ترجمة: عمّار حمادة
تمهيد ــــــــــ
بعد مضي أكثر من عقدين من الزمن على انتصار الثورة وعلى إقامة الحكومة الإسلامية في إيران، وبعد الدخول في العقد الثالث، تجري الآن تحليلات وتفسيرات مختلفة لأسس هذه الثورة الدينية وأهدافها، وللفكر الذي رفعت قيادة الثورة لواء الجهاد والمقاومة على أساسه، وأقامت على إثره النظام الإسلامي.
فماذا كانت رؤية الإمام الخميني P للدين، وعلى أيّة أهداف كانت تنطوي؟ وماذا هو توقّعه وانتظاره من الدين، والقيام بالثورة، وتشكيل الحكومة الإسلامية؟ هل تركّزت تطلّعاته على رفض الظلم والسعي لعزّة المسلمين، أم إلى أهداف أخرى مثل الديمقراطية والحرية، أم إلى التنمية الاقتصادية وتحسين الوضع المعيشي للناس؟ وحتى نؤسّس الحكومة الدينية هل من اللازم أن نلحظ الأهداف الدنيوية فقط، وبدون تلك الرؤية الدنيوية لا يمكن إقامة الحكومة؟ ألا يمكن أن تهتمّ الحكومة الدينية بالأهداف الدنيوية والأخروية معاً، وأن تتخذ من مقولة ((تغيير المجتمع من الداخل والخارج)) شعاراً لها؟ كيف كانت رؤية مؤسّس الدولة للثورة وللنظام السياسي؟ هل كان يرى أنّ الثورة والحكومة الإسلامية متعلّقةٌ بالدنيا ولا دخل لها بالثورة الأخروية التي تحصل داخل الإنسان؟ وهل اهتمّ فقط بتغيير وضع المسلمين عندما أقام الحكومة الإسلامية في إيران؟ وهل أن أقصى ما أمّله من الدين كان سعي مسلمي العالم إلى العزة وعدم التبعية لأيّ قوّة؟ أم أنّه كانت لديه أهداف أعلى وأسمى كان يسعى وراءها، وأنّ رؤيته للدين والثورة الدينية منبثقة من الأهداف الدنيوية والأخروية معاً؟
وبالنسبة لتغيير وضع العالم، هل يمكن أن تكون هناك أهداف أخرى تسعى الثورة لتحقيقها، إلى جانب عزّة المسلمين كونها أحد الأهداف الأساسية للثورة، مثل الحريّة، والاستقلال، والتنمية الشاملة، ومحاربة الظلم في شتى أنحاء العالم؟ ما هو الهدف الذي سعى لتحقيقه قبل كلّ شيء وأكثر من أيّ شيء آخر؟ وعلى أيّ أساس متين كانت رؤيته الأولية والرئيسية مبنية؟
إن طرح مثل هذه الأسئلة يعزّز أبحاثاً مهمّة جداً حَرِيَّة بالبحث والتقويم، اعتماداً على السنوات الطويلة من تجربة الخميني وسعيه لإقامة الحكومة الإسلامية، وبناءً على سيرته النظرية والعملية بهذا الخصوص. حتى تكون رؤاه بهذا الاتجاه واضحةً وشفّافةً لرجال الفكر والأدب والثقافة، وحتى يُلْتَفَت إلى أنّ الجمهورية الإسلامية قامت ــ قبل كلّ شيء ــ على فكر الإمام الخميني، وتأثّرت به أكثر من أي شيء آخر، وهكذا نستطيع أن نقوم بتحليل هذه الظاهرة ــ الجمهورية الإسلامية ــ ودراستها وتوضيحها.
قد يكون القول بأنّ الإجابة على جميع الأسئلة السابقة تبدأ من ((التوحيد)) باعثاً على تعجّب القارئ العزيز، خاصّةً وأنّنا سوف نشرع في الإجابة عليها من خلال اقتطاعٍ مقطع تاريخي وتنقيب كلمات السيد الخميني أثناء وجوده في باريس.
سنورد في هذه المقالة جوابين للأسئلة المذكورة، أحدهما مختصر ومضغوط، والآخر مُفصَّلٌ وطويل نوعاً ما.
الجواب الإجمالي والمختصر نقتبسه من تحليلٍ لحديثٍ أجراه الإمام الخميني في باريس، والجواب المفصَّل يمكن أن نحصل عليه من خلال التأمّل في الجواب نفسه المقتبس، وسنبيّن فيه كيف يمكن في النظام المعرفي الخمينوي أن تحصل الثورة الإسلامية، وأن تقام الحكومة الإسلامية على أساس التوحيد؟ وكيف تتشكّل الأهداف والرؤى المرحلية والاستراتيجية؟ وكيف تُرسم طرق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة في ظلّ مثل هذه الحكومة؟
ثنائي العقدي والسياسي أو دور التوحيد في الدولة الدينية ــــــــــ
عندما كان مراسل ((التايمز)) اللندنية يسأل الإمام الخميني عن عقائده وأفكاره، في نوفل لوشاتو ــ تلك الضاحية الباريسية التي كانت محلّ إقامته بعد خروجه من العراق، عندما كانت انتفاضة الشعب الإيراني قد بلغت أوجها، والنصر لم يعد بعيداً ــ تلقّى هذه الإجابة: ((إنّ أساس جميع العقائد، التي جاء بها القرآن ورسول الإسلام 2 والخلفاء بالحقّ من بعده، وأهمَّ وأكثر اعتقاداتنا قيمةً هو التوحيد. فطبقاً لهذا الأصل، نعتقد أنّ الله تعالى وحده خالق الكون وجميع عوالم الوجود والإنسان، وأنّه مُطَّلعٌ على الحقائق، قادرٌ على كلّ شيء، ومالك لكلّ شيء))([1]).
وبعد أن يبيّن أساس أفكاره جميعها على قاعدة التوحيد كأيّ مسلم آخر، ويعتبر هذه القاعدة أساس عمود جميع معارفه، يقوم في هذا الحوار باستخراج لوازم الإيمان التوحيدي ومقدّماته، مشيراً إلى التعاليم فائقة الأهمية التي يمكن استنتاجها منه.
في الواقع أنّ ما ذكره ــ بوصفه حصيلة التوحيد ــ يمكن أن يتلخّص بهذه الأسس التسعة:
1 ــ يجب أن يُسلم الإنسان فقط في مقابل الذات المقدّسة للحق، ولا ينبغي إطاعة أي إنسان إلاّ إذا كانت إطاعته طاعةً لله.
2 ــ ليس لأيّ إنسان الحقّ في إجبار الآخرين على التسليم له.
3 ــ ليس لأيّ فرد أن يحرم فرداً آخر، أو مجتمعاً ما، أو شعباً ما من الحرية، فيضع لهم قانوناً وينظّم أعمالهم وعلاقاتهم بناءً على فهمه ومعرفته الناقصة جداً، أو على أساس ميوله ورغباته الشخصية.
4 ــ إن قانون التطوّر والتقدّم بيد الله، لأنّه هو الذي وضع قوانين الوجود والخلقة، وسعادة الإنسان والمجتمع وكمالهما يكمنان ــ فقط ــ في إطاعة القوانين الإلهية التي بُلِّغَت للناس من خلال الأنبياء G.
5 ــ إنّ سلب الحرّية من الناس، والاستسلام أمام الآخرين يؤدّي إلى انحطاطهم وسقوطهم.
6 ــ يجب على الإنسان أن يحطّم القيود والأغلال، وأن يثور ضدّ أولئك الذين يدعونه لأن يكون أسيراً لها، وأن يحرّر نفسه ومجتمعه حتى يكون الجميع عبيداً مربوبين لله فقط.
7 ــ إنّ تعاليمنا الاجتماعية كانت ــ ومن الأساس ــ موجّهةً ضدّ القوى الاستعمارية وقوى الاستبداد، لأجل القيام بالتحرير المذكور.
8 ــ جميع الناس سواسيةٌ أمام الله، فهو خالقهم، وجميعهم عباده، وأساس تفاضلهم وتمايزهم يقوم على التقوى والتنـزّه عن الخطأ والانحراف.
9 ــ يجب محاربة كل ما يربك أو يشوّش أساس التفاضل في المجتمع، وكلّ ما يعطي الأهمية للامتيازات الفارغة والجوفاء.
إنّ هذه الأسس التسعة المذكورة هي التعاليم التي يمكن استنباطها واعتمادها من خلال التوحيد، في مجال الأمور الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، وهي تدلّ على أن النظام الديني المبتني على هذا الأصل ــ أي التوحيد ــ يمكن أن تتشكّل منه مجموعة مقولات مهمّة جداً وأساسية، كالحرّية، والمساواة، والعدالة، ورفض الظلم، ومحاربة الاستبداد والاستعمار والتمييز العنصري، والتي تُعتَبر من الحاجات الإنسانية الأساسية لأمس البشرية وماضيها، ولغدها ومستقبلها.
هذه المقولات من الاحتياجات الهامّة والمصيرية للإنسان في حياته، فهي التي تضمن فلاح المجتمع البشري وسعادته الأبدية، وفيها يزوّد الإنسان بالقوّة والاستحكام ما يستطيع به أن يرفع المتاعب جميعها عن كاهله، فكلّ هذه الآمال والاحتياجات كامنةً في كلمة التوحيد ولا يمكن الحصول عليها إلاّ منها.
لقد جعل الإمام الخميني التوحيدَ أساسَ تفكيره في المجال السياسي والنُظُم الاجتماعية، ومحور أفكاره تلك في حديثه المختصر والمفيد مع مجلة ((التايمز)) اللندنية، وشبّه النظم المختلفة بشجرة وجعل جذرها التوحيد.
إن قراءة التوحيد قراءة متأنية تعبر عند السيد الخميني عن أن التوحيد ــ ظاهراً ــ وإن جاء إلى جانب الأصول الأخرى كالعدل والنبوّة والإمامة والمعاد، بوصفه أحد الأصول الاعتقادية عند المسلمين، إلاّ أنّ واقع الأمر يشير ويدلّ على حقيقة أعلى وأسمى من ذلك، وهي أن جميع هذه الأصول ترجع إلى التوحيد، وأنّ معرفة الموحّد للنبي والإمام والمعاد تنبع من معرفته للمبدأ.
من هنا، وحيث إن الله هو الكمال المطلق، وهو مُنَزّه ومُبَرَّأ عن كلّ نقص وقبح، نصل إلى أصل العدل ونبعِد الظلمَ والطغيان عن الساحة الربوبية، وبناءً عليه يغدو منشأ الاعتقاد بالعدل عين المعرفة التوحيدية.
من ناحية أخرى، بما أنّ هداية الإنسان إلى الخير والسعادة وتبيين المعرفة الصحيحة والسلوك اللائق به من لوازم الحكمة الإلهية وأحد أبعاد الربوبية، فسوف نصل إلى أصل بعثة الأنبياء G وضرورة النبوة والإمامة، ومن ثم نستنتج طبيعة الارتباط بين معرفة الحكمة الإلهية وهذين الأصلين، كما نصل ــ بعد التفكير العميق في العدالة والحكمة الإلهية ــ إلى الإيمان بالمعاد؛ لأن العدالة والحكمة توجبان ــ مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة بعث الرسل وإرسال الكتب ــ ألاّ يكون الكافر والمؤمن، الفاسق والصالح على حد سواء، وكاستمرار للحياة الانسانية في الدنيا، فإن هناك مكاناً آخر يُجازى فيه الناس على تصرّفاتهم وأفعالهم، وهذا هو سرّ المقولة الخمينيّة المشار إليها من أن التوحيد هو منشأ جميع اعتقادات المسلمين، بل أهمّها وأقدسها.
قال تعالى: >أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا< (إبراهيم: 24 ــ 25)، لقد شبّه نظام الفكر الإسلامي في هذا المثال القرآني بشجرة أصلها كلمة ((لا إله إلا الله)) الطيبة، وهو أصل يُنبت أصولاً أخرى، وبنموه وارتواء تلك الشجرة تنمو أغصانها وأوراقها وتحمل أزهاراً وبراعم، وثماراً جنية. وكما قال العلاّمة الطباطبائي: ((عندما يتّسع التوحيد فإنّه يصبح كلّ الإسلام، وإذا ضُغِط الإسلام فإنه يصبح توحيداً))([2]).
إنّها معرفة الله التي أنتجت سائر العقائد والنُظُم المعرفية الدينية، وهي كالغرسة إن وجدت تربةً صالحة فإنّها تبدأ بالتنامي وإنبات الأغصان والأوراق وإعطاء الثمر، فالتوحيد محور النظام المعرفي والقيمي للفكر الإسلامي، وكلّما تكامل في روح الإنسان وتجذّر، كلّما تجلى فيه إيماناً، وظهر فيه سلوكاً وعملاً.
ليس الإقرار بكلمة الإخلاص والإيمان بالتوحيد عقيدةً وفكراً عقيماً لا يؤثر على سلوك الإنسان وأعماله، وليس له علاقة بسائر أفكاره ومبادئه، أو هو منفصل عن نظمه الاجتماعية والسياسية وقيمه الأخلاقية، فالمعرفة التوحيدية، فضلاً عن تأثيرها في المعرفة الوجودية، تصوغ ــ من ناحية أخرى ــ النظام القيمي للإنسان الموحّد، والمؤمن الموحّد ينظّم عمله على أساس القرب من الكمال المطلق والسلوك إلى الله، ويختبر منهجه على طبق ذلك، هدفه النهائي هو الله، ولأجل سطوع نور التوحيد في كلّ كيانه يقوم بصقل قلبه وتهذيب روحه وتصفية باطنه.
تقوم المعرفة التوحيدية بدور المنظّم للعلاقات الاجتماعية والحقوقية والسياسية، وهكذا تكون السياسة أيضاً إحدى الساحات التي يؤثّر فيها الفكر التوحيدي، بحيث جُعلَت ضمن نطاق نظامه، وبناءً عليه، يتدخّل الفكر التوحيدي في قضايا المعرفة والأخلاق والسياسة، ويعمل تأثيره في هذه المجالات الثلاثة.
طبقاً لما ذُكِر، يشكّل التوحيد ــ عند الإمام الخميني ــ البناء الأساسي الموجِّه للفكر بشكل عام، ويُعتبر الجوهر الأساسي لثورته الدينية. فهو يؤمن، بأن التوحيد ليس يُصْلِح فقط باطن الإنسان، بل يوصل المجتمع أيضاً إلى الصلاح والفلاح، وعلى هذا الأساس يحقّق التوحيد ــ بالإضافة إلى العزة والكرامة ــ أموراً مهمّة أخرى، كعالم حرٍ وعامرٍ وخالٍ من أي فساد وظلم وتمييز عنصري، لا يتيسّر وجودها إلا من خلاله.
كان هذا جواباً مختصراً ومضغوطاً للأسئلة التي وردت في مقدّمة هذه المقالة، ونشرع الآن ــ وبالاستعانة بهذا الجواب الإجمالي ــ بالتفصيل أكثر.
في هذا المجال، سوف نبحث ــ أولاً ــ في الدرجات المختلفة للتوحيد في النظام الفكري الإسلامي، عندها سنقوم بإلقاء نظرة على رؤية الإمام الخميني P للتوحيد، لنصل إلى نظريّته الدينية وأفكاره بخصوص الثورة الدينيّة وتطلّعاته إلى الدين.
1 ــ المعرفة التوحيدية في النظام الفكري الإسلامي ــــــــــ
كلمة ((توحيد)) مصدرٌ من باب تفعيل، ومعناه اعتبار الشيء وعدّه واحداً، وقد جاء في هذا الإستعمال باب تفعيل لإعلام القبول والإقرار، ولم يكن الهدف منه الإيجاد والجعل، كما هو الأمر ــ عادةً ــ عندما يكون الفعل متعدّياً، وكذلك جاء التوحيد في هذا الاستعمال على نسق التعظيم والتكبير، فكما كان معنى التعظيم عدّ الشيء عظيماً لا إيجاد العظمة فيه، كذلك التوحيد لا يعني جعل الشيء واحداً وإيجاد الوحدة فيه، بل الاعتقاد بالوحدة والواحدية.
في عرف المسلمين، عندما يُذكر التوحيد مطلقاً دون قيد فإنّ المقصود منه نفس الإيمان بوحدة مبدأ الخلق، أمّا الفلاسفة والمتكلّمون المسلمون فيرون للتوحيد مراتب، هي: التوحيد الذاتي، والتوحيد الصفاتي، والتوحيد الأفعالي.
أولاً ــ التوحيد الذاتي: وهو تنـزيه الساحة الإلهية عن الشريك أو التركيب، والإيمان بأن الحقّ ليس له جزء ولا نظير ولا مثيل، وهو واجد لأحديته وواحديته: ((إنّه تعالى واحد أحدي المعنى))([3]).
ثانياً ــ التوحيد الصفاتي: ومعناه أنّ صفات الله، كالحياة، والعلم، والقدرة هي عين ذاته المقدّسة، وليست زائدةً أو عارضةً عليها،
وأنّه منـزّه عن هذا النقص، أي عن كون الصفات خارج الذات وعارضة عليها،
ذلك أنّ الكمالات ليست في داخل ذاته المقدسة، ((وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه))([4]).
ثالثاً ــ التوحيد الأفعالي: ويعني أنّ خلق العالم كان مترافقاً ونظامٍ قانوني، وأنّه مبتنٍ على الأسباب والمسبّبات المغروسة في داخله، فكلّ شيء ناشئ عن إرادة الله ومتّصل بمشيئته، وظواهر الوجود ــ كبيرها وصغيرها ــ بما أنّها تمدّ يد الاحتياج إلى خالقها ومرتبطة به، وبما أنّه قائم بذاته >الله لا إله الا هو الحيّ القيّوم< (البقرة: 255)، لذا لم تكن مستقلّةً، بل تأتي في المرتبة اللاحقة في التأثير، وكلّ أثر يمكن أن يظهر في موجود فهو بالفعل والقوة الإلهيين ((لا مؤثر في هذا الوجود إلاّ الله)).
إذن، فالتوحيد الأفعالي إيمان وإقرار بفقر ظواهر الوجود وتعلّقها دون أن يتعارض هذا الإيمان أو يرفض نظام العلية والمعلولية.
وللتوحيد الأفعالي فروع أبرزها:
ـ التوحيد في الخالقية: وهو اعتراف الموحّد وإيمانه بأنّ جميع موجودات العالم فقيرة ومحتاجة في وجودها إلى الفيض والتجلّي الإلهي، وأن الجميع مخلوق له، وأن ليس هناك خالق وموجد مستقل إلاّ هو: >قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهار< (الرعد: 16).
ـ التوحيد في الربوبية: يقال باللغة العربية للمالك والمدبّر والمتصرّف ((رب))، والمدبِّر هو الذي يتعهّد الأمر، ووظيفته تنظيم الأشياء بحيث تصل إلى النتيجة المرغوبة والمتوخّاة بالطريقة المناسبة، والغرض من هذا التوحيد الإيمان بأنّ تدبير العالم، ومن جملته الإنسان، بيد الله سبحانه، وأنّ بسط الخلق قد جُعِلَ تحت ربوبيّة خالق الوجود وتدبيره، وأنّ الإنسان ــ حتى بعد خلقه وإيجاده ــ لم يُفَوَّض له تدبير نفسه، بل يعيش ويحيا بالتدبير الإلهي([5])>رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى< (طه: 5).
ويمكن دراسة التوحيد الربوبي ــ طبقاً لاعتقادات المسلمين وآراء علمائهم ــ ضمن قسمين هما: الربوبية التكوينية، والربوبية التشريعية.
القسم الأول: الربوبية التكوينية: ويعني التوحيد فيها الإيمان بحقيقة أن التدبير والإدارة التكوينية للكون هي بيد الله، وليس هناك أيّ ظاهرة خارجية تحيد عن مجال ربوبيته. فكل شيء يسير بتدبير ربّ العالمين، من دوران الأفلاك وحركة المنظومات الفلكية، وحتى هبوب الرياح ونموّ النباتات وحركة النمل([6])، فهو واحدة من المراتب الدقيقة والصعبة للفكر التوحيدي، كما يعدّ إحدى حلقات السلسلة المتكاملة لمراتب التوحيد. ويكشف التدبّر والتفكّر في آيات القرآن الكريم عن أنّ الخلل العقدي
عند الكثير من الكافرين والمشركين المعاصرين للأنبياء العظام
كإبراهيم C والنبي الخاتم 2 كان في إنكارهم لهذه المرتبة، ففي الوقت الذي كانوا فيه مؤمنين بالتوحيد الذاتي والتوحيد الخالقي >ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله< (لقمان: 25)، كانوا يتميّزون عن صفّ الموحدين بهذه المرتبة الحسّاسة من التوحيد الربوبي، من هنا كان احتجاج نبي الله إبراهيم C على مشركي عصره بهذه الربوبية التكوينية لله >فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ< (الأنعام: 76).
القسم الثاني: الربوبية التشريعية: المرتبة السامية التي لا يصل بدونها التوحيد إلى نصابه اللازم هي الإيمان بالتوحيد في الربوبية التشريعية، هذا القسم من الربوبية يرتبط بالأفعال الاختيارية والإرادة الحرّة للإنسان.
إن تمايز الإنسان عن المخلوقات الأخرى يكمن في الإرادة المختارة التي أعطاها الله له، فهو يقوم بالسعي والاختيار من خلال إرادته الحرّة لأجل التكامل والتطوّر، ويمكننا تسمية حركة ما بأنّها حركة إنسانية فيما إذا انطلقت في ظروف تحكمها الحرّية والإرادة البشرية، وكلّما كانت هذه الحركة إجباريةً وبفعل الإكراه ــ أي دون رأي الانسان وتفكيره ــ فلا يمكن اعتبارها إنسانية.
وعليه، تقتضي الربوبية الإلهية ــ وبحكم أفعال الإنسان الإرادية والحرّة ــ أن لا تتركه وشأنه بعد أن أنعمت عليه بالإرادة الحرّة وأوصلته إلى حقّ الاختيار في مجال الفكر والإيمان الباطني وفي مجال العمل والسلوك الخارجي، وبعد أن جعلت في متناول يده أسباب إعمال هذه الإرادة الحرة جميعها، بل إن الله تعالى أرشده إلى الصراط المستقيم للفلاح وبيّن له الشقاء والسعادة، الخير والشر، ووضع له منهجاً للحياة الفردية والاجتماعية بغية الوصول إلى الكمال والتقدّم، لكي يؤمن ويقبل بإرادته على هذا الصراط المستقيم >لا إكراه في الدين< (البقرة: 256).
وعلى أساس هذا التوحيد الربوبي التشريعي، يفترض بالإنسان إطاعة الله فقط أو من أمَرَ الله بطاعته، وأن يتّبع قانونه وأوامره فقط، وأن لا يقبل إرادة شخص آخر غيره سبحانه، أو قانون غيره وأوامره، وأن يعطيه وحده حقّ الأمر والتشريع([7])، فالإيمان بالربوبية التشريعية لله من المراحل الصعبة والحسّاسة جداً في الفكر التوحيدي، ولاجتياز هذه المرحلة بنجاح على الإنسان أن يواجه امتحاناً عسيراً وابتلاءً قاسياً؛ وذلك لأنه ينبغي عليه أن يُحَصِّل هذا الإيمان بإرادته الحرّة، وأن يتّبع الأوامر الإلهية، ويتجاوز ميوله ورغباته النفسية، وأن يسلك الصراط الإلهي المستقيم، وهذا عمل كبير جداً، ومهم في مسير التكامل والسعادة الإنسانية.
إنّ التأمُّل في انحراف إبليس ــ كما رواه القرآن ــ شاهدٌ على هذه الحقيقة، فقد اعتبره من الكافرين، ووصفه بأنّه غير موحّد: >وكان من الكافرين< (البقرة: 34)، فمن أين بدأ كفر إبليس وانحرافه عن جادّة التوحيد؟
إنّ الذي يبدو ــ وفقاً للمصادر الدينية ــ أنّ ابليس كان مؤمناً بالذات الإلهية، لا منكراً لها، حيث عبد الله ستة آلاف سنة لا يُعلم أنّها من سنيّ الأرض، أم من سنيّ السماء التي يومها كألف سنة([8])، فإبليس كان مؤمناً بالمبدأ والمعاد، ولذلك نجده يستمهل الله إلى يوم القيامة >قال انظرني إلى يوم يبعثون< (الأعراف: 14)، ومشكلة إبليس لم تكن في أيّ من التوحيد الذاتي أو الصفاتي أو الخالقي أو الربوبي التكويني، بل ما أوقع ابليس نفسه فيه وما أخرجه من زمرة الموحدين إنّما هو عدم إيمانه بالربوبية التشريعية، فلم يكن ليعتبر الأمر الإلهي مطاعاً دون نقاش؛ ولذلك عندما وجده غير موافق لميولـه النفسانية ومشتهياته الباطنية وقع في الكفر.
هذه الحقيقة القرآنية تبيّن حساسية طريق التوحيد في الربوبية التشريعية وصعوبته، التي نؤمن بها على أنّها نصاب التوحيد وحدّه الذي على أساسه يعتقد الموحِّد أنّ الله وحده يستحقّ الطاعة، وأنّ شرعيّة كلِّ سُلطة سياسية وكل قانون إنما تؤخذ من هذا المبدأ الإلهي. وإلاّ فسيكون كلّ جهاز سياسي وحقوقي مجعول في عرض التشريع الإلهي واقعاً في تعارض واضح مع نظام التوحيد.
ومن هنا، يتّضح الارتباط بين مقولتي التوحيد والسياسة اللتين تبدوان غير مرتبطتين، أو أنّ ارتباطهما غير مأنوس، كما ويتضح دور التوحيد في التفكير السياسي للإنسان الموحّد الذي قبلَ جميع مراتب التوحيد ودرجاته ــ من التوحيد الذاتي والصفاتي إلى التوحيد في الربوبية التشريعية ــ وآمن بها.
وعليه، يمكننا الآن بعد هذا السرد المقتضب دراسة النظرية المعرفية للدين عند الإمام الخميني P، ثم تحليل رؤيته للثورة الدينية بالاعتماد على كلمة التوحيد ودورها في المنظومة الفكرية عنده، لنقوم ــ عقب ذلك ــ بمراجعة التوحيد في بناءاته الفكرية والسياسية.
2 ــ التوحيد في فكر الإمام الخميني ــــــــــ
كما قال الإمام الخميني في معرض جوابه لمراسل صحيفة ((التايمز)) عندما عرَّف الأساس والمبنى الفكري الذي يحمله: ((إنّ أساس جميع العقائد، وأهم وأكثر اعتقاداتنا قيمة هو التوحيد))([9])، فإن استعراض أفكاره في المقطع الزمني الحسّاس من تاريخه المليء بالمتغيرات يوصل ببساطة إلى نفس هذه الحقيقة، حيث إن أكثر مؤلفاته قبل سنّ الأربعين من عمره تدور حول محور التوحيد، وتختصّ بالموضوعات العرفانية المرتبطة به.
فنتاجاته المهمة، مثل ((شرح دعاء السحر))، و((مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية))، و((التعليقة على الفوائد الرضوية))، و((التعليقة على شرح فصوص الحكم))، و((مصباح الأنس)) و((شرح الأربعون حديثاً))، جميعُها كتبت في المقطع الزمني الذي لم يكن قد تصدّى فيه للمرجعية، والذي كان خلاله مشغولاً بالتدريس والكتابة في مدينة قم، ولم يكن قد بدأ بالتصدّي للشأن السياسي بشكل واضح وفعَّال.
وهذه الحقيقة تحكي عن اشتغال قلبه وميله الباطني آنذاك إلى موضوع التوحيد أكثر من أيّ موضوع آخر، وهذاما نفهمه أيضاً من سيرته على الصعد الدينية والسياسية المختلفة، وقد رافقه هذا الميل إلى آخر أيّام حياته، وعلى أساسه فَهِمَ العالمَ والإنسان والدين والسياسة، وكلَّ موضوع مفترض آخر.
تأثّر السيد الخميني في ميدان الفكر التوحيدي بالقرآن الكريم وأهل البيت G أكثر من أيّ شيء آخر، ثم بالعرفاء المسلمين، وكان يقوم بتحليل التوحيد وتبيينه على أساس تعاليم القرآن وأحاديث المعصومين G. فهو وإن قام في بعض الموارد بإثبات المبدأ بالاستفادة من برهان النظم، أو برهان الإمكان والوجوب، وأن الممكنات تحتاج بأصل وجودها الى الواجب([10])، إلا أنّه كانت لديه في مباحث المبدأ ومعرفة التوحيد ميلاً أقوى وأوضح إلى الفطرة، تبعاً لأستاذه الحكيم آية الله الشاه آبادي S.
فعلى أساس هذا الاعتقاد ــ أي أنّ لفطرة الإنسان تعلّقاً بالكمال المطلق، وأنّ الإنسان بفطرته يتنفّر من كل نقصٍ وعيب، ويسعى إلى الكمال المطلق ــ يمكن الوصول إلى معرفة المبدأ وإثبات التوحيد([11])، إن عشق الكمال المطلق والتنفُّر والانزجار من النقص من المسائل الفطرية عند الإنسان، ومن هذه الفطرة نستطيع أن نثبت الهويّة المطلقة الإلهية، فالهدف من عشق الكمال المطلق أنّ الأشياء المرغوبة التي نراها بين الناس، كالثروة، والسلطة، وحبّ العلم، وغير ذلك، والتي يبحث كلُّ شخص عن محبوبه بينها، ويظن أنّه محبوبه الواقعي ــ وحيث إنّ الفرق بين الناس هو في تعيين مصداق المحبوب وتحديده ــ عندما يرجع إلى فطرته فإنّه لا يقنع بهذا المحبوب، وإذا وجد شيئاً أكمل منه فإنّ قلبه يتعلّق به مباشرة.
إنّ نور الفطرة هو الذي يهدي الإنسان إلى الكمال الذي لا عيب ولا نقص فيه، وهذه الفطرة نفسها هي منبع جميع حركات الإنسان ومساعيه، وهي مصدر طاقة تحمّله للمشاق في هذا العالم، إنّ اختلاف الناس إنّما يقع فقط في تعيين المحبوب الواقعي، فكلّ إنسان يتخيّل كماله ومطلوبه في شيء، فالطالب للسلطة إذا استطاع أن يحكم جميع بلاد العالم لا يكتفي بذلك، بل يتوجّه قلبه إلى حكم بلاد أخرى، لأنّ قلب الإنسان متوجّه إلى الكمال الذي لا نقص فيه، وإلى العلم الذي لا جهل فيه، وإلى القدرة التي لا عجز فيها، وإلى الحياة التي لا موت معها، فالجميع عاشق للكمال المطلق وليس هناك من معشوق سوى الذات الكاملة المطلقة، التي هي مورد توجّه الفطرة. هذا هو حكم الفطرة، وأحكام الفطرة في أوضح البديهيات.
في تفسيره لسورة التوحيد، اعتبر الإمام الخميني P في المرحلة الأولى أن ضمير ((هو)) إشارة إلى الهويّة المطلقة الإلهية، وأن هذه الهوية المطلقة هي مركز توجّه فطرة الإنسان ومطلوب الجميع ومعشوقهم. ثم اعتبر في المرحلة الثانية أنّ الهوية المطلقة تثبت ستة صفات من أوصاف الباري تعالى، أشير اليها في تتمّة هذه السورة المباركة وهي: 1 ــ الله: مجمع جميع الكمالات. 2 ــ الأحد: البساطة وعدم التركيب. 3 ــ الواحد: عدم وجود نظير ومثيل (لازم الأحدية). 4 ــ الصمد: التنـزّه عن كل عيب ونقص. 5 ــ لم يلد: ليس له ولد. 6 ــ لم يولد: لم يلده أحد([12]).
وهكذا تثبت سورة التوحيد (الإخلاص) ــ بإلهام من الفطرة الباحثة عن الكمال ــ التوحيد في مراتب الذات والصفات والأفعال.
نصل بعد هذه المرحلة إلى بيان التوحيد الأفعالي عند الإمام الخميني، فقد اعتبر، عند بيانه مسألة التوحيد الأفعالي الدقيقة جداً والغامضة، بإلهام من الكتاب والسنّة، أنّ العلاقة بين الوجود وبين الله علاقة خاصّة، ومميزة يُعَبَّر عنها بالتجلّي والظهور، وهذه العلاقة تختلف اختلافاً ماهوياً ملفتاً عن باقي أنواع العلائق الأخرى المعروفة لدى الإنسان([13]).
ومن أهم نماذج العلائق المعروفة للإنسان العلاقة الوجودية بين الأب والإبن، وبين شعاع الشمس وقرصها، وبين الحواس ــ كالسمع والبصر ــ والنفس، ففي هذه الأمثلة الثلاثة المذكورة، نلاحظ الانفصال والبينونة مشهودين في الأول، حيث لا نجد فيه علاقة تكوينية شديدة، أمّا في الثاني، ولو أنّ العلاقة أصبحت أعمق إلاّ أنّ التمايز مشهود فيه أيضاً، أمّا في المثال الثالث فيظهر الارتباط الكامل والعلاقة القوية بحيث يدرك الإنسان بالعلم الحضوري ويرى بالشهود أنّ للنفس إحاطة قيوميّة، من الجوانب جميعها، بقواها وحواسّها، وأنّها متّصلة بها من جميع الجوانب أيضاً.
بالرغم من ذلك، يعتبر الإمام الخميني أن العلاقة بين ظواهر العالم وبين الله سبحانه أدقّ من هذا كلّه، بل ويعتقد أن هذه العلاقة غير قابلة للبيان والوصف، لأنّ الألفاظ لا تستطيع أن تتحمّل تلك المعاني، وإذا أردنا أن نخبر عن هذه العلاقة أو نصوغها في قالب الألفاظ، فالأفضل أن نعبِّر عنها بالظهور والتجلّي الموجود في كلمات العرفاء، والذي يمكن أن نشاهد نماذج منه في آيات القرآن وبعض الأدعية المأثورة.
ومن جملة هذه التعابير ما جاء في الآية الشريفة: >فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا < (الأعراف: 143)، ففي هذه الآية كلام عن تجلّي الله سبحانه لموسى C. ونشاهد مثل هذه التعابير في دعاء السّمات، والمناجاة الشعبانية، فالله يقسم في دعاء السّمات: ((وبنور وجهك الذي تجلّيت به للجبل فجلعته دكّاً وخرّ موسى صعقاً)) حيث يشير إلى قصّة موسى C نفسها التي نقلها القرآن الكريم، وفي المناجاة الشعبانية أيضاً نقرأ: ((إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك، فناجيته سرّاً)).
يتحدّث الفلاسفة والفقهاء عن العلّة والمعلول، والخالق والمخلوق، والأثر والمؤثر، ليبيّنوا علاقة عالم الوجود بالله تعالى، أمّا الكتاب والسنّة فقد عبَّرا بالتجلّي والظهور؛ لأنّ ذلك يوصلنا بشكل أفضل إلى حقيقة الموضوع، من هنا نجد أنّ القرآن الكريم عندما أراد وصف الله بأنّه نور السماوات والأرض قال: >الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ< (النور: 35)، ولم يقل: ((بالله تستنير السماوات والأرض)) لأنّ هذا التعبير ــ برأي الإمام الخميني P ــ يحكي عن نوع من التغاير والانفصال، فيما نفهم من تعبير >نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ< أنّ السماوات والأرض هما ظهور نور الله، بمعنى آخر تجلّي الله، وأن جميع الموجودات ــ علاوة على أنّها نور من نور الله ــ ليست شيئاً بحدّ ذاتها، كما لا استقلال لها.
فالاستقلال معناه خروج الموجود عن حدّ الإمكان ودخولـه حدّ الواجب ومرتبته، فيما شعاع الوجود ذاك والتجلّي الذي وجدت به الموجودات لو عُدِم فسوف تصبح الموجودات كلّها عدم؛ أي تخرج عن حالة الوجود وتعود إلى حالتها الأولى؛ لأنّ استمرار الوجود يكون بتجلّيه هذا، أي تجلي الحقّ تعالى، وبه يوجد العالم كلّه، فهو ــ إذاً ــ مبدأ حقيقة الوجود([14]).
وطبقاً لما ذكرناه باختصار، نصل إلى تحديد رؤية الإمام الخميني للوجود، إذ يعتبر العالم تجلٍّ للحقّ سبحانه، وأنّه عين الربط والتعلّق به سبحانه، وقد برهن على هذه الرؤية جيداً في الحكمة المتعالية الصدرائية على أساس نظريّة الإمكان الفقري، وهي التي بيّنت كيفية العلاقة بين العلّة والمعلول([15]).
إنّ فعلية ومبدأية واجب الوجود في الفكر الفلسفي الخميني لا تشابه عليّة الفواعل الطبيعية التي يتصرّف فيها الفاعل في موادّ الموجودات، فليس الله كالنجّار والبنّاء، بل يوجد الأشياء بنفس الإرادة بدون سابقة، وعلمه وإرادته هما علّة ظهور الأشياء ووجودها.
وهناك مثالان يمكنهما ــ إلى حدّ معين ــ توضيح هذه العلاقة، أحدهما مثال موج البحر. فالموج ليس شيئاً خارجاً عن البحر، والبحر عندما يكون مائجاً إذا نظرنا اليه نرى شيئين: البحر، وموج البحر، فالموج مفهوم عارض على البحر، ولكن واقع الأمر أنّه ليس شيئاً آخر غيره، إذاً موج البحر عينه، العالم أيضاً موج، والمثال الثاني علاقة الذهن بالإنسان نفسه، حيث يوجد ــ بمجرد الإرادة النفسية والتصميم ــ الصور الذهنية، مظهراً ما في باطنه([16]).
يصرّح الإمام الخميني بأنّ هذه المطالب هي مسائل التوحيد المطلق، وهي وإن ثبتت بالبرهان إلاّ أنها تحتاج إلى المشاهدة، لأنّ البرهان حجاب ومانع عن الرؤية بل هو عمىً، لذا يفترض أن يبلغ هذه القضايا القلبُ نفسه، فهو كالطفل يجب أن نعلِّمه كلمةً كلمةً (كالتهجّي)، كذلك من يريد إدراك هذه المسائل بعقله يجب أن يلقّنها قلبَه، وعندما تصل الى القلب بالتكرار والمجاهدة وأمثالها سيؤمن عندها بأنّه ((ليس في الدار غيره ديّار))، وإذا لم يحصّل ذلك فإنّه على الأقل لا ينكره، فلا ينبغي على الإنسان أن ينكر كلّ ما لا يعلم، بل يجب أن يحتمل ذلك ((كل ما قرع سمعك ذره في بقعة الإمكان))، أي لا تردّه([17]).
ومن يتأمَّل صفحات حياة الإمام الخمينيP يجد بوضوح أنّه ــ علاوة على البرهان ــ سار خطوات طويلة في مسير شهود الحقائق والأسرار العالية، وأنّه أورد إلى قلبه كلّ ما كان قد توصّل إلى إثباته بالبرهان الفلسفي والتأمّل العقلي وآمن به، إنّ هذا الإيمان بالتوحيد، واليقين الشهودي بالكمال المطلق ليس فقط الجوهر والأساس لكلّ أفكاره في الميادين المختلفة السياسية والفلسفية والاجتماعية والدينية وغيرها، بل هو أيضاً المبنى الأصيل الذي يجب أن تفسّر على أساسه مواقفه وأعماله السياسية وغير السياسية جميعها، وأن تدرس طبقاً له.
إنّ ما جعل الإمام الخميني في هذا المقام، وما ميّزه عن الآخرين، وزرع فيه النظرة العميقة، والصلابة والشجاعة، والزهد، والهمّة العالية، والاعتماد على النفس، والعبادة والخضوع لله، وحبّ الناس، وحريّة الفكر، وبساطة العيش، والعشرات من الخصال الحميدة والمميزات البارزة الأخرى، وما مكّنه من أن يقف أمام الأعداء كالجبل الشامخ ولا يتردّد للحظة واحدة، وأن يتغلّب على الخوف ويكشف مكائد الأعداء ــ ما جعله هكذا ــ ليس إلاّ فكره التوحيدي.
فقد أنصت بكلّ وجوده ــ أكثر من الجميع ــ الى الموعظة الإلهية: >قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى< (سبأ: 46)، وقد أحدث في داخل نفسه ثورةً، وأمسك بزمام شيطان نفسه الأمّارة بالسوء، ولأنّه كان قد قام بذلك ((القيام لله))، فقد وجد حقّاً وعرف شهوداً أن الطريق الوحيد للإصلاح الداخلي (الباطني) والخارجي (الظاهري)، إصلاح النفس والعالم، إصلاح الدنيا والآخرة، هو في نفس هذا ((القيام لله)). فطبّق أوّلاً القيام ((الباطني)) الداخلي وأنقذ نفسه، وعندها تحرّك لإنقاذ أمته، فبيّن لها طريق القيام لله من خلال إيمانه بوجوب تحرير الناس من نير جميع القيود الخارجية والداخلية، فأطلق مثل تلك الصرخة المدوية بوجه إعداء الوطن والدين، كالنظام الشاهنشاهي وأمريكا وإسرائيل، الذين كانت أفكارهم لا تهزّ إلاّ الآخرين، إنّ تصميماً، كإسقاط النظام الديكتاتوري ومواجهة مستكبري العالم، لا يتخذه إلاّ الموحّدون في هذا العالم، حيث لا يستطيع أي سياسيّ أن يفكّر فيه مجرّد تفكير.
ومن الطبيعي أن يستدعي البحث في الـتأثيرات الميدانية لهذه النظرة التوحيدية في مجال السياسة وإقامة النظام الديني مجالاً أوسع، باستقراء حياة هذا الرجل الكبير، نوكله إلى موضعٍ آخر.
3 ــ دعوة الأنبياء G الأسس والمبادئ ــــــــــ
من المسائل البارزة والأساسية في فكر الإمام الخمينيP اعتبار التوحيد هدف بعثة الأنبياء G. يقول في هذا المجال: ((ما بعث لأجله الأنبياء G هو نشر التوحيد بين الناس ومعرفة العالم، وكلّ شيء آخر يعتبر مقدّمةً لهذا))([18])، ويؤكد في مكان آخر: ((جميع مقاصد الأنبياء G ترجع إلى كلمة واحدة، هي معرفة الله))([19]).
طبعاً نظرية أن ((الله هو هدف بعثة الأنبياء G)) قال بها بعض الكتّاب المعاصرين، لكن الشرح والتفسير الذي وضعوه لها يختلف مع رؤية الإمام الخميني([20])، فهم يقولون: إنّ إبراهيم C بصفته مؤسّس مذهب التوحيد لم يتحدّث مع نمرود سوى في عبادة الله، ولم يتدخّل في موضوع ملكه، وبناءً على ما تعكسه الثقافة البشرية فإنّه حطّم قصر الشرك وهاجر إلى وادٍ غير ذي زرع ليبني هو وأولاده بيت الله، وليقيموا فيه الصلاة، وهكذا موسى C لم يكن يعير اهتماماً لمُلك فرعون، ولم يكن يقصد الإطاحة به وإزاحة عرشه، بل طالبه باللين أن يترك بني اسرائيل([21]).
ويقبل هذا التفسير أنّ دافع الأنبياء G كان الثورة على عبودية الإنسان والسير بالناس الى الخالق الحقّ، ولكن يمكن أن يقال فيه أيضاً: إنّ الوصول إلى مجتمع التوحيد ومحورية الله لا يقتضي من الأنبياء G تدخلاً في عروش الظالمين وتيجانهم، والمشكلة الأساسية في هذا التفسير أنّ التوحيد الأصيل قد بُتِرَ فيه وترك في منتصف الطريق، لأنّه توقّف عند التوحيد الذاتي والصفاتي كحدّ أكثر، دون أن يرتقي إلى مراتبه العالية والنهائية، حيث يعتبر التوحيد في الربوبية التشريعية المرحلة الأساسية وحدّ النصاب في التعارض مع الميول والنوازع النفسية للإنسان مقابل التوحيد؛ وذلك هو ما جعل هذا التفسير في القطب المخالف لفكر الإمام الخميني.
يعتقد الإمام الخميني أنّ ((مناهج التوحيد والأديان السماوية ترتبط بجميع أبعاد وجود البشر، فقد وضعت برامج للإنسان من قبل ولادة الجنين، ونظام لتشكيل الأسرة، وكيفية التربية، وحتى الأبعاد الأخرى لحياته في العالم))([22])، ويقول في شرحه وتفسيره لهدف الأنبياء G، ضمن نطاق إرسالهم لإصلاح الإنسان وإعداده إعداداً صالحاً: ((إنّ إقامة العدل هي نفس عملية إعداد الإنسان))، لأنّ العدل والظلم سلوكان يصدران من نفس الإنسان، ((وإقامة العدل هي تحويل الظالم الى عادل))([23]).
إنّ تشكيل الحكومة والتدخّل في السياسة ــ في هذه القراءة ــ من أهداف الأنبياء G، لكن لا الأهداف والغايات النهائية، فالحكومة هدف مرحلي ووسيلة للوصول إلى الأهداف العالية والسامية.
لاحظوا هذه الكلمات للإمام الخميني: ((لم يأت الأنبياء G ليقيموا الحكومة فقط، فماذا يريدون من الحكومة؟ هم يريدونها طبعاً، ولكن ليس بمعنى أنّهم أتوا ليديروا الدنيا، فالحيوانات لديها دنيا ويديرونها أيضاً، إنهم يريدون نشر العدالة طبعاً، وهذا هو نفس إراءة صفة الحقّ تعالى، فالذين يمتلكون البصيرة يهدفون إلى تأسيس الحكومة، حكومة عادلة، ولكن ليس هذا مقصدهم النهائي، فهذه كلّها وسائل كي يصل الإنسان إلى مرتبة أخرى، جاء الأنبياء G لأجل إيصاله إليها))([24]).
بناءً على هذا، ثمّة مجموعتان من الأهداف المرسومة للأنبياء G، وليستا في عرض بعضهما، بل في طول بعضهما بعضاً، حيث ينبغي العبور من مرحلة للوصول إلى مرحلة أعلى، وأسمى هدف كان P ذكره بكلمة واحدة تحت عنوان ((معرفة الله))، أمّا إصلاح الإنسان وتربيته فهما جزء من أهداف الأنبياء G، لكنّه لأجل الوصول إلى التوحيد الأصيل عينه >أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ< (الجاثية: 23).
إنّ محورية الأنا عند الإنسان لا تجتمع مع التوحيد، لذلك فالوصول إليه يمرّ عبر هذا المسير، فإقامة العدل وتشكيل الحكومة، والتدخّل في الأبعاد الاجتماعية للحياة الإنسانية، والتي هي أيضاً من أهداف الأنبياء G إنّما هو لأجل تربية الإنسان، والإنسان الحائز على هذه التربية هو الهدف الأسمى لحركة الأنبياء G، لأنّه الموحِّد الواقعي.
ويمكن تلخيص المراحل الثلاث الآنفة الذكر على الشكل التالي:
إقامة العدل وتشكيل الحكومة تربية الإنسان معرفة الله ونشر التوحيد.
ونشر التوحيد في نظريّة الإمام الخميني، تماماً كمعرفة الله، هو المقصد الأسمى لحركة الأنبياء G، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف كان لديهم وظيفتان أساسيتان: الأولى: تحرير الناس من أسر النفس (الشيطان الداخلي)، والثانية: تحرير الناس من أسر الظالمين (الشيطان الخارجي)، وتظهر هاتان الوظيفتان بشكل واضح في سيرة الأنبياء الإلهيين G كموسى، وعيسى، والنبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقد كان نهج النبي عيسى C كذلك أيضاً، وإن لم يظهر ذلك في تعاليمه فبسبب عمره القصير وعدم تماسه الطويل مع الناس([25]).
لقد استقى الخميني هذا المفهوم من المباني التوحيدية التي بلورتها الآيات القرآنية، فالقرآن الكريم عندما يبيّن هدف البعثة يقول: >وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ< (النحل: 36)، فاجتناب الطاغوت إلى جانب عبادة الله أحد أهداف البعثة، وهذا ما نشاهده في مجاهدة الأنبياء G للطواغيت والمستبدّين إلى جانب دعوتهم التوحيدية، فلو أنّ إبراهيم Cلم يتحدّث مع نمرود إلاّ عن عبادة الله وما كان له دخل بملكه، أو أن موسى C كإبراهيم لم يكن له دخل بملك فرعون، أو أنّ نبي الإسلام الذي دعا الناس للتوحيد لم يكن له دخل بالمتسلّطين على الجزيرة العربية وأصحاب القدرة والنفوذ، فكيف يمكن أن نفسّر الحروب التي جرت بين الموحّدين والمشركين على طول التاريخ؟!
عندما أعلن الرسول الأكرم 2: >لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ<(الكافرون: 6) لماذا وقفوا بوجه هذا الإعلان العقلائي وقاموا باضطهاده هو وأصحابه؟ وعندما كان إعلانه: >لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ< (البقرة: 256)، فلماذا قام هو وأصحابه بمحاربة هذا الفكر؟ لو كان هناك فكر لا دخل له بمنافع أرباب المال وأرباب السلطة والمزوّرين ولا تشمّ منه رائحة تهديد لهم ــ هو عقيدة وفكر صرف ــ أفلا ينبغي على مخالفيه عدم إبداء ردّة فعل تجاهه، وعدم الانجرار والإعلان عن معاداته؟ فحتّى عندما تؤول الأمور إلى العنف بسبب إحدى النظريّات العلمية في ميدان العلوم التجريبية، كدوران الأرض حول الشمس، يكون السبب يكون ــ بلا شك ــ التهديد الذي يطال منافع الأقوياء ومصالحهم.
لذلك إذا كان الفكر التوحيدي الأصيل بصدد الانتشار في المجتمع، فإنّه يحمل في داخله جوهرة يربيها فتنتج آثاراً ولوازم لا يستطيع أرباب المال والسلطة أن يقبلوها، ولا يستطيع أهل التزوير تحمّل وجودها، إنّ لوازم التوحيد الأصيل وآثاره تأخذ بيد الموحّد إلى ميدان المجتمع، وتجعله في حرب مع منافع الطواغيت لأجل إقامة العدل، وبسط القسط، وتحرير الإنسان من الظالمين.
بدون شك، إنّ التوحيد ــ بكل طاقته وبجميع درجاته التكوينية والتشريعية ــ عندما يقتصر على الذكر اللساني فقط ولا يجمع الناس، لن يتعارض مع منافع المشركين وعبدة الأصنام، كما لن يقوم بأيّ تحرّك ضدهم؛ لأنّه لن يواجه وسوف يبتعد عن مقولة السياسة والسلطة.
لقد كان السرّ في نعت القرآن الكريم اليهودَ والنصارى بالمشركين؛ أنّهم كانوا يقبلون كلام رهبانهم وقساوستهم دون نقاش، ويعصون الأوامر الإلهية، قال تعالى: >اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله< (التوبة: 31).
يقول السيد الخميني: ((لم يرد الأنبياء G الحرب، ولم تكن دعوتهم للسيطرة على بلد ما))([26])، لكن جاءوا ومعهم برامج لأبعاد الوجود الإنساني جميعها بغية وضع الإنسان في خطّ كلمة الله.
في العقائد الأخرى غير التوحيدية والتي يجري الحديث فيها عن السياسة والسلطة، غالباً ما يكون الهدف حفظ الدنيا وإرساء النظام، وليس هناك مجال للمعنويات أو الاهتمام بباطن الإنسان، بخلاف العقائد التوحيدية والأديان السماوية التي تهتمّ بأبعاد الإنسان قاطبتها، ابتداءً من شرائط الزواج، وأحكام العمل وآدابه، إلى الولادة والإرضاع والتربية، وذلك لأن الأديان الإلهية تهتمّ بأبعاد الإنسان عمومها، كما جاءت لأجل تربية البشر([27]). وضمن هذا الإطار يمكن أن تنجلي صورة الاهتمام بالسياسة في دعوة الأنبياء G.
4 ــ جدليّة التوحيد والسياسة ــــــــــ
مرّ معنا في بيان المراتب المختلفة للتوحيد في النظام المعرفي للإسلام، أن الربوبية التشريعية تمثّل إحدى أبعاد الربوبية الإلهية، وعلى أساسها يصل الموحّد إلى الإيمان بأنها كما تقتضي جعل الإرادة الحرّة ووسائلها في متناول الإنسان، كذلك تقدّم له البرنامج العملي والمنهج السلوكي الصحيح الذي يستطيع بمتابعته نيل السعادة والفلاح الأبديّين.
بناءً عليه، يجب على الإنسان أن يتّبع الأمر الإلهي فقط حتى يحصل على السعادة، وهكذا يكون التوحيد في التقنين في الحاكمية أحد أبعاد الربوبية التشريعية، ولهذا عندما يتحدّث الإمام الخميني ــ وفقاً لذلك ــ
عن شرعية الحكومة وحقّ الحاكمية، يذهب إلى أنّ تأسيس الحكومة والنظام السياسي أحد حاجات البشر الضرورية، بل هو من أحكام العقل الواضحة.
إلا أنّه يحسن ــ بحكم العقل ــ تأسيس الحكومة، التي يلزم منها قيادة الناس، من قبل من هو مالك جميع الأشياء، وكلّ تصرف فيها يكون تصرّفاً في ملكه. ومثل هذا المالك ليس إلا إله العالم المالك لجميع الموجودات وخالق السماوات والأرض، وعليه، فكلّ حكم يتّخذه وكلّ تصرف يجري على يديه فهو يتمّ في مملكته، وإذا فوّض الحكومة لشخص ــ عبر
الأنبياء G ــ وجعل حكمه ملزماً ينبغي على الناس اتّباع هذا الشخص، ولا يفترض بالانسان قبول غير حكم الله أو الاعتراف بغير المفوّض من قبل الله، إذ الآخرون بشرٌ مثله لديهم الشهوة والغضب والشيطنة والخداع، ولا يبتغون إلا منافعهم الشخصية، بل ويضحّون بمنافع الآخرين لأجلها([28]).
من هنا، أثبت الإمام الخميني التوحيد في الحاكمية السياسية بالبرهان العقلي المتقدّم، كما اعتبر الآيات (السياسية) في القرآن شاهداً عليه أيضاً، ومن جملة هذه الآيات: >وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ< ( المائدة: 44)، >وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ< (المائدة: 45)، >وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ< (المائدة:48)([29]).
هكذا وضع الإمام الخميني الحاكمية السياسية أيضاً تحت غطاء التوحيد؛ بالاستناد إلى البرهان الفلسفي، وبالتأكيد على وجود غريزة حبّ المنفعة والأنانية عند الناس، كما وبالاستفادة من الآيات القرآنية، واعتبرها أحد مراتبه.
وملخص نظريته السياسية في ذلك: أنه لا أحد غير الله يملك حقّ الحكومة على أحد، ولا أحد له حقّ التقنين غيره، وهو وحده ــ بحكم العقل ــ الذي يحقّ له تشكيل الحكومة للناس ووضع القانون لهم.
أمّا هذا القانون فهو نفس الأحكام المسنونة في الإسلام، وهو قانون دائم وشامل، وأمّا هذه الحكومة فهي تحت لواء النبي 2 والإمام C في عصرهما، إذ أنّ الله قد أمر جميع البشر بنصّ القرآن بطاعتهما، وفي عصرنا الحاضر تكون تحت لواء الفقهاء([30]).
وهذا الطرح المستبطن في صميم الفكر الخميني يُعَدُّ من المباني المحكمة لفكره السياسي، ومن الأصول الموجّهة لحركته طوال تاريخ حياته السياسية، وعلى أساسه تتّضح حركته وسرّ دخوله ساحةَ المجتمع وميدان الصراع بين الأفكار كالمعترك السياسي مثلاً.
موحدٌ صادق نزل إلى الميدان عشقاً لله، ورأى الوجود كلمات وآيات تدلّ على الذات الإلهية؛ لأنّه آمن بأنّ العالم تجلٍّ وظهور لها، وقام بدوره الخلاّق في ميدان الحياة الاجتماعية، لأنّه قام بأداء تكليفه وأطاع أمر الله الذي أصدره عن طريق الوحي، وبتعبيره هو نفسه: ((يعمل ولكن لله، يحمل السيف ويقاتل لله، قيامه لله، فجميع هذه الحروب ضدّ الكفار والمستبدّين شنّها هؤلاء الموحّدون وهؤلاء الداعون))([31]).
ولأجل بيان الدور الهام للتوحيد، يشير الإمام الخميني ــ بوصفها شاهداً على كلامه ــ إلى رواية تاريخية متعلّقة بحرب الجمل، وردت في كتاب توحيد الصدوق([32]): ((وقف أعرابي من أهل البادية يوم الجمل مقابل أميرالمؤمنين C وقال: هل تقول إنّ الله واحد؟ فهجم عليه الناس وقالوا له: أيها الرجل! أفلا ترى أنّ أميرالمؤمنين C مشغول البال؟ فقال لهم الأمير C: دعوه فإنّ الذي يريده هذا الأعرابي هو الذي نريده من القوم))([33]).
فطبق هذه الرواية، يعتبر أميرالمؤمنين C حرب الجمل حرباً توحيدية، وأنّه خاضها لأجل الدعوة إلى التوحيد، مع أنّ الفئة التي اصطفّت لقتاله كانت تقيم الصلاة، وتنطق بالشهادتين، ومع ذلك لم يعتبر الإمام
علي C إيمانهم إيماناً توحيدياً بل واجههم، فما الحكمة في الأمر؟
الحكمة هي أن أصحاب الجمل مع إقرارهم بالتوحيد الذاتي والصفاتي إلاّ أنهم كانوا يتزلزلون عندما تصل النوبة إلى التوحيد في التشريع والحاكمية السياسية، فلا يعودون مستعدين لاتّباع النظام السياسي الذي أمرهم الله باتّباعه، لذلك لما سعوا في الفتنة وقاموا بتهديد النظام السياسي التوحيدي اضطرّ الإمام C لمواجهتهم ليفقأ عين الفتنة، ويعيد الأمن إلى جسم المجتمع الإسلامي.
من هنا يمكن فهم سرّ جعل الإمامة، في مدرسة أتباع العترة الطاهرة، من الأصول، وسرّ ذكرها إلى جانب التوحيد. فالإمامة بما هي قيادة سياسية ورئاسة للدين والدنيا من اللوازم الأساسية للتوحيد، والتوحيد بدون الإمامة لا يصل إلى نصابه المطلوب.
في حديث ((سلسلة الذهب)) المشهور الذي رواه الإمام الثامن علي
الرضا C على مسمع اثني عشر ألف عالم نيشابوري في تلك الظروف السياسية الحرجة ورد أنّه C قال: سمعت عن أبي موسى بن جعفر C عن أبيه عن آبائه G عن أميرالمؤمنين C عن النبي الأكرم 2 عن جبرئيل هذا الحديث القدسي: ((كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي))([34])، وعندما مشى به مركبه خطوات التفت C إلى الجمع وأردف قائلاً: ((بشرطها وشروطها وأنا من شروطها)). هذه التكملة للحديث في الرواية تؤكّد الارتباط العميق بين الإمامة والتوحيد، والارتباط بين كلمة ((لا إله إلاّ الله)) واتّباع النظام السياسي المنبثق عن الأمر الإلهي.
وطبقاً لهذه الرواية الشريفة، يمكن لكلمة التوحيد أن تكون مفيدةً، وأن يسعد الإنسان في ظلّها، لتجعله في حصن حصين، وفي أمانٍ من لهيب النار الإلهية المسجورة، كلما كانت هذه الكلمة خالصة أصيلة، وهذه المرتبة من الخلوص يمكن أن تحصل باتّباع الأمر الإلهي في الشؤون كافّة، وذلك عبر السير على خطّ الإمامة والطاعة التامّة للكيان المتصدّي لقيادة المجتمع بالأمر الإلهي.
وحيث إن هذه المرتبة من أعلى مراتب التوحيد ــ وطبقاً لما جاءت به الروايات ــ فإنّ الوصول إلى هذا المقام الرفيع والخالص صعب المنال لا يتيسّر لكل أحد، إذ أنّ شخصيات بارزة ذات تاريخ مشرق في صدر الإسلام، كطلحة والزبير اللذين حاربا الشرك جهاراً، وحملا السيف مراراً لأجل إعلاء كلمة التوحيد، تزلزلت أقدامهما في هذا المقام، دون أن تتمكّن من إكمال الطريق، إن شخصاً كمعاوية لطالما أعلن في أذانه الشهادة لله بالوحدانية هو في الواقع مشرك؛ لأنّه حارب ولي الله، ومنع إقامة العدل ونشر القسط، وبعنوان ((القيام لله)) يجب الوقوف بوجه عصيانه واستبداده.
5 ــ التوحيد والبنية التحتية الفكرية للدولة الدينية ــــــــــ
طبقاً لما مرّ، تتشكّل مقولة السياسة في حركة الأنبياء G على أساس التوحيد ومحوريته، وهذا ما شاهدناه في الثورة الإسلامية في إيران وفي قيادة الإمام الخميني P لها، حيث كان بناء المجتمع على أساس المعايير والموازين التوحيدية قد شكّل الحجر الأساس للثورة، والنداء التوحيدي الذي أطلقه الإمام الخميني إبتداءً من صرخته في مدينة قم المقدّسة إلى وصيّته الإلهية السياسية التي قرئت على مسامع الأمّة كان الغاية القصوى لها.
وعلى هذا الأساس يُطرَح ((التوحيد)) بوصفه البناء الرئيس والأكثر أهميّةً في الفكر السياسي الخمينوي، والذي ينبغي أن يُلتفت إليه ويُقيّم ضمن سيرته النظرية والعملية والحكومية. فالتفّكر فيه هو أفضل نبراس للأجيال المقبلة حتى تحكّم مباني الثورة والحكومة الإسلامية وتحفظها من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة.
في نظرة إلى المستند التاريخي الأول المحفوظ عن الإمام الخميني في كتاب صحيفة النور([35])، يمكن أن نجد ــ إذا أردنا تحليل الثورة الإسلامية والبحث عن مبانيها وأهدافها وشعاراتها ــ ضالّتنا، فهو يرى، في هذا المستند، عند تفسيره للآية الكريمة: >قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى<(سبأ: 46)، أنّ القيام لله هو الطريق الوحيد لإصلاح العالم. فمن خلال الفكرة المطروحة في هذه الآية، بيّن الله تعالى طريق الانتقال من منـزل الطبيعة المظلم إلى غاية سير الإنسانية، واختار الموعظة الأفضل من بين المواعظ جميعها ليقدّمها في هذه الكلمات، ويجعلها السبيل الوحيد لإصلاح العالم.
القيام لله هو الذي أوصل إبراهيم الخليل C إلى منـزلة الخلّة لله؛ وأنقذه من المظاهر المختلفة للوجود، وهو الذي سلّط موسى الكليم C بعصا على الفراعنة، ومكّنه من أن يفني عروشهم ويصل إلى ميقات المحبوب، وهو الذي نصر خاتم الأنبياء 2 لوحده فجعله يتغلّب على عادات الجاهلية جميعها وعقائدها، كما خوّله تحطيم أصنامها وإخراجها من بيت الله، ليحلّ مكانها التوحيد والتقوى، وهو الذي أوصل تلك الذات القدسية إلى مقام قاب قوسين أو أدنى.
في هذه الرسالة التي أعلنها بتاريخ 15 / 2 / 1323هـ. ش ونُشِرَت قبل ثلاث وأربعين سنة من الآن ــ وبعد أن اعتبر ((القيام لله)) الطريق الوحيد للإصلاح الداخلي والخارجي، ومن خلال تعداد مصائب وويلات ذلك الزمان ــ استنهض الخميني المجتمع الإيراني، بل الشعوب المسلمة آنذاك جميعها، لقد أتى في تلك الرسالة على ذكر أسباب تلك المصائب والويلات قائلاً: ((إنّ الأنانية وترك القيام لله هما اللذان أوصلانا إلى هذه الأيام السوداء، وسلّطا علينا جميع المستكبرين، وجعلا البلدان الإسلامية تحت نفوذ الآخرين، القيام لأجل المنافع الشخصية هو الذي خنق روح الوحدة والأخوّة في الأمّة الإسلامية، وأحكم قبضة عبّاد الشهوة والسلطة على مصير الشيعة. أولئك المتسلطون المشغولون بإهلاك الحرث والنسل، وتطبيق القوانين اللادينية، وقوانين فساد الأخلاق ونشر الفحشاء)).
ثم دعا جميع الصلحاء في المجتمع من علماء الدين والمثقفين المتديّنين والوطنيين لسماع الموعظة الإلهية قائلاً: ((تهبّ في هذا اليوم نسائم الروحانية الإلهية وهو أفضل يوم للقيام بالإصلاح))([36]).
طبقاً لهذا المستند التاريخي، يتبين لنا أن المحور لكلّ حكومة إصلاحية في فكر الإمام الخميني هو القيام لله.
ويعتبر العرفاء أنّ ((القيام لله)) أول منازل السلوك ويسمّونه ((اليقظة))([37])، والإمام الخميني بفكره الشمولي، عدّ هذه اليقظة المذكورة نفسها سرّ النجاح والتوفيق للتكامل الداخلي والكمال الخارجي، وبهذاالهدف وبهذا النداء رسم مسار ثورته خلال عهود جهاده الطويلة، وبعد انتصار ثورته.
لذلك كرّر في باريس على مسمع مراسل ((التايمز)) نفس ما كان قد قاله في قم قبل ثلاث وأربعين سنة، في أنّ أساس جميع العقائد هو التوحيد، وبعد ذلك نستنتج منه مقولات مهمة جداً وثمينة، كالحرية، ونفي التسلّط والتمييز العنصري، والصراع مع الاستعمار والاستبداد([38]).
لقد أكّد مرةً أخرى، بعد انتصار الثورة الإسلامية ــ وعندما كان يلقي على الأمة دروساً في تفسير سورة الحمد ــ على أنّ ((القيام لله)) أو ((اليقظة)) هي الموعظة الإلهية الأولى، وبذلك علَّم مجتمعه طريق بناء الذات، وكيفية السير على طريق السعادة الأخروية([39]).
ونستطيع كذلك أن نشاهد في رسالته إلى ((غورباتشوف)) مظهراً آخر من مظاهر النداء التوحيدي الذي أطلقه([40]).
في الختام أيضاً، وبالمضمون عينه الذي تواتر عنه في خطبه وبياناته التي وجّهها إلى أتباعه ومريديه، ذكر الإمام الخمينيP في وصيته السياسية والإلهية: من أين يجب البدء إذا أراد أحد أن يحلّل الثورة، وأن يقف على أهداف الشعب الإيراني في تضحياته لأجلها، وأن يكشف المباني الأساسية لفكر قائد الثورة، والاُصول الموجّهة لحركته طوال سنيّ قيادته وإمساكه بزمام الأمور، وذلك إشارةً منه إلى الجميع، لتسجيلها على صفحات التاريخ.
إنّ كلامه في خاتمة وصيته كان: ((إنّ ما قمت لأجله ــ أيّتها الأمّة الشريفة والمجاهدة ــ وما سعيتم لتحقيقه وبذلتم الأموال والأرواح وما زلتم تبذلون لأجله هو أسمى وأقدس مقصد، وهو الهدف المنشود منذ حدوث العالم في الأزل، وسوف يبقى بعد هذا العالم إلى الأبد، والتوحيد هذا بأبعاده الرفيعة التي هي أساس الخلقة وغايتها في عرض الوجود وفي درجات ومراتب الغيب والشهود، هو ذلك الدين الإلهي بالمعنى الواسع، وهذا الهدف تجلّى في الدين المحمدي بتمام معناه ودرجاته وأبعاده، وقد كان سعي الأنبياء العظام والأولياء الكرام جميعهم سلام الله عليهم أجمعين لأجل تحقّقه، وبدونه لا يمكن الوصول إلى الكمال المطلق، والجلال والجمال اللامتناهي، وهو الذي شرَّف الآدميين على الملكوتيين وعلى ما هو أعلى منهم، وهو الذي بالسير فيه يحصل للآدميين ما لا يحصل لأيّ موجود من أهل الخليقة، لا في السرّ ولا في العلن))([41]).
هذا الدرس الذي تعلّمه الشعب الإيراني جيّداً في الصحيفة الناصعة لأقوال الإمام الخميني P وأفعاله تجلّى في شعاراته خلال الأيام السابقة على الثاني والعشرين من بهمن([42]) واللاحقة له.
ويمكن أن نشاهد هذا التجلّي بالعودة إلى الشعارات الأساسيّة لتلك الأيام، فنداءات ((الله أكبر)) ((الخميني محطّم الأصنام))، ((الخميني يجري في عروقنا))، ((ثورتنا حسينية))، ((الله واحد، خميني قائد)) كانت تمثّل البلورة الثورية للأهداف التوحيدية، فكلمات الإمام الخميني كانت تنعكس في شعارات الأمّة، وشعارات الأمّة كانت تتلألأ في كلماته، وكان هذا التبادل يشكّل لوحةً كاملةً من الجمال والجلال. فالأمة كانت تبحث فيه عن إبراهيمها الذي حارب النمرود بفأسه، وهو كان يشهد فيها تحقّق الحلم الإبراهيمي وأهداف الأنبياء والأولياء الإلهيين.
من الظلم تفسير قيادة الإمام الخميني بالكاريزما الشخصية، وأن نحلّل أسباب قوّته بأنها من نوع أسباب العظمة، فهذا التفسير والتحليل ناشئ عن عدم معرفته، وعن الجهل بأمّته.
بدون شك، لو لم يعرف هذا الرجل حاملاً لواء التوحيد وأحد الأتباع الحقيقيّين لإبراهيم الخليل C ــ وعالم فقيه عُدّ في الروايات أفضل من أنبياء بني إسرائيل ــ ولو لم يعتبره الملايين من عشاق أهل البيت G نائباً لولي العصر (عج) ومرجعاً للتقليد، لم يكن ليقدر على القيام بما قام به، وأن يسقط النظام الملكي الذي دام ألفين وخمسمائة سنة حاكماً على رقاب الناس ــ وهو ما لم يكن ليخطر على بال أيّ محلل سياسي ــ وأن يقطع أيدي المستعمرين الأجانب عن إيران.
فكم من المصلحين من أصحاب العظمة والخصائص الشخصية البارزة قد تعرَّف عليهم الشعب الإيراني، ولكن لأنهم لم يكونوا يحملون لواء الزعامة والمرجعية الدينية بقيت حركتهم بتراء، ولم يستطيعوا توحيد صفوف الشعب الإيراني وراءهم، وقد أظهر هذا الشعب المسلم طوال تاريخ حياته السياسية في ثورة التنباك والحركة الدستورية، والثورة الإسلامية، أنّه يقرّر ويتبع ويبايع، إلى حدود التضحية بالنفس، عندما تكون الراية في يد مرجعٍ تقيٍّ وإلهي، ونائب من النواب الحقيقيّين لإمام العصر (عج).
هذه الشرعية، وهذا الإقبال العمومي لكلّ فئات الأمة هو ما يسمى بالاصطلاح الشرعي ((القيادة الولائية))، التي بينها وبين ((القيادة الكاريزميّة)) فرق عميق وكبير.
وحصيلة ما أسلفناه، يمكن القول: إن الإمام الخميني كان يفكّر دائماً بعزّة المسلمين وعدم خنوعهم وخضوعهم، ولكن من الجفاء أن نحدّ نظريّته بهذا الأمر([43]). فرؤاه في المعرفة الدينية جامعة، ونظرته للدين وتوقّعه منه لم يجعلاه متوجّهاً إلى الدنيا لوحدها ولا إلى الآخرة لوحدها، بل توجّه للقيام لله، ومن التوحيد كان يعلّم الإنسانية معاني الصلاح والخير والسعادة كلّها.
في فكر الإمام الخميني التوحيدي هناك أيضاً ثورة داخلية وأخرى خارجية، فقد رسم خطوط الحياة الديمقراطية والثورية دون أن يسمح لآثار إحداهما بالطغيان واحتكار الحياة لها وحدها.
الفكر التوحيدي هو الوصول إلى الكمال المطلق، وفي الكمال المطلق يندكّ الجمال والحسن كله، الفكر التوحيدي أسمى المعارف جميعها، لذا فقد أهداه الإمام الخميني من الشرق ــ حيث أشرقت شمس الوحي ــ إلى الغرب حيث غربت أنوار التوحيد.
لقد أطلق في ((نوفل لوشاتو)) مرّةً أخرى نداء الأنبياء G التوحيدي([44])، حيث سمعت القلوب الباردة المجلودة للعالم التكنولوجي في شتاء سنة 1979م تلك النغمة الجميلة والمحبّبة للقلوب، فانبعثت فيها حرارة الأمل والإيمان بالله مجدّداً، وأجبر تلك الأرواح الباردة المجلودة على التحرّك من جديد في مسير التكامل باتجاه الفضائل الأخلاقية وكسب المكارم الإنسانية وتجلّي الأسماء والصفات الإلهية الحسنى في العالم الواهن.
[1]) انظر: الإمام الخميني، صحيفة النور4: 166 ـ 167، نشر وزارة الإرشاد الاسلامي، 1982م.
[2]) بحسب نقل الشيخ مصباح اليزدي في كتابه ((التوحيد في النظام العقائدي والقيمي للإسلام))، الطبعة الثانية، 1991م.
[3]) راجع: الصدوق، التوحيد9: 144، الباب: 11.
[4]) نهج البلاغة، الخطبة 1، ص39، تحقيق صبحي الصالح.
[5]) انظر: جعفر السبحاني، محاضرات في الإلهيات: 57 ـ 59. وانظر: التوحيد في النظام العقيدي والقيمي للإسلام، مصدر سابق: 21 ـ 23.
[6]) انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن10: 48، و14: 303.
[7]) انظر: السيد محسن الخرازي، بداية المعارف الإلهية1: 56.
[8]) نهج البلاغة، نقلاً عن التوحيد في النظام العقيدي والقيمي للاسلام، مصدر سابق: 24.
[9]) انظر: صحيفة النور، مصدر سابق4: 166 ـ 167.
[10]) انظر: الأربعون حديثاً: 195، الحديث 12، وتفسير سورة الحمد: 98 ـ 101.
[11]) الأربعون حديثاً: 181، الحديث 11.
[12]) المصدر نفسه: 185.
[13]) تفسير سورة الحمد: 175 ـ 188.
[14]) المصدر نفسه: 102 ـ 103، و175 ـ 188.
[15]) انظر: الأسفار الأربعة2: 216.
[16]) تفسير سورة الحمد: 159 ـ 161.
[17]) المصدر نفسه: 163 ـ 164.
[18]) صحيفة النور2: 227.
[19]) المصدر نفسه 19: 283.
[20]) راجع كتاب ((الآخرة والله هدف بعثة الأنبياء G)) لمهدي بازركان.
[21]) المصدر نفسه: 26 ـ 39.
[22]) صحيفة النور6: 163 ـ 164.
[23]) تفسير سورة الحمد: 129.
[24]) المصدر نفسه: 174.
[25]) صحيفة النور18: 32 ـ 33.
[26]) المصدر نفسه19: 283.
[27]) المصدر نفسه6: 163 ـ 164.
[28]) كشف الأسرار: 181 ـ 182.
[29]) المصدر نفسه: 183.
[30]) المصدر نفسه: 184 ـ 185.
[31]) تفسير سورة الحمد: 150 ـ 151.
[32]) المصدر نفسه: 151.
[33]) الصدوق، التوحيد: 83، ح3.
[34]) المصدر نفسه: 24، ح21.
[35]) صحيفة النور1: 3 ـ 4.
[36]) المصدر نفسه1: 4.
[37]) عبد الرزاق الكاشاني، شرح منازل السائرين: 17.
[38]) صحيفة النور4: 166 ـ 167.
[39]) تفسيرة سورة الحمد: 128 و145.
[40]) نداء التوحيد أو رسالة الإمام الخميني إلى غورباتشوف في 11 / 10 / 67 هـ . ش
[41]) الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني.
[42]) يوم انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
[43]) راجع حديث عبدالكريم سروش في مؤتمر تبيين الثورة الإسلامية، صحيفة ((صباح اليوم)) في 14 / 7 / 78 هـ . ش.
[44]) إشارة إلى الحديث الذي أدلى به الإمام الخميني إلى صحيفة ((التايمز)) اللندنية في تاريخ 18 / 19 / 1357هـ . ش. وانظر صحيفة النور4: 166 ـ 167.