البناءات المعرفيّة للدين
والاتجاه التنويري في الغرب
حميد بارسانيا
ترجمة : عباس الأسدي
مقدمة على مفهوم التنوير في الغرب
ما اصطلح عليه في الغرب بالاتجاه التنويري في القرون الأخيرة يختلف عن المعاني السامية للوعي والمعرفة بأقسامها: العلم الحضوري والعلم الشهودي والمعرفة الدينية الخالصة. فلماذا نحى الغرب هذا المنحى؟ وما هي خلفيات ذلك؟ وما هو دور الكنيسة فيه؟ وكيف أصبح العقل في صراع مع الدين؟
بنحو مجمل، كانت التربية الكنسيّة تُعتبر الوريثة للوحي والسماء والمعرفة الدينية دون أن تبالي بأنواع المعرفة الحسية والعقلية الأخرى، وكانت تمارس سلطة القهر كلّما واجهت هاتين المعرفتين، وتستخدم هيمنتها في التغلّب عليهما في الوقت الذي لا يوجد أي تقاطع بين العقل والدين، فالدين يُنبئ عما هو أبعد مما يتوصّل إليه العقل وهو ما يصدقه العقل أيضاً.
ثم إن الكنيسة قالت بالتثليث وتصوّرت أن العقل سيوافقها، بينما لم تكن هذه المقولة فوق تصوّر العقل إنما كانت ضدّه، لقد جعلت الله في عرض الأشياء وليس محيطاً بها، وهذا ما لا يقبله العقل. لقد عملت الكنيسة على إسقاط دور العقل واعتباره، وقيّدت الحسّ إلى درجة كبيرة. هذا النوع من التعاطي مع العقـل أدّى – بوصفه واحداً من الأسباب – إلى ظهور تيّار في مواجهة هذه الأفكار أفضى إلى إيجاد نمط من العقلانية التي تنكر المعرفة الدينية، ولم يكن ما ظهر منذ القرن السادس عشر فما بعد من الفلسفة في شيء.
لقد شهد العالم الإسلامي نمواً فكرياً ونضجاً فلسفياً أذعن بموجبه الفلاسفة والحكماء للمعرفة التي تتجاوز الحدود المفاهيمية وأثبتوها، في حين ظهر في الغرب نوع من الاتجاه العقلي الذي عدّ المعرفة المفهومية العقلية سقف العلم الإنساني وما بعدها من معرفة، هذا التيار بدأ مع ديكارت وشكّك في كل شيء إلا أنْ يُرى بالعين ويلمس بالمعرفة المفهومية والعقلية؛ حتى أنه سعى إلى معرفة نفسه من خلال هذا الأفق، فقال: أنا أشكّ، أنا أفكّر، فإذن أنا موجود، أي أنه اعتبر نفسه لبّ الفكر الصادق وقمّته.
وقد خاض في هذا الموضوع ابن سينا قبل ذلك التاريخ بستة قرون، موضحاً حينه أن من غير الممكن للفرد أنْ يثبت ذاته بطريق الأثر العيني، وهو موضوع لا نريد الدخول في تفاصيله حالياً. إنّ "أنا" الإنسان يمكن أن تعرف عبر مستوى آخر من المعرفة الحسية، لكن الفكر الغربي وفلسفته وتاريخه بدأها من النقطة التي أشرنا إليها بالذات، حيث تألّق في الجانب الآخر للعقلانية الغربية ما كتبه هيجل وما عبّر عنه في أفكاره، فالوجود هو ما يمكن أن يتضح في أفق العقل، ولا وجود لما لا يمكن إثباته بالمعرفة المفهومية العقلية، كما لا وجود لما لا يمكن للفكر أن يتصوره. وللوجود – حسب هذه النظرية – هوية عقلانية، ولكن أي عقل؟
إنه العقل المفهومي البرهاني المنطقي، وهو المنطق الذي أدلى فيه هيجل دلوه وكان له فيه كلام. ويلاحظ هنا التدهور الذي وصل إليه معنى الوجود والمستوى الذي يرتقى إليه العقل المفهومي في نظر البعض حتى يقول: (لو كان هناك شيء مجهول على العقل فهو مما لا وجود له أساساً)، أو :(إن الوجود هو الذي يتضح في أفق الفكر).
الاتجاه التنويري إذن هو مصطلح جديد بالمعنى الذي يُفسّر للفكر بحيث يهبط بالوجود إلى هذا المستوى.
خلفيات ظهور الاتجاه التنويري في الغرب
تعتبر القرون الوسطى فترة سيادة الكنيسة في الغرب، إذ كانت تدّعي باسم الدين الدفاع عن الحكم الإلهي وحماية القيم الفطرية، فيما كان الناس يخضعون لهذه السيادة في إطار إيمانهم بالغيب.
لقد سارت الكنيسة في الاتجاه المعاكس للفطرة الإنسانية على مستويين: علميّ وعمليّ، فلم تكن الأناجيل الأربعة تنـزيلاً مباشراً من الوحي، إنما كانت مؤلّفات اعترفت بها الكنيسة من بين العشرات من الأناجيل الأخرى، وحاولت إضفاء نوعٍ من القداسة على مؤلّفيها لكي تبدو وكأنها من الوحي الإلهي؛ لكن الصفة البشرية على الأناجيل جعلتها مشحونة بالأخطاء بحيث لا يمكن أن يتفق بعضها مع المعرفة الحسية والعقلية للإنسان، وهذا ما اضطرّ الكنيسة – للدفاع عمّا في الأناجيل التي اكتست قداسة إلهية – إلى الوقوف بوجه العلوم العقلية والحسية، لتدخل صراعاً مريراً مع العلوم البشرية.
عملياً، قامت الكنيسة بتبرير أنواع الظلم الذي مارسته السلطات الحاكمة من أجل اقتسام السلطة معها، فجاءت النتيجة التي خرجت بها السلطة التي ادّعت الدين زوراً عبارة عن محاربة العلم وتبرير الظلم، ثم الحروب الصليبية التي استمرت لقرنين من الزمن، وبات رجال الكنيسة يلهثون وراء الدنيا ويبيعون لأثريائها صكوك الغفران وكأنهم خزنة الجنان.
ولا ريب أن تكالب أدعياء الدين على الدنيا يحثّ الآخرين على اقتفاء الأثر، وبالنتيجة فإن ذلك يفضي إلى انطفاء جذوة الهداية الفطرية التي تكشف لبصيرة الإنسان طريقَ الغيب.
إن اغتصاب الولاية والخلافة الإلهية يؤدّي – عاجلاً أم آجلاً – إلى التمرّد والعصيان، لأن ذلك من شأنه أن يصبّ في الاتجاه المعاكس للميول الفطرية البشرية، لينتهي هذا التمرّد إلى أحد سبيلين:
الأول: العودة إلى القيم والسنن الحقّة والحكم الإلهي الواقعي، وهو السبيل الذي اختطّه على مدى التاريخ الإسلامي أئمةُ أهل البيت E وأصحابهم وشيعتهم.
الثاني: التمرد على الحكم الموجود، ليس تحت واجهة مكافحة البدع والعودة إلى السنن الحقيقية والحاكمية الإلهية الصحيحة، إنما في سياق إنكار الألوهية والمبادئ التي تُنسب إليها هذه البدع كذباً.
لقد كان ظلّ الكنيسة ثقيلاً وجاثماً على الصدور بحيث لم يترك مجالاً للتفكير في العودة إلى القيم، كما أن إلغاء القواعد والأصول الفلسفية والبرهانية التي تعدّ الحجر الأساس للإيمان، والدعوة للإيمان التقليدي، والأهم من ذلك الأسلوب الذي اتبعه رجال الكنيسة في التعاطي مع القضايا الدنيوية، كل ذلك وجّه أكبر ضربة للإيمان التقليدي.
ومن جملة الظروف الاجتماعية التي ساعدت على زعزعة فكر الإنسان الغربي تجاه الوحي والمعرفة الدينية والإلهية والإيمان.. الحروب الصليبية، والتعرّف على مظاهر الحضارة الإسلامية، وفتح القسطنطينية بيد المسلمين، وهجرة علمائها وفنّانيها إلى الغرب، وأخيراً اكتشاف القارّة الأمريكية وارتفاع حمّى الذهب.
لقد ولّد هذا الشكّ ثقافةً وحضارة جديدة في تاريخ البشرية، أطلق عليها "عصر النهضة". واقترن هذا العصر بنسيان تام للحقائق الإلهية والدينية، لينتج بدوره تيارين فكريين جديدين أسّسا لما سُمّي بالاتجاه التنويري في الغرب.
التيار الأول: العقلانية التي بدأت مع ديكارت واستمرت مع أمثال اسبينوزا، ولايب نيتز، لتبلغ ذروتها مع هيجل.
التيار الثاني: الاتجاه الحسي الذي بدأ مع فرانسيس بيكون، واستمرّ مع أمثال جون لوك، وباركلي، وهيوم، وكانط، وميل، ليسيطر في نهاية المطاف وبعد تحوّلات عديدة على المراكز العلمية الغربية.
البنى الفكرية للتنوير في الغرب
لم يكن العقل والفكر محصوراً في يوم من الأيام بالإنسان الغربي ولم يكن ليختصّ بعصر النهضة، بل كان موجوداً في المجتمعات حتى قبل ذلك التاريخ، غاية الأمر أنه لم يستخدم في ماضي التأريخ في إنكار الحقائق الأعلى مرتبة منه، إنما استعمل موجّهاً للإنسان نحو الوعي والمعرفة التي كانت تنتفع من الشهود والحضور فوق العقلي وليس ضدّه.
إن الطليعة الأولى من علماء التاريخ البشري كانت ترفض أن يطلق عليها ألقاب الحكيم والعالم، وتكتفي بعنوان الفيلسوف الذي يعني المحبّ للعلم، ذلك كلّه على أساس قبول الأصالة للمعرفة ما فوق العقلية الخاصّة بالأنبياء والأولياء، حيث كانت ترى أن العلم المفهومي الذي يستحصل بالاستدلال ونمط التفكير الحصولي ينطبق عليه وصف المعرفة وحسب، أمّا المعرفة الحقيقية فهي العلم الشهودي الذي لا يخالف الفكر والعقل، إنما هو فوقه.
السمة البارزة للاتجاه العقلي بعد عصر النهضة كانت في إنكار أيّ نوع من المعرفة ما فوق العقلية، ونفي بعض أبعاد الوجود التي لا يستطيع أن يتوصّل إليها الإدراك العقلي للإنسان أو – لا أقل – التشكيك فيها، إنّ فلسفة ديكارت تبدأ بالتشكيك في كل شيء لتنتهي بتفسير عقليّ للعالم، وأوّل استدلال يسوقه ديكارت يكمن في أنّه لا يشكّ في فكره أو في شكّه، رغم أنه يشكّ في كل شيء حتى في وجوده ويرتاب، لهذا فإن الفكر والعقل هو الأصل الأول الذي اعتقد به ديكارت، والذي برهن به على وجوده: أنا أفكّر، إذن أنا موجود.
وقد واصل فلاسفة الغرب متابعة هذا الاتجاه العقلي الذي يفسّر وجود الإنسان والعالم على أساسه، ورغم أن كانط أذعن بوجود حقائق للأشياء أبعد مما يتصوّره العقل، إلا أنّه اعتبرها مجهولةً، قاطعاً بذلك أيّ علاقة للإنسان بها.
بدوره حاول هيجل تفسير الكون على أساس النظام العقلي، موضحاً في مساره الاستدلالي ما كان خافياً بالقوّة في فكر ديكارت، ليؤكّد من جديد أن لا وجود لما لا يمكن التفكير به، فللوجود في فكر هيجل حقيقة عقلانية، بمعنى أن الإنسان، رغم جهله بحقائق الكثير من الأمور، يستطيع أن يدرك بفكره كل ما هو موجود حقيقة.
إنّ الاعتقاد بإدراك الفكر لكلّ ما هو موجود والذي أدخل تاريخ البشرية في عصر التنوير، هو بمثابة إنكار لكل حقيقة تستعصي على العقل الإنساني وتبقى أمامه سراً من الأسرار، ومع تكامل هذه النظرية تعرّضت للنقد العقلي كل المعارف السابقة في القرون الوسطى وما قبلها، تلك المعارف التي كانت تواصل حياتها في إطار السنن الدينية أو الأسرار الإلهية على أساس إذعان العقل لما تحمله تلك الأسرار من هوية تتجاوز إدراكه، أو في إطار ما انتشر بين الأمم من البدع التي نسبت زوراً إلى السنن وأصبحت جزءاً من عاداتها وتقاليدها الاجتماعية. هذا النقد أدّى إلى إنكار كلّ ما يسمو فوق العقل أو نفي أيّ طريق يفضي إليه أو يهدي نحوه.
وقد اتسمت هوية الحقيقة التي تمّ التوصل إليها عبر هذا النقد بالعقلانية، دون أن تحمل بالضرورة لواء معاداة الدين، بيد أن الإله الذي يمكن أن يظهر في مثل هذا الفكر يجب أن يُفسّر بنحو عقلانيّ بحت.كذلك فان الإنسان – برأي العقلانيين – لا ينفصل عن الواقعية العقلانية للكون، ولا يحمل هوية السموّ عليها، لقد اعتقد هيجل بأن الإنسان الذي لا ينطلق من تصوّر عقلي كامل إزاء نفسه والعالم إنما هو غريب وغافل عن حقيقة ذاته وعن الوجود أيضاً.
ويرى هيجل أن "الوعي الذاتي" و"المعرفة بالذات" يحلان محلّ "الاغتراب عن الذات" في تاريخ الفكر الإنساني، ومتى ما عاد الإنسان المفكّر إلى حقيقة ذاته وانتهت غربته عنها ارتسم الوجود في ذهنه، عليه فإن الإنسان والوجود الكامل من وجهة نظر هيجل هو ذلك الإنسان الغربي ووجوده الذي تبوّأ قمّة الفكر العقلي في التاريخ.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث سادت سلطة الاتجاه العقلي، ألغيت جميع الأسس والمبادئ السماوية والإلهية من الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان، وأخذت تُفسّر على أساس عقلائي، لتحلّ العقائد البشرية التي تحمل هوية عقلية بحتة محلّ السنن الدينية المأخوذة عن الأنبياء والأولياء، أو محلّ البدع التي اصطبغت بلون السنن بسبب الغشّ الذي مارسه الأدعياء. ولم يستطع العقل رغم القدرة التي حصل عليها أن يحفظ لنفسه مكانةً مستقلّةً بعد انقطاعه عن الحقيقة المحيطة به، ليتراجع سريعاً أمام سلطة التيار الفكري الحسّي. ولهذا الاتجاه الحسي سابقة تاريخية ممتدّة، وهو غير محصور بقومٍ دون آخرين، إلا أن إسباغ الأصالة عليه مع إنكار القيم المعرفية الأرقى، أي إنكار المعرفة العقلية والدينية هي ظاهرة خاصة بالغرب بعد الحقبة التي تلت عصر النهضة، ففي العصور الماضية وُجدت مجالات خصبة للاتجاه الحسي بين بني البشر خاصة في أوساط بني إسرائيل، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً).
ومع ذلك، فإن انتظام هذه الأفكار وصبّها في إطار فكر فلسفي يدافع عن وجوده أمام التيارات الأخرى كان ظاهرةً اختصّ بها التاريخ الغربي المعاصر.
وقد تصوّر فرانسيس بيكون أن فكر الفرد يعاني من أصنام ذهنية تفرضها عليه المعتقدات والتصوّرات المأخوذة من البيئة ومن الخرافات، وحاول – إلى حدّ ما – تمييز المعارف الصحيحة عن التصوّرات الباطلة، وكان يعتقد بأن المعارف الصحيحة تستحصل عن طريق الحواس فقط، ولهذا سعى – من خلال تنظيم جدول استقرائي – إلى تسليط الضوء على قوانين الوجود جميعها عن طريق المشاهدة والتجربة.
نقد الأصول المعرفية للاتجاه التنويري
يفضي الاتجاه الحسي في الحركة التنويرية الغربية – شئنا أم أبينا – إلى السفسطة والتشكيك بشكل مكشوف أو خاف، كما أن المعرفة المفهومية العقلية ليست خاتمة مطاف العلم والوعي، فما بعدها هناك المعرفة الحضورية والشهودية، والمعرفة الدينية وهي معرفة إلهية وربانية.
إن مناقشة هذه المواضيع تدعونا للدخول في الدائرة الايبستمولوجية المعرفية، فالحسّ في نظر أصحاب المعرفة العقلية، لا ينفع لوحده في العلم الخارجي، إنما يساعد على المعرفة اليقينية في إطار بعض الأحكام والقوانين غير الحسية، ليوفّر من ثم أرضية المعرفة الاستقرائية أو التجريبية التالية، مثال ذلك: مبدأ عدم التناقض، فهو قضية لا يمكن أن يتحقق الجزم بأيّ إدراك حسي من خلال الشكّ فيها، لأن احتمال اجتماع النقيضين في أيّة مسألة يحتمل أيضاً صدق نقيضها، وعندئذ لن يبق هناك أي فرق بين أيّ من الإدراكات الحسية ونقائضها.
وإذا تجاهل الحسيّون بعض القضايا من أمثال مبدأ عدم التناقض إزاء المعلومات الحسية والتجريبية السابقة، فإن ذلك سيفضي إلى تهافت جميع البيانات العلمية لاعتمادها عليها.
من هنا، اعتبر ابن سينا في كتاب الشفاء أن جميع القضايا المثبتة تصديقاً في النظام الذهني والعلمي للإنسان ستتعرض للانهيار لو تمّ الطعن في مبدأ عدم التناقض حتى في حالة واحدة فقط؛ بمعنى أنه أصبح بالإمكان الجمع بين الشيء ونقيضه ولو في حالة واحدة. وعلى هذا الأساس اعتبر تلميذه بهمنيار في كتاب التحصيل أن دور مبدأ عدم التناقض بالنسبة للقضايا العلمية كدور واجب الوجود بالنسبة للممكنات، أي إن الشكّ في صحة هذه القضية علمياً سيقود إلى الشكّ في جميع القضايا الأخرى ومنها القضايا الحسية.
وعليه، فإن الإذعان بالمعرفة الحسية دليل بذاته على وجود معرفة عقلية لا يمكن التوصل إليها بطريق الحسّ.
وإذا افترضنا أن الاتجاه الحسّي يمكن أن يتوصل عملياً إلى الكثير من الآثار التي يمكن اكتسابها عبر المعرفة الحقيقية لعالم الطبيعة، بيد أنه لا يملك _ في البعد المعرفي _ إلاّ السقوط في وحل السفسطة والشكّ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ولنقد النظرية التي وضعت المعرفة المفهومية العقلية سقفاً أعلى للمعرفة البشرية منكرةً بذلك كلّ معرفة أخرى فوقها، قدّم المؤمنون بوجود الأنبياء والأولياء البراهين الكافية وأقاموا الحجج الوافية على ذلك، ومن أولئك ابن سينا الذي برهن في موضوع معرفة النفس على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه عن طريق آثارها، سواء كانت هذه الآثار ذهنية أم عينية، بعبارة أخرى أكانت علمية أم عملية؛ بمعنى أن الإنسان لن يعي حقيقة ذاته قبل أن يفكّر وقبل أن يعلم بالمفاهيم البائنة والأولية أو القضايا المبينة والبرهانية أو بسلوكه الخارجي.
ويعتبر برهان ابن سينا ردّاً على ما طرحه ديكارت بعد عدّة قرون، وعدّ فيه الفكر والعقل نقطة التقائه بالحقيقة، ومنها انطلق في حركته لتبيين الوجود، كما حاول أن يثبت وجوده من خلال الفكر والعقل.
في برهان ابن سينا حول إثبات الذات من خلال الفكر، أما أن يكون الفكر الذي استعمل في المقدمة للوصول إلى النتيجة مقيداً بالذات أو مطلقاً، فإذا كان غير مقيد بالذات فإن الاستدلال يتم بالصيغة التالية: "الفكر موجود، إذن أنا موجود"، وهو استدلال باطل، لأنه لا يمكن إثبات وجود فردي خاص من فكرٍ مطلق، وإذا كان الفكر مقيداً بـ "أنا"، ليصبح الاستدلال بالصيغة التالية: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، فهو استدلال باطل أيضاً، لأنه ليست هناك نتيجة جديدة في الجملة الثانية حاصلة من الفكر، إنما هي إعادة لما في الجملة الأولى؛ لأن الـ"أنا" ذكرت في الجملة الأولى إلى جانب التفكير، فإذا كانت هذه الـ"أنا" مجهولةً فلا يمكن أن نكتشفها بالفكر وحده، وهذا معناه أنّ هذه الـ"أنا" في استدلال ديكارت كانت معروفةً إلى جانب الفكر أو قبله، وليس ثمة إثبات عن طريق الفكر لشيء كان يتصف سابقاً بالشكّ.
أما شيخ الإشراق السهروردي، فقد أشار إلى أن معرفة الإنسان بنفسه ليست من نوع المعرفة الحسية والعقلية، مقيماً في كتاب المطارحات برهانين على أن معرفة الإنسان بذاته هي من قبيل المعرفة الحضورية والشهودية.
و قد أشار الإمام الخميني "قدس سره" في رسالته إلى الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف إلى الهوية العقلانية لبعض المفاهيم والعلوم البشرية، كما أشار إلى هذين البرهانين في معرض تشخيصه لمناطق الفراغ في الفكر والثقافة الغربية.
ويثبت الخواجة نصير الدين الطوسي في شرح الإشارات أن أيّ إدراك حصولي سواء أكان حسياً أو عقلياً يعتمد على المعرفة الشهودية والحضورية، مثلما يعتمد أيّ إدراك حسي على إدراك عقلي، ويترتب على ذلك أن أي معرفة مفهومية عقلية دليل على وجود معرفة شهودية، مثلما يعدّ الاعتماد على المعرفة الحسية مساوٍ لقبول المعرفة العقلية.
ورغم أن استدلال الطوسي لا يرقى إلى المراتب العليا للشهود والحضور، لكنه استدلال نافع، ذلك أنه حطّم المفهوم الضيق للمعارف البديهية والبرهانية، وأعاد العلوم إلى الواقع الحضوري والشهودي.
العلاقة بين الدين والاتجاه التنويري في الغرب
حينما ظهر الاتجاه التنويري في القرنين السابع والثامن عشر وحتى قبل ذلك لم يكن على صراع مكشوف مع الدين، بل شرع في تقديم تفسير جديد للعالم وقراءة جديدة للدين، مثال ذلك، أن هيجل فسّر الدين عقلياً، وبيّن مكانة العقل وتاريخ التكامل العقلي في الكون، كما سعى ديكارت إلى إثبات عدم مادية الله والنفس من خلال نظرته العقلانية، لهذا كلّه أقحم الاتجاه التنويري الذي لم يستطع أن يفسّر بعض أبعاد الدين أو لم يرغب في تفسيرها، أقحم تفسيره الخاص حيالها أو اعتبرها من جملة الخرافات. من هنا كان ظهور هذا الاتجاه في تاريخ الحضارة الغربية غير دالّ على ولوج نزاع علني مع الدين، إنما ولّد معه نوعاً من الدين الذي يواكب حركته وأفكاره.
ولم يبدأ الصراع الرئيسي بين الدين والاتجاه التنويري إلا حينما أفل هذا المنهج العقلي ليحلّ محلّه نوع من التفكير الحسي والتجريبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد بلغ الصراع ذروته في القرن التاسع عشر، حيث كان الدين يتراجع عن أحد حصونه كلما فتح العلم موقعاً جديداً ووطأ موطئاً متقدماً.
إن الدين – وبوصفه مجموعةً معرفيةً تستند على الحضور والشهود الإلهي، أو يشكلان العمود الفقري فيه – يتبنى عملية قيادة الإنسان وهدايته من العالم الفاني إلى السعادة الأزلية والأبدية، كما أن القضايا الدينية إما أن تكون بصدد التعريف بأسماء الله وصفاته ومراتب أفعاله في قالب من المفاهيم والألفاظ بعد الإدراك والشهود النبوي، واما أن تصبّ في إطار توجيه الإنسان وإرشاده في قالب من الواجبات والمحرمات الإلهية، وهذه القضايا إما أن تكون من نوع "الوجود" أو أن تكون من نوع "الوجوب".
وتنقسم قضايا "الوجود" بدورها إلى شطرين:
الأول: ما يتطرق منها إلى ما هو غير محسوس من قبيل صفات الذات والأفعال المجردة للباري عز وجل، والملائكة التي تصنف ضمن دائرة الغيبيات.
الثاني: ما يتطرق منها إلى الوجود المحسوس من قبيل تاريخ الأنبياء السابقين؛ وبإمكان الإنسان العادي الذي يتسم بالمعرفة الحسية أن يبحث إلى حدٍّ ما في سلامة هذا النوع من القضايا وسقمها، بينما تناقش قضايا الوجود غير المحسوس بالإدراك العقلي بقدر ما يستطيع هذا الإدراك أن يبرهن على ذلك. ولما كان العقل – ومع وعيه لأفقه المحدود – يثبت أصل العوالم الغيبية وكلياتها، وكذلك الوجود المعرفي الأرقى القادر على إدراك تفاصيل تلك العوالم، فإن المعرفة العقلية بل والمعرفة الحسية تواكب الدين وتقرّ – في إطار استيعابها – بصحة القضايا الدينية إجمالاً، تلك القضايا التي تشتمل أموراً تقع خارج حدود المعرفة الحسية والعقلية.
إن تلك المجموعة من القضايا الدينية التي تقترن بالاعتراف الإجمالي من جانب المعرفة العقلية إنما تشمل خصائص العوالم الغيبية وجزئياتها أو التعاليم القيمية التي تصدر بلحاظ البعد الملكوتي في السلوك الإنساني وآثاره الأخروية.
الدين إذن يبين القضايا التي تدور في أفق الفهم الحسي والعقلي فضلاً عن اشتماله على القضايا التي تخرج تفاصيل البحث فيها عن دائرة الإدراك الحسي والعقلي.
ولا تختلف المسيحية – بوصفها ديناً من الأديان – في احتوائها على التعاليم المذكورة، رغم أن الأناجيل الموجودة لم تسلم من تدخّل الفكر البشري فيها، فيما جاءت عقائد الكنيسة حصيلةً للنـزاعات والمجادلات التي انتهت إلى صياغة الدين المسيحي الرسمي، وهبّت الكنيسة للدفاع عمّا أملاه الفكر البشري تحت مُسمّى الدين، وبالنتيجة كانت ترى صحّة جميع التعاليم المنسوبة إليها وتضفي عليها القداسة، لتسري هذه الرؤية على القضايا التي تدخل في إطار المعرفة التي يمكن أن تخضع لحكم العقل والتجربة، ولهذا تأسّست في البداية فلسفة أخذت على عاتقها الدفاع العقلاني عن قضايا ما بعد الطبيعة والمسائل القيمية للكنيسة، لكن سرعان ما توصّل العقل إلى نتائج متناقضة مع المعتقدات الرسمية، مما أدّى إلى تجريم العقل والإساءة إليه، لتنطبق هذه الحالة فيما بعد على العلم التجريبي أيضاً.
إن معارضة العقل للكنيسة في أمور كالتثليث الذي يتباين مع الإطلاق اللامحدود لله الأحد هي بالتأكيد غير الخضوع الذي يبديه العقل – وبدعمٍ من البرهان – حيال الأبعاد الأسمى للمعرفة الدينية.
لقد كان لعجز الكنيسة عن تقديم تفسيرات عقلية لأفكار الشرك التي اتخذت لنفسها طابعاً رسمياً باسم الدين، تأثير على وضعها في موقع المعارض للعقل والعلم التجريبي، كما أعطى العقليين وخاصّة ذوي الاتجاه الحسي الجرأة للتعدّي على حرمة القضايا الدينية الأخرى. وقد أوجد نموّ هذا الاتجاه في الغرب مع ما حقّقه من إنجازات على صعيد العلوم التجريبية والطبيعية غروراً كاذباً لدى أنصاره، حتى تصوّروا أنهم قادرون – بهذه الطريقة – على معرفة جميع قوانين العالم؛ وعلى هذا الأساس بادروا لإرساء المذاهب العلمية التي زعمت أن لها الكلمة الفصل في كليات عالم الخلقة وحتى في القضايا القيمية، لتبلغ هذه المذاهب عصرها الذهبي في القرن التاسع عشر.
فقد أسّس "أغست كانت" المذهب الإنساني على أساس فلسفته العلمية، فيما لم يكتف ماركس في فلسفته العلمية بتدوين القوانين الكلية للطبيعة والمجتمع المعاصر، إنما أدلى برأيه في المجتمعات السالفة والقادمة، بل تناول قوانين الوجود منذ بدايته وحتى نهايته، ثم زعم أنه يطرح أيديولوجية علمية من خلال معالجته للقضايا القيمية.
تبنّى أقطاب الاتجاه التنويري – التجريبي في القرن التاسع عشر دور النبوة، فكان لهم الرأي في كل الأمور التي يتلقّاها الأنبياء؛ فباسم العلم أنكروا الله والموجودات المجردة أمثال الملائكة، وسخروا من الأحكام والتعاليم الدينية.
ووفقاً لما أسلفناه، يمكن القول: إن الاتجاه التنويري الغربي كان يتفرّج على صراع العلم والدين منذ عصر النهضة وحتى نهاية القرن التاسع عشر؛ أي أن العلم وبعد أن فقد هويته الدينية واتخذ له قناعاً عقلياً ثم تلبّس بلبوس الحسّ والتجربة، أخذ يخوض صراعاً مع الدين الذي يدعي معرفته بحقائق الوجود. وقد أدّى التدقيق في المعرفة الحسية والأزمات التي مرّت بها إلى أن يتجاوز الحسيون المزاعم التي أطلقوها في بداية الأمر، ويقرّوا بوجود أفق محدود للقضايا العلمية. وعُلِم من خلال دراسة خصائص العلوم الحسية أن:
أولاً: لا وجود لليقين والضرورة في القضايا العلمية.
ثانياً: إن العناصر المباشرة وغير المباشرة للقضايا العلمية تخضع كلّها للمشاهدة والتجربة، أي أنها تطرح في دائرة الوجود المحسوس.
أخرجت هاتان الخصوصيتان اليقين من دائرة العلم، وأدخلت العلم البشري في دوامة من السفسطة الخفيّة والتشكيك، فيما سحبتا مجموعتين من القضايا من دائرة العلم الحسي:
الأولى: القضايا القيمية التي لا تخضع لمعيار الاختبار.
الثانية: قضايا غير محسوسة لا يمكن إبطالها بالتجربة، وليس بوسع الإنسان الحسي أن يقف على صوابها وخطئها عبر منهجه الذي يعتمده في اختبار الأشياء.
ويحاول الحسيون – وفي إطار نظرية علمية – إرجاع المجموعة الثانية إلى القضايا القيمية، وبالتالي إلى الميول الذاتية، فيقال مثلاً: إن الفرد وحينما يستهويه سلوك خاص في المجتمع يضع له بعداً قيمياً من أجل العمل به، كما يسرد حوله بعض الحكايات للتشجيع على القيام به أو الارتداع عنه؛ فيأتي النهي عن السرقة – على سبيل المثال – عبر إثارة قضايا حول المعاد وعقاب السارقين مما يصدّقه المجتمع، لأنه في حاجة إلى الأمن الذي سيسلبه في حال انتشار السرقة في صفوفه. فالحكايات الدينية تساق – على عكس القصص العلمية التي تصاغ لمعرفة الحوادث المادية أو التنبؤ بها – للسيطرة على الميول الفردية والاجتماعية الخاصة، وبعبارة أخرى لحماية القيم المعنية.
لقد أدّى تفكيك العلم عن القيم وخروج القضايا الميتافيزيقية عن دائرة العلم إلى تخلّف هذا الأخير عن بناء الأيديولوجيا والأخلاق أو النهوض بمهمة تأسيس مذهب معين، وفقدت المذاهب العلمية المتعددة التي تبلورت في قبال الكنيسة في القرن التاسع عشر قيمتها العلمية فجأة؛ لتتنفس الكنيسة الصعداء وتصبح صاحبة اليد الطولى وبلا منافس في معظم القضايا الدينية، أي القضايا الميتافيزيقية والقيمية، فيما عانت من نقطة ضعف واحدة تمثلت في القضايا التي وردت في الكتاب المقدس حول الوجود المحسوس، كالفلكيات التي أصبحت عنصراً مشتركاً بين العلم والدين، ومن ثمّ ترشحت لكي تصبح موقع نزاع بين الطرفين.
نعم، لقد تنازل العلم في إطار تقييده بالدور التجريبي عن القضايا القيمية والميتافيزيقية، ليغضّ الدين بدوره طرفه عن المجموعة الثالثة من القضايا والتي تتعلّق بالموجودات المحسوسة، وينتهي بالتالي النـزاع بين العلم والدين، وقد نأت الكنيسة بنفسها عن الهجوم المباشر الذي كان يشنّ باسم العلم، وذلك حينما أعلن رجالها ومتكلّموها أن ما جاء من هذه القضايا في الكتاب المقدّس والنصوص الدينية لا يقصد منه الواقع الخارجي للموجودات الطبيعية إنما ينطوي على بعد رمزي ليس إلا، مرحبين بنظرية فصل العلم عن الدين والقيم.
مع ذلك يبقى السؤال التالي مطروحاً: هل أدّى التفكيك المذكور الناتج عن الإذعان بالهوية غير العلمية للقضايا الدينية، وتحديد القضايا العلمية التي تنطوي على قيمة معرفية كونيّة بالأمور التجريبية، إلى توفير الحصانة المطلوبة للدين والتعاليم الإلهية؟
الحقّ أن نظرية المفكرين الغربيين الداعية إلى فصل الدين عن العلم والقيم لا توفّر الحصانة للدين ولا تؤدّي إلى بقاء التعاليم الإلهية، ذلك أن هذه النظرية تدعو في أساسها إلى اقتلاع الحقيقة وأصل الدين قبل أي شيء آخر، لأن فصل الدين عن العلم بإرجاع القضايا الدينية وتأويلها إلى القضايا القيمية وإرجاع هذه الأخيرة وتفسيرها إلى الرغبات الشخصية أو أي ميدان آخر لا يقترب من الميدان العلمي، يسلب – وفي أول خطوة – القيم المعرفية الكونية من القضايا الدينية، ويضع لها مجرّد دور عملي في تأمين الميول الفردية والجماعية، بعبارة أخرى، يهبط بالإيمان الديني الذي يعتمد في أدنى درجاته على المعرفة البرهانية، أي علم اليقين، والمهيأ لتلقّي معارف في مستويات أعلى يطلق عليها عين اليقين وحقّ اليقين، يهبط به إلى دائرة الميول الفردية التي تفتقد لأية قواعد برهانية، وتعتمد فقط على العواطف والأحاسيس والرغبات الذاتية للأفراد؛ وعندئذ لن يبقى أي طريق لإثبات الأبعاد المعنوية والملكوتية والحقائق الغيبية للتعاليم الدينية.
نتائج التفسير "التنويري" للدين
إن النتيجة الرئيسية للخلط الذي حصل بين الأسس المعرفية للاتجاه التنويري والمبادئ الدينية هي أنه لم يبق أمام الفرد المؤمن بالدين من دليل للدفاع عما يعتقد به أمام الآخرين، إلا القول بأنه لا يوجد دليل على نفي الدين مثلما لا يوجد دليل على إثباته، كما أفضى هذا الخلط إلى أن يصبح الالتزام بالإيمان لا عن يقين أو سبيل يؤدي إلى هذا اليقين، إنما لمجرّد رغبة ذاتية.
ومعلوم أن العمل بالتعاليم الدينية سيؤول إلى الضعف والوهن لدى من لا يتوفر على اليقين إزاء مبادئ الدين وتعاليمه؛ فكيف يستطيع – مثلاً – أن يؤدّي واحدةً من الفرائض الدينية بنيّة القربة إلى الله تعالى من لا يقين له حيال المبدأ بوصفه قضيةً علميةً تحكي عن الواقع؟
إن فصل الدين عن العلم عبر حذف القاعدة المعرفية للدين أو إزالة الهوية المعرفية له من متناول الوعي الإنساني يؤدّي أوّل ما يؤدي إليه إلى سلب اليقين من الدين نفسه، ثم يمنع الفرد من العمل بالتعاليم الدينية أو يذرها خاليةً من الروح، فالمجتمع الذي يفقد يقينه حيال مبادئه الدينية والسماوية لن يبقى في يده من تعاليم ذلك الدين إلا جسد لا روح فيه، لأن اليقين هو روح هذه التعاليم، ومن يعمل بها عن يقين لا يعرض عنها أبداً، إنما يعتقد بأنه لن يصل إلى حقيقة هذه التعاليم وباطنها الملكوتي والإلهي إلا عبر التضحية بوجوده من أجل الإخلاص في العمل، فحينما يسلب اليقين من التعاليم فإن استمرار العمل بها من قبل الفرد أو المجتمع يصبح من قبيل الاعتياد على هذه الممارسة ليس إلا.
فليس اليقين البرهاني أو المعرفة الشهودية والحضورية هي الركيزة المعرفية للسلوك الذي يستمرّ العمل به وممارسته على أساس العادة الاجتماعية، إنما المعرفة الحسية التي تُكتسب عبر التعامل مع ظاهر العمل الذي يولّد تكراره نوعاً من الميل العاطفي هو بالتأكيد غير الإيمان الديني.
وعليه، تفتقر الشعائر الدينية التي تمارس على أساس هذا الميل العاطفي والعادة الفردية والتقاليد الاجتماعية.. تفتقر إلى القاعدة الرصينة التي تكرّسها وتحرسها بالقداسة الإلهية.
هذا، ولم تكتف نظرية فصل العلم عن الدين والقيم بإلغاء البعد الثابت والإلهي في الدين والتعاليم الدينية الذي يعتبر بمثابة سلب الروح عن الدين وذبح الشريعة، بل عملت على عزل الدين عن دائرة العلم ليعود هذا الأخير من جديد إلى الدين من أجل تشريح جثته الهامدة، دون أن يحقّ له الدفاع عن نفسه، لأنه متهم باحتوائه على قضايا لا معنى لها من الزاوية العلمية؛ وفي المقابل يدّعي العلم لنفسه الحقّ في تحليل ودراسة المظاهر المادية والمحسوسة في الدين، ليقدّم نظرياته المختلفة ليس حول كون القضايا الدينية حقّ أم باطل، بل عن كيفية ظهورها وعن رمز الوجود، فيبدأ بتشريح هذه الجثة التي تلبي الحالات والأحاسيس الفردية، ليطرح النظريات النفسية والاجتماعية المختلفة، فيعزو سبب ظهور الدين والتعاليم الدينية إلى الخوف تارةً، وإلى الجهل أخرى، وإلى الحاجة الاجتماعية تارة ثالثة.
ولا شكّ أن هذه التحليلات النفسية – أو ما تسمّى بالعلمية – للدين يمكن أن تضع العواطف والأحاسيس الدينية التي تتسم بالثبات النسبي وهي تدور داخل دائرة التقليد بعيداً عن علمية التعاليم الدينية، تضعها في مهبّ الريح وتجعلها ضعيفة وربما تقضي عليها تماماً.
أوّل من تنبّه إلى الدور التخريبي لهذه النظرية على المعتقدات الدينية للأمم هو عالم الاجتماع الإيطالي "ويلفر دوبارتو"، فرغم أنه اعتقد بفصل العلم عن القيم والدين، أطلق صفة الحماقة على علم القرن التاسع عشر الذي ادّعى تدوين الأخلاق العلمية، وبعد أن طرح موضوع الفصل بين القضايا القيمية والدينية عن دائرة القضايا العلمية، أقرّ بأن نشر هذه النظرية بين الناس من شأنه أن يؤدي إلى ضعف العقائد الدينية والقضاء على السنن الاجتماعية، وبالنتيجة إلى انهيار النظام الاجتماعي، ذلك أن الفرد لا يستطيع حفظ اعتقاده وإيمانه الديني متى ما اعتقد بأن القضايا الدينية تفتقد للقيمة المعرفية الكونية، ومن ثمّ ليس لها أي اعتبار علمي، وأنها ليست قضايا حقيقة، وإنما تكوّنت لإشباع الأحاسيس والميول الفردية ومشتقاتها وذيولها الذهنية والاجتماعية.
إنّ العلاقة بين العلم والدين تكشف عن حقيقة مفادها: أن الفصل بين هذين الاثنين ما هو إلاّ وهم، وأن الدين في أصله وحقيقته يتوفر على هوية علمية، ولا نقصد من ذلك مجرّد ارتباطه بدائرة الوعي البشري في معناها الأعم التي تشمل الصور الذهنية والخيالية، إنما المعرفة التي تتولّى كشف الحقيقة وظهورها في مراتب الوجود المختلفة لهداية البشرية. من هنا لا يمكن للدين في أصله وحقيقته أن يغضّ النظر عن القضايا التي يتصورها الحسّيون علماً، وأن الإقرار بفصل الدين عن العلم الناتج عن الإقرار بالسفسطة والتشكيك إزاء القضايا ما وراء الطبيعية والأخلاقية، يؤدّي إلى حذف الأبعاد المعنوية والروحانية للدين، كما يفضي إلى إنكار حقيقة الدين أو التشكيك فيه، وهيمنة العلم على الجوانب المادية والظواهر المحسوسة للسنن الدينية.
وحينما يقصى البعد المعنوي والإلهي عن الدين والتعاليم الدينية فإنها تتخذ شكل العادة والتقليد الاجتماعي، لأن هذه التعاليم تعتمد على الإيمان اليقيني وعلى المعرفة الشهودية أو البرهانية، بينما تستند العادة على المعرفة الحسية والعاطفية وتنتج عن الممارسة المستمرّة سواء كانت هذه الممارسة تقليداً طوعيّاً أو إجبارياً.
ولا يستطيع الفرد سوى أن يرتبط حسّياً وعاطفياً بالتعاليم الدينية حينما يدور في خلده أن هذه التعاليم غير حقيقية ويقطع ارتباطه بها شهودياً، ويسلب عن أبعادها الملكوتية معرفتها البرهانية؛ أي أنه لا يشاهد إلاّ قشور هذه التعاليم وبُعدها السطحي. عندئذ لا يبقى من التعاليم في المجتمع إلاّ ما جرت العادة على ممارسته والالتزام به، وهو معرّض بالتالي للتبدل والتغيير، لأن العادة تتخلّلها الأحاسيس والميول الفردية.