الوضوح والشفافية من العناصر اللازمة في الفكر والمشاريع الفكرية المعاصرة، بل إن واحدةً من أزماتنا المعاصرة في العالم الإسلامي غياب روح الشفافية عن ساحتنا الفكرية والثقافية، فضلاً عن الساحات الأخرى.
من هنا، نحاول في هذه المقدمة تحديد تصوّرنا عن مشروعنا وأسسه الفكرية والثقافية، لكي تنجلي الصورة وتتضح، ونقدّم لذلك بمدخل بالغ الإيجاز في صورة المشهد الثقافي الإيراني المعاصر، ثم نعرض تصوّراتنا عن نقل هذا المشهد إلى القارئ العربي.
مدخل إلى المشهد الثقافي الإيراني ــــــــــ
كثيراً ما ينظر المراقبون إلى التطورّات السياسية في إيران، بوصفها منجزات وإخفاقات مرتهنة لتجربة قيام الثورة الإسلامية فيها بما تمثّله من حدث سياسي، مغفلين تلك التأثيرات الثقافية والفكرية التي تبعتها، سواء داخل الحوزة العلمية أو خارجها. وباعتبار أن التجربة لا زالت حية وقريبة من الجميع كما ويمكنها أن تكون مادةً هامة للقراءة المفضية إلى توظيف الخبرات في عملية تجاوز للإشكاليات والسلبيات، لذا فمن الضروري الاطلاع عليها ومتابعتها والتعرّف على تأثيراتها المختلفة.
وفي هذا الصدد، يمكن عرض المشهد الثقافي والفكري في الساحة الإيرانية بإيجاز بالغ ــ مقدّمةً لعرض تصوّراتنا عن نقل هذا المشهد إلى العالم العربي ــ عبر تلخيصه باتجاهين رئيسين، دون تبنّي أيّ منها فعلاً أو الدفاع عنه، وإنما محاولة لعرضه وقراءته، والكشف عن أبرز رموزه الفكرية وناشطيه.
أولاً: الإتجاه التقليدي (المدرسي): ويتمثّل في أغلب الشخصيات الدينية التي تصدّت لمقام المرجعية، أو بعض أساتذة الحوزات العلمية في مدينة قم المقدسة بالخصوص، وكذلك في مشهد وأصفهان.
واهتمامات هذا التيار هي نفسها المتعلّقة بالموضوعات التقليدية والاهتمامات الدراسية بكتب وأبحاث فقهية معروفة، تتلخّص في مجموعة مصادر أساسية منها كتاب جواهر الكلام للنجفي ومستمسك العروة للحكيم، والمستند وغيره للخوئي، وإلى حدّ ما نتاج الخميني الفقهي والأصولي أيضاً.
والتيار التقليدي تيار معروف ومألوف في عموم الساحة الشيعية داخل إيران وخارجها، وبيده حالياً الكثير من مواقع النفوذ.
ثانياً: الإتجاه التجديدي (الإصلاحي): وهو عبارة عن اتجاهات وأطياف متعدّدة تبلغ بتعددها حدّ التناقض.
وينقسم هذا الاتجاه من الناحية الفكرية إلى تيّارين رئيسيين:
الأول: التيار التجديدي الداخلي (من داخل الحوزة): ويسعى هذا الاتجاه إلى تطوير المنظومة المنهجية في الحوزة العلمية من داخل الحوزة، وضمن الأطر والمفاهيم والمقاييس نفسها التي تتماشى مع الحوزة ونظامها الفكري.
وتختلف أساليب التجديد ضمن هذا الاتجاه باختلاف الاهتمامات ومسلسل الأولويات المنظورة مما يشطره إلى تيارات ثلاثة كالتالي:
أ ـــ تيار تطوير لغة الخطاب: ويعمل على محاولة تجديد الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية من داخل المنظومة الفكرية الحوزوية وبالآليات الأصولية والفقهية المتعارفة والمتوارثة نفسها. فهنالك من يسعى إلى تطوير اللغة عبر صياغة المفاهيم السائدة صياغة جديدة تتناسب ولغة العصر، وهو ما دأب عليه مفكرو الشيعة منذ العشرينات الميلادية، فقاموا بإعادة صياغة الأفكار السابقة وقدّموها بأساليب أكثر عصرانية.
وأمثلة ذلك كثيرة، منها اقتصادنا والفتاوى الواضحة للسيد الصدر، والتي كانت مستمدّة أساساً من كتاب الروضة البهية للشهيد الثاني، وكتاب المكاسب للشيخ الأنصاري، وشرائع الإسلام للمحقق الحلي، وعلى المنوال نفسه كتاب فقه الإمام جعفر الصادق للشيخ محمد جواد مغنية المستند على كتابي المكاسب وشرائع الإسلام، بل حتى على الصعيد الفلسفي طرحت كتب المطهري غالباً الأفكار ذاتها المستمدّة من مدرسة ملا صدرا الشيرازي وملا هادي السبزواري.
وقد كان ذلك منطِلقاً من الاعتقاد بأن تحويل هذه الأفكار الموجودة في بطون كتب التراث وعرضها بلغة معاصرة سيكون كافياً ــ إلى حدٍّ ما ــ لتحقيق التقدّم المنشود.
ومن أبرز رموز هذا الاتجاه حالياً الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وهو أحد مراجع التقليد البارزين في قم، ولـه كتابات عديدة بلغة جديدة وعصرية تتناسب مع متطلّبات الشباب، وتقديم الإسلام لهم بلغة تناسبهم، وكذلك أستاذنا الشيخ باقر الأيرواني ــــ الذي انتقل مؤخّراً إلى العراق ــــ حيث سعى إلى تقديم العديد من المناهج الدراسية الحديثة، منها كتابه دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي الذي أقرّ تدريسه رسمياً في الحوزة منذ سنتين أو ما يزيد، وكذلك كتابه دروس تمهيدية في علم الرجال، وتعتبر تجربته متميزة من ناحية تقديم لغة جديدة لتطوير المناهج.
كما وهناك أيضاً تجربة الشيخ محسن قراءتي والتي تتميز بتطوير علاقات شخصية مع محدّثيه عبر برامج تلفزيونية ومحاضرات كسر فيها الحواجز التقليدية المصطنعة بين المخاطِب والمخاطَب، ليطرح الأفكار والمفاهيم بلغةٍ تغلب عليها اللطافة والمزاح والبساطة مما ترك تأثيراً بالغاً على قطاع واسع من الشباب.
ومن التجارب الأخرى أيضاً تجربة الشيخ محمدي الري شهري في مجالات عديدة، كان من أبرزها ميزان الحكمة وسلسلة مصنفات في موضوعات حية وجميلة.
ومن التجارب الإدارية المتميزة في هذا المجال تجربة مرشد الثورة السيد علي الخامنئي في تأكيده على تطوير مناهج الحوزة العلمية، وقد دفع لإدخال مواد علمية جديدة في الحوزة من بينها اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة، وأجرى نظام الامتحانات وشروط القبول و… بشكل لم يسبق له مثيل.
2 ــــ تيار التطوير المراحلي للمفاهيم الفقهية: يغلب على الحوزات العلمية الطابع الفقهي، ويعتبر الكثيرون مادتي الفقه والأصول المادّتان الرئيسيتان في الدراسات الحوزوية برمّتها، وهذا ما سبّب تأخّراً بيّناً في الدراسات القرآنية التي لم تعد إلا مؤخّراً في الحوزات العلمية، ومثلها علوم الفلسفة والكلام.
فمن النماذج التي تسعى لتطوير المفاهيم الفقهية تجربة أستاذنا السيد محمود الهاشمي الذي يمتلك الكثير من الآراء والمعالجات الفقهية الجريئة، وهو على قناعة تامة بهذا التطوير، إلا أنه يرى ضرورة التدرّج في طرح الأفكار الجديدة وعرضها، فمن آرائه مثلاً أن آية الخمس لا تدل على خمس أرباح المكاسب خلافاً للرأي السائد لدى عموم فقهاء الشيعة، وقد طبع له كتاب في بيروت حمل عنوان قراءات فقهية معاصرة، جمع فيه حوالي العشرين دراسة في الفقه الإسلامي.
ومن النماذج الأخرى في هذا المجال الشيخ حسن الجواهري الذي قام بمعالجة وافية للعديد من القضايا المعاصرة بأسلوب متقدّم كموضوع الاستنساخ والتلقيح الصناعي والمناقصات و… كما أنه طرح آليات فقهية جديدة، ولديه كتاب يجمع أبرز أعماله يقع في ثلاثة مجلدات تحت عنوان بحوث في الفقه المعاصر.
كما أن تجربة الشيخ محمد علي التسخيري التي جمعها في كتاب ذي أربع مجلدات تضيف مادة مهمّة، وتطل إطلالة جديدة على بعض الموضوعات الفقهية ضمن عرض جديد وتنظيم مستحدث وآليات متقدمة الى حد جيّد.
ويمكن كذلك اعتبار مشروع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ضمن هذا الإطار، حيث إنّ لديه مجموعة من الفتاوى والاجتهادات الجديدة والجريئة، والتي عادة ما تثير ضجّة في الأوساط العلمية بين الفينة والأخرى، مثل رأيه في الذبح في منى، وفي رمي الجمرات، وأخيراً في حرمة التدخين، حيث يرى بأن الأعمدة القائمة حالياً لم تكن معهودة عصر الرسول 2، بل كان المسلمون يرمون الجمرات في أرض فضاء، ومن ثمّ فسقوط الجمرات عليها يكفي، وقد كتبت العديد من الردود على ذلك باللغتين العربية والفارسية.
كما أن للسيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي ـــ رئيس السلطة القضائية السابق ـــ آراء ملفتة، من قبيل رأيه في أحكام الارتداد التي قد لا تنطبق على ما هو موجود الآن.
3 ـــ تيار التجديد الفقهي: ويؤمن أصحاب هذا التيار بضرورة التجديد الفقهي العاجل، وليس المتأني كما يراه التيار السالفة الإشارة إليه. ومن أبرز رموز هذا التيار الشيخ يوسف الصانعي أحد المتصدّين للمرجعية، وله آراء جريئة وخصوصاً في فقه المرأة والفقه السياسي، فمثلاً يرى ضرورة الحصول على إذن الزوجة السابقة للارتباط بأخرى، ويرى كذلك أن دية المرأة مساوية لدية الرجل، ويخالف من يقول بنقصان دية الذمي عن المسلم، كما يعتقد بكراهة الزواج الثاني، ويناقش أيضاً موضوع انحصار الطلاق بيد الرجل ـــ الذي يعتبر عمدة بحث الطلاق ـــــ حيث لا يرى دليلاً قرآنياً عليه.
أما الشيخ محمد إبراهيم الجناتي (وهو غير الشيخ أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور اليوم) فتصبّ جهوده في الإطار نفسه، وله كتاب كبير في الفقه المقارن بين المذاهب، ولديه آراء ومداخلات كثيرة في المواضيع الفقهية، فهو يرفض مثلاً فكرة الاحتياط أصلاً، وذلك يدل على جرأة كبيرة لديه، وقد سبقه إلى ذلك الشيخ محمد جواد مغنية في تعليقه على موضوع طهارة الكتابي، وكذلك ممن خالف الاحتياط الشيخ مرتضى المطهري والسيد مصطفى الخميني ـــــ وكان فقيهاً متقدماً، وقد أعيد طباعة كتبه في الفقه والأصول والتفسير بحلّة جديدة ــــ وقد سبب ذلك التشكيك في الكثير من البديهيات الفقهية الواضحة.
ومن الرموز البارزة والمتقدمة في هذا الاتجاه الشيخ الصادقي الطهراني صاحب كتاب “تبصرة الفقهاء” وهو موجّه للفقهاء لإبانة إشكالات وقعوا فيها، ويميل الطهراني كثيراً إلى الاستنباط من القرآن الكريم معارضاً التيار الأخباري بشدّة كبيرة، ومن آرائه أنه لا خمس في أرباح المكاسب، ويناقش الفقهاء في ما يطلقون عليه محرّمات الإحرام ويرى ــ بدلاً عنها ــ محرّمات الحج مستدلاً بقوله تعالى “فلا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج”، وأن الحل من الإحرام لا يحل الحاج من المحرمات المذكورة. كما أنه يرى زكاة النقدين في عصرنا الحاضر ولا يرى إنحصارها في الموارد التسعة المشهورة بين الفقهاء و…
الثاني: التيار التجديدي الخارجي (من خارج الحوزة):
ويسعى هذا الاتجاه إلى القيام بتجديد فكري عبر تناغم بين عناصر جامعية أو ذات خلفيات حوزوية ودراسات دينية، وينطلق في مشروعه من اعتماد آليات في الفكر الديني لا تنتمي إلى الموروث المعمول به داخل الحوزات اليوم.
ولعلّ أبرز هؤلاء السيد محمد حسين المدرسي الطباطبائي، وهو يستند في منهجه على أساس القراءة التاريخية، وقد درس الطباطبائي في الحوزة العلمية، وحصل على شهادة الدكتوراة، ويدرّس الآن في إحدى جامعات أمريكا، ويكتب معظم كتبه باللغة الإنجليزية، وله دراسات تاريخية في الفقه، وفي تطور المباني الفكرية للشيعة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، وتمت ترجمة كتابه الأخير إلى الفارسية ثم العربية وأثار ضجة كبيرة سرعان ما همدت عندما أقلع الطباطبائي نفسه عن فكرة نشر كتبه بالفارسية في إيران على ما أظن.
ويعتمد الطباطبائي على قراءة الفقه وعلم الكلام قراءة تاريخية بحتة، وهو موثق بمئات المصادر التاريخية. ويعتبر منهج المدرسي منهجاً جديداً على مناخ الدراسات الحوزوية، فهو منهج جاء من الغرب، وقد يكون الأستاذ أحمد الكاتب فيما أظنّ قد أخذ الكثير من أفكار المدرسي ـــ وخاصة في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من نظرية الشورى إلى ولاية الفقيه ــــ ولكنه تبناها بوصفها مفاهيم عقدية، بينما كان المدرسي يسردها ويشرّحها بوصفها تحليلاً تاريخياً لينأى بنفسه عن تبنيها أو إقحامها المجال العقدي، ولست متأكداً من اطلاع أحمد الكاتب على نتاج المدرسي فهذا الأمر يحتاج إلى دراسة ومتابعة.
وهناك أيضاً تجربة الشيخ محمد مجتهد شبستري الذي يتبنى آراء حقوقية جريئة فيما يتعلّق بحقوق الإنسان والحريات الشخصية والعامة، فمنها قوله بضرورة التخلّي عن ما يطلق عليه نظرية حقوق الإنسان في الإسلام إنطلاقاً من ضرورة التعايش مع الإنجازات الإنسانية في العالم عبر البحث عن حلول لبعض الإشكاليات البسيطة بصورة أو بأخرى، كما أنه يقول بأن الإمام علياً C لا يمكن اعتباره قدوة في تطبيق القضايا الحقوقية، لأن تصرفاته كانت مرتبطة بظرفه التاريخي الذي قد لا يتطابق مع ظرفنا المعاصر، وإنما يمكن فقط أخذه معيناً للنظرية المعاصرة في الحقوق، ويميل شبستري إلى رفض الاتجاه الطبيعي الذي يعتقد بأن الحقوق والقوانين لا بد أن تتناغم مع متطلبات التكوين والطبيعة، وهي المقولة التي سادت عقلية المفكر الإسلامي في القرن العشرين برمّته، وأشاد عليها المفسر الطباطبائي والشيخ المطهري وغيرهما أفكاراً كثيرة حول المرأة وغيرها، ولهذا يدعو شبستري إلى عدم قراءة موضوع المرأة من زاوية الحقّ الطبيعي، وإنما من زاوية متطلّبات الحياة وأوضاعها ومستجداتها التي تسير دوماً في ظل سيرورة وحراك مستمرّ دؤوب.
ومن النماذج البارزة ضمن هذا الاتجاه أيضاً السيد محمّد جواد الأصفهاني، وهو رجل دينٍ مسن يقيم حالياً في إصفهان، وله كتاب يحمل عنوان: “حول ظن الفقيه” كتبه أصلاً بالعربية، ونقله إلى الفارسية، ويعتقد فيه بأن خبر الواحد ليس حجّة في علم أو عمل، وهي فكرة لا تكاد تفعّل إلا على حساب الإطاحة بالكثير من الأفكار الفقهية، وله كتاب آخر بعنوان “البحوث الإستدلالية” وفيه منهج فقهي متكامل لا يقوم ـــ إلى حد ما ـــ على أخبار الآحاد، وذلك بالطبع يتطلب تعديل البنى الأصولية القائمة والاستعاضة عنها ببنى أصولية جديدة ترتكز أساساً على اليقين والنتائج المؤكّدة.
ولسنا بقادرين على غضّ الطرف عن تجربة فلسفة الفقه التي نادى بها الدكتور مصطفى ملكيان وأستاذنا الشيخ مهدي المهريزي رئيس تحرير مجلة علوم الحديث في إيران، وفكرة الفلسفة المضافة فكرة نشأت في الحقيقة في المناخ الغربي، وأريد لها دراسة المعرفة بعينها، وقد حاول أنصار فلسفة الفقه نقلها إلى المناخ الفقهي، داعين إلى علمٍ يدرس الفقه من الخارج وليس من الداخل، ويعني ذلك أن الباحث يعتبر نفسه خارج إطار الاتجاهات الفقهية السائدة، ويدرس الفقه بوصفه ظاهرة موجودة في الحياة الاجتماعية والعلمية، كما يعني بدراسة علاقة الفقه ببقية العلوم الدينية كعلم أصول الفقه وعلم الكلام، والعلوم الطبيعية كعلم الطب وعلم الفلك، والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس.
ومن أبرز تجارب هذا النوع من التجديد تجربة الدكتور عبد الكريم سروش، الذي كان عضواً في اللجنة المركزية للثورة الثقافية في إيران، فقد كتب في أواخر الثمانينات مجموعة مقالات في مجلة “العالم الثقافي”، ثم جمعها في كتاب أسماه “القبض والبسط النظري في الشريعة” وقد تمّت ترجمة الكتاب من قبل الدكتورة دلال عباس إلى العربية، وقد أثار هذا الكتاب ضجّة دامت أكثر من سبع سنوات متواصلة، فكتبت حوله مئات المقالات وعشرات المؤلّفات.
وتتلخّص نظرية الكتاب التي يطرحها سروش في أن كل العلوم البشرية مترابطة ومتداخلة فيما بينها تماماً كالسبحة في اليد، فعندما يحصل تغير أو تحرّك في أي من هذه العلوم، فإن ذلك يؤثر بصورة أو بأخرى على العلوم الأخرى، وأي علم يخضع لتطوير أو تغيير فمن الطبيعي أن يترك أثراً في بقية العلوم الأخرى. ومؤدى هذه النظرية أن تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يجب أن ينعكس على الفقه والعلوم الدينية المختلفة، ليس بما ينسجم مع هذه العلوم بل بما يستدعي الاستجابة لتلك التطورات، وبالتالي فإن قراءتنا للدين سوف تتغير حسب التطورات العلمية المختلفة، والسبب في ذلك أن الفهم الديني فهم بشري يخضع في قراءته للدين إلى تلك المعطيات العلمية والفلسفية التي كان العقل البشري قد اختارها في مرحلة سابقة، فكلما تحوّلت هذا المعطيات المسبقة كلّما تم فهم الدين فهما مختلفاً.
ويستشهد سروش بعدّة قضايا تاريخية يثبت من خلالها أن المعرفة الدينية نسبية بهذا المعنى، وأن كل إنسان يقرأ الدين وفق المناخ الثقافي الذي يعيشه، وهذا ما دفع بسروش فيما بعد إلى تكوين نظرية التعددية الدينية في المناخ الشيعي والتي أثارت زوبعة من النقد والدفاع.
وقد ردّ عليه كثيرون أبرزهم الشيخ صادق لاريجاني ــــ عضو مجلس صيانة الدستور حالياً ــــ فقد ألف كتاباً حمل عنوان “المعرفة الدينية” ترجمه إلى العربية الدكتور محمد شقير، يدّعي فيه أن هذه النظرية ليست بجديدة في الفكر الغربي.
ومن هذه التجارب، بل من أهمّها، تجربة الدكتور مصطفى ملكيان، لقد حاول ملكيان أن يدخل الدينَ من زاوية الإيمان لا الاعتقاد بفصله هذين المفهومين عن بعضهما البعض، لقد رأى أن المهم هو عين التجربة الإيمانية بما تعنيه من أحاسيس ومشاعر فيّاضة، وأنّ الاعتقاد يقف في الدرجة الثانية من الأهمية، واعتقد ملكيان بأن ثمّة ازدهار يتمتّع به الإيمان عندما يبدو في الأفق نوع من الفراغ المعرفي ويسود الشك واللايقين، وهو بذلك يُدخل نفسه فيما يسمّى النـزعة الإيمانية التي راجت في الغرب، وتكاد اليوم تسيطر على الفكر المسيحي المعاصر.
إلى غيرها من المشاريع الفكرية التي أسّست لعلم فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، والفلسفة السياسية، والنقد الحضاري، إضافة إلى التيار النقدي في الداخل الشيعي المذهبي، والذي سعى لنقد الأصول الفكرية الشيعيّة مثل أبي الفضل البرقعي، وشريعت سنغلجي، ومصطفى حسيني طباطبائي، ومحمد باقر البهبودي وغيرهم، دون أن ننسى شخصيات ــ من مستويات مختلفة ــ ذات دور نشط، من أمثال سيد حسين نصر، وعبد الله جوادي آملي، ومحسن كديور، وعلي أكبر رشاد، وحسن يوسفي الأشكوري، وما شا الله شمس الواعظين، وحسين علي منتظري، وصالحي نجف آبادي، وجميلة كديور، وجعفر سبحاني، ومحمد علي أيازي، وغلام رضا أعواني، وأبي القاسم فنائي، وعلي رباني كلبايكاني، ورسول جعفريان، وعلي رضا قائمي نيا، ومحسن الموسوي الجرجاني، وغلام حسين إبراهيمي ديناني، ويحيى يثربي، وعلي شيرواني، ومحمد باقر حجتي، ومحمد علي مهدوي راد، وعلي عابدي شاهروي، ومحمد رضا حكيمي صاحب المدرسة التفكيكية الخراسانية، وأبي القاسم كرجي، وناصر كاتوزيان، وشهرام بازوكي، وعبد الله نصري و..
التواصل بين الشعوب وضرورة نقل المشهد الثقافي ــــــــــ
تتنوّع الحياة في إيران، قبل الثورة الإسلامية فيها عام 1979م، وبعدها، لكن البعد الثقافي تبقى له خصوصيته، سيّما وقد لاحظ الجميع بعد صعود الرئيس محمد خاتمي إلى السلطة، أن الحياة الثقافية تركت آثاراً كبيرة على خارطة البلد عموماً.
وللدين دور رئيس في صنع الحياة الثقافية في إيران، ليس اليوم فحسب، بل وعلى امتداد تاريخ إيران، سيما عقب نشوء الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري، وقد تضاعف هذا الدور بعد أحداث الحركة الدستورية (المشروطة) بدايات القرن العشرين، وبلغ أوجه مع الثورة الإسلامية التي قادها الإمام روح الله الخميني (1989م)، بدءاً من الستينيات من القرن العشرين، بعد حركة الكاشاني ومصدّق في الخمسينيات منه.
من هنا، يأخذ رصد المشهد الفكري الديني في إيران حيّزه ومكانته من قراءة هذا البلد الإسلامي الكبير، سيما وهو يحدّ ــ تقريباً ــ شرق العالم العربي، إن قراءة المشهد الثقافي في إيران، سيمّا البعد الفلسفي والديني منه، بما للكلمة من معنى عام، حاجة لا يمكن الاستغناء عنها اليوم، لا على المستوى الإسلامي ولا على المستوى العربي، في عصر أخذت تتقارب فيه المتباعدات، فحريّ بمن يجمعهم الدين والجغرافيا والمصالح أن يتقاربوا، وهو ما لا يمكن أن يتمّ دون فهم كل طرفٍ لصاحبه، فهماً بعيداً عن الصراعات السياسية والطائفية والقومية و.. فهماً موضوعياً أميناً… فهماً لا يعرف إرادة التسلّط على الآخر، والهيمنة عليه.
إنّ التقارب العربي ــ الإيراني في الدائرة الإسلامية الكبيرة، لا يمكن أن يتمّ دون تخطي حاجزٍ رئيس هو حاجز اللغة، إن اختلاف اللغة يؤدي ــ كما حصل فعلاً ــ إلى قطيعة وجهالة، ويغيّب صورةَ الآخر أو يفسح في المجال لإعادة قراءتها قراءة أيديولوجية بغيضة، تستنفر الماضي وأحقاده، وتطالب بإنتاجه في الحاضر، بدل أن تستنفر الحاضر لتنتج منه المستقبل.
ونظراً لضرورة احترام اللغات ورفض الدعوة إلى إبادتها، كان من الضروري ــ للتوفيق ــ تنشيط جهاز الترجمة ليربط بينهما، ويمدّ حواراً بين الشعوب. إن نقل التجربة الإيرانية في الفكر الديني إلى اللغة العربيّة يفترض أن يُصاحبه نقل ــ على الطرف الآخر ــ للتجربة العربية في الفكر نفسه، وإحساسُ كل طرف بلا جدوائية نتاج الآخر، والانطواء داخل نرجسية الذات الواهمة، لن يؤدّي سوى إلى الاصطدام بالواقع عاجلاً أم آجلاً، وإذا كنّا نريد أن نترجم المشهد الفكري الإيراني فإننا نطالب المثقفين الإيرانيين بأن يعملوا على نقل المشهد الفكري العربي بأمانة وعدم بخسه حقّه، فهو ثريٌّ جداً، ولا تستغني عنه التجربة الإيرانية أبداً.
من هنا، جاء إحساسنا بضرورة المشاركة في هذه الخطوة، لكي نضيف لبنةً على ما أنجز، رغم ملاحظاتنا على بعضه، فكان مشروع مجلّة ((نصوص معاصرة))، الذي نقدّمة لقرّائنا العرب اليوم.
تجارب في نقل المشهد الثقافي الإيراني ــــــــــ
ولا يمكننا هنا أن لا نعرّج على ما سبق من تجارب في هذا المجال، سيما عقب انتصار الثورة عام 1979م، وما قامت به المستشاريّات الثقافية والسفارات الإيرانية، وبعض المؤسسات داخل إيران مثل مؤسسة البعثة وغيرها من جهود ضخمة تستحقّ التقدير والإجلال، وكذلك ما قامت به أطراف عربية من جهود من مؤسسات ومجلات ومراكز أبحاث، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، مع تقديرنا للجميع، مجلّةَ الحياة الطيبة، ومجلّة المنهاج، ومجلّة قضايا إسلامية، ومجلّة المحجّة، ومجلّة التوحيد، ومجلّة مختارات إيرانية، ومجلّة فقه أهل البيت G، ومجلّة ميقات الحج، ومجلّة بقيّة الله، ونركّز ختاماً على مجلّة قضايا إسلامية معاصرة التي يرأس تحريرها الباحث العراقي الأستاذ عبدالجبار الرفاعي، إذ لعب هذا الباحث ومجلته دوراً كبيراً ــ ينبغي احترامه وإجلاله ــ في نقل المشهد بجودةٍ بالغة وأداء مميّز، هذا مضافاً إلى العديد من دور النشر البيروتية والمصريّة التي أسهمت بقوّة في هذا المجال.
إنّ هذه المؤسسات ــ الرسمي منها وغير الرسمي ــ قامت بدورها الفاعل منذ بداية الثمانينات، وعرّفت العالم العربي بما يجري في إيران ثقافياً، فلم يُعرف الشيخ مرتضى مطهري، ولا الدكتور علي شريعتي بوصفهما من أكبر المنظّرين الدينيين الذين عرفتهم إيران في النصف الثاني من القرن العشرين، إلاّ من خلال جهود هذه المؤسسات والأفراد العاملين فيها أو المتعاونين معها.
وإذا كنّا بصدد وضع ملاحظة على بعض هذه التجارب ــ لا جميعها ــ فإنّ أهمّ ملاحظة تعنينا، تتركّز في نقطتين متداخلتين مترابطتين:
الأولى: إن بعض هذه الجهود وغيرها دخل في السياق السياسي، ممّا أعاقه بعض الشيء عن القيام بدوره الفاعل المتكامل.
الثانية: إنّ بعضها مارس انتقائية نابعة من خلفية فكريّة مسبقة، مما جعله يجتزء المشهد، ويقدّم صورة مقتطعة، وأحياناً ممزّقة الأعضاء عنه، وأعتقد أنّ هاتين النقطتين أساسيّتان في مشروع نقل المشهد الفكري، ليس الإيراني فحسب، بل وأيّ مشهد فكريّ آخر، لكن من الضروري أن نقرأهما بواقعية جادّة، لا بتلك المثالية الرومانسية التي يعالج بها مثقّفنا العربي الصادق أمورَه، فلا تجده في نهاية المطاف سوى معذّباً محبطاً قنوطاً.
المشهد الثقافي بين التسييس والانتقائية ــــــــــ
أمّا فيما يخصّ النقطة الأولى، فالجميع يعرف في الثمانينات ظروفها والمقولات التي كانت مسيطرةً على التيار الثوري كتصدير الثورة وأمثال ذلك، فكان من الطبيعي للفريق المتعاطف مع هذه الثورة الفتيّة، والذي اعتبر أنّ آماله معلقةٌ عليها، أن يبذل قصارى جهده لنقلها لمجتمعه صافيةً أنيقة، مما يفرض تقدّم المصالح السياسية على الفكرية والعلمية، انطلاقاً من جعل المشروع جزءاً من سياسة عامّة، تنتمي ــ قبل كل شيء ــ للمنحى السياسي أكثر مما تنتمي للمنحى الفكري أو الثقافي.
إن العقل السياسي والحسّ السياسي الذي حكم رادة مشروع ترجمة المشهد الإيراني هو المسؤول ــ غالباً ــ عن ما حدث على مستوى النقطة الثانية، أي عن الانتقائية التي مورست، فقد بُذلت جهود لإقصاء علي شريعتي لصالح مطهري أو دستغيب، ولإقصاء مهدي بازركَان وصادق هدايت وحميد عنايت لصالح جوادي آملي، ومصباح يزدي، ومحمد حسين الطباطبائي و…
كان هذا الأمر استدعاءً طبيعياً للمسار الفكري الذي قدّم السياسة على غيرها، فالأمر ليس مصلحيّاً، بل يكمن ــ في تقديري ــ في القراءة المعمّقة التي قدّمها الإمام الخميني للإسلام، سيما عندما أذاب التشريعات في إطار الفقه الحكومي، إنه ليس أمراً بسيطاً ولا عابراً، إنّما هو قراءة راديكالية جذريّة تقلب كلّ الموازين، وتخلق عقولاً ذات رؤى مختلفة ونظرات متنوّعة، وأفكار جديدة.
إذن، فالفكر السياسي الذي ظهر في نظرية الحكومة الدينية، كان المحرّك لمشروع نقل المشهد الإيراني، وكان من الطبيعي أن يقرّب ويبعّد، ويفترض أن لا نتوقّع منه غير هذا، فالقضية ليست في الأداء وإنما في المنطلقات الفكرية لهذا الأداء، كما أنّها تتبع بشكل رئيس سلّم الأولويات التي يضعها أصحاب المشروع أمامهم.
إنّ تسييس الفكر الديني ــ بالمعنى غير السلبي للكلمة ــ ينتج آليّات في العمل الثقافي تعيش في أفق المعرفة والثقافة حالةً من الصراع مع الآخر، وتكرّس أدلجة المعرفة بصورة تلقائية، ممّا يفرض ــ ونحن هنا مجرّد موصّفين ــ أحياناً وبصورة منطقية، تبعاً لهذا التفكير المبدئي، إخفاء بعض الأوراق، أو طمر بعض الحقائق، أو تجاهل إثارة بعض الموضوعات الفكرية في مرحلة دون أخرى، لعدم وجود مصلحة في ذلك، أو نقد فكرةٍ ربما تكون من حيث بنيتها الأولية صحيحة ومقبولة، لأن معنى الاعتراف الرسمي ثقافياً بها قدرة أطراف أخرى في الساحة السياسية على اكتساب ورقة ضغط معيّنة ضدّ الفريق الأول..
وهكذا نجد أن العقل السياسي ــ بهذا المعنى ــ من الطبيعي أن ينتج قراءة لآليّات العمل الثقافي تختلف عن القراءة التي ينطلق منها المثقف البعيد عن هذه الأجواء، والذي يرى أن همّه محصور في الفعل الثقافي، وأن عشقه للعلم لا للآثار التي تنجم عنه هنا أو هناك.
وإذا كان هذا الأمر مترقّباً أو مبرّراً في حقبة الثمانينيات وبعض التسعينيات، إلاّ أنّه اليوم بحاجة إلى إعادة نظر، في جدواه وفعّاليته، فهل في تجزءة المشهد خدمةً للمصلحة السياسية (الإسلامية)؟! وهل في تكريس انطباعات غير صحيحة أو غير كاملة بعبارةٍ أدق خدمةً للمشروع الإسلامي؟! ثم، هل هناك جدوى من وراء هذه العملية أم أن نتيجتها فقدان شرائح كبيرة في المجتمع عن أن تثق بنا وتنصت إلينا؟!
هل هناك معنى في عصر العولمة وانفجار المعلوماتية لممارسة انتقائية مفرطة وإقصاء مزيّف للفكر الآخر؟! وهل من الصحيح أن نصرّ على تطبيق منطق المؤامرة في ساحة الفكر والثقافة؟! أو نقل المشهد العسكري إلى المشهد الثقافي والعلمي؟! أو تحكيم الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم، على حدّ قول غارودي؟!
أليس من الأجدى ــ وفقاً للنزعة الأيديولوجية نفسها ــ أن نقدّم للقارئ جرعات من اللقاح المشتمل على عيّنات المرض نفسه، لكي يقدر ــ بعد الاعتياد على مشاهدة مظاهر التنوّع الفكري ــ على ممارسة اختيار واعي للفكر الديني؟ أليس في ذلك ضماناً لتحسين نوعية الإيمان وإن كان فيه بعض الخسارات على مستوى كميّة التدين والمتدينين في العالم؟! أليس من المفترض تقديم الكيف على الكم؟! ألم يكن الإنسان أفضل من الملائكة ــ كما يقولون ــ بالاختيار وانتقاء الصراط المستقيم من بين طرق الفساد التي كان بإمكانه سلوكها؟!
أليس في إنتاج عملنا الثقافي لمتديّنٍ واعٍ ومطّلع على الأفكار الأخرى، بما فيها الأفكار الإلحادية، حصانةً داخليّة تتكاتف مع عناصر الحصانة الاجتماعية؟! لماذا نسعى لإنتاج متديّن ينهزم بمواجهة مظاهر الانحراف بما فيها الفكري أو يرتدّ عصبياً يدمّر كل شيء من حوله، فلا يقدر على الصبر وتحمّل الآخر؟! كيف يمكن لهذه العينات المنتَجَة أن تستوعب زلازل العالم الفكرية والثقافية اليوم؟! كيف يمكنها أن تعيش أقليّةً في مجتمعات لا تعترف أكثريتها به؟! أم كيف يقدر على نشر فكره من هو محكوم بهذا الاضطراب العصبي؟!
أليس هناك فرق بين وسائل الإعلام ذات الطابع العلمي والتخصّصي وبين تلك العامّة التي تهدف الدعايةَ للباطل والفساد والانحراف؟! ألا تستحقّ وسائل النقل الفكري العلمي التخصّصي مزيداً من الحريّة مهما كان موقفنا من وسائل النقل العامة كالتلفزيون والصحافة العامّة و…؟!
هذه أسئلة واقعية جادّة، يؤسفني جداً أن أعترف بأنّها تعني عند فريق كبير منّا هرطقةً أو ترويجاً للضلال أو جزءاً من مؤامرة، أو جهالةً وحماقةً من قائلها على أحسن تقدير، لكن هذا في رأيي خطأ تاريخي، يفترض بنا أن نعيد قراءته في الموقف الفقهي مما يسمّى كتب الضلال، فهل ما قرأه الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) لا يمكن التمييز فيه بين الرؤية الفقهيّة الكلية التي تمثل وظيفة الفقيه، والأدوات الميدانية لخدمة الرؤية العامّة، والتي تتحرّك تبعاً لحركية الزمان والمكان؟ هل إحراق كتب الضلال هو السبيل الوحيد لمواجهتها؟ وأساساً بأيّ معيار يوزن الهدى والضلال؟
أسئلة تلحّ على الباحث الإسلامي للإجابة عنها، متعالياً عن الاجترار النمطي، فاهماً ضرورات عصره، خادماً لمقاصد الشريعة غير واقفٍ على أشكالها، متجاوزاً الاستنساخ الحرفي للتاريخ، وواعياً مضمونه وروحه ومحتواه أكثر فأكثر.
نحن نعيش اليوم في عصر يختلف تماماً عن عصر الشيخ الأنصاري، فضلاً عمن كان قبله، كان يمكن بإحراق ما يسمّى كتب الضلال وحجبها، الحدّ من تأثيرها، بل وقطع دابرها إلى غير رجعة، كان تشيّع الملك يؤدّي إلى تشيع الأمّة كلّها التي تقع تحت سلطانه، وكان تسنّنه يفضي إلى تسنّنها كذلك، كان هناك مجال لإغلاق الحدود، وعزل المجتمع عن غيره، أمّا اليوم فإنّ الأمر يختلف تمام الاختلاف، ولا نريد أن نكون إطلاقيين، فنحن لا ندعو ــ فعلاً ــ للسماح بكل فكر أو عقيدة أن تنتشر، وإنّما نتحدّث عن القاعدة العامّة التي تحتمل استثناءات، يفترض بها أن لا تأتي على القاعدة فتجرفها وتزيلها ــ عملياً ــ من الجذور.
إن قصدنا ممّا نقول أن نقرأ تجارب غيرنا، ونستفيد من التاريخ، لوضع خطط وأساليب أكثر نضجاً وحيويّةً وديناميّة، إنّ الواقع اليوم لم يعد يحتمل عزل مجتمعات، أو طمر حقائق بمستوى أمم وجماعات كبيرة، فمن الأفضل لنا أن نتخذ سياسةً مختلفة إزاء الفكر الآخر الذي لا نتعاطف معه، ولا نؤمن بمقولاته، لأن هذه السياسة لن تنفع على المدى البعيد، ولنا في التجربة الماركسية، وقبلها التجربة الكنسيّة في الحقبة القروسطيّة، خير شاهد، ينبئنا عن ضرورات تغيير أدائنا، خدمةً للمصلحة الإسلامية التي نعمل جميعاً لها.
على أيّة حال، لسنا هنا بصدد الحكم الفقهي أو غيره على موضوع مازال حتى اليوم شائكاً في أوساط المؤسّسة الدينية، لم تظهر له معالم جلية إلاّ في سياق النمطيات التاريخية.
إنما يعنينا ممارسة نقد ميداني لهذه التجربة بهذا النمط الذي سارت عليه، لقد لاحظنا مفاجأة وقع فيها الكثيرون عندما انجلى الجزء الآخر من الصورة، فكان للكثيرين صدمة، ما لبثت أن تحوّلت لدى بعضهم إلى نكوص وانسحاب بل غضب وانتقام، لقد خسرت الساحة الإسلامية بهذه العمليات غير المنطقية الكثيرين، وما تزال، ولو أننا كنا وما نزال شفّافين في عرض صورنا وأفكارنا ورؤانا، لا نتعامل مع الفكر بحسّ أمني استخباراتي، لاختلف الوضع كثيراً، ولربما تجاوزنا الكثير مما بات يمثل لنا اليوم مشكلةً أو أزمة.
إنّ هذه الحقيقة مرّة للغاية، ومؤلمة حتى النهاية، ونحن لا نقولها إلاّ من لوعة قلب محترق، لكنّها حقيقة حاسمة من وجهة نظرنا على الأقل.
ولسنا ننحاز هنا ــ والله الشاهد ــ لفريقٍ ضدّ فريق، بل نرفض أشكال الأداء الإقصائي الذي مارسته الأطراف كافّة، لقد كان ظلماً أن يُحكَم على مثل مصباح يزدي بأحكام قاسية لاختلاف البعض معه في آراء فكرية وتصوّرات، تماماً كما كان ظلماً أن يكفّر أو يضلّل شريعتي لاختلافه في بعض وجهات النظر مع المدرسة الرسمية الدينية، إنّه لمن الظلم حقّاً أن يستهزئ بنتاج أمثال جوادي آملي فقط للتحسّس من لغته ومنطقه، تماماً كما كان ظلماً أن يغيّب فكر مهدي بازركَان لأجل الخلاف السياسي معه، إنّ المطالبة باستحضار أفكار شخص ليس تصديقاً له بل هو اعتراف بحقه في أن يحيا في دنيا الفكر والثقافة والأدب، ولا تعنينا فعلاً دنيا السياسة.
إنّ بعض مشاريع نقل المشهد الثقافي الإيراني تعرّض أصحابُها لظلمٍ وإجحاف ليس لأنّهم حصروا نقلهم للمشهد بتيار دون آخر، بل لأنّهم أشركوا التيارات الفكرية كافّة، فبدل أن يشكروا على جهدهم الطيّب هذا لم يلاقوا سوى اللوم والعتاب والتضييق، وكأن الكثيرين لا يعتقدون في الفكر سوى بأفكارهم ولا يرون حرمةً حتى للتنويع فضلاً عن الانحياز للآخر، وهي مشكلة جوهرية، كلّي اعتقاد بأنّنا بحاجة ــ مع كامل الأسف ــ إلى وقت طويل على ما يبدو لكي نفهم أن عرض البضائع كافّة هو ما يخدم الحقيقة، وأنّ احتكارها قد يوهمنا بالنصر ويمنحنا نشوتَه لكنه سرعان ما سيرتدّ علينا عاجلاً أم آجلاً.
إنني أدعو العلماء والفقهاء والكتّاب لإعادة فهم هذا الموضوع، وعدم التذرّع بمثل الغيرة على الدين و.. للقيام بما قد لا تكون عاقبته خدمةً لهذا الدين، الذي نعمل جميعاً ــ بحبٍّ وإخلاص ــ لكي نخدمه ونخدم أمّتنا به.
إنّ ردّات الفعل القاسية من جانب التيار الديني صنعت بنفسها عظماء في الطرف الآخر، فكم مرّة طبعت كتب الدكتور نصر حامد أبو زيد بعد حكم المحكمة؟! وكم مرّة طبعت كتب الدكتور عبدالكريم سروش بعد الأحداث التي وقعت معه في التسعينيات من القرن العشرين؟! هذا درس للجميع ليعرفوا أنّ القوّة هنا للفكر والمنطق والقلم والكلام لا غير، ماذا نفع التهويل في بعض أغنيات مرسيل خليفة إلا تنفّر الشباب من الدين؟! وماذا حقّق تكفير نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي؟!
نعم، صحيح أنّ هذا الجوّ يمكنه أن يشكل سياجاً يحمي بعض الناس من الانجراف الفكري وفق تصوّر من يحارب هذه الأفكار، وصحيح أنّ هناك نتائج إيجابية تحقّقت بالتضييق على الكثيرين من أصحاب الأفكار الضالّة والمنحرفة بحسب التعبير الديني، لكن الأمر في مثل هذه القضايا لا يقاس بالأيام ولا بالسنوات، بل يقاس بالحُقب الزمنية وبالأجيال.
ألم تتعاطف الكثير من الجماهير مع من قُمع ثم مات مقموعاً؟!! وأخذت تحيي ذكره وفكره..، ألم تغدو الكثير من الأفكار التي كانت المؤسّسة الدينية تحاربها جزءاً من تفكير هذه المؤسسة اليوم؟! فليُقرأ التاريخ! ولينظر ما فيه! لنعرف أنّ من كُفّر أو ضُلل أو تمّ التعامل معه بهذه اللغة كيف سرت مقولاته إلى عمق الجهاز الديني نفسه ولاقت ترحيباً كبيراً؟! ألم يُلعن مرتضى مطهري على مشروعه في نقد السيرة الحسينية؟! ألم تُنظم الأشعار في محسن الأمين ثم انكشف للكثيرين منّا صوابها وجدوائيّتها بعد نصف قرن؟! ألم يتعرّض المغيّب موسى الصدر لنقد لاذع من التيار الديني الكلاسيكي في بلاد الشام ثم ما لبث أن تحوّل إلى رمز؟! ألم يوصف الإمام الخميني بالماركسي أو الجزّار ثم اختلفت لدى الكثيرين المفاهيم؟!
لست أجمع بين التنوير والتزوير ــ كما يعبر الدكتور محمد عمارة ــ بل أقصد أن الاستعجال في رفض الفكر الجديد ليس صواباً دائماً وأن فرصة الآخر يجب أن لا نحرمه إياها ما دام منطلقاً من فكر ومنطق، لا من سلاح وقمع وإرهاب وتقتيل، أو تجديف وسخرية واستهزاء غير أخلاقي كما حصل مع بعض الروايات الأدبية وغيرها، التي لم تحترم المشاعر الدينية الصادقة والأحاسيس الإيمانية المرهفة والأوّليّة.
يفترض أن تكون صدورنا أكبر من ذلك، وأن لا يحكمنا الانفعال من قراءة فكر الآخر، وأقول هذا للأطراف كافّة لا أستثني أحداً، بل نتعامل معه فكراً يستحقّ الدرس والتأمّل، ولنا كامل الحقّ في نقده وتفنيده، بأسلوبٍ علمي رصين، فلا أحد مصان عن حقّ النقد العلمي الثابت للآخرين، ومكانتُه الدينية أو الفكرية لا تحميه من ذلك، فالجميع خاضعون لنظام النقد والمساءلة، لا تعفي أحداً خصوصيةٌ أو ميزة، وإن كنّا نجد مع الأسف أن بعض كتّابنا المحدثين يسارعون إلى اتّهام من ينتقد أفكارهم التجديدية بالتخلّف والرجعية، وكأنهم وحدهم معيار التقدم والحداثة، كما نجد ــ مع الأسف أيضاً ــ أن بعض علماء الدين أو حتّى المرجعيات الدينية تسارع إلى اتّهام منتقديها بالكفر أو الضلال أو العمالة أو.. وكأن هذه المقولات تمثّل لديهم سياجاً يمنع عن نقدهم، ويحميهم من سياط المساءلة.
من هنا، نتصوّر أن نقل المشهد الثقافي الإيراني بأجزائه بات حاجة ماسّة، لكل من يريد دراسة هذه التجربة والاستفادة مما فيها من عناصر الضعف والقوّة، ولذلك نحن عازمون هنا على نقل هذا المشهد بالمقدار المتوفّر لنا، مما نقدر عليه، أو نستطيعه، متجاوزين مقولة الترويج المذكورة، لأنّ إفساح المجال للخطأ قد يكون هو الأجدى ــ على المدى البعيد ــ لاستبعاده، لا قمعه وإبعاده.
بين الواقعيّة والمثالية ــــــــــ
لكن لكي نكون رساليين من جانبٍ آخر، وواقعيين أيضاً، يجب أن نصارح قارئنا، بأنّ المشهد الثقافي الإيراني لا يمكن نقله بأجزائه جميعها، فهناك نتاج إيراني لم يسمع به جمهور العرب يتجاوز الخطوط الحمراء الدينية حتى عند أكثر التيارات اعتدالاً وانفتاحاً، كما يحرّك الأحاسيس عند باردي العقل وهادئي النفس، ومن ثم يكون نشر هذه المفاهيم أكبر من قدرة أي طرف فيما نخمّن، سواء كانت قناعتنا ترحّب بنشرها أم ترفض، مما يجعل العرف هنا أقوى من القانون، ومن ثم قد يقضي على المشروع كلّه.
لكنّنا سوف نعد القارئ بالسعي قدر الجهد والمكنة لتحقيق ما نصبو إليه من نقل المشهد الثقافي، ونعلمه سلفاً بأنّ هذه المجلّة لن تكون متحيّزة لطرف معيّن، لا لأنّها لا أبالية ومتحلّلة والعياذ بالله، بل لأنّها تحتفظ لنفسها بقناعاتها، وتنشر المشهد بأمانة، حتى لو احتوى ما تنشره ما لا تؤمن هي نفسها به.
وتتعهّد المجلّة لقرّائها من الآن، إن كُتب لها الاستمرار والدوام بعون الله، أن تفي بوعدها هذا ولا تتحيّز، فليس هدفها الترويج لهذا الفكر أو ذاك، وإنما نقل المشهد إلى العالم العربي، خدمةً، قبل كل شيء، للأمّة كلّها، وأملاً في أن تساعد هذه الخطوة على توحيد صفوف الأمّة، ومعرفة بعضها بعضاً، فإن التقارب الإيراني ــ العربي، سيما الإيراني ــ السعودي، والإيراني ــ المصري، كفيل ليس فقط في تضامن المسلمين، بل وفي تذويب الفتن الطائفية والأحقاد المذهبية التي تأكلهم، إن شاء الله تعالى.
إنّنا نرحّب بكل تقارب عربي ــ إيراني، كما نرحّب بأيّ تقارب عربي ــ عربي، ونضّم صوتنا إلى دعاته أينما كانوا، لأننا نرى في ذلك خدمةً للإسلام والمسلمين، وقوّةً لأمتنا في وجه الطامعين فيها، سيما الكيان الصهيوني الغاصب.
إنّ ما نشاهده اليوم من دعوات متبادلة ــ معلنة وغير معلنة ــ للفرقة والتمزّق والطائفيّة، وما نحن قلقون عليه من الوضع القائم في العراق الجريح، ليحدونا أكثر فأكثر لتضافر الجهود، وتوحيد الكلمة، وتعزيز أسس التعاون، وإرساء قواعد للتفاهم المنطقي السليم، في دنيا لم تعد تحترمنا ما دمنا ممزّقين ضعفاء، ولا تقدّرنا ــ وإن كنّا ما كنّا ــ ما دمنا مشتتين غرباء عن بعضنا بعضاً.
حول نصوص معاصرة ــــــــــ
ونحب هنا أن نضع القارئ الكريم في صورةٍ موجزة عن ((نصوص معاصرة)) ضمن نقاط:
1 ــ إنّ مجلّة نصوص معاصرة، تهدف إلى نقل المشهد الفكري والثقافي الديني المعاصر في إيران، من هنا لا يعنيها المشهد الفكري غير الديني، بل تدعو إلى إنشاء مجلات أخرى تُعنى به، وربما عملت المجلّة على نقل بعض ما يتعلّق بما يخرج عن الدائرة الدينية، لمناسبةٍ ما أو خصوصية معينة.
2 ــ يختصّ اهتمام المجلّة بالفكر المعاصر، ونقصد به هنا منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين تقريباً وحتّى اليوم، ونركّز على ما بعد انتصار الثورة الإسلامية، نظراً لأهميّته، وقد نخرج عن هذه القاعدة لبعض الضرورات والمناسبات والاعتبارات.
3 ــ ابتعاداً قدر الإمكان عن تكرار الجهود، ستسعى المجلّة إلى عدم ترجمة ما تمّت ترجمته حتّى الآن، ونُشر في مجلّةٍ أو صحيفةٍ أو كتاب، إلاّ عندما لا يطلع طاقم المجلّة على نشر الدراسة المنشورة سابقاً، أو يرى أخطاء فادحة في الترجمة السابقة تستدعي إعادة ترجمة النص مرّة أخرى، أو يكون نطاق نشر النص المنشور ضيقاً جداً بحيث يكون هناك ما يبرّر منطقياً إعادة نشره على نطاق واسع.
4 ــ تهتمّ المجلّة بمشاهدة القارئ العربي للنص الإيراني مترجَماً، من هنا تقتصر جهودها على الدراسات التي قام بها كتّاب إيرانيون، سواء كانت منشورةً باللغة الفارسية أم بالإنجليزية أم بغيرهما، ما دام الكاتب إيرانياً، وهي ــ من هنا ــ تعتذر عن نشر أي دراسة للكتّاب العرب أو غير الإيرانيين، انطلاقاً من سعيها للتقيّد بهدفها الذي رسمته لنفسها.
5 ــ نظراً لتنوّع الموضوعات الدينية المتناوَلة في الساحة الإيرانية، من الفلسفة، والكلام، والمنطق، والفقه والقانون، والأخلاق، وأصول الفقه، وعلم الدراية والحديث، وعلمي الرجال والتراجم و.. ستسعى المجلّة، قدر مُكنتها، لتنويع دراساتها المترجمة بحيث تطاول الموضوعات المشار إليها، ونظراً لمحدودية صفحات المجلّة، وكونها فصليةً، لا شهرية ولا أسبوعية، سوف نسعى إلى انتقاء المقالات الدالّة.
ولا نعني بالمقالات الدالّة، الأقوى والأمتن من الناحية العلمية، بل قد نترجم دراسات من الدرجة الثانية أو الثالثة، لتكون صورة المشهد أكثر اكتمالاً أيضاً، فليس هدفنا إلاّ نقل المشهد بالمقدار المتسنّى لنا، وإن كان نقل المشهد كاملاً يحتاج إلى مؤسّسات ضخمة تتجاوز ليس مجلّة واحدة بل عشرات المجلات.
من هنا، نستغل الفرصة لنوجّه دعوةً إلى كل من يمكنه فعل ذلك، لإنشاء بنك ترجمة مدعوم، مهمّته تكديس الدراسات المترجمة، ثم توزيعها مجاناً أو بقيمة رمزية على الصحف والمجلات في العالم العربي، وبحسب اطلاعي، فإن هذا الأمر ممكن عندما يتم تشكيل لجنة أو مؤسّسة للمترجمين الدينيين، يعنى قسم منها بالترجمة من الفارسية إلى العربية، ويضمّ مختلف المترجمين المتخصّصين في هذا المجال.
لا بل إنّنا ندعو إلى مؤتمر أو ملتقى الترجمة الدينية، لتدارس مشكلات هذا النوع من الترجمة وأزماته، وسبل التنسيق بين المترجمين الفاعلين، للبلوغ بالعمل أقصى نقطةً ممكنة.
وإذا لم يكن هذا الأمر متوفراً، فإن الحد الأدنى الذي يمكن لنصوص معاصرة أن تقوم به هو أن تدعو النقّاد لمراسلتها، وإتحافها بكل ما لديهم من نقد فني أو مضموني أو غيرهما، ذلك كلّه يساهم ــ بالتأكيد ــ في ترشيد الجهود، فما المعصوم إلاّ من عصمه الله تعالى.
6 ــ انطلاقاً من النقطة الخامسة، ستركّز المجلّة ــ إن شاء الله تعالى ــ على الدراسات المثيرة للجدل، وستعرض وجهات النظر كافّة قدر الإمكان، لذا فهي تأمل من قارئها أن يتعامل معها بصدرٍ رحب وروح رياضية مرنة، ويعذرها حيث يمكن العذر، فإن المسلم من شأنه أن يعذر أخاه المسلم، وإذا ما أخطأ أحد نتيجة اشتباه، فلا تثريب عليه، إذا كان صادقاً بينه وبين نفسه، مخلصاً نيّته لربّه تعالى، هادفاً ثوابه، مشفقاً من عقابه، وإنّي لأرجو الله سبحانه أن أكون كذلك، وأن أخدم بهذا الجهد المتواضع، فكرنا الإسلامي الذي يحتاج ــ فيما أراه ــ إلى النهوض أكثر فأكثر.
7 ــ لن تتّبع مجلّة ((نصوص معاصرة)) سياسة المحور الواحد دائماً؛ لأنّ ذلك ــ بعد الدراسة والتأمّل ــ قد يعيق نقل الصورة كاملةً أحياناً، لهذا ستبذل جهدها للتنويع، فلعلّ قارئاً لا يعنيه محور أو علم أو اختصاص بقدر ما يعنيه غيره، ولعلّ في التنويع فسحةً للقرّاء حسب تنوّع أذواقهم وميولهم الفكرية والثقافية.
8 ــ من الطبيعي أن يكون العقل المذهبي جزءاً من الوعي الإيراني عموماً، وهذا معناه أننا ملزمون بعرض بعض مشاهد التفكير المذهبي في إيران، وإذا ما لزمنا ذلك، فإننا متأكدون من أنّ انزعاجاً متعدّد الجهات سوف يظهر، ولكي نزيل أيّ التباس من طرفنا نؤكّد من البداية أننا لا نريد الترويج العقدي لأي مذهب، كما أننا لا نريد القدح في أيّ مذهب، سواء عرضنا الأفكار النقدية على المذهب الشيعي في إيران أو تلك الداعمة له والمحسوبة على تيار الإفراط في نظر الكثير من المسلمين، من هنا ندعو قرّائنا الأعزاء لكي يتعاملوا مع وظيفة مجلة نصوص معاصرة تعاملاً يعي أنّها لا تهدف الترويج بقدر ما تهدف نقل المشهد كما كرّرناه مراراً.
9 ــ إنّ مجلة نصوص معاصرة غير ملزمة بأيّ من المقالات المنشورة فيها، بما فيها كلمة تحرير المجلة، فإنها لا تمثّل إلا كتّابها فحسب.
وأخيراً نأمل من الدول الإسلامية العربية وكذلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تتعاون مع المجلّة، لمزيد من التقارب الإيراني ــ العربي، بما يسهّل إصدارها ونشرها، شاكرين للقيّمين على العمل الثقافي في إيران والعالم العربي تعاونهم في ذلك، فلله درّهم، وعلى الله أجرهم.
هذا، واللهَ سبحانه وتعالى نسأل أن يلهمنا الصواب، ويجعلنا من صالحي العباد، ويغفر لنا تقصيرنا، ويعيننا على خدمة أمّتنا، فنقوّي شوكتها، ويعتزّ بنا أمرها، إنه نعم المولى ونعم النصير.
<الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا >الأحزاب: 39.