علماء الحديث طبقوا عليهم مبدأ التسامح والتعديل وحملوهم على الإخلاص والتقوى، فغضّوا الطرف عما وقع بينهم من خلافات أفضت في كثير من الأحيان إلى الاقتتال واتهام بعضهم البعض الآخر، وكذا غضوا الطرف عما كان لبعضهم من مواقف سياسية ومصلحية هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام وقيمه. والمشكلة هي أن هؤلاء العلماء حيث افترضوا العدالة في جميع الصحابة؛ لذا أخذوا يتقبلون كل رواية ترد عنهم، سواء كانوا كباراً أو صغاراً، وسواء كانوا ممن تمسّك بهدي الإسلام وقيمه، أو كانوا ممن فتنوا بفتنة السياسة والمصالح الشخصية.
وأول ما يتبادر لنا من سؤال بهذا الصدد هو معنى الصحابي لدى علماء الحديث والسنّة؟
فالمشهور لدى العلماء هو اعتبار الصحابي كل من صحب النبي من المسلمين قلّ الوقت أم كثر. فقد قال ابن عمرو: رأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله(ص) وقد أدرك الحلم وأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب النبي(ص) ولو ساعةً من نهار.. وكذا اعتبر أحمد بن حنبل أن الصحابي هو كلّ من رأى النبي أو صحبه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعة. ومثل ذلك ذكر البخاري أن الصحابي هو من صحب النبي(ص) أو رآه من المسلمين.
لكن من القدماء من ذهب إلى غير هذا المذهب المشهور، فمن التابعين – مثلاً – كان سعيد بن المسيّب يرى أنه لا يعد من الصحابة إلا من أقام مع رسول الله(ص) سنةً أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين. وجاء عن بعض العلماء أنه عدّ الصحابي في اللغة هو غيره في الاستخدام والاصطلاح، فاعتبر أنه لا خلاف بين أهل اللغة بأن لفظ الصحابيّ مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً، إذ يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعة فيوقع اسم المصاحبة، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي(ص) ولو ساعة من نهار، وهذا هو الأصل في اشتقاق الاسم، ومع ذلك فقد تقرّر للأمة عرفٌ بأنهم لا يستعملون هذه التسمية إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه ولا يجرون ذلك على من لقى المرء ساعةً ومشى معه خطى وسمع منه حديثاً([117]).
وقد استلزم معنى الصحابي لدى علماء الحديث والسنّة مفهوم العدالة، فهم عندما يقررون أن هذا صحابي فإنهم يقصدون بذلك ما يتضمّن صفة العدل والتقوى، وأصبح من المقرر أن من ثبتت صحبته ثبتت عدالته، لهذا تقبّل العلماء التدليس الذي يرد عن صغار الصحابة ورفعهم للحديث. وقيل: إنه إذا أطلق الصحابي قوله: قال رسول الله؛ كان ذلك منه مقبولاً وإن احتمل الإرسال، لأن من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه إلا على سماعه بنفسه ما لم يصرح بالرواية عن غيره ([118]). مما يعني أنه لو كان الصحابة كلهم عدولاً لما كان إرسالهم وتدليسهم مضرّاً، في حين لو كان حالهم كحال غيرهم من الناس فإن ذلك يعني إسقاط أكثر الروايات التي جاءت عنهم، حيث لم تشر في الغالب إلى السماع المباشر عن النبي، وإنما رويت بصيغة: قال رسول الله.
وهناك تسويغ لتعميم هذا الموقف على إرسال التابعي الثقة عندما أسقط اسم الصحابي بقوله: قال رسول الله، فلو اعتبرنا الصحابة كلّهم عدولاً لكان إرسال التابعي لا يضرّ، وذلك على عكس ما لو اعتبرنا الصحابة كغيرهم من الناس في العدالة وعدمها، حيث في هذه الحالة لابد من ذكر الصحابي ومعرفة درجة صحبته ومكانته في الإسلام.
على ذلك أورد شهاب الدين القرافي (684هـ) سؤالاً مفاده: إنّ الإرسال هو إسقاط الصحابي من السند، وأن الصحابة كلهم عدول فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، لكن كيف جرى الخلاف في ذلك؟ كان جوابه أن الصحابة عدول ما لم يثبت العكس، واعتبر أن المسكوت عنه فيهم يجرى في حقه التوقف ولا يقبل حديثه حتى تعلم سلامته عن القادح. وهو بهذا تقبّل الإرسال عند التابعين، واعترض على المخالف بحجة أن الصحابة عدول لا يبحث عن حالهم. في حين كان مبرّر الذين لم يتقبلوا الإرسال عند التابعين هو اعتبارهم الصحابة كغيرهم من الناس من حيث العدالة وعدمها ([119]). وهذا يعني أن قبول المرسل لدى التابعي وعدم قبوله متوقّف على الرأي الخاص في عدالة الصحابة، كالذي ذكرناه بخصوص تدليس الصحابي ورفعه للحديث.
ومن الناحية النظرية اختلف العلماء في عدالة الصحابة، فبينما كان النووي في (التقريب) يقول: الصحابة كلّهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به، ذهب بعض آخر إلى نفي ذلك، وهو أنه يجب البحث عن عدالة الصحابة مطلقاً، والأهم من ذلك ما طرقه المازري في (شرح البرهان) من باب لتحديد معنى العدالة وفق معنى الصحابة، فقال: لسنا نعني بقولنا (الصحابة عدول) كل من رآه يوماً ما أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف، وإنما نعني به الذين لازموه وعزّروه ونصروه، فإذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمّه كان ذلك حجةً، ولا تضرّ الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم ([120]).
أما من الناحية العملية والتطبيق فقد اعتبر الحفاظ جميع الصحابة عدولاً؛ كبارهم وصغارهم، سواء صاحبوا النبي مدةً طويلة أو قصيرة، وكما قال الحافظ الذهبي: وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطويّ وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات، فما يكاد يسلم من الغلط أحد، لكنه غلط نادر لا يضرّ أبداً، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا العمل وبه ندين الله تعالى، وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمداً لكن لهم غلط وأوهام، فما ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل، ومن تعدّد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضاً ([121]). وكذا اعتقد الخطيب البغدادي بعدم الحاجة إلى السؤال عن الصحابة؛ حيث عدالتهم ثابتة ومعلومة، وإنما يجب فيمن دونهم، فكلّ راوٍ للحديث يجب النظر في حاله سوى الصحابي الذي يرفع الحديث إلى النبي ([122]).
وقد استدلّ الخطيب البغدادي على عدالتهم بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن، كقوله تعالى: >وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً<، وقوله: >لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً<، وقوله: >والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه<. كما جاءت الأخبار في هذا المعنى مطابقةً لما شهد عليه النص القرآني، مثل الحديث الذي روي عن عبد الله بن مسعود أن النبي(ص) قال: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق إيمانهم شهادتهم ويشهدون قبل أن يستشهدوا. وكذا الحديث الذي روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: لا تسبّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ([123]). وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع بعدالتهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحدٌ منهم إلى تعديل الخلق لهم مادام الله أبلغ بعدالتهم جميعاً وبرأهم عن المعاصي ورفع أقدارهم ومنازلهم، إذ كانوا من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، ما يقطع بعدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين من بعدهم أبد الآبدين، وقد اعتبر البغدادي أن هذا هو مذهب العلماء كافة ومن يعتدّ بقوله من الفقهاء([124]).
لكن البغدادي لم يتعرّض إلى ما ورد في الصحاح من سوء عاقبة، ناسٍ من الصحابة لما فعلوه من تبديل وتغيير، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي(ص) قال: bإنكم محشورون حفاةً عراة غرلاً، ثم قرأ: >كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين<، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي؟ فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: >وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم<، ([125]).
كما روى هذان الشيخان روايات أخرى فيها تحذير لقتال المسلم أخاه المسلم واعتباره من الكفر، وقد تكرّر هذا الأمر بين الصحابة، ومن ذلك ما روي عن عبد الله أن النبي(ص) قال: bسباب المسلم فسوق، وقتاله كفرv([126]). يضاف إلى ما ورد في القرآن من آيات دالّة على وجود الكثير من المنافقين والمتربصين بالنبي ممن أظهروا الإسلام وتظاهروا بالإيمان، خاصة تلك التي تضمّنتها سورة التوبة.
على أن ما قدره العلماء بحق الصحابة هو حكم صحيح، لكنه مضيق – في الأعم الأغلب – بحدود الذين صبروا مع النبي ولاقوا معه المصاعب والمتاعب طيلة سنيّ البعثة والهجرة، ويشهد على هذا الأمر ما نصّت عليه الكثير من الآيات القرآنية، وليس هناك ما يدلّ على توسعة الحكم – كالذي أفاده العلماء – ليشمل جميع الصحابة، حيث منهم الصغار الذين لم يتميز فيهم العدل عن غيره، كما أن منهم من أسلم بعد الفتح، وقد يكون أغلب هؤلاء دخلوا الإسلام ملجئين لا خيار لهم بعد الفتح العظيم، أو بعدما خيّروا بين الإسلام والقتل.
ومن الأهمية بمكان التمييز بين مفهومين عامّين للصحابة: أحدهما مجرد وبريء لا يتضمّن ولا يستلزم أي معنى قيمي آخر كالعدالة وما إليها؛ فعندما نقرر – حسب هذا المفهوم – أن فلاناً صحابي؛ فذلك لا يقتضي حكماً معيناً أو صفة أخرى ترفع من شأنه لمجرد حمله سمة الصحبة، فقد يكون الإنسان كثير الصحبة والاقتران مع النبي أو غيره، لكن لا يلزم عن ذلك أن يكون تقياً وعادلاً، وكذا العكس صحيح أيضاً؛ وبالتالي لا شأن للصحبة – حسب هذا المفهوم – بأي حكم قيمي يخصّ العدالة وما إليها، سواء كان معنى الصحبة من طالت مدة رؤيته للنبي وسماعه عنه، أو قصرت هذه المدة.
أما المفهوم الآخر للصحابة فيتميّز بأنه غير بريء ولا مجرّد، بل يتضمّن حكماً ومعنى قيمياً من العدالة والتقوى والطهارة والإيمان وما إلى ذلك، وخطورة هذا المفهوم هو أن تحديد معنى الصحبة يستلزم معه حكماً ومعنى آخر كتلك التي ذكرناها، فلو اعتبرنا الصحابي هو كل من رأى النبي وسمعه ولو لساعة واحدة؛ لكان هذا يعني أن من يصدق عليه هذا الوصف هو عادل وتقي باللزوم أو التضمن.
ويمكن أن يستند علماء الحديث والسيرة فيما يقولونه عن عدالة جميع الصحابة إلى كلا المفهومين السابقين باعتبارين مختلفين، ولتصوير هذا الأمر علينا لحاظ كيف يمكن انتزاع حكم عدالة جميع الصحابة وفق نوعين من المغالطة حسب القياسين التاليين:
الأول: إن مفهوم الصحابة هو مفهوم بريء ومجرد، وأن الصحابة الذين لازموا النبي في أيام العسرة وناصروه وصدقوه وأطاعوه هم ممن يجب التعويل عليهم في العدالة والتقوى والطهارة، لكن لمفهوم الصحبة معنى عاماً يشمل كلّ من رأى النبي وسمعه ولو لساعة واحدة، وبالتالي فإن الحكم الذي يصدق على الصحابة الأولين ممن لازم النبي مدة طويلة في الطاعة والنصرة والجهاد سوف يصدق على غيرهم ممن رآه وسمعه ولو لساعة واحدة، وهذا يعني أن حكم العدالة على الجماعة الأولى يصدق ذاته على الجماعة الأخيرة. وبعبارة أخرى، إن للصحابة معنى عام يصدق على كل من رأى النبي طالت مدة ذلك أم قصرت، وإن من طالت مدة لزومه للنبي أيام العسرة والشدة يتصف بحكم العدالة والتقوى، لذا فإن هذا الحكم يصدق أيضاً على من قصرت مدة رؤيته للنبي باعتباره ممن يشمله مفهوم الصحبة كالأول.
الثاني: ان مفهوم الصحبة مفهوم يستلزم ويتضمّن المعنى القيمي للعدالة والتقوى، وإن الصحابي – على ذلك – يكون عادلاً لا يبحث فيه بسبب فضل الصحبة، وبالتالي إذا كان معنى الصحبة يصدق فعلاً على أولئك الذين لازموا النبي وتابعوه مدةً طويلة كالمهاجرين والأنصار مثلما تشير إلى ذلك النصوص الدينية، فكذا يمكن توسعة هذا المعنى بحسب الأمر اللغوي لمفهوم الصحبة كي يشمل كلّ من رأى النبي ولو لساعةٍ واحدة، وبالتالي يمكن القول: إن هؤلاء الرجال الذين عمّمنا عليهم سمة الصحبة هم ممن يصدق عليهم حكم العدالة والتقوى للتلازم بين تلك الصحبة وهذا الحكم، وهذا يعني أن كلّ الرجال الذين رأوا النبي وسمعوه هم عدول، سواء طالت مدة ملازمتهم للنبي أم قصرت، وذلك لاقتضاء الصحبة للعدالة.
ومن حيث المقارنة بين القياسين، يلاحظ أن التوسعة بحسب قياس المفهوم الأول تجري في الحكم لا الموضوع، أي في العدالة لا الصحبة؛ حيث – بحسب هذا المفهوم – كل من رأى النبي فهو صحابي طالت مدة ذلك أم قصرت، وهو أمر لا يتضمن معنى العدالة والتقوى، وكل ما فعله العلماء هو أنهم عمّموا حكم العدالة الذي يصدق فعلاً على الصحابة الأولين من المهاجرين والأنصار – كما تشير إلى ذلك الكثير من الآيات – على غيرهم من الصحابة الآخرين بمن فيهم صغار الصحابة والذين أسلموا بعد فتح مكة، في حين أن التوسعة حسب قياس المفهوم الثاني تصدق على الموضوع لا الحكم، أي أن التوسعة قد أصابت الصحبة مباشرة فأفضت إلى النتيجة ذاتها من الأخذ بعدالة الصحابة جميعاً لافتراض أن الصحبة تتضمن العدالة.
ومن الواضح أن كشف المغالطة في القياس والتوسعة حسب المفهومين السابقين يجعل أكثر الأحاديث التي رويت عن النبي موضع بحث ونقد لعلاقتها المباشرة بالعدالة؛ وذلك لأنها رويت في غالبها عن صغار الصحابة الذين أكثروا من التدليس ورفع الحديث، فإذا كانت العدالة ثابتة مبدئياً فيما يخصّ كبار الصحابة الذين لازموا النبي على الدوام؛ فإن ذلك لا يمكن تعميمه وبسطه على الصغار منهم كلية. مع أن علماء الحديث وأصحاب الصحاح أجروا هذه التوسعة والقياس المغالط حسب أحد المفهومين السابقين، وقد سوّغ لهم ذلك الاعتماد على المكثرين من صغار الصحابة في جمع الحديث، وكان منهم من عاصر النبي وهو مازال حدث السن، فرغم هذه الحداثة للعديد من هؤلاء الصغار فقد روي عنهم الكثير من الأحاديث، وممّن كثرت الرواية عنه وكان سماعه في الصغر: أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، ومن بين هؤلاء من جاء فيه أنه لم يدرك حديث النبي لصغره، لكن مع ذلك روي عنه الكثير من الحديث المنسوب إلى النبي مباشرةً، فكما جاء عن السيدة عائشة أنها قالت: ما علم أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري بحديث رسول الله، وإنما كانا غلامين صغيرين ([127])، وهذه الرواية تتنافى مع ما ورد عنهما أنهما سمعا عن النبي العديد من الحديث، ومنها تلك التي لها علاقة بكراهة التدوين كما عرفنا، وقد نقل عن كل واحد من هؤلاء الصغار ما يفوق الألف رواية مسندة إلى النبي، وبعضهم فاقت روايته الألفين، فما الذي يبرر قبول مثل هذه الروايات؟
يعود بنا هذا التساؤل إلى ما قرّره علماء الحديث والسيرة بشأن عدالة جميع الصحابة وقبول ما يصدر عنهم من التدليس ورفع الحديث، ومن ذلك تعليق الذهبي على ما ذكره شعبة من أن أبا هريرة كان يدلّس، حيث قال: إن تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول ([128]). مع أن هذا المنطق يفضي إلى التناقض وعدم الاتساق؛ ذلك أنه إذا كانت صفة الرفع والتدليس مقبولة عن الصحابة لعدالتهم، فكيف لا تقبل عن غيرهم من الرواة العدول؟ وبعبارة أخرى، لماذا شدّد أصحاب الصحاح على الشرط الخاصّ بالاسناد المتصل والسماع المباشر؛ بلا إرسال ولا تدليس، رغم افتراضهم العدالة في الرواة مثل تلك التي افترضوها في الصحابة؟
فالاتساق يدعو إما إلى الأخذ بالمرسل والمدلّس عن جميع الرواة العدول، صحابةً وغير صحابة، أو الترك عنهم جميعاً بلا تمييز ولا استثناء. هذا إذا كان الأمر يرتبط بالعدالة، أما لو أخذنا بحسابنا عناصر أخرى فاعلة كقرب الإسناد وما إليه فسيكون الأمر مختلفاً، حيث تصبح علة الأخذ عن الصحابة لا لكونهم عدولاً فحسب، بل لقربهم من عصر النبي. لكن ذلك سوف يفضي إلى قبول المرسل والمدلّس العائدين إلى التابعي؛ لذات العلة المذكورة من العدالة والقرب، وهو ما لم يراعه الحفاظ وأصحاب الصحاح.
أخيراً يمكن القول: إنّ أصحاب الصحاح والجوامع الحديثية قد بلغوا غايتهم في الإفادة من المبدأ القائل بعدالة جميع الصحابة، إذ به تمكّنوا من توسعة رواياتهم عبر الأخذ عن المكثرين من صغار الصحابة، ولسان حالهم يقول: كلما كثر العدول كثرت الرواية، وكلما عمّ العدول سادت الرواية وشاعت!
خامساً: مثلما اقتضى مبدأ التكثير في الرواية التعويل على عدالة الصحابة، فإنه اقتضى التسامح أيضاً في توثيق الرواة، وقيل: إن علماء الجرح والتعديل منقسمون إلى ثلاثة أقسام: فمنهم من نفَسُه حادّ في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم من هو متساهل. فالحادّ فيهم: يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خِراش وغيرهم. والمعتدل فيهم: أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو زرعة، والمتساهل كالترمذي، والحاكم، والدارقطني في بعض الأوقات ([129]).
كما ذكر أن أسلوب التحقيق في عدالة الراوي يختلف بين عالمٍ وآخر، ومن ذلك ما جاء بأن أهل العراق اعتبروا عدالة الراوي لا تتعدّى إظهار الإسلام وسلامة المسلم من الفسق الظاهر، فيما ذهب البغدادي إلى أن غلبة الظن بالعدالة لا تُعرف إلا باختبار أحوال الراوي وأفعاله ([130]).
وهذا الذي يقوله البغدادي هو رأي سليم، لكنه يواجه مشكلةً في التطبيق على الرواة الماضين، حيث ليس من السهل التدقيق في أحوالهم واختبار أفعالهم، لذلك تجد كتب الجرح والتعديل مشحونةً بالكلمات القليلة في التعريف بالراوي، كأن يقال عنه: ضعيف أو ثقة أو ليس بشيء أو غير ذلك، كما هو حال البخاري في تاريخه الكبير، إذ لا يذكر تفاصيل حول الرواة، فالغالب في عباراته عنهم لا تتعدّى القول: روى عنه فلان، أو سمع منه فلان، أو روى عن أو سمع من… ، وهو لم يسوّد لكل راو في الغالب أكثر من سطر أو سطرين أو ثلاثة، وأحياناً يضمّن ترجمة الراوي بحكاية تروى عنه، كما أحياناً لا يذكر عن الراوي سوى اسمه فقط، أو يزيد عليه أنه مات سنة كذا، أو أن له صحبة، أو أنه يعد في الكوفيين أو المصريين أو البصريين أو الشاميين، وأحياناً يقول فيه لفظة أو أكثر قليلاً للتعبير عن موقفه منه أو من حديثه، كأن يقول: حديثه مرسل، أو عنده مراسيل، أو كان فاضلاً، أو سكتوا عنه، أو يرمى بالكذب، أو تكلّموا فيه، أو ترك أحمد حديثه، أو كان يحيى بن معين يتكلم فيه، أو قال يحيى: ليس بشيء، أو قال عنه فلان: كان ثقة، أو كذبه بعضهم فيه نظر، أو فيه نظر لا يعرف بكبير حديث، أو هذا غريب الحديث ليس له كبير حديث، أو ذهب حديثه، أو يخالف في بعض حديثه، أو لا يتبع في حديثه، أو لم يصحّ حديثه، أو حديثه منقطع، أو حديثه مناكير، أو عنده مناكير، أو منكر الحديث، أو منكر الحديث لا يكذب حديثه، أو ليس بالقوي، أو لم يصحّ إسناده، أو إسناده مجهول، أو إسناده ليس بقوي… وواضح أن هذه العبارات البسيطة لا تفيد شيئاً في البحث الدقيق عن أحوال الرجال، ومع ذلك فإن البخاري قد خرّج للكثير منهم في صحيحه.
وتتعقد المشكلة أكثر عندما نعلم أن القدماء من الحفاظ والعلماء كثيراً ما كانوا يتبادلون التهم والتسقيط والتكذيب، لكنها لم تؤثر على مجرى التوثيق الذي سلكه أصحاب الصحاح. وقد ضمّن بعض الحفاظ فصلاً خاصاً بالتهم والتسقيط بين العلماء، كالذي فعله ابن عبد البرّ في (جامع بيان العلم وفضله)، ومن بين ما ذكر أن عالم الرجال يحيى بن معين كان يطلق لسانه بأشياء في أعراض الأئمة أنكرت عليه، منها قوله: كان أبو عثمان النهدي شرطياً، وقوله في الأوزاعي: إنه من الجند ولا كرامة، وقوله في طاوس: إنه كان شيعياً، وقوله: حديث الأوزاعي من الزهري ويحيى بن أبي كثير لا يثبت، وقوله في الشافعي: إنه ليس بثقة، وقوله في الزهري: إنه ولي الخراج لبعض بني أمية وإنه فقد مرّة مالاً فاتهم به غلاماً له فضربه فمات من ضربه، وذكر كلاماً خشناً في قتله غلامه ([131]). وجاء في اتهام الزهري الشيء الكثير لعلاقته القوية بالسلطة الأموية، إذ كان صاحباً لعبد الملك بن مروان ومربياً لأولاده، ثم من بعده لازم ابنه هشاماً، وبعد ذلك يزيد بن عبد الملك الذي نصبه قاضياً ([132]). وكان ممن أجاز الرواية عنه بعض رجال بني أمية، ومن ذلك أنه جاءه رجل منهم يقال له: إبراهيم بن الوليد، وعرض عليه كتاباً وقال: أحدث بهذا عنك يا أبا بكر؟ قال: إي لعمري فمن يحدثكموه غيري([133]). وقد تكلّم البعض في الزهري لكونه خضب بالسواد ولبس زي الجند وخدم هشام بن عبد الملك. وقد علق الذهبي على ذلك بقوله: إن هذا باب واسع والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، والمؤمن إذا رجحت حسناته وقلّت سيئاته فهو من المفلحين ([134]).
وحكى الحاكم عن ابن معين قوله بان أجود الأسانيد الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، فقال له بعض الحاضرين: الأعمش مثل الزهري، فأجابه ابن معين: برئت من الأعمش أن يكون مثل الزهري؛ الزهري يرى العرض والإجازة ويعمل لبني أمية، والأعمش فقير صبور مجانب للسلطان ورع عالم بالقرآن ([135]). وقد ذكر ابن عبد البر أن الذين يتردّدون على الملوك كثيرون، منهم: الشعبي، وقبيصة بن ذؤيب، ورجاء بن حيوة الكندي، وأبو المقدام، والحسن، وأبو الزناد، ومالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي وغيرهم ([136]). وكان سفيان الثوري يقول بشأن هؤلاء الملوك: ما أخاف من إهانتهم لي، إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم ([137]).
ومما يذكر أن مالك بن أنس قد تبادل التهم مع الكثير من العلماء، ومن ذلك أنه وصف عبد الله بن يزيد بن سمعان بالكذاب، ووصف محمد بن إسحاق بدجّال الدجاجلة، وقال في أهل العراق: انزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، كما أنه حطّ من منزلة علماء الشام وكذا علماء الكوفة، وهؤلاء بادلوا ذلك بعلماء المدينة، حيث تحامل بعضهم على البعض الآخر. وجاء عن عبد الله بن المبارك أنه لم ير في مالك صاحب علم. كما تكلم ابن أبي ذئب أو ذؤيب في مالك بكلام فيه جفاء وخشونة. وكان إبراهيم بن سعد يتكلّم فيه ويدعو عليه. وتكلّم فيه أيضاً كل من عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه، وتكلّم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم وروايته عن داود بن الحصين وثور بن زيد، وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه، واعتبر ابن عبد البر أن ذلك كان حسداً لموضوع إمامته. كما عابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله، ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره. وقال حماد بن أبي سليمان في كل من عطاء وطاوس ومجاهد بأن الصبيان أعلم منهم. وذم ابن شهاب الزهري ربيعة وأبا الزناد. كما أن لأبي الزناد في ربيعة كلاماً يفيد الذم. وكذا ذم الزهري أهل مكة واتهمهم بنقض عرى الإسلام ولم يستثن منهم أحداً رغم أن فيهم من أجلة العلماء، كما أشار إلى ذلك ابن عبد البر الذي رجح أن قول الزهري جاء لِما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء.
وجاء عن أبي حنيفة انه لم ير أحداً أكذب من جابر الجعفي. وقال أبو حنيفة في الأعمش تحقيراً له بأنه لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة، في حين تعرّض أبو حنيفة إلى التجريح من قبل الكثير من العلماء والحفاظ، مثل سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، وحماد، وابن عون، ومالك وغيرهم. كما تبادل الشعبي وإبراهيم النخعي كلمات من التهم والذم، ووصف أحدهما الآخر بالكذاب. وجاء عن سعيد بن حميد انه كذب الشعبي في بعض الفتاوى. وقيل: إنه كانت هناك حساسية بين سعيد بن المسيب وعكرمة، وكان سعيد يعدّ عكرمة من الكذابين، وحكي عن الأول أنه قال لغلامه: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. وقيل أيضاً: إنه كان بين منصور بن عمار والشاعر أبي العتاهية اتهامات متبادلة، ومن ذلك الاتهام بسرقة الكلام والزندقة. كما لم يجز سليمان التيمي شهادة سعيد بن أبي عروبة ولا معلمه قتادة، وقيل: إن ذلك لاعتقادهما بالقدر، كما كان قتادة يعرض بيحيى بن أبي كثير، وكان كل من ابن القاسم وابن وهب يحذر الناس بالأخذ عن الآخر. كما جاء أن النسائي قد جرح الحافظ أحمد بن صالح، وكان أحمد بن حنبل يعرّض بالحارث المحاسبي، وكذا كان يفعل الكرابيسي بابن حنبل، والذهلي بالبخاري…
كانت تلك نماذج من التجريح بين العلماء أنفسهم، وقد اعتبر الحفاظ أنه لو قدّم الجرح على التعديل لما سلم أحد من النقد والتضعيف، لذلك رأوا أنه لابد من معرفة سبب الجرح والطعن، ومعرفة ما إذا كان يؤثر على قبول روايته أم لا، وهذا ما جعلهم يعوّلون على توثيق الرواة المعروفين رغم ما جرى بينهم من تهم وطعون متبادلة كالذي رأينا؛ فقد ذهب أئمة الحديث ونقاده – مثل الشيخين وغيرهما – إلى عدم اعتبار الجرح إلا إذا كان مفسّراً مبين السبب، إذ قد يطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً، وليس بجرح في نفس الأمر، خاصة وأن مذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة كما يقول أبو داود السجستاني. لهذا احتج البخاري بجماعة سبق لغيره أن جرحهم، كعكرمة مولى بن عباس وكإسماعيل بن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم ([138])، واعتبر النووي في شرحه لصحيح البخاري أن ما ضعّفه البعض من أحاديث الشيخين إنما هو مبنيّ على علل ليست قادحة ([139]).
وقد ذهب ابن الصلاح إلى أن المسؤولية في المشكلة السابقة تقع على عاتق أئمة الحديث في الجرح، حيث قلّ ما يتعرّضون فيها لبيان السبب في الجرح، بل يقتصرون على مجرد القول: فلان ضعيف وفلان ليس بشيء ونحو ذلك، أو هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت ونحو ذلك. وهذا يعني أن اشتراط بيان السبب سيفضي إلى تعطيل ذلك العلم وسدّ باب الجرح في الغالب، لكنه رأى في الجواب عن هذه المشكلة هو التوقف في إثبات الجرح وعدم قبول حديث من قيل فيه جرحاً غير مفسّر السبب، وذلك ريثما تزال عنه الشبهة بمعرفة حاله، فيزال عنه الجرح، وتوجب الثقة به، ويقبل حديثه([140]).
ومن الناحية المنطقية، يفترض أن يجرى هذا الحال على التعديل لا الجرح فقط، وذلك لأن نوازع النفس غامضة ودوافعها مختلفة، فمثلما يقال: إنّ الجرح لا يقبل إلا مفسّراً مبين السبب، كذا يفترض أن يقال الشيء نفسه في التعديل، مما يتطلب معرفة أحوال الرواة دون الاكتفاء بالعبارات القليلة التي تحدّد مسلك الراوي وعدالته. لكن من الناحية العملية يتعسّر حل المشكلة، وذلك لقلة معرفة أحوال الرجال، خاصّة من هم في عداد الموتى، وهم الغالب الأعظم. وهذا ما جعل أصحاب الصحاح يضفون عليهم سمة التعديل بلا توقف، ومن ذلك ما جاء في (الميزان) للذهبي بأن في الصحيحين عدداً كثيراً من الرواة لم تثبت وثاقتهم، وبحسب جمهور الحفاظ: إنّ من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه فحديثه صحيح. وقال الذهبي: إن في الصحيحين خلقاً كثيراً مستورون ما ضعّفهم أحد ولا هم بمجاهيل ([141]). وربما يميل الحفاظ إلى التسامح في التجريح لحفظ أكبر قدر ممكن من الرواية والحديث، كما قد يكون ذلك لشعورهم أن الواجب الديني يتطلّب منهم التوثيق قبل التجريح؛ شبيه بحال التعامل مع المؤمنين في الحلات العادية، فعند التعارض يقدّم الأول على الآخر كي لا يكون هناك امتهان لكرامة المسلم.
هكذا، فإن الأصل لدى أئمة الحديث هو التوثيق والتعديل ما لم يثبت العكس، وهم بقدر ما تسامحوا في التجريح لم يشدّدوا في التعديل، وقد انعكس ذلك على تساهلهم مع أولئك الذين كانت لهم صلات حسنة بالسلطات الظالمة، وعلى رأسهم المسؤول الأول عن تدوين الحديث.
سادساً: من المعلوم أن أغلب المتون في الروايات قد نقلت بالمعنى، وجرى على الكثير منها اللحن قبل التدوين، مما اقتضى إعراب الحديث وتصحيحه بعد أن تداوله الأعاجم من أهل الحديث. وقيل: إنّ أغلب رؤساء أهل الحديث والفقه كانوا من الموالي، وقد روى الحاكم النيسابوري في (معرفة علوم الحديث) حواراً جرى بين الزهري والخليفة عبد الملك بن مروان كشف فيه عن أن رؤساء الحديث والديانة في البلاد الإسلامية هم من الموالي باستثناء الكوفة، وفي (العقد الفريد) رواية أخرى لحوار مشابه للسابق جرى بين ابن أبي ليلى وعيسى بن موسى([142]). والذي يهمّنا من ذلك هو أن الحديث – فضلاً عن كونه نقل بالمعنى – جرى عليه اللحن بنقل الموالي، مما اقتضى إعرابه وإصلاحه، فكان بهذا عرضةً للتبديل والتحوير، وكذا الزيادة والنقصان.
وقيل: إنه اختلف السلف والفقهاء في جواز الرواية بالمعنى، فذهب بعض إلى المنع، واعتبر أن رواية الحديث على النقصان والحذف لبعض متنه غير جائزة؛ لأنها تقطع الخبر وتغيره فيؤدي ذلك إلى إبطال معناه وإحالته، وكان بعضهم لا يستجيز أن يحذف منه حرفاً واحداً، وأوجب تأدية اللفظ بعينه من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا حذف، وفي قبال ذلك ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الرواية بالمعنى شرط أن يكون الراوي عالماً بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ. وعُرف من السلف الذين يحدّثون بالمعاني كلّ من الحسن، والشعبي، وإبراهيم وغيرهم، فيما كان القاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وابن سيرين، وابن سخبرة، يحدّثون كما سمعوا؛ رغم ما في ذلك من لحن ([143]).
ويبدو أن أغلب التابعين وتابعيهم أجازوا الرواية بالمعنى، وبعضهم اعتبر أنه لا وجود لحديث لم يحصل فيه تغيير، ومن ذلك ما جاء عن واثلة بن الأسقع أنه قال: حسبكم إذا جئناكم بالحديث على معناه ([144]). كما قال سفيان الثوري: لو أردنا أن نحدّثكم بالحديث كما سمعناه ما حدثناكم بحديث واحد([145]). وقال وكيع بن الجراح: إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس([146]). وقال ابن بكير: ربما سمعت مالكاً يحدّثنا بالحديث فيكون لفظه مختلفاً بالغداة وبالعشي ([147]). كذلك فقد عرف البخاري أنه كان يجيز الرواية بالمعنى مثلما أجاز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره، ويعود السبب في ذلك إلى أنه قد صنّف صحيحه الجامع طوال تطوافه على البلدان، إذ كان يقول: ربّ حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر، وربّ حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان، لذلك كان يكتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها، بل يتصرّف فيه ويسوقه بمعناه ([148]).
وقد ذكر أن ممن كان يلحن من المحدثين ولا يعيبه ابن سيرين، ورجاء بن حيوة، وإسماعيل بن أبي خالد، وأحمد بن شعيب النسائي، وسفيان، ومالك بن أنس، وأبو معمر وغيرهم. فمثلاً جاء عن ابن شعيب النسائي أنه قال: لا يعاب اللحن على المحدّثين، وجاء عن أبي معمر أنه قال: إني لأسمع الحديث لحناً فألحن اتباعاً لما سمعت ([149]).
وهناك طائفة من السلف أجازوا تعريب الحديث واصلاحه، مثل الحسن، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبو سعيد، وأبو جعفر محمد بن علي (الباقر)، وعطاء بن رباح، والمغيرة، والأعمش، والأوزاعي، ويحيى بن معين، وعبد الله بن المبارك وغيرهم.
وعلى العموم، جرت عادة تعريب اللحن وإصلاحه في الحديث لدى الكثير من التابعين، حيث أجازوا تقويم الحديث الذي يرى فيه النقص واللحن، فكما علمنا أنه عادةً ما كان الرواة غير متقنين للعربية، مما جعل الحديث يشترك في صياغته أطراف عدة، يبدأ من النبي(ص) فيتحوّل بالتدريج إلى الرواة الملحنين، ثم بعدهم المعربين المصلحين، فيتضاعف الشك في المعنى الذي أراده له صاحبه، ناهيك عن الاعتبارات الأخرى من طول سلسلة السند وكثرة العنعنة بما لا يدلّ على السماع المباشر، وكذا قلّة فهم الرواة وعدم دقة السماع أو التساهل فيه كما في المستملين الذين يكتبون ما يملى عليهم من غير سماع كاف مثلما عرفنا، وكذا تقطيع الأحاديث وتجريدها عن سياقها اللفظي والحالي.
وكان من جرّاء مثل هذه التغيرات أن ظهر الكثير من الاختلاف في الرواية للقضية الواحدة، ومن الأمثلة الهامّة بهذا الصدد ما جاء في روايات حديث (الكذب على النبي)، حيث كان عرضة للاختلاف الشديد في اللفظ والمعنى، وأكثر صيغه تكرراً هي لفظ: bمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النارv. وهناك صيغ أخرى كثيرة تختلف عن هذا اللفظ قليلاً أو كثيراً كما أوردها ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات). ومن ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري، حيث جاء في بدء روايته زيادة تقول: bحدثوا عنيv، كما ورد الحديث عن ابن عباس وفي أوله زيادة تقول: اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم. وكذا وردت زيادة في أول الحديث عن أبي أمامة تقول: bأيما رجل كذبv، وفي رواية أخرى عن أبي أمامة: إنّ الحديث جاء بصيغة تخلو من لفظة bمتعمداًv، فروى الحديث بالقول: من حدّث عني حديثاً كاذباً يتبوأ به مقعده من النار. كذلك وردت صيغة أخرى مختلفة عن أبي أمامة تقول: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقلده بين عيني جهنم، فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله(ص) فقالوا: يا رسول الله إنا نحدّث عنك بالحديث فنزيد وننقص، فقال: ليس ذاكم، إنما أعني الذي يكذب عليّ يريد عيبي وشين الإسلام. وفي رواية عن يعلى جاءت لفظة bشيئاً متعمداًv في وسط الحديث، كما جاء في رواية عن جابر وعبد الله وعازب زيادة في الوسط تقول: bليضلّ الناس به فليتبوأ..v، وفي رواية أخرى جاءت الزيادة عن جابر في الوسط كالآتي: bليحل حراماً ويحرّم حلالاً أو يضل الناس بغير علم فليتبوأ..v.
كما روي الحديث عن أبي بكر الصديق وفيه زيادة في الوسط كالآتي: bأو قصر شيئاً مما أمرت به فليتبوأ..v. وفي رواية أخرى مختلفة عن أبي بكر أن النبي قال: من تعمّد عليّ كذباً أو رد شيئاً مما قلته فليتبوأ مقعده من النار. وفي رواية عن عثمان بن عفان جاء الحديث بصيغة: من تعمّد عليّ كذباً فليتبوأ بيتاً في النار. كما جاء في رواية أخرى عن عليّ – كما رواها البخاري ومسلم في الصحيحين – بصيغة مختلفة: لا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار. كذلك روي عن علي صيغة أخرى تقول: من يقول عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار. ومثل هذه الصيغة رويت عن أسامة وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وهناك صيغة أخرى لابن عمرو فيها لفظ جهنم بدل النار، ومثلها ما روي عن عقبة بن عامر. كما ورد الحديث بصيغة مختلفة في رواية أخرى عن أبي هريرة، وهي: من أحدث حدثاً أو آوى محدّثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وعلى من كذب عليّ متعمداً. وورد الحديث عن الزبير بصيغتين مختلفتين هما: من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ بيتاً في النار، كذلك: من حدّث عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار، وجاء الحديث عن سعد بصيغة مقاربة لإحدى صيغتي الزبير، وهي: من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، وهي ذات الصيغة التي رويت عن عدد من الصحابة، مثل السيدة عائشة، وسلمة بن الأكوع، وأبي موسى الغافقي. وورد على هذه الصيغة زيادة في البدء في الحديث المروي عن أبي قتادة، وهي قول النبي: يا أيها الناس! إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عني فلا يقولنّ إلا حقاً وصدقاً، فمن قال عليّ.. وفي صيغة أخرى لابن الأكوع تقول: من حدّث عني حديثاً لم أقله فليتبوأ مقعده من النار. كما جاء في رواية أخرى عن الغافقي فيها إضافة في بداية الحديث تقول: سيأتي قوم من بعدي يسألونكم حديثي فلا تحدّثوهم إلا بما تحفظون.
وجاء عن المغيرة وسعيد بن زيد إضافة في بداية الحديث تقول: إن كذباً عليّ ليس ككذبٍ على أحد، وجاء الحديث عن رافع بن خديج بصيغة: لا تكذبوا عليّ فليس كذباً عليّ ككذب على أحد، وجاء الحديث عن صهيب إن في آخره إضافة تقول: وكلّف يوم القيامة أن يقعد بين شعرتين، ولن يقدر على ذلك. وجاء في رواية عن عمران بن حصين لفظة bعمداًv آخر الحديث، كما جاء في رواية أنس لفظة bمتعمداًv آخر الحديث. وفي رواية أخرى عن أنس إن الحديث جاء بصيغة: والذي نفس أبي القاسم بيده لا يروى عليّ أحد ما لم أقله إلا تبوأ مقعده من النار. وفي صيغة ثالثة عن أنس وعابد بن شريح تقول: من كذب في رواية حديثٍ فليتبوأ مقعده من النار. وفي رواية عن العرس بن عميرة جاءت الصيغة: من كذب عليّ كذبة متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وفي رواية عن قيس بن سعد بن عبادة جاء في آخرها: فليتبوأ مضجعاً من النار وبيتاً في جهنم. وفي رواية عن أبي قرصافة إن الصيغة تقول: حدّثوا عنّي ولا تقولوا إلا حقاً، ومن قال عنّي ما لم أقل يبنى له في جهنم بيت يرتع فيه. وفي صيغة أخرى عنه تقول: حدثوا عني بما تسمعون ولا يحلّ لأحد أن يكذب عليّ فمن كذب عليّ أو قال عليّ غير ما قلت بني له بيت في جهنم يرتع فيه. وجاء في رواية لابن عمر تقول: من قال عليّ كذباً ليضلّ الناس بغير علم فإنه بين عيني جهنم يوم القيامة، وما قال من حسنة فالله ورسوله يأمران بها، قال الله عز وجل: >إن الله يأمر بالعدل والإحسان<. وفي رواية عن رجل من الصحابة تقول: من يقول عليّ ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً من النار، فقيل: يا رسول الله! هل لها من عينين؟ قال: نعم، ألم تسمع قول الله عز وجل: >إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً<، كما في رواية أخرى تقول: إن الذى يكذب عليّ يبنى له بيت في النار. وفي رواية مرفوعة بعد سماع الحديث قال الصحابة: يا رسول الله نسمع منك الحديث فنزيد فيه وننقص فهذا كذب عليك؟ قال: لا، ولكن من حدث عليّ يقول أنا كذاب أو ساحر.
وليس هذا فحسب، بل كثيراً ما تفضي الروايات التي ترد في القضية الواحدة إلى التعارض، ومثلما يقول ابن خلدون: السنّة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح، وهو مختلف أيضاً، لذلك وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم ([150])، فمثلاً جاء في حديث الشؤم والطيرة عبارات مختلفة بعضها دالّ على التعارض، ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر أن النبي(ص) قال: إنما الشؤم في ثلاثة: في المرأة والفرس والدار. لكن روي الحديث عن ابن عمر وسهل بن سعد وجابر بصيغة أخرى هي: إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة: في الفرس والمسكن والمرأة. كذلك روي عن جابر أيضاً صيغة أخرى تعارض ما سبق، وهي قول النبي(ص): لا غولَ ولا طيرةَ ولا شؤمَ. وفي خبر آخر عنه: لا عدوى ولا صفر ولا غولَ. كما جاء في رواية أخرى معارضة عن مِخْمر بن معاوية عن النبي قوله: لا شؤمَ وقد يكون اليُمْن في المرأة والفرس والدابة([151]).
سابعاً: يبقى أخيراً ما يتعلّق بنقد الدلالة والمتن، حيث يلاحظ أن كتب الصحاح وغيرها احتوت على الكثير من الروايات التي لا تركن إليها النفس؛ لكونها تتعارض إما مع الحقائق الحسية والكونية، أو مع السنن الحياتية، أو مع الاعتبارات التاريخية الموثقة، أو مع القيم والضرورات الدينية، أو مع النصوص القرآنية، أو مع غيرها من متون الأخبار الأخرى…
وقد اهتمّ عدد من العلماء النقاد بالأحاديث الموضوعة تبعاً لما تحمله من متون فاسدة، كالذي شرع به ابن القيم الجوزية؛ حيث كذّب الكثير من الأحاديث بما فيها بعض ما ورد في الصحاح؛ فذكر أن من الأحاديث المخالفة للعقل والواقع؛ حديث: إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرّك الثور قرنه تحركت الصخرة فتحركت الأرض، وهي الزلزلة ([152]).
كما نقل جملة من الأحاديث التي يكذبها الحسّ؛ مثل حديث الباذنجان لما أكل له، والباذنجان شفاء من كل داء، وحديث: عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويكثر الدمعة قدس فيه سبعون نبياً، وحديث: اشربوا على الطعام تشبعوا، وحديث: إذا عطس الرجل عند الحديث فهو دليل صدقه، وحديث: أكذب الناس الصباغون والصواغون([153]).
كما ذكر ابن القيم أحاديث موضوعة تتضمن دلالات للذم العنصري والعرقي، كأحاديث ذمّ السودان، والحبشة، والزنوج، والأتراك، والخصيان، والمماليك وغيرها، واعتبرها جميعاً من الأحاديث الكاذبة. ونقل أحاديث أخرى تخالف صريح القرآن فاعتبرها موضوعة، كحديث مقدار الدنيا وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن الآن في الألف السابعة، واعتبر ذلك من أبين الكذب. ومن ذلك أيضاً أحاديث صخرة بيت المقدس، كالحديث الذي يروى في الصخرة أنها عرش الله الأدنى ([154]).
وهناك عدد من الأحاديث الواردة في صحيح مسلم كذّبها ابن القيم؛ لاعتقاده أنها تخالف القرآن، منها ما جاء عن أبي هريرة من أن الله خلق الله السماوات والأرض في سبعة أيام ([155]). والحديث على رأي عدد من العلماء ومنهم البخاري يخالف ما أخبره الله تعالى من أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ([156]).
كما وردت في صحيح البخاري أحاديث لا تتوافق وبيان القرآن، ومن ذلك الحديث الذي يرويه أبو هريرة من أنه سمع النبي(ص) يقول: لن يدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وأما مسيئاً فلعله أن يستعتب([157]). والحديث يتنافى في دلالته مع الآيات التي تبدي أن الجزاء قائم على العمل. ومثل ذلك ما روي في الصحيحين حول مسألة الاستغفار للمنافقين، إذ روى ابن عمر أنه لما توفي عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله(ص)، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله(ص) ليصلّي، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله(ص) وقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله(ص): إنما خيرني الله فقال: >استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم< وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله(ص) فأنزل الله >ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره<([158]). وهذه الرواية تخطّئ النبي في قضية دينية وتجعل من حكم عمر حكماً صحيحاً يطابق حكم الله، وبالتالي فهي لا تتسق مع القول بعصمة النبي في تبيانه للقرآن وتفسيره. كذلك إنها تبدي خلاف بيان القرآن، حيث ظاهر الآية واضح في كون المراد ليس عدد الاستغفار، بل عدم التأثير، وهي كحال هذه الآية: >إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفَتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط< (الأعراف: 40)، إذ لقائل أن يقول بأن الآية لا تمانع من جواز دخول الكافر المكذب للجنة، وذلك لأنها علقت هذا الدخول على أمر ممكن غير مستحيل وهو ولوج الجمل في سَمّ الخياط، حيث لا يمتنع أن يصغّر الله الجمل ويكبّر سَمّ الخياط، فيدخل الأول في الآخر. مع أن مراد الآية هو الاستحالة كما هو الظاهر، وليس هناك من يقول بالمعنى السابق.
كما ورد في الصحيحين عدد من الأحاديث التي بعضها يكذب البعض الآخر، ومن ذلك ما رواه مسلم في رواية عن النبي أنه توجّه إلى مكة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة، ثم صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى، لكن في رواية أخرى جاء أنه طاف طواف الإفاضة، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. وقد قال ابن حزم في هاتين الروايتين إحداهما كذب بلا شك ([159]). ومثل ذلك روى مسلم روايتين عن الأعور الدجال تارة أن عينه اليمنى طافئة، وأخرى أنها اليسرى، إذ روى عن ابن عمر أن النبي(ص) ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: إن الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافئة ([160]). لكنه روى في الوقت ذاته عن حذيفة: إن النبي قال: الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار ([161]).
كما روى مسلم روايتين عن كلب زرع إحداهما لا تتسق مع الأخرى، حيث جاء في إحداهما أن عبد الله بن عمر روى أن رسول الله(ص) أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية، فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعاً ([162]). وفي هذه الرواية لوّح ابن عمر إلى أن أبا هريرة قد زاد في الحديث عن النبي لأغراض شخصية. في حين جاءت رواية أخرى عن ابن عمر تؤيد ما ذهب إليه أبو هريرة، وهو أنه نقل عن النبي قوله: من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط ([163]).
كذلك روى البخاري روايتين متعارضتين حول الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة، ففي رواية عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي قال: إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرّقوا أو غربوا ([164])، لكن جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن عمر أنه قال: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله(ص) يقضي حاجته، مستدبر القبلة، مستقبل الشام([165]).
كما ورد في صحيح البخاري أحاديث متضاربة حول مصير الصحابة، ففي بعض الأحاديث جاء أن عصرهم هو خير القرون، وأنه لا يوجد لهم مثيل، وأنهم ناجون من النار، وأن أغلب سائر الناس في النار، لكن في بعض آخر جاء إن الناجين منهم هم القلّة المعبر عنها بهمل النعم، أي ضوال الإبل ([166]). بل وروى البخاري رواية أخرى لا تتسق مع ما سبق، إذ روى عن أبي ذر أن النبي قال له: عرض لي جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر([167]).
وهناك عدد من روايات صحيح مسلم ضعّفها الحفاظ لاصطدامها بمسلمات النصوص التاريخية وبعض اعتبارات القرآن الكريم. فقد روى مسلم حديث الإسراء وفيه عبارة bذلك قبل أن يوحى إليهv، وقد تكلّم الحفاظ في هذه اللفظة وضعفوها. كما روى مسلم عن أبي سفيان إنه قال للنبي(ص) لمّا أسلم: يا رسول الله! أعطني ثلاثاً: تزوج ابنتي أم حبيبة، واجعل ابني كاتباً، وأمرني أن أقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي ما سأله ([168]). وقد عدّ هذا الحديث موضوعاً، حيث إن أم حبيبة تزوّجها النبي وهي في الحبشة وأصدقها النجاشي، كما أن أبا سفيان إنما أسلم عام الفتح، وبين الهجرة والفتح عدة سنين، وأما إمارة أبي سفيان فإنها غير معروفة ([169]).
وهناك من الروايات ما لا يُعقل، ومع ذلك روتها كتب الصحاح، مثل الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من أن النبي موسى لطم عين ملك الموت ففقأها([170]).
وجاء في صحيح البخاري ما فيه الخرافة والإساءة للأنبياء، ومن ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله(ص) نقل عن سليمان(ع) قوله: لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة كلهنّ تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، وطاف عليهنّ جميعاً فلم تحمل منهنّ إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ([171]). ومثل ذلك روي عن قتادة أن أنس بن مالك قال: كان النبي(ص) يدور على نسائه في الساعة الواحدة، من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة – وفي رواية أخرى تسع زوجات – فسأل قتادة أنساً: أو كان يطيقه؟ فأجاب أنس: كنا نتحدث أنه أعطي قوّة ثلاثين ([172]).
كما ورد في الصحيحين الكثير من الروايات الخرافية، مثل حديث التثاؤب من الشيطان، وأن له ضراط عند المناداة بالصلاة، وأنه يبول في أذن من نام ولم يقم لصلاة الصبح، وأن عرش إبليس على البحر، وأن من طعام الجن العظم والروثة، وأن صياح الديكة يعني رؤيتها ملكاً، وأن نهيق الحمار يعني رؤيته شيطاناً، وأن النبي أمر بقتل الوزغ لأنه كان ينفخ على إبراهيم(ع)، وأن الشمس تجري حتى تنتهي تحت العرش فتخر ساجدة عند الغروب، ثم ترجع طالعة كما كانت وهكذا، وأن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، وأن الفرات والنيل هما من أنهار الجنة، وأن المرأة خلقت من ضلع، وأنه لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر ([173]).
وفي الصحيحين عدد من الروايات الباطلة علمياً، ومن ذلك ما رواه مسلم حول كيفية تكوّن الذكر والأنثى ([174])، وكذا عن بقاء عجب الذنب إلى يوم القيامة([175]). وما رواه البخاري حول شقّ القمر ([176])، ونفي العدوى وغير ذلك ([177]).
كما هناك روايات أخرى مستبعدة أو تحتاج إلى التحقيق العلمي المستقل، كحديث الذبابة والعجوة والحبة السوداء وغيرها ([178]).
وهناك أيضاً روايات يكذّبها الواقع، كتلك التي جاءت حول التنبؤ بوقت الساعة، وعدم تسليط غير المسلمين على المسلمين، وكون الإمامة في قريش ما بقي منهم اثنان([179]).
هكذا نجد في الصحيحين روايات لا تعقل، وبعضها يخالف الواقع العلمي والحسي، كما أن بعضاً آخر يعارض القرآن، أو يتصف بالخرافة الظاهرة وبالإساءة إلى الأنبياء، وهي في جميع الاحوال لا يعقل أن تكون صادرة عن النبي(ص).
خلاصة وتحقيق
عرفنا أن هناك فروقاً جوهرية بين عصر الصحابة وعصر الصحاح والجوامع الحديثية إزاء الموقف من الرواية والحديث، ويمكن إجمال هذه الفروق بالنقاط التالية:
1ـ كان العصر الأول للصحابة يمنع تدوين الحديث وكتابته، في حين كان عصر الصحاح والجوامع الحديثية يشجع عليه.
2ـ كان العصر الأول يقلّ من الرواية، في حين كان العصر الأخير يكثر منها.
3ـ كان العصر الأول يتهم المكثرين للرواية ويتجنبهم، في حين كان العصر الأخير يعتمد عليهم.
4ـ كان العصر الأول يبدي تحفظاً من أن ينسب الحديث إلى النبي، في حين كان العصر الأخير لا يتحفظ من ذلك.
5ـ كان العصر الأول يتثبت من الحديث غير المعروف؛ بالقسم أو بطلب شاهد ثان رغم قرب العهد بالنبي، في حين كان العصر الأخير لا يعمل بمثل هذا التثبت.
6ـ كان العصر الأول لا يدقق في بحث الرجال والاسناد، في حين كان العصر الأخير يدقق في ذلك.
7ـ أخيراً كان العصر الأول يكره الانشغال بالحديث والاشتغال فيه؛ خشية أن يتبدل الدين إلى دين آخر كالذي حصل مع أهل الكتاب. في حين كان العصر الأخير يشجّع على الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، ولا يخشى أن يتبدّل الدين إزاء فعله المستحدث.
ومن حيث التحقيق يمكن القول: إنه ليس هناك حديث قطعي، فأبلغ الأحاديث صحّةً هو حديث الكذب على النبي، لكنه كما عرفنا روي بألفاظ ومعاني كثيرة مختلفة، وليست هناك صيغة محددة تبلغ القطع بما فيها الصيغة المستفاضة bمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النارv، فعلى الدوام ترد احتمالات التحوير في المعنى والزيادة والنقصان تبعاً للنقل المتعدّد من جيل إلى جيل مصحوباً بتغيير الألفاظ والعبارات كالذي اطلعنا عليه من قبل، وكلما زاد السند في الطول كلّما ضعفت القيمة الاحتمالية لإصابة نقل الحديث بدقة، ناهيك عن احتمالات الوضع والدس. وقد اعترف عدد من العلماء بأنه لا يوجد في الأحاديث ما يرقى إلى مستوى التواتر أو القطع، ومن ذلك ما ذكره ابن عاشور: وأما الأحاديث المتواترة فقد قال علماؤنا: ليس في السنّة متواتر لتعذر وجود العدد الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع عصور الرواة بيننا وبين رسول الله(ص)، وإنما أكثر الأحاديث رواةً لا يعدو أن يكون من المستفيض كما تقرّر في أصول الفقه([180]). كما قيل: إنه لا يوجد خبر من رواية عدلين في جميع سلسلة السند وأن جميع الأخبار هي أخبار آحاد كالذي صرح بذلك ابن حبان البستي، على ما اطّلعنا عليه من قبل.
مع ذلك حتى لو سلمنا بوجود أحاديث مقطوعة الصدور عن النبي، فإن ذلك لا يلغي المشاكل التي تخصّ المعنى بفعل ملابسات الأحداث والأحوال، إذ قد تكون الأحاديث شخصية طارئة لا علاقة لها بالأمور الدينية العامة، أو تكون ذات فحوى إداري يخصّ مجتمع الجزيرة آنذاك بكل ما يحمله من سياقات خاصة.
على أنه يجب التمييز بين الحديث القولي المجرد وبين السنة العملية التي زاولها النبي واعتبرها من الدين، مثل الصلاة اليومية وغيرها، والتي تمّ التواصل فيها من جيل إلى جيل. فمثل هذه السنّة هي التي يعول عليها بالأخذ والإلزام، وهي تعد قطعية من حيث الإجمال لا التفصيل. وكما يعرّف ابن تيمية السنّة بأنها العادة أو الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو غير عبادة ([181]). ولا شك أن هذا المعنى يختلف عن المعنى الموسع الذي جاء به المتأخرون من أصحاب الحديث والفقه. حيث عدّوا السنّة هي كل ما روي عن النبي من حديث أو قول وفعل وتقرير. وكثيراً ما يستدلون على حجية ذلك من خلال إثبات حجية البعض، وهو أن الكثير من الأحكام والعبادات التي نصّ عليها القرآن بالإجمال لا تعرف من حيث التفصيل إلا من حيث الحديث والسنّة، ومن ذلك الصلاة وغيرها من العبادات. كذلك فقد نصّ القرآن في وجوب التمسّك والأخذ بما آتاه النبي كما في سورة الحشر، مع أن سياق النص جاء بخصوص الفيء، وهو قوله تعالى: >ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب< (الحشر: 7)، والمعنى واضح وهو أن ما آتاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن الأخذ منه فانتهوا.
لكن لو عزلنا الآية عن سياقها الذي يتضمن النواحي المادية وحمّلناها البعد المعنوي، فمع ذلك يمكن القول: إنّ مصداقيتها تنطبق على الحاضرين في عصر النبي، كما ينطبق أمرها في النواحي المعلومة من السنة العملية ومما نصّ عليه القرآن، أما غير ذلك فهو أمر غير متيقن، فقد تكون الآية قاصدةً المكلفين الحاضرين في عصر النبي دون غيرهم، بل حتى لو أخذنا ذلك بالمعنى المطلق مما يشمل الغائبين في العصور الأخرى، فإنه لا يفي بالغرض؛ لوضوح أنه لابد من التيقن من حجية ما يصلنا عبر الرواية، وهنا سوف نقع بذات الإشكالات التي عرضناها من قبل، ويكفينا من ذلك موقف كبار الصحابة الذين لم يستجيبوا للرواية غير تلك التي تدلّ عليها القرائن القريبة رغم صلة عصرهم بعصر النبي ومعرفتهم المباشرة للناقلين من إخوانهم الرواة، ومع قلة الرواية وعدم ظهور الفتن وتفشي الكذب. إذ في هذه الحالة يمكن أن يقول النافي لحجية الحديث في العصور التالية ومنها عصرنا الحالي: إني أتبع ما عليه سلوك الصحابة ولا أقبل حديثاً لم تقم عليه الحجة الكافية بالقدر الذي كانت تكفي في العصر الأول كالذي مارسه هؤلاء الكبار!
وإذا كنا نختلف في ذلك مع الذين وسعوا من مفهوم السنّة، فإننا نختلف أيضاً مع الذين نفوا حجية السنّة بإطلاق. ففي العصر الحديث أوّل من أعلن إنكار حجيتها هو الدكتور محمد توفيق صدقي، حيث نشر مقالين في عددين لمجلة المنار b7 و12v بعنوان bالإسلام هو القرآن وحدهv، وكان أبرز ما قدّمه من شبهة هو أنه لو كان غير القرآن ضرورياً في الدين لأمر النبي بتقييده كتابةً ولتكفّل الله تعالى بحفظه ([182])، فالنبي قد نهى عن كتابة شيء غير القرآن، وأن السنة لم تكتب في عهده، ولم يعمل الصحابة من بعده على جمعها في كتاب، مثلما لم يحصرها أحد منهم حفظاً في صدره، ولم ينقلوها إلى الناس بالتواتر اللفظي، وما كانوا يجيدون حفظها في صدورهم كحفظ القرآن، فرويت بالمعنى واختلفت ألفاظها، ولم يتكفل الله بحفظها فوقع فيها جميع أنواع التحريف، وكان بعض الصحابة قد نهى عن التحديث، فلو كانت السنّة عامة لجميع البشر لبذلوا الوسع في ضبطها ولتسابقوا في نشرها بين الناس ([183]).
فهذه هي الشبه التي قدّمها توفيق صدقي في نفي حجية السنّة النبوية، لكنه عاد فأقرّ بخطئه فيما بعد، وذلك بتأثير من الشيخ محمد رشيد رضا، حيث سلم بحجية السنّة العملية دون القولية وإن لم يشهد عليها القرآن، شرط أن يكون قد أجمع عليها المسلمون كافة مثل ركعات الصلاة ([184]). وقديماً ذكر الشافعي في كتاب bجماع العلمv وكتاب bالامv جماعةً انكروا السنّة ضمن فصلين؛ احدهما عنوانه: bباب حكاية قول الطائفة التي ردّت الأخبار كلهاv، أما الآخر فعنوانه: bباب حكاية قول من ردّ خبر الخاصّةv، فمنهم من لم يتقبّل السنّة ما لم يكن قد ورد في معناها قرآن، ومنهم من تقبلها في حالة الاتفاق عليها دون الاختلاف، وكان من ضمن ما احتجّ به بعضهم، هو أنه لا يوجد من الراوين أحد لم يبرأ من أن يخطّئه أحد فيما يرويه ويحفظه ([185]).
والنتيجة التي نصل إليها أخيراً هي التمسّك بالسنّة العملية التي لها أصل في القرآن وتكون من الدين ولا يعارضها ما هو أقوى منها، أو تلك التي يعلم أنها كانت مورد إجماع فعل كبار الصحابة، مع أخذ اعتبار الاجتهاد في الخيار بالجزئيات المختلف حولها، أما الحديث القولي المجرّد فيمكن اعتباره مصدراً ثانوياً للتأييد والاستئناس عندما يكون داعماً لأمرٍ آخر من غير معارض يقوى عليه، ككثرة القرائن، والقرآن، والعقل، والواقع، والمقاصد العامة وغير ذلك.
عن مجلة الإجتهاد والتجديد – العدد الأوّل
الهوامش
([2]) من أبرز من تعرّض للأخبار الخاصّة بكتابة الحديث: الخطيب البغدادي في تقييد العلم، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
([4]) ابن حجر العسقلاني، مقدّمة فتح الباري، ضمن الفصل الأوّل، مكتبة سحاب السلفية الالكترونية؛ وانظر أيضاً: جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث، شبكة المشكاة الالكترونية.
([8]) حافظ أحمد الحكمي، دليل أرباب الفلاح لتحقيق فنّ الاصطلاح، نقل الكتاب أبو عبد الله عمر العاتي، مكتبة سحاب السلفية الالكترونية.
([11]) الطوفي، رسالة في رعاية المصلحة، نشرت خلف كتاب مصادر التشريع الإسلامي: 133، عبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، الطبعة الثانية، 1970م.
([13]) أبو جعفر الطحاوي، مشكل الآثار، شبكة المشكاة، ج1؛ وابن الجوزي، الموضوعات، ج1، مكتبة سحاب السلفية.
([18]) الحاكم النيسابوري: المدخل إلى الإكليل، شبكة المشكاة؛ وتذكرة الحفاظ، ج1، والكفاية في علم الرواية.
([42]) الهمذاني، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، نشر وتعليق وتصحيح: راتب حاكمي، مطبعة الأندلس، حمص، الطبعة الأولى، 1386هـ ـ 1966م : 17.
([52]) تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة: 76، والصنعاني: توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، عن المشكاة الالكترونية 1: 62.
([53]) الراعي، انتصار الفقير السالك: 209، 213، تحقيق محمد أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1981م.
([68]) تعليق الكوثري على شروط الأئمة الخمسة: 46 ، 61، وابن أبي الوفا، الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، شبكة المشكاة.
([71]) عبد الحسين شرف الدين، النص والاجتهاد: 339 ـ 340، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1386هـ ـ 1966م.
([114]) المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، حرف العين، حديث رقم 29490، عن موقع نداء الإيمان الالكتروني.
([118]) ابن أمير الحاج الحلبي، التقرير والتحبير 2: 385، سي دي مكتبة الفقه وأصوله، عن دار الفكر، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، بيروت، 1996م، الطبعة الأولى.
([125]) صحيح البخاري، حديث 3171، وصحيح مسلم، حديث 2860، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما لا يسع المجال لذكرها هنا.
([136]) جامع بيان العلم، جاء أنه قيل لمالك: إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون، فقال: يرحمك الله، فأين الكلام بالحق؟ جامع بيان العلم. وتقدمة المعرفة.
([142]) ابن عبد ربه، العقد الفريد 3: 363 ـ 364، تحقيق عبد المجيد الترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ ـ1983م.
([143]) الكفاية في علم الرواية؛ ومقدمة بن الصلاح؛ والمحدث الفاصل بين الراوي والواعي؛ وجامع بيان العلم وفضله.
([151]) مشكل الآثار، حديث 117، كما لاحظ روايات صحيح البخاري بهذا الصدد: باب الطيرة، وباب لا هامة ولا صفر، وباب لا هامة، وباب لا عدوى، وباب ما يذكر من شؤم الفرس، وباب ما يتقى من شؤم المرأة؛ وكذا لاحظ رويات صحيح مسلم: باب الطيرة والفأل ما يكون فيه من الشؤم، وباب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
([165]) المصدر نفسه، حديث 148، ومثله حديث 2935، وهناك رواية أخرى تروى في بعض كتب الحديث عن جابر يفاد منها نسخ أحد الحكمين للآخر (دليل أرباب الفلاح).
([173]) المصدر نفسه، حديث 5869، ومثله حديث 5872 و3115، وحديث 3111، ومثله حديث 1164، وحديث 1174 و583، وحديث 1093، وحديث 3127، وحديث 3647، وحديث 3180، وحديث 6988، وحديث 3099؛ صحيح مسلم، حديث 2994، وحديث 389، وحديث 774، وحديث 2813، وحديث 250، وحديث 2839، وحديث 1470، وحديث 1468 .
([178]) المصدر نفسه، حديث 3142، وحديث 4208، ومثله حديث 4363، وحديث 5381، وحديث 5443، ومثله حديث 5436، وحديث 5435، وحديث 5130؛ وصحيح مسلم، حديث 2215 .
([179]) صحيح مسلم، حديث 295، وحديث 2952، وحديث 2889؛ وصحيح البخاري، حديث 3310، وحديث 6721، وحديث 6720.