كانت إحدى أمنيات السيد الصدر ـ كما يقول تلميذه السيد كاظم الحائري ـ أن تسنح له الفرصة للقيام بدراسة مقارنة ـ على مستوى فقه العقود والمعاملات ـ بين الإسلام والفقه الوضعي الغربي، ولكنّ بعض الظروف حالت دون أن يكون هذا درسَه الرئيس؛ فاغتنم العطلة الدراسية في شهر رمضان المبارك عام 1387هـ، وألقى عشر محاضرات حول مسألة الحقّ والحكم والملك، بدأت في الثاني من شهر رمضان، لتنتهي في السابع عشر منه، مخصّصاً المحاضرات الثلاث الأخيرة للمقارنة بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي، وقد قرّر هذه الدروس ـ بنصّها الحرفي ـ السيد عبدالغني الأردبيلي S، أحد خلّص طلاب السيد الشهيد، وقد قدّم لمجلّة >الاجتهاد والتجديد< ـ مشكوراً ـ هذه الدراسة التي تُنشر للمرّة الأولى >مركزُ الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر< في مدينة قم الإيرانية، وقد قام الشيخ حيدر حبّ الله بتحقيق وتصحيح هذه المحاضرات العلميّة؛ عبر تقويم نصّها، واستخراج مصادرها، وعنونة موضوعاتها، وتحويل صيغتها من محاضرات إلى نصّ مدوّن، كما يراه القارئ هنا، واعدين القارئ بنشر سلسلةٍٍ من بحوث السيد الصدر لم يسبق نشرها من قبل، آسفين لتأخّر نشرها إلى اليوم، بعد عقدين ونصف على استشهاده S (التحرير).
5 ـ أيلولة مفهوم البيع للغرامة والضمان
الافتراض الخامس: التملّك بسبب الغرامة والضمان؛ بأن يفرض أنّ للشخص مالاً مملوكاً، وهذا المال يضمنه شخصٌ آخر بسببٍ من أسباب الضمان باليد أو الإتلاف أو نحو ذلك من أسباب الإتلاف، فلا محالة لا بدّ له من التعويض عنه بقانون ضمان الغرامة، بمعنى أنه تشتغل ذمّته بالبدل المناسب له، وفي مقام التفريع يطبّق هذا البدل على مصداقه الخارجي فيملّكه لهذا الشخص، فهذا الشخص يتملّك مالاً جديداً لا بملاك المعاوضة، ولا بملاك الإرث، ولا بملاك كونه ثمرة مالٍ سابق؛ فذلك كلّه غير موجود، وإنّما تحصل الملكيّة بملاك ضمان الغرامة والتدارك وجبر الخسارة ونحو ذلك من العناوين المركوزة في الذهن العقلائي.
وحقيقة هذا الضمان وتفصيل البحث فيه يحتاج إلى مجال آخر مستقلّ، لكنّنا نقول ـ بنحو الإجمال ـ : إنّ هذا البدل الذي يدفع في المقام من الممكن أن يقال: إنه حفظٌ لبعض مراتب المال التالف، بمعنى أنّ المال التالف كان مملوكاً لهذا الشخص بخصوصية، ثمّ بعد أن تلفت الخصوصية أصبح الغاصب ملتزماً بدفع المراتب الأخرى المتبقّية منه، ودفع البدل ـ بحسب الحقيقة ـ عبارة عن دفع تلك المراتب الأخرى التي لا يمكن دفعها بعد تلف شخص العين، وإذا تمّت هذه العناية، كان ذلك وكأنّه تسليم للمال التالف نفسه، غاية الأمر لا بتمام خصوصياته، بل ببعض مراتبه التي يمكن تسليمها، وشرح هذه العناية وتوضيحها خارج عن عهدة هذه المقدّمة، وعسى أن يكون له مجال في بعض المقدّمات الآتية لتوضيح هذه النقطة.
وهذا الضمان، كما يتصوّر بلحاظ الأموال، كذلك يتصوّر بلحاظ الأعمال؛ وذلك بأنّ يفرض مالٌ مملوك لشخص، يقع سبب الضمان بالنسبة إليه من ناحية شخص آخر، فيضمنه فتشتغل ذمّته حينئذ بمِثله أو قيمته؛ فلا بدّ له من دفع الغرامة بحسب الخارج، وكما يتصوّر هذا في المال كذلك يتصوّر في الأعمال؛ فإنّ العمل أيضاً يضمن بأسبابه التي منها الاستيفاء؛ إذ من استوفى عمل غيره كان ضامناً له، فالاستيفاء هنا كاليد في باب الأموال.
وتفصيل ذلك:
أ ـ أمّا في ضمان الأموال، فتارة يحدّد المضمون به خارجاً، وأخرى لا يحدّد كذلك، فإن فرض أنه لم يحدّد في الخارج، يُرجع إلى قواعده الأوّلية من حيث اشتغال الذمّة بالبدل الواقعي لهذا المال، وإذا فرض أنه اتّفق الطرفان على التصرّف في هذا المال على وجه الضمان مع تشخيص ما به الضمان خارجاً، فيتحدّد حينئذ ما به الضمان كذلك.
ومن هذا القبيل موارد المقبوض بالعقد الفاسد؛ فإنّ تلك الموارد المقابلة وإن كانت فاسدةً إلاّ أنّ المتفاهم عرفاً أنّ البائع لا يطلب ضماناً لهذا المال زائداً على المقدار المسمّى بالمعاملة، فلو فرض أنّ البدل الواقعي كان أزيد من المسمّى في المعاملة فلا يستحقّ مقدار الفرق بين البدل الواقعي والمسمّى، على تفصيلٍ أيضاً لا مجال له فعلاً.
ب ـ أمّا في ضمان الأعمال، فالعمل ـ كما قلنا ـ يضمن بالاستيفاء، وحينئذ:
1 ـ تارةً يفرض العامل مالكاً لعمله المستوفي أو يأذن للمستوفي باستيفاء عمله مجاناً بلا ضمان، من قبيل أن يفرض أنّ المالك يسلّط غيره على العين الخارجية مجّاناً وبلا ضمان، فهنا يسقط الضمان بلا إشكال.
2 ـ وأخرى يُفرض أنّ هذا الشخص يملّك عمله الخارجي لشخصٍ آخر للمستوفي، أو يأذن بالتصرّف فيه على وجه الضمان، فيشبه القرض حيث إنّ العين الخارجية في القرض تكون على وجه الضمان، فيملك المستوفي حينئذ هذا العمل، أو يكون مأذوناً باستيفائه، لكن على وجه الضمان؛ فتشتغل ذمّته حينئذ بقيمة هذا العمل وبماليّته.
هذا فيما إذا فرض أنه لم يعيّن ما به الضمان، وأمّا إذا فرض أنه بيّن ما به الضمان، بحيث إنّ العامل ملّك أو أذن للآخر في استيفاء عمله معيّناً الضمان في المقام، فيتعيّن الضمان في ذلك الشيء المعيّن، والمختار أنه بحسب الارتكاز العقلائي يدخل في هذا المضاربة والمساقاة والمزارعة والجعالة، ففي هذه العقود كلّها يكون عمل العامل مضموناً على المالك، غاية الأمر يعيّن الضمان ـ خارجاً ـ بالجعل أو بحصّة من الربح، أو بحصّة من الحاصل الزراعي، وهكذا، فحصّة العامل الثابتة في هذه العقود: المزارعة والمضاربة والمساقاة والجعالة، ثابتةٌ بقانون الضمان، بحيث لو لم يكن هناك مضاربة ومساقاة ومزارعة تعيّنت أجرة المثل، فهذه العقود تحوّل أجرة المثل إلى المقدار المقرّر المتّفق عليه ما بين المالك والعامل، وعليه فهنا ضمان بمعيّن مثل المعاطاة، ففي المعاطاة غير البيعية يقع الضمان بعين خارجية معيّنة، والعمل ـ من هذه الناحية ـ من سنخ الأعيان الخارجية، إذ العمل تارة يملّك أو يؤذن به مجاناً فيكون الضمان ساقطاً لا محالة، وأخرى يملّك أو يؤذن به على وجه الضمان على الإطلاق، وثالثة يؤذن به على وجه الضمان في مقابل شيء معيّن متّفق عليه، وفي تمام هذه الموارد يملك العامل مقداراً من المال بعنوان الضمان والتعويض والخسارة الناتجة عن إنفاق عمله على غيره،
هذا تمام الكلام في الأسباب الثانوية التي تتفرّع على الحيازة في المقام، وبهذا استطعنا أن نستحضر في أذهاننا صورةً عن السلطنات الثابتة للإنسان بتسلسلها الأعمّ من الواقعي وغيره، والتي يمكن إرجاعها ـ كلاً أو جلاً ـ إلى التملّك بالحيازة.
مقولة الذمّة، تحليل عقلائي
بعد أن عرفنا أنّ الإنسان يصلح لأن يتملّك الأعمال والأموال الخارجية، فقد تدعوه الحاجة إلى فرض ملكيّةٍ من دون حضور نفس المملوك بوجوده الخارجي الحقيقي، أي دون أن تسلّط هذه الملكية على نفس المملوك بهذا الوجود له، إمّا لأنّ المملوك بوجوده الخارجي غير متحقّق أصلاً، كمن لا يملك حنطته ـ خارجاً ـ ومع ذلك يريد أن يملك عليها حنطة، أو نقداً، إمّا بالمعاوضة أو بغيرها من الأسباب الأخرى، وإمّا أن يفرض أنه يملك بحسب الخارج حنطةً ونقداً وأموالاً كثيرة، لكن مع هذا يراد أن يملك عليه حنطة أو نقد دون أن يمسّ ذلك حرّيته بالنسبة إلى أمواله الخارجية، بحيث يبقى مطلق العنان في أمواله هذه، يأمر وينهى ويتصرّف، فكيف يتوصّل إلى ذلك؟
إنّه يقوم باستحداث رمز ومعنى حرفي يشير إلى تلك الموجودات الخارجية، ويجعل ذلك المعنى الرمزي أو الحرفي هو المصبّ للملكية، وهذا المعنى الرمزي أو الحرفي الذي سيحدث ويكون مصبّ الملكية ومركزها، عبارة عن المال بوجوده الاعتباري، فبدلاً من أن نملّك هذا الشخص منّاً خارجياً من الحنطة، فيقع إشكال عدم ملكيّة الآخر للحنطة، أو رغبته في أن يظلّ مطلق العنان في الحنطة التي عنده، بدلاً من ذلك نملّكه منّاً اعتبارياً من الحنطة، يملكه بوجوده الاعتباري الرمزي، لا بوجوده الخارجي الحقيقي؛ وبهذا نكون قد تمكّنا من تعقّل ملكية منٍّ من الحنطة على زيد، بالرغم من أنّ زيداً لا يملك منّاً منها في الخارج، أو بالرغم من أنّه وإن كان يملك لكنّه يريد أن يبقى مطلق العنان بالنسبة إلى أمواله الخارجية، وأن لا تكون هذه الأموال مشتغلةً مدينةً بحقّ من حقوق الآخرين.
وحيث أريد من هذا المال الاعتباري الملحوظ بما هو معنى رمزي وحرفي مشير إلى الخارج، كان المراد من المالكية فيه الملك على شخصٍ بعينه، لا الملك المعلّق بين الأرض والسماء، أي أنّ هذا الملك يُضاف إلى شخصٍ يتملّكه، إذ لو لم يضف كذلك فلن يكون هناك معنى لأن يملك؛ إذ لا يكون حينئذٍ مستحقّ المطالبة من شخصٍ بعينه، فهذا العنوان الكلّي لا يكون مالاً بحسب النظر العقلائي وجديراً بالملكية وتعلّق حقّ الآخرين به ما لم يُضف إلى شخص، وإلاّ فما دام معلّقاً بين الأرض والسماء لا تصبّ عليه الملكية بحسب الارتكاز العقلائي، وهذا الشخص هو الذي نريد أن نملِكَ عليه منّاً من الحنطة، ألا وهو المديون، فنضيف هذا المنّ من الحنطة إليه.
أمّا كيف تحصل هذه الإضافة وكيف نعبّر عنها؟
قد يُقال: منّ من الحنطة التي يملكها هذا الشخص، لكنّ هذا خلف؛ لأنه حينما نقول ذلك نكون قد رجعنا إلى ما يملكه خارجاً، والمفروض أنّنا لا نريد أن نصبّ ملكيّتنا على ما يملكه بحسب الخارج، فلا بدّ وأن نستحدث وعاءً داخلياً في ذات هذا الشخص لسلطةٍ وهمية اعتبارية خارج وعائه الخارجي، الذي فيه أوزان من الحنطة، فيكون مصبّ الملكية الحنطة الموجودة في ذلك الوعاء الخاصّ الملتصق بذات زيد، وإنّما فرضناه ملتصقاً به؛ لكي يكون هو المملوك عليه، لا أن يكون المملوك عليه شخص آخر، فلا بدّ وأن يمسّ هذا الوعاء شخصيّته ويخصّ وجوده، حتّى يكون الملك ملكاً عليه.
من هنا، استحدث الارتكاز العقلائي الوعاء الاعتباري الذي صاغته صناعة الفقه الإسلامي في مصطلح «الذمّة»، وهذا المصطلح أريد به أن يقنّن هذا الارتكاز العقلائي وجود وعاء اعتباري ملصق بشخص الإنسان، يكون صالحاً لتعلّق الملكية بأشياء وهميّة في داخله، وهكذا تحدث الذمّة لإيجاد هذه الأموال الاعتبارية فيها؛ كي تُسْقَط هذه الملكية على هذه الأموال الاعتبارية، وحيث كانت الذمّة وعاءً اعتباريّاً ملصقاً بشخصية الإنسان، بل جزءاً منها حسب الارتكاز العقلائي، شملت سيطرة الإنسان على نفسه، فتلك السلطنة التي كانت ثابتةً للإنسان على نفسه وقواه وشؤونه التكوينية سابقاً تنسحب وتسري إلى هذا الشأن الاعتباري، وبهذا يكون الإنسان مسلّطاً على ذمّته، على حدّ سلطنته على نفسه التي تحّدثنا عنها سابقاً، بمعنى أنه أولى من غيره بالتصرّف في ذمّته، أو أولى منهم بالاستمتاع بها والاستفادة منها، وهذا هو معنى كونه مسلّطاً عليها، ومالكاً لها.
وعليه، فسلطنة الإنسان على ذمّته من مظاهر سلطنته على نفسه، بمعنى رجوع السلطنة على الذمّة إلى السلطنة على الذات وقواها؛ فيكون أولى من غيره بالاستفادة من هذا الوعاء الاعتباري، كما كان أولى منهم في الاستفادة بنفسه أو قواه الخارجية.
نعم، يمكن للقانون النافذ أن يجعل أشياءً في هذه الذمّة رغماً عن صاحبها، فيجعله مشغول الذمّة إذا أتلف مال الغير، ويقول له: إذا أتلفت مال غيرك تشتغل ذمّتك، أو يجعله مشغول الذمّة على زوجته مثلاً وهكذا، أمّا مع قطع النظر عن القانون النافذ فيكون الإنسان نفسه هو المسلّط على هذه الذمّة، وأولى من غيره بها.
وبهذا الترتيب الذي شرحنا به الذمّة، يتبيّن الفرق بينها وبين العهدة؛ فالعهدة ـ كما أشرنا إليها فيما سبق ـ تشترك مع الذمّة في كونهما وعاءين اعتباريين، إلاّ أنهما يختلفان في طبيعة وظيفتهما الفقهيّة ودورهما ومضمونهما الاعتباري.
إنّني لم أجد فقهاً ميّز ما بين الذمّة والعهدة غير الفقه الجعفري، وهذا التمييز من ألطف التمييزات التي وجدتها في الفقه الجعفري، إلاّ أنّه لم يكتسب صيغةً دقيقة على أيدي فقهاء الجعفرية، ولعلّ من أشهر الصيغ التي قيلت في مقام التمييز بين الذمّة والعهدة ما ذكره المحقّق النائيني، من أنّ العهدة وعاءُ الأعيان الخارجية، فيما الذمّة وعاء الأموال الكلّية([1])، وقد أخذ ذلك من ارتكاز باب الضمان؛ حيث يقال للغاصب هناك حينما يغصب الكتاب وقبل أن يتلفه: إنّ هذا الكتاب في عهدتك، أمّا بعد إتلافه له، فيقال له: إنّ قيمته في ذمّته، وللتمييز ما بين التعبيرين، قال الميرزا النائيني بأنّ العين قبل أن تتلف تكون عيناً خارجية وشخصية، فيعبّر عنها بأنها في العهدة، إذاً فالعهدة طرفٌ للعين، أمّا بعد التلف فينتقل المال من العين الخارجية إلى الأمر الكلّي، وهذا الأمر الكلّي يعبّر عنه بالذمّة، إذاً فالذمّة وعاء الكلّيات، فيما العهدة وعاء الشخصيّات، وأظنّ أنّ هذا التعبير هو الذي نقل ذهن الميرزا النائيني إلى مثل هذه الصيغة في التفرقة بين الذمّة والعهدة.
إلاّ أنّ ما أفيد من أنّ الذمّة وعاء الكليّات لا الأعيان الشخصية، وإن كان صحيحاً ولطيفاً، إلاّ أنه ليس لأجل أنّ العهدة وعاء الأعيان الشخصية، والذمّة وعاء الأمور الكلّية، بل لأنّ الذمّة حيث كانت وعاء الأموال بالمعنى الحرفي، تلك الأموال التي نريد أن نصبّ عليها الملكية بهذا المعنى المشير إلى الخارج، وكانت هذه العين الخارجية عيناً خارجية قائمة بالفعل، إذاً فالملك منصبّ عليها بالمعنى الإسمي، ولا تحتاج حينئذ ملكيّةُ العين الخارجية إلى استحداث رمز يدخل في وعاء الذمّة، ثمّ تنصبّ عليه هذه الملكية، فإذا جاءت الحقيقة بطل الرمز؛ فمادامت الملكية قد وجدت مجالاً لأن تنصبّ على المعنى الاسمي، فلا موجب ـ بحسب الارتكاز العقلائي ـ لاستحداث رمز ومعنى حرفي لهذا المعنى الاسمي، وصبّ الملكية على ذلك المعنى الحرفي في وعاء الذمّة استطراقاً إلى ملكية العين، فإنّه تحصيلٌ للحاصل، بالعناية والتعبّد، ولهذا انعقد الارتكاز العقلائي على أنّ الذمّة ليست وعاءً للعين الخارجية، على أساس أنّها وعاءٌ رمزي للمعاني الرمزية، وعاءٌ نحتاجه حينما تعوزنا الحقيقة ونريد أن نصبّ الملكية عليها، ولا تكون موجودةً، فنستحدث رمزاً نصبّ الملكية عليه بما هو معنى حرفي، أمّا حيث تكون الحقيقة قائمة ويكون انصباب الملكية على نفس الموجود الخارجي ممكناً فلا وجه ـ بعد هذا ـ لإدخال العين إلى عالم الذمّة، وتحويلها من خارج إلى رمز، ومن معنى اسمي إلى معنى حرفي، وصبّ الملكية عليها، فالذمّة ـ بناءً على هذا ـ إنّما لا تدخلها العين الخارجية لهذا السبب، لا للتقارب القائم بين عنوان العين الخارجية وعنوان العين الكلّية.
أمّا الفرق الحقيقي بين الذمّة والعهدة، فهو ما أشرنا إليه واتّضح من خلال الكلام، وهو أنّ الذمّة وعاءٌ لأموال وهمية تتعلّق بها الملكية، أمّا العهدة فهي وعاء لمسؤوليات والتزامات، والفرق ما بينهما على حدّ الفرق ما بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، فالذمّة وعاء لمصبّ الحكم الوضعي، أي المال الوهمي الاعتباري الذي تعلّقت به الملكية التي هي حكم وضعي، والعهدة وعاء لالتزامات وتحميلات تكليفية ومسؤوليات قد يوقعها الإنسان على نفسه، وقد يوقعها القانون عليه، فلزوم الإنفاق على الزوجة من شؤون العهدة، واشتغال الذمّة بالنفقة من شؤون الذمّة، وهكذا، فدائماً الذمّة وعاء الأموال المملوكة، والعهدة وعاء الالتزامات المحمّلة، إمّا من قبله، أو من قبل قانونٍ نافذ عليه.
والعبارة التي لعلّها صارت سبباً لانتباه الميرزا النائيني، هي ما يقوله فقهاؤنا، من أنّ العين في عهدة الغاصب، فإذا تلفت كانت قيمتها في ذمّته، فتغييرهم للعبارة لم يكن من باب تحول الجزئي إلى الكلّي، بل حصول تحوّل من الحكم التكليفي إلى الحكم الوضعي؛ إذ مادامت العين موجودةً كان هذا الشخص مسؤولاً عن إرجاعها، وهي مسؤوليةٌ ظرفها العهدة ووعاؤها؛ لأنّ العهدة وعاء المسؤوليات، ولهذا يقول فقهاؤنا: يكون في عهدته، أمّا إذا تلفت العين فيتولّد شغل الذمّة، ويصبح مديناً في المقام بقيمته؛ لأنّ العهدة هنا لا تكفي؛ إذ أين مملوك هذا المالك؟! والعهدة إنّما هي عهدة إيصال المال إليه، فأين ماله وقد تلف المال الخارجي؟! إذاً فلابدّ من أنّ نفرض له مالاً، وليس إلا ذاك الفرض الذي يكون في وعاء الذمّة حيث هو وعاء الأموال، فنفرض للغاصب مالاً فيها، ونقول: إنّ في ذمّته مالاً، وهو ما لا ينافي بقاء العهدة، لكنّها عهدة المال الكلّي لا المال الشخصي، أي أنّه بعد أن تلفت العين اشتغلت الذمّة بالمال الكلّي، والعهدة بمسؤولية دفع هذا المال الكلّي، فأصبح عنده الآن عهدةٌ وذمّة.
النسبة بين الذمّة والعهدة
هذا هو الفرق بين مصطلحي: الذمّة والعهدة، والنسبة بينهما ـ وفق استقراء الفقه الإسلامي ـ هي العموم من وجه؛ فقد تثبت عهدةٌ وذمّة، وقد تثبت عهدةٌ ولا ذمّة، وقد تثبت ذمّةٌ ولا عهدة.
1 ـ أمّا موارد اجتماع العهدة والذمّة، فهذا هو الغالب.
2 ـ وأمّا موارد انفكاك العهدة عن الذمّة، بمعنى وجود عهدة وعدم وجود ذمّة، فلها مصاديق كثيرة في الفقه، منها:
أ ـ الغاصب قبل تلف العين المغصوبة، حيث العهدة موجودة دون الذمّة؛ لأنه مكلّف ومسؤول عن إيصال المال إلى صاحبه.
ب ـ ومنها فيما إذا فرض أنه توارد على الكتاب الواحد المغصوب أيادي متعدّدة، وتلف في يد الأخير، وقلنا: إنّ تكليف الأخير تكليفٌ وضعي وتكليف مَنْ قَبْلَه تكليفٌ صرف، كما اختار ذلك صاحب الجواهر([2])، فحينئذ بناءً على هذا، تكون العهدة ثابتةً من قبل الأخير بالنسبة إليه، أمّا الذمّة فلا ثبوت لها بالنسبة إليه؛ ولذا يجب عليه دفع الكتاب إلى صاحبه ثمّ يرجع إلى ما قبل الأخير بقيمته.
ج ـ ما لو فرض أنّ شخصاً ضمن دين الغير، وقلنا في الضمان بمذهبٍ لا يقول به أكثر فقهائنا، فإنّ أكثر فقهائنا يقولون بأنّ الضمان نقل الدين من ذمّةٍ إلى ذمّة([3])، وأكثر فقهاء أهل السنّة يقولون بأنّه ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّة([4])، وبعض الفقهاء يقولون([5]) بأنّ الضمان ليس هذا ولا ذاك، إنّما هو نقل المسؤولية، أي التعهّد، بمعنى بقاء المديون الأوّل على حاله، مع تعهّد، وهنا، إذا قلنا: إنّ الضمان عبارة عن التعهّد، وعن المشاركة بالمسؤولية، أو نقل المسؤولية، فحينئذ تكون عهدة هذا الضامن في المقام ثابتةً بالنسبة إليه، أمّا الذمّة فغير موجودة بالنسبة إليه.
د ـ من يبيع عيناً خارجية بعوض، فإنّ هذا ليس مديوناً، إلا أنّ في عُهدته تسليم هذا المال إلى المشتري، فهو مسؤول عن ذلك، إمّا مسؤولية قانونية، إذا قلنا: إنّ تسليم المبيع أحد الأمور الواجبة في نفسه قانونياً بحيث يكون ذلك من شؤون المعاملة، أو عبر الشرط الضمني في المعاملة، فهو ـ على أية حال ـ يحمل في عهدته تسليم المبيع لكنّه لا يُسمّى ديناً.
هـ ـ نفقة الأقارب غير الزوجة، تكون عهدة وليست ذمّة؛ لأنّ ذمّته لا تشتغل، لكنّه مسؤول مسؤوليةً قانونية عن ذلك.
3 ـ أمّا موارد انفكاك الذمّة عن العهدة، فكما لو فرض أنّ ذمّة زيد كانت مشغولةً لشخص، ثمّ أصبح كافراً حربياً، فهذا الكافر يسقط احترام ماله، وهو سقوط عهدته، لكن ذمّته تبقى ثابتةً بالنسبة إلى زيد.
مقولة الذمّة في الفقه الغربي
يختلف تصوّر الذمة في الفقه الغربي عنه في فقهنا الإسلامي، وهو اختلاف مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالاختلاف في تصوّر مفهوم الدَّين نفسه؛ حيث نتصوّر نحن الذمةَ وعاءً للدَّين، وهنا يجب البدء برأس الخيط، وتمييز تصوّرنا للدَّين عن تصوّر الفقه الغربي، أو بالأحرى: الفقه الروماني، الذي ورث عنه الفقه الغربي تصوّراته الأساسية ومقولاته الكلّية.
الدَّين في الفقه الإسلامي ـ بحسب ما يعزّزه من ارتكاز معاش، وأساليب تعبير عنه وردت في تمام النصوص الدينية المنقولة عن سيد المرسلين$، وعن الأئمة E ـ عبارة عن مالكية مالٍ ملحوظٍ بنحو المعنى الحرفي، وهذا المال حيث كان ملحوظاً بالمعنى الحرفي لا الاسمي، كان محتاجاً إلى سند يشدّ إليه ويربط به، وهذا السند هو المدين، والشدّ يكون بلحاظ وعاءٍ هو وعاء الذمّة، فالدَّين يرجع إلى ملكية مالٍ، إلاّ أنّ هذا المال مالٌ بنحو المعنى الحرفي؛ من هنا لم تكن الملكية في الفقه الإسلامي مقصورةً على خصوص الأعيان الخارجية ولم تكن حقّاً عينياً محضاً، كما هي الحال في الفقه الغربي، فما يبدو من الباحثين المقارنين للفقه الغربي بالفقه الإسلامي من الاعتراف بأن الملكيّة في الفقه الإسلامي حقّ عيني، فهو من الملكية في الفقه الإسلامي كما في الفقه الغربي، خطأ ناتج عن عدم استيعاب مفهوم الدَّين في الفقه الإسلامي، وإلاّ فالملكية حقٌ، قد تكون متعلّقةً بعين خارجية، وقد تكون متعلقة بمالٍ ذمي، أي أنّها حقّ يتعلق إما بالمعنى الحرفي للمال، أو بالمعنى الاسمى له، وليست مخصوصةً بالأموال بوجودها الخارجي، هذا هو الدَّين في تصوّر الفقه الإسلامي.
أمّا الدين في مفهوم الفقه الغربي، فهو عبارة عن مجرد التزام من المدين بأن يدفع ديناراً مثلاً للدائن، وهذا الالتزام هو العلاقة التي بلحاظها ينتزع عنوان المديونية من الملتزم، وعنوان الدائنية من الملتزم له، دون أن يكون هناك ملكية ومالك ومملوك بالفعل، فهذا الالتزام يشبهه في فقهنا الإسلامي شرطُ التمليك فيما لو فرض أن شرط أحدها على الآخر في المعاملة أن يملّكه مالاً، بنحو شرط الفعل، لا بنحو شرط النتيجة، إلاّ أن هذا الالتزام عندهم يكفي لتصحيح عنوان الدائنية والمدينية؛ ولهذا يسمّون الدين هذا شخصياً، باعتبار كونه علاقةً قائمة ما بين الشخصين.
وهذا التصوّر للدين في الفقه الغربي، تترتّب عليه عدّة أمور:
الأمر الأوّل: استغناء الدين عن الوعاء الذي كان يحتاج إليه في الفقه الإسلامي؛ لأنّ الدَّين بمفهومه في الفقه الإسلامي عبارة عن مالٍ مملوك، وهذا المال المملوك ملحوظ بنحو المعنى الحرفي، وليس له وجودٌ في الخارج، إذاً فأين يوجد هذا المال المملوك؟ فإذا لم يكن له وجود خارجي فما معنى كونه مملوكاً؟
إنّ معنى ذلك أنّه مملوك استطراقاً إلى أن يتحوّل إلى موجود خارجي، وهذه الاستطراقية تجعله مشدوداً إلى شخص؛ لأجل أن يقوم ذلك الشخص بتحويله إلى ذلك المال الخارجي؛ من هنا تصوّرنا مملوكاً عليه، أي صار هذا المال مملوكاً على ذلك الشخص، وهو ما لا يتصوّر إلاّ بأن يكون هذا المال موجوداً في حيازة ذلك الشخص، حتى يكون مملوكاً عليه، وحيث لا حيازة خارجية فلا بد من فرض حيازةٍ اعتبارية، ملتصقة بذات الشخص عينه، فيكون هذا المال موجوداً في ذلك الوعاء الاعتباري، حتى يصحّ أن يقال: إننا ملكنا هذا المال.
أمّا إذا لم يكن عندنا باب اسمه: باب الملكية والمالكية والمملوكية، وإنما مجرّد التزام من قبل شخص بأن يملك وأن يدفع ديناراً إلى آخر، فلا نحتاج هنا إلى فرض وعاءٍ لهذا الدينار، بل هناك التزامٌ فحسب، ولهذا الالتزام وعاءٌ خارجي تكويني هو نفس الملتزم، فلا نحتاج إلى فرض وعاءٍ اعتباري، من هنا استغنى الفقه الغربي عن ذلك الوعاء الذي احتاج إليه الفقه الإسلامي.
الأمر الثاني: ومن جملة الآثار المترتبة على هذا الفرق في تصوّر الدين ما أشرنا إليه في بداية الحديث، من أنّ الدين ـ بحسب تصوّر الفقه الغربي ـ أصبح عبارةً عن علاقة بين الدائن والمدين؛ لأن هذه العلاقة جوهرُها عبارةٌ عن هذا الالتزام، أي الالتزام بأن يدفع ديناراً إلى شخص آخر، وهذا الالتزام كان يشدّ الدائن والمدين بحبل؛ ولهذا قلنا: إنّهم يعبّرون عن الدّين بالحقّ الشخصي؛ لأنه علاقة وسلطنة لشخص على آخر، بخلاف الملكية عندهم، فإنها علاقة قائمة بين الشخص والمال الخارجي، أي بينه وبين هذا الكتاب مثلاً، أو بينه وبين هذه الخشبة، أما في باب الدين، فحيث قالوا بأنّه منتزع عن مجرّد التزام شخص بأن يدفع مالاً إلى آخر، إذاً فهذا الالتزام علاقة تشدّ الملتزم بالملتزم به؛ فتكون شخصيةً، فتكون كالخيط الذي يطوّق به المدين، ويمسك به الدائن من الطرف الآخر، وحيث كانت المدينية والدائنيّة تستلزمان ـ بحسب الارتكاز العقلائي ـ شيئاً من المقهوريّة في هذا الطرف والقاهرية في الطرف الآخر، وحيث تصوّرنا الدين علاقةً قائمة بين الطرفين، ساعد هذا التسلسل في التصوّر الذهني على تصوّر الدائن ذا سلطنةٍ على المدين، وأنّ له نحو قاهريّة عليه، فكان الالتزام حبلاً يشدّ على رقبة المدين يمسكه الدائن بيده.
من هنا، كان الفقه الروماني الذي ورثه الفقه الغربي يرى أن للدائن حقّ التحكّم بالمدين على فرض تخلّف الأخير عن الوفاء، فكأنّه يبقى رهيناً له؛ لأن الدين علاقة بين الشخصين، مظهرها هنا المقهورية، ومظهرها هناك القاهرية، فيكون المدين مقهوراً، ومسلّطاً عليه، ويكون الدائن متسلّطاً، وقد تنتهي هذه القاهرية ـ كما انتهت في تشريعات الفقه الروماني الذي ورثه الفقه الغربي ـ إلى تجويز الاسترقاق، بل أحياناً إلى ما هو أشدّ من ذلك، وذلك كلّه من تبعات تصوير كون الدين علاقةً شخصية، تظهر في هذا الطرف بمظهر المقهورية وتظهر في الطرف الآخر بمظهر القاهرية.
ورغم انفتاح الفقه الغربي ـ وريث الفقه الروماني ـ على مفاهيم العدالة التي تأبى جعل المدين تحت رحمة الدائن بهذا الشكل، يتحكّم به كما يشاء ويسترقّه كما يشاء، إلا أنّ هذا الفقه لم يرفع يده عن التصوّر الأساس لمفهوم الدين، الموروث عن الفقه الروماني، فبقي يحافظ على كونه التزاماً، والالتزام يتحوّل إلى خيط وحبل، وهذا الحبل يشدّ المدين بالدائن، فهو حقٌ شخصي مظهره هناك المقهورية ومظهره هنا القاهرية.
لكن رغم ذلك، قام الفقه الغربي بممارسة تفكيك غريب، حيث فرّق بين خطّ المديون وخط المقهورية، فخطّ المديونية هو ذات الإنسان، أمّا خط المقهورية والمسؤولية فهو ماله لا ذاته، من هنا حيث تمّ التفريق بين اللازم والملزوم تحفّظ الفقه الغربي على جوهر العلاقة، لكنه لم يقبل الخلط بين المديونية والمقهورية، فالمديون هو ذات الإنسان، أمّا المقهور فهو الذي يقع تحت السيطرة والتحكّم، فليس هو المديون عينه وإنّما ماله، ففرّق ما بينهما بذلك.
أما بناءً على تصوّرات الفقه الإسلامي للدَّين، فهي أكثر راحةً ـ من بداياتها ـ من مثل هذه التصوّرات التي تؤدي إلى مثل هذه المضاعفات؛ وذلك أن الدين ـ بحسب الفقه الإسلامي ـ ليس علاقةً قائمةً وحبلاً ممدوداً بين الدائن والمدين، بل مالكيةُ الدائن لمالٍ ذمّي بالمعنى الحرفي، فالعلاقة والسلطة على تقديرهما إنّما هما سلطة لهذا الشخص على هذا المال بنحو المعنى الحرفي المعرّف والمشير إلى مالٍ خارجي لزيدٍ على وجه الإبهام، وعلى فرض أنّ زيداً هو المدين وعمرواً هو الدائن، فعمرو هنا ليس له سلطة على زيد، وليس له حبل مشدود برقبته، وإنما سيطرة على معنىً حرفي مشير إلى مالٍ خارجي لزيد على وجه الإبهام، نعم، حيث إنّ هذا المعنى الحرفي إنّما جعل وتصوّر لأجل أن ينتهي إلى معنى إسمي، ويتحوّل إليه، لا لأجل أن يبقى معنى حرفياً على الإطلاق، لذا تتحدّد مسؤولية المدين بمقدار تحويل المعنى الحرفي إلى الاسمي لا أكثر، فيتعهّد حينئذٍ بأن يحوّل هذا المعنى الحرفي إلى اسمي، فإن أمكن ذلك فهو، وإلا فنَظِرَةٌ إلى ميسرة، كما جاء في القرآن الكريم([6]).
وأظنّ أن تصوّر الفقه الغربي كان منسجماً مع طبيعة الوضع الاجتماعي الذي كان يغلب الدائن فيه على المدين، أي أنّ ذاك الوضع هو الذي خلق في ذهن الفقه الروماني هذا النوع من التصوّرات، والتي ورثها الفقه الغربي فيما بعد، وحينما تغيّرت الظروف الاجتماعية للفقه الغربي، وأراد التحرّر من ذلك النوع من الظلم، بقي محتفظاً بتلك التصوّرات، غاية الأمر أدخل عليها بعض التعديلات التي أشرنا إليها.
الأمر الثالث: إنّ الدين حيث كان عبارةً عن مجرّد التزام لشخص بأن يدفع ديناراً إلى آخر، استحال على الفقه الروماني تصوّر كيف ينتقل الدّين من شخص لآخر، ونقل الدين كذلك له معنيان: تارةً تبديل المدين، وأخرى تبديل الدائن، فتارةً نفرض أنّ مالاً يملكه زيد في ذمة عمرو، فنبدّل المدين فنجعل مكان عمرو خالداً، وأخرى نجعل مكان زيد ـ الدائن ـ حسيناً؛ إذاً تارة يكون التبديل تبديلاً في الدائن، وأخرى تبديلاً في المدين، وتبديل الدائن يسمّيه الفقه الغربي حوالة الحقّ، فيما يسمّي تبديل المدين حوالة الدين، إلا أنّ حوالة الحقّ وحوالة الدين قد أصبحتا من المستحيلات أمام الفقه الروماني؛ لأنّ الدين التزام عمرو لزيد بدينار، وهو أمرٌ قائم بطرفين: الملتزم والملتزم له، ولو بدل المدين نقول: التزام بكر لزيد لا التزام عمرو لزيد، وهذا فردٌ آخر من الالتزام، وكذا لو بدّلنا الدائن، نقول: الالتزام لعمرو لا لزيد، وهذا فردٌ آخر من الالتزام، إذاً ذاك الفرد من الدين غير قابل للانتقال في المقام، لا من طرف المدين ـ أي حوالة الدين ـ ولا من طرف الدائن ـ أي حوالة الحقّ.
من هنا بقي الفقه الروماني لا يقرّ بالحوالة، لا حوالة الدين، ولا حوالة الحق، بوجهٍ من الوجوه، مع شعوره بضرورتها، وكان العقلاء يتعاملون ـ خارجاً ـ عبر الاحتيال، كما يحتال فقهاؤنا في موارد الربا، فيطبّقون موارد الحوالة الخارجية على غير باب الحوالة، وكانوا يرجعون المسألة إلى باب التوكيل مثلاً، ونحو ذلك.
نعم، يقرّ الفقه الغربي ويعترف هنا بالنسبة إلى الوارث، أي أنّ الوارث ينتقل إليه الحقّ الشخصي للمورّث، بل أخيراً سلّم بأنّه ينتقل إليه أيضاً الدين على المورّث بحيث يكون مديوناً، وهذا من شواهد كون باب الإرث من الامتداد الذي تحدّثنا عنه سابقاً، فكأنّ الوارث امتدادٌ للمورّث، من هنا، لم يشعر الفقه الروماني بالاستحالة، بل قال بأنّ هذا ليس تحميلاً لشخص، بل امتدادٌ للمورّث، فاستثنى هذا المورد ـ لذلك ـ من قانون الاستحالة عنده، وبهذا سلّم الفقه الجرماني بالحوالة دون الفقه اللاتيني، فسلّم أولاً بحوالة الحقّ، أي تبديل الدائن، ثم سلّم بعد هذا بحوالة الدين.
وقد قيل بأن الالتزام له نظرتان: نظرة ذاتية، ونظرة مادية، فالنظرة الذاتية تعني الالتزام، كالتزام زيد لعمرو بدرهم، أمّا النظرة المادية فالمقصود منها النظرة المالية، وهذا الالتزام له ثلاثة أطراف: ملتزم، وملتزم له، وملتزم به، وهذه الأطراف الثلاثة تعدّ مقوّمةً بالنظرة الذاتية، أمّا بالنظره المادية، فهناك طرفٌ واحد مقوّم، وهو الملتزم به، أي الدرهم أو الدينار، أمّا الطرفان الآخران فليسا مهمّين بحسبها، من هنا، شقّقوه وجزؤه وحلّلوه إلى مطلبين، بغية تعقّل مفهوم الحوالة، التي لا تحتاج إلى هذا المقدار من التكلّف، فقالوا بعدم قابلية الجانب الذاتي فيه للنقل، أمّا الجانب الموضوعي أو المادي فيُقبل، فأجازوا حوالة الحقّ، ثم الدين، وإنما جازت حوالة الحقّ أولاً باعتبار أن طرفيّة الدائن للمال أضعف من طرفية المدين له، أي أنّ التصاق الالتزام بالملتزم له أهون من التصاقه بالملتزم، من هنا استعدّوا ـ أولاً ـ للتنازل عن علاقته بالملتزم له قبل أن يغدوا مستعدّين ـ ثانياً ـ للتنازل عن علاقته بالملتزم.
هذه هي مسيرة هذه المسألة في الفقه الروماني ثمّ الغربي، نتيجةً لمعنى الدين في هذا الفقه.
أمّا في الفقه الإسلامي، فلم يعش هذا الفقه هذه المشكلة من أوّل الأمر؛ وذلك لأن الدّين في الفقه الإسلامي لم يكن عبارة عن التزام، وإنما ملك مالٍ في الذمة، إذاً فنقله يكون على حدّ نقل الأموال الخارجية، دون مواجهة أيّ مشكلة في المقام، فواقع الأمر ليس وصول الفقه الإسلامي قبل 1300 عام إلى ما وصل إليه الفقه الجرماني اليوم، وإنّما عدم إحساس الفقه الإسلامي بوجود مشكلة من الأساس، تلك المشكلة التي ظلّ يعيشها الفقه الروماني، ثم الفقه الغربي اللاتيني، ثم الفقه الجرماني، فلا موضوع لهذه المشكلة في الفقه الإسلامي، تبعاً لاختلاف صورة الدين اختلافاً أساسيّاً في الفقهين معاً.
اتجاهات في تحليل مقولة الحوالة في الفقه الإسلامي مقارناً بالفقه الغربي
ومن الضروري هنا استعراض مواقف الباحثين في الدراسات المقارنة مع الفقه الغربي؛ حيث انقسموا إلى فريقين: أحدهما ذهب إلى أنّ الفقه الإسلامي سبق الفقه الجرماني بالاعتراف بحوالة الدين، كالشيخ مصطفى الزرقا، وثانيهما اعتبر أنّ الفقه الإسلامي لا يزال يعيش مرحلة الفقه الروماني، فلم يقبل الفقه الإسلامي عندهم، لا حوالة الدين ولا حوالة الحق، وأنّ ما يسمّى في الفقه الإسلامي حوالةً ليس حوالةً بالمعنى الحقيقي، كالدكتور عبدالرزاق السنهوري، ولا بدّ لنا هنا من مناقشة هذين الاتجاهين.
1 ـ نقد نظرية الشيخ مصطفى الزرقا
أما القول الأوّل الذي يرى تقدّم تصوير الحوالة في الفقه الإسلامي على الفقه الجرماني بمئات السنين، فذهب إلى تفسير الحوالة في الفقه الإسلامي بقسمٍ خاص منها، وقال بأنّ هذا القسم الخاص يستبطن كلتا الحوالتين: حوالة الحقّ، وحوالة الدين.
وتوضيح ذلك: أنّ الحوالة تنقسم إلى قسمين، فتارة تكون الحوالة على البريء، أي على شخصٍ غير مشغول الذمّة، بحسب مصطلح الفقه الجعفري، وتسمّى بالحوالة المطلقة بحسب الفقه الحنفي، وأخرى تكون حوالةً على مدين، أي حوالة الدائن على المدين، وتسمّى هذه الحوالة في الفقه الحنفي بالحوالة المقيّدة([7])، ويرى الشيخ الزرقا أنّ كلتا الحوالتين حوالةُ دينٍ؛ لأن تغيير المدين موجود في كلتيهما، فالشخص كان مديناً للدائن، وبعد الحوالة يصبح المحال عليه للمحال دائناً، إذاً فقد تبدّل هنا مدين هذا المحتال، غاية الأمر أنّ الزرقا يرى الحوالة المقيدة هي الحوالة التي تعترف بها أكثر مذاهب فقه الجمهور، أمّا الحوالة المطلقة فلا يعترف بها إلاّ الفقه الحنفي خاصّة على نحو خاص.
أما حوالة الحقّ في الفقه الإسلامي فهي غير موجودة ابتداءً في تبديل الحق، بمعنى أن الدائن يحول لا المدين، فالحوالة الموجودة في الفقه الإسلامي تحوّل الدائن من قبل المدين، لا أن الدائن يحول لشخص آخر، فهذه الحوالة غير موجودة في الفقه الإسلامي.
من هنا، يمكن أن نقول: إنّه يمكن تحصيل حوالة الحقّ في بيع الدين، فإن الشخص إذا كان دائناً ويبيع دينه لشخصٍ آخر، يتغير الدائن في هذه المعاملة البيعية، وهذا ما لا تعترف به المذاهب الأربعة، إذاً فهنا لا يمكن الحوالة بالحقّ، ولذا قال الشيخ مصطفى بأننا نجد حوالة الحقّ في نفس حوالة الدين في قسمها الثاني، وهو الحوالة على مشغول الذمة، أي الحوالة المقيدة، فإنها تستبطن ـ في الحقيقة ـ كلا الامرين: حوالة الدين والحقّ، فإنك حينما تحيل دائنك على مدينك تغيّر المدين والدائن بمقتضى هذه الحوالة([8]).
إلا أنّ ذلك يفيد هنا، ولا يمكن لنا الانسجام معه، فقد قلنا بأن الفقه الإسلامي الذي شرّع حوالة الدين والحقّ، لم يشرّع هذه الحوالة لتغلّبه على المشكلة التي عاشها الفقه الغربي، بل لأنّه لم يبتلِ بها أساساً، فهي مشكلة نشأت عن آليّات خاصّة في الفقه الغربي على مستوى تصوير مفهوم الدَّين، حيث كان الدين في هذا الفقه التزاماً، والالتزام أمرٌ شخصي وذاتي، والأمر الشخصي الذاتي كيف يتبدّل وتتغيّر أطرافه مع انحفاظه؟! من هنا عاش الفقه الغربي مشكلة الحوالة، وهي مشكلة غير موجودة من رأس في الفقه الإسلامي، فما يترائى من جملةٍ من الفقهاء المسلمين من أنّ الفقه الإسلامي سبق إلى التغلّب على المشكلة، فانتهى إلى نفس ما انتهى إليه الفقه الجرماني، غير صحيح، بل لقد انتهى الفقه الإسلامي إلى الحوالة بوصفها نتيجةً منطقية منبثقة من تصوّره للدَّين والذمة، دون أن يواجه مشكلةً من هذه الناحية.
إذا كانت هناك مشكلة في الفقه الإسلامي تشبه المشكلة التي وقعت في الفقه الغربي فهي في موضعين آخرين، لا في حوالة الدين، وهما:
المشكلة الأولى: ضمان العهدة، فهناك مسألة في كتاب الضمان، حاصلها أنّ الغاصب الذي يغصب عيناً قبل التلف لم تشتغل ذمّته، بل اشتغلت عهدته، وهنا هل يمكن لشخصٍ آخر أن يضمن عهدة الغاصب أو لا؟
إنّ هذه العهدة باعتبارها أمراً شخصياً، قد تثار مشكلة فيها، تترائى من بعض كلمات فقهائنا، وتكمن في أنه كيف ينقل الضمان؟ لأن الضمان نقلٌ، والعهدة كيف تتنقل من هذا الشخص إلى شخصٍ آخر.
مع هذا، تغلّب الفقه الإسلامي على هذه المشكلة، فحتّى الذين أفتوا بالبطلان لم يفتوا من ناحية هذه المشكلة، فقد استطاع الفقه الإسلامي أن يتصوّر المسؤولية في الأمر العيني أيضاً، حيث إن نفس العين تدخل في العهدة بتبع المسؤولية، وكأنّ العين في العهدة، فالنقل أيضاً يصير نقلاً للعين، لا للعهدة، بل العهدة تظلّ مستقلةً بالتبع، كما في باب الذمة، حيث ينتقل المال الكلّي من ذمةٍ إلى ذمة أخرى، فكذلك الحال أيضاً في ضمان العهدة، حيث تنتقل نفس العهدة من وعاء عهدةٍ إلى وعاء عهدةٍ أخرى، أما الالتزام والمسؤولية، فيلحقه ذلك بالتبع لا أنّه يكون هو المنقول ابتداءً، هذه هي الصناعة التي أعطيت للفقه الإسلامي، فتغلّب بها على هذه المشكلة أيضاً.
المشكلة الثانية: وراثة الحقوق المالية، من قبيل حقّ الخيار، فهناك إشكال يثار أيضاً في مسألة إرث حقّ الخيار، فيقال: إن المتوفى كان يملك فسخ العقد، فإذا ورّث هذا الحقّ فكيف يمكن هذا؟ وما هو معناه مع أنّه فِعْلُ المورّث وحقه؟ فلا معنى لملكية الوارث له، فالوارث يمكنه أن يملك شيئاً من ملك المورث بحيث يبقى بعد موت مورّثه، أما أن يفسخ العقد، فهذا شيء لا يبقى بعد موت المورّث حتّى يورثه.
هذه المشكلة تشبه ـ بخطوطها العامّة ـ تلك المشكلة، من حيث إن هذا الفعل شخصيّ للمورّث، وهذا الفعل الشخصي له كيف تنتقل ملكيته منه إلى الوارث، وقد قلنا في مقام تحقيق هذه الشبهة: إن هذا الفعل له حيثيتان أيضاً، طبقاً لطرز تعبيرنا في الأصول، فهناك حيثية اسم المعنى المصدري وهي التي تمثل جهة ماليته، كما وهناك حيثية المعنى المصدري التي تمثل جهة اكتسابه والتصاقه بالميت، والإرث يكون بلحاظ الحيثية الثانية لا الأولى، على تفصيل لا مجال له هنا، هذا كلّه في غير الحوالة، أما في الحوالة فلم يكن للمشكلة وجود أساساً.
أمّا فيما يخصّ تصوير الشيخ الزرقا لحوالة الحقّ والدين، فقد وقع في مشكلة في الحوالة على المدين، باعتبار أنّ الحوالة الالتزامية لا تنشأ من تحوّل الدائن، كما أن بيع الدين عند فقهاء أهل السنّة غير جائز، فتصوّر حوالة الدين وحوالة الحقّ في عمليةٍ واحدة مزودجة، وهي الحوالة على المدين، فالمدين حينما تحوّل دائنه على مدين آخر تبدّل الدين والدائن، وهذا التصوّر غير معقول في نفسه؛ لأنه يلزم منه اجتماع دينين للمحتال على المحال عليه، ولو أننا تصوّرنا هنا تبديلين: تبديلاً للدائن، وتبديلاً للمدين، للزم دينان للمحتال على المحتال عليه؛ وذلك لأن المحتال له دينٌ في ذمّة المحيل، والمفروض أنّ هذا الدين لم يسقط، وإنما انتقل منه إلى غيره، أي انتقل إلى ذمّة مدين المدين، كما أن ذاك المال الذي كان للمدين الأول في ذمّة المدين الثاني تبدّل دائنه، فبدلاً أن يكون الدائن له هو المدين الأول، أصبح المالك له هو دائن مدين الأول ـ أي المحتال ـ وبهذا يكون قد حصل للمحتال دينان في ذمّة المحتال عليه: أحدهما تحوّل من ذمةٍ أخرى عليه، والآخر تحوّل ملكه من مالكٍ آخر إليه، فيلزم في المقام اجتماع هذين الدينين للمحتال في ذمّة المحال عليه، لو قلنا بأنّ كلاً من الدينين نتحفظ على ذاتيهما وإنما نبدّل أطرافهما، وبتعبير آخر معنى الالتزام بحوالة الحقّ وحوالة الدين في هذه المعاملة الالتزام بأنّ ذات الدين في الالتزام محفوظ وإنما تحوّل الطرف، ففي أحد الدينين تحوّل المدين فيه، فيما تحوّل الدائن في الدين الآخر، لو التزمنا بانحفاظ ذات الدين مع تبدّل الأطراف، وهذا خُلف طبيعة هذه الحوالة.
من هنا، نعرف أنّ ذات الدينين لم تجتمعا في المقام، وإنما وقع فناء في أحد هذين الدينين وبقي الدين الآخر، لا أن ذات الدين باقية فيهما مع تبديل الأطراف، ولهذا ذهب جماعة من فقهاء الجمهور إلى أنّ الحوالة معاوضة([9])، فكأنّ المدين الأول يشتري ما للدائن في ذمته بما له في ذمّة الآخر، وقد مال فقهاؤنا إلى أن الحوالة ليست معاوضة([10])، ونِعم ما قالوا، وقال جماعة من فقهاء العامّة: إنّ الحوالة وفاءٌ بحسب الحقيقة([11])، وقال المتبصّرون من فقهائنا: إنّها ليست ـ بحسب الارتكاز العقلائي ـ وفاءً، ونٍعم ما قالوا، إلاّ أنهم قالوا بأّنها معاملة برأسها([12])، ولم يدخلوا في شرح صناعي لتحليل هذه المعاملة، كأنهم كانوا يرون إمكان الاكتفاء بالتغيير العنواني واللفظي لاسمها.
تحقيق موجز لمعنى الحوالة وحقيقتها
وتحقيق حقيقة هذه الحوالة وتفصيل الكلام في ذلك ليس هنا موضعه، بل موضعه الحوالة، إلاّ أنّنا نتعرض هنا لذلك بنحو الإجمال فنقول: إن هذا المدين المحيل إنما يحيل دينه بنقل المال الذي عليه من وعاءٍ إلى وعاء، أي ينقله من وعاء ذمّته إلى وعاء ذمة مدينه أو بريئه، وحينئذٍ إن كان المحتال عليه بريئاً، أي كان مالك ذمته، فلا يأذن حينئذٍ أن يدخل إلى ذمته مال أجنبي إلاّ باستئذانٍ منه، فيحتاج إلى إذنه، فلو أذن فيحمل الشخص المدين بيده المال الذي كان موجوداً في ذمّته ويلقيه في ذمّة ذاك الشخص الآخر، وأمّا إذا كان الآخر مديناً، إذاً فلا يكون مالكاً لذمّته بهذا المقدار، أي بمقدار ما يشغل ذمّته، بل المالك لها ـ بهذا المقدار ـ نفس المدين الأول الذي هو دائن هذا المدين، إذاً فهو يحمل ـ بلا إذن منه ـ المال الموجود في ذمّته ويوقعه في نفس الموضع الذي كان يشغل دينه الذي يملكه، وهذه العملية بنفسها يتحقق بها إفناءٌ واشتغال، أي إفناءٌ لدينه السابق، وهذا ما يكون بيده؛ لأنه مالكٌ له، وإشغال بهذا؛ لأنه باعتباره دائناً يملك هذا المقدار من هذه الذمّة فله أن يشغله بدينٍ آخر؛ ولهذا يشترطون أن تتحد الصفة والمقدار والخصوصية، حيث يكون له حقٌ بهذا المقدار لا أكثر، وهذه نتيجةٌ تحتاج إلى الكثير من التفصيل والتوضيح والتحقيق، ممّا نوكله إلى محلّه.
2 ـ نقد نظرية عبد الرزاق السنهوري
ذهب السنهوري إلى أن الفقه الإسلامي لم يعرف معنى الحوالة، وكأن شأنه في ذلك شأن الفقه الروماني، واستعرض قولاً لفقهاء مثل الشيخ الزرقاء، كانوا يدّعون أنّ الفقه الإسلامي عرف حوالة الدين ولم يعرف حوالة الحقّ، ولعلّ السنهوري ينكر معرفة الفقه الإسلامي بالحوالتين معاً([13])، فمن العجيب أن يقال: إنه عرف حوالة الدين ولم يعرف حوالة الحقّ، مع أنّ هذا خلاف نسق التطوّر الطبيعي للفكر الفقهي؛ فإن الفقه الغربي عرف ـ أولاً ـ حوالة الحقّ، ثم حوالة الدين، وعليه فلو عرف الفقه الإسلامي أولاً حوالة الدين ولم يعرف حوالة الحق، كان ذلك بدعاً في الصناعة الفقهية.
إلاّ أن الواقع أن الفقه الإسلامي لم يعرف حوالة الدين وحوالة الحق معاً، وإنما عرف حوالة الحق فقط في باب الإرث؛ فإن الوارث يرث حقّ أبيه إذا كان للمورث دين، فالوارث يحلّ محله، وأما إذا كان الوارث مديوناً فالمورّث لا يحلّ في المديونية، إذاً فهنا في باب الإرث عرف حوالة الحق ولم يعرف حوالة الدين، وهذا منسجمٌ مع التطور الفقهي، أما في غير باب الإرث فلم يعرف الفقه الإسلامي كلتا الحوالتين([14])، الأمر الذي استدعى نقد الشيخ الزرقا بأنّه إذا لم يعرف الحوالة مطلقاً، فكيف عقد الفقهاء في كتبهم الفقهية كتاباً مستقلاً أسموه كتاب الحوالة؟!([15])
وهنا يمكن لنا تقسيم نظريّة السنهوري إلى قسمين: أحدهما في نفي معرفة الفقه الإسلامي بحوالة الدين، وثانيهما في نفي معرفته بحوالة الحق.
يرى السنهوري أنّ حوالة الدين لم يعرفها الفقه الإسلامي بالمعنى الصحيح الذي عرفها به الفقه الغربي في نهاية تطوّره، وخلاصة كلامه ترجع إلى شاهدين([16]):
الشاهد الأول: إنه لو كان الفقه الإسلامي يريد بالحوالة معناها الحقيقي الدقيق الذي عرفه الفقه الغربي الحديث، وهو نقل الالتزام من ذمّة المدين إلى شخص آخر، إذاً لماذا لا يقول بالحوالة على البريء؟ وأيّ فرقٍ بين الحوالة المطلقة والمقيدة؟ مع أن الفقه الإسلامي ـ في نظر السنهوري الذي لم يلتفت إلى الفقه الجعفري قاصراً نظره على المذاهب الأربعة ـ يُبطل الحوالة على البريء عدا الفقه الحنفي، مع تلعثم في هذا الفقه وتلكّع ـ على حدّ تعبير السنهوري نفسه ـ ينتج في نهاية المطاف عدم القول بالحوالة.
وبعبارة أخرى: إنّ هذا الفقه لو كان يقرّ بانتقال الدّين من مدين على آخر، إذاً فلماذا يفرّق بين الحوالة على البريء، والحوالة على المدين، ويقول بأن الحوالة على البريء باطلة، ويشترط في صحّة الحوالة أن تكون حوالةً على المدين، وهو الشرط الذي ذهبت إليه ثلاثة مذاهب من المذاهب الأربعة في الفقه الإسلامي المنظور للسنهوري، بينما الفقه الرابع ـ وهو الفقه الحنفي ـ يقول: إنه لم يشترط، لكنه بحسب النتيجة كان روح الشرط محفوظاً عنده، فاعتقاد هذا الفقه بعدم صحّة الحوالة على البريء بنفسه دليل على أن تصوّره للحوالة يختلف عن صورتها الواقعية، وإلا فما هو المقتضى الواقعي للحوالة عدم التفريق بين الحوالة على البري والحوالة على المدين؟
الشاهد الثاني: لو كان الفقه الإسلامي يقول بأن نفس الدين ينتقل من مدينٍ إلى آخر للزم ـ على ذلك ـ أن تحفظ فرعيات هذا الدين؛ لأن نفس هذا الدين محفوظ؛ ففرعياته يلزم أن تكون محفوظةً كما هي كذلك في الفقه الغربي، بينما هي ليست كذلك في الفقه الإسلامي، من هنا لم تكن الملكية…([17])
* * *
الهوامش
([1]) لم أعثر عليه صريحاً في كلمات الميرزا النائيني، لكنه صريح كلام المحقق الإصفهاني، فانظر: الإصفهاني، حاشية المكاسب 2: 313، 325؛ و3: 110.
([2]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 26: 113.
([3]) راجع: الطوسي، الخلاف 3: 314، 315؛ والنائيني، كتاب المكاسب والبيع 2: 297؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 2: 229 و3: 201، 673، و4: 325.
([4]) انظر: النووي، المجموع 13: 434 ـ 435؛ والكاشاني، بدائع الصنائع 6: 10؛ وابن نجيم المصري، البحر الرائق 6: 341؛ والحصفكي، الدر المختار 5: 414؛ وابن قدامة، المغني 5: 58، 70، 73؛ وابن قدامة، الشرح الكبير 5: 55؛ والبهوتي، كشف القناع 3: 428؛ وبعض كلماتهم جاءت في بيان حقيقة الكفالة، وقد نُسب ذلك إليهم في كلمات بعض فقهاء الإمامية، فانظر: الخوئي، مصباح الفقاهة 3: 189، 192، 195، 673؛ والإصفهاني، حاشية المكاسب 2: 322؛ والحكيم، مستمسك العروة 13: 244.
([5]) انظر: مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام 3: 63، دار الفكر، دمشق، الطبعة العاشرة، 1968م.
([6]) البقرة: 280.
([7]) انظر: السرخسي، المبسوط 2: 86 ـ 87؛ والسمرقندي، تحفة الفقهاء 3: 248؛ والكاشاني، بدائع الصنائع 6: 16 ـ 17؛ وابن عابدين، حاشية ردّ المحتار 5: 481.
([8]) مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام 3: 64 ـ 65.
([9]) النووي، المجموع 13: 431؛ والأنصاري، فتح الوهاب 1: 363؛ والحجاوي، الإقناع 1: 286؛ والشربيني، مغني المحتاج 2: 43، 195؛ وحواشي الشرواني 5: 253؛ والكاشاني، بدائع الصنائع 6: 18؛ وابن قدامة، المغني 5: 75.
([10]) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء (ط ق) 2: 105؛ والكركي، جامع المقاصد 4: 399، و5: 361؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 4: 219؛ والسيد محمد الروحاني، المرتقى إلى الفقه الأرقى 2: 367؛ والسيد محمد صادق الروحاني، منهاج الفقاهة 6: 548.
([11]) انظر: النووي، روضة الطالبين 3: 462؛ وحواشي الشرواني 5: 253؛ والبهوتي، كشاف القناع 3: 445.
([12]) النجفي، جواهر الكلام 26: 165.
([13]) السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3: 436 ـ 437، ولمزيد اطلاع على نظريته انظر: المصدر نفسه: 420 ـ 441.
([14]) المصدر نفسه: 421 ـ 422.
([15]) مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام 3: 68.
([16]) السنهوري، الوسيط 3: 420 ـ 441.
([17]) إلى هنا ينتهي ما هو المدوّن من نصّ أبحاث السيد الصدر، والظاهر وجود نقص لم نعثر عليه.