أ ــ قد يكون إقرار النطفة في رحم المرأة الأجنبيّة بالطريق المعتاد؛ فيكون زنا محرّماً، كتاباً وسنّة وإجماعاً، بل ضرورةً من الدين.
ب ــ وقد يكون بالوسائل الحديثة الطبيّة من دون المباشرة، كما إذا أفرغ الرجل منيّه([1]) في ظرف خاص فتُدخله امرأة ــ بوسيلة الإبرة ونحوها ــ في رحم امرأةٍ من دون النظر إلى فرجها، فضلاً عن مسّه إذا أمكن ذلك.
والكلام تارةً في الحكم التكليفي، وأخرى في الحكم الوضعي.
1 ـ الحكم التكليفي
لا أظنّ خلافاً بين الفقهاء في كون ذلك محرّماً؛ لا لأجل أنّه زنا؛ فإنّ ذلك مكابرة وزور، فليس بزنا جزماً، بل بعنوان كونه إدخالاً للمني في رحم أجنبيةٍ وإقراراً له فيه، وكما يحرم ذلك على الرجل، يحرم قبوله على المرأة أيضاً.
أ ــ ففي حديث على بن سالم عن الصادق % المروي في الكافي قال: «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل أقرّ في رحم يحرم عليه»([2])، ورواه البرقي في محاسنه، والصدوق في عقاب الأعمال.
ب ــ وفي حديث الفقيه المرسل، عن رسول الله 2: «لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند الله عزّوجلّ من رجل قتل نبياً أو هدم الكعبة التي جعلها الله قبلةً لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً».
وهذا الحديث ينهي عن إفراغ المني في مطلق بدن المرأة دون خصوص رحمها، فليلاحظ ذلك.
ج ــ وفي رواية دعائم الإسلام: «وأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من أقرّ نطفته في رحمٍ محرّم عليه».
د ــ وفي رواية الجعفريات والدعائم، عن عليّ، عن رسول الله 2: «ما من ذنب أعظم عند الله تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفة حرام وضعها في رحم لا تحلّ له»، وقريبة منها رواية العوالي([3]).
أقول: الأحاديث كلّها ضعاف إسناداً، لكن إذا لوحظت مع المرتكز عند المتشرّعة واستنكارهم للعمل المذكور فيكفي ذلك للحكم بالتحريم، إن شاء الله تعالى.
2 ـ الحكم الوضعي
وبيانه موقوفٌ على ذكر الأقسام المتصوّرة في المسألة؛ فإنّ إقرار منيّ الرجل:
1 ــ إنْ لم يستلزم حملاً فلا بحث فيه، ولا أثر له سوى الحرمة التكليفية، والتعزير في الدنيا، واستحقاق العقاب في الآخرة.
2 ــ وإن استلزم الحمل، فالمرأة إمّا خلية وإمّا متزوّجة، وعلى الثاني قد يشتبه الحمل بين كونه من ماء الزوج، أو من ماء الأجنبي، وقد يعلم استناده إلى أحدهما.
أ ــ فإذا علم استناد الولد إلى ماء الزوج، أو شكّ فيه واشتبه الحال، فالولد ولد الزوج بلا إشكال، ولا يُنسب إلى الأجنبي صاحب الماء، سواء نقل ماءه بطريق الزنا أو بطريق طبّي في رحم المرأة، أمّا في فرض العلم فواضح، وأمّا في صورة الشكّ؛ فلقول رسول الله 2: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»([4]).
ب ــ وأمّا إذا علم أنّ المولود من ماء الأجنبي ــ سواء بطريق الزنا أو غيره، وسواء كانت المرأة خليّةً أو متزوّجة ــ فهو ولد صاحب الماء وولد المرأة، سواء كانت زانيةً أم لا، وسواء كانت متعمّدةً نقل الماء إلى رحمها أو جاهلةً أو مكرَهة، ويترتّب على الولد ووالديه جميع أحكام النسب، سوى حكم واحد في فرض الزنا، فإنّ ولد الزنا ــ عند مشهور فقهائنا ــ لا يرث ولا يورّث مطلقاً([5])، ومع عدم صدق الزنا لا مانع من التوارث أيضاً، وهذا هو الأظهر عندي.
وبالجملة: ولد الزنا وولد الحرام ــ كما في فرض نقل المنيّ بطريق طبّي، وكما في وطء الزوجة الحائض والنفساء والمحرمة بإحرام الحجّ والعمرة، أو المعتكفة، وفي شهر رمضان، وفي المسجد ــ ولدٌ لصاحب الماء وللحامل الوالدة لغةً وعرفاً وطباً، ولم يثبت من التشريع اصطلاح خاصّ في الأُبوّة والأُمومة والبنوّة يغاير العرفَ واللغة، وإنّما الثابت منه عدم التوراث بين ولد الزنا من جهة وبين الزاني والزانية من جهة ثانية.
وممّا يدلّ على ذلك، أنّه لا يظنّ بفقيهٍ يبيح تزويج ابنة الزنا بأبيها الزاني أو ابن الزنا بأمّه الزانية، بل لا يظنّ بأحدٍ يفتي بصحّة زواجه مع أولادهما وأقربائهما، وما حكي عن الشافعي من عدم تحريم البنت على أبيها الزاني واضحُ المنع.
واعلم أنّ المستفاد من كلام جمعٍ من فقهائنا ــ بعد حرمة النكاح ولو عن نسب غير شرعي كالزنا بلا خوف بينهم ــ أنهم لا يرون هذا النسب ثابتاً، وأورد الشهيد الثاني ) في مسالكه([6]): أنّ المعتبر إن كان هو صدق الولد لغةً لزم ثبوت باقي الأحكام المترتبة على الولد، كإباحة النظر، وعتقه على القريب، وتحريم حليلته، وعدم القود من الوالد بقتله، (وصلة الرحم، وجواز الربا على قول، والعقل) وغير ذلك، وإن كان المعتبر لحوقه به شرعاً، فاللازم انتفاء الجميع، فالتفصيل غير واضح.
وربما أجيب عنه بأنّ حرمة النكاح خرجت للإجماع، وغيرُه بقي على الأصل، لكن الإجماع ممنوع، والحقّ ما عرفته، والاحتياط لا يخفى سبيله.
مسألة النسب، وقفة مع صحيح الحلبي
جاء في صحيح الحلبي، المروي في الكافي والتهذيبَين، عن الصادق([7])%: أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراماً، ثمّ اشتراها فادّعى (ثم ادعى ــ كا) ولدها، فإنّه لا يورث عنه شيء، فإنّ رسول الله 2 قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يورث ولد الزنا إلاّ رجل يدّعى ابن وليدته، وأيّما رجل أقرّ بولده ثمّ انتفى منه، فليس ذلك له ولا كرامة، يلحق به ولده إذا كان من امرأته أو وليدته»، وللحديث أسانيد ضعيفة أخرى.
أقول: ربّما يظنّ أنّ ظاهر هذا الحديث أنّ عدم الإيراث مستند إلى قوله 2 الدالّ على نفي الولدية والنسب، فهذا هو دليل من قال ببطلان النسب غير الشرعي مطلقاً، لكنّه يناقش بأنّ الإمام % علّل عدم إرث الولد ــ في فرض الفراش والشكّ في نسبه ــ إلى الحديث النبوي الدالّ على إلحاق الولد بالفراش في فرض تحقّقه، ولا يدلّ كلامه % ولا الحديث النبوي، على نفي نسب ولد الزنا عن الزاني في فرض عدم الفراش أو في فرض العلم بعدم كون الولد من نطفة الزوج أو المالك، وحصول اليقين بكونه من ماء الزاني، على أنّ هنا روايات معتبرة الأسانيد تدلّ على صحّة النسب المذكور في فرض عدم الفراش.
ففي صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله %: قضى علي % في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد لمن قرع، وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين (للأخيرين ــ صا)، فضحك رسول الله 2 حتى بدت نواجذه([8]) قال: «وما أعلم فيها شيئاً إلاّ ما قضى علي»([9]).
وقريب منه صحيح أبي بصير، عن الباقر %، وصحيح معاوية بن عمار، عن الصادق %، فإنّ هذا المعنى يستفاد منهما([10])، وكذا صحيح الحلبي على المشهور([11]).
وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله %([12]): «قال: إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك بامرأة في طهر واحد، فادّعوا الولد، أقرع بينهم، فكان الولد للذي يخرج سهمه»([13]).
فهذه الروايات واضحة الدلالة على صحّة نسب الزنا عند عدم الفراش، بل لو لم يكن إجماع، أمكن أن يقال بصحّة التوراث أيضاً في هذا الفرض، وهو فرض عدم الفراش، بل يمكن أن نستدلّ عليها ــ أي صحّة التوراث ــ بصحيحي حنّان عن الصادق % أيضاً([14])، بعد حملها على فرض عدم الفراش وكون المرأة خليّةً، فلاحظ وتأمل، كما ولاحظ صحيح محمد بن قيس، فإنّه يخالف بقية الروايات([15]).
ثم إن الحديث النبوي إنّما نفى الولد عن الزاني وألحقه بصاحب الفراش، أمّا الزانية فلم يتعرّض الحديث لنفي الولد عنها، فهي أمّه، وهذا شاهدٌ آخر على ضعف قول من يبطل النسب غير الشرعي من فقهائنا وفقهاء أهل السنّة، نعم، لا توارث بينها وبينه لما عرفت، فلا ملازمة بين النسب وعدم التوراث.
ثمّ إنّ نفي الولد عن الزاني وإلحاقه بصاحب الفراش إنّما هو في فرض الشكّ دون العلم بكونه مخلوقاً من ماء الزاني، كما ذكرنا سابقاً.
وربما تدلّ بعض كلمات أهل السنّة على الإلحاق حتّى في فرض العلم وأنّ سبيل نفيه عنه هو اللعان فقط، لكنّه ضعيف جداً، فإنّه مخالف لسيرة العقلاء والطبائع الإنسانيّة، وظلم على الزوج، وإحقاق باطل كما لا يخفى، ويؤكّده عدم نفي الولد عن الزانية للعلم بكون الولد من بويضتها، ونفيه عن الزاني لا مطلقاً، بل في صورة وجود الفراش، وهو فرض الشكّ في كون الولد منه أو من صاحب الفراش.
فروع فقهية:
1 ـ موت أحد الزوجين وله ولد زنا
لو مات أحد الزوجين، وكان له ولد عن زنا، فهل للآخر نصيبه الأعلى أو الأدنى؟ فإن قلنا ببطلان النسب فالنصيب الأعلى، وإن قلنا بصحّته فالنصيب الأدنى؛ إذ لم يقيّد الولد في لسان الأدلّة بكونه يستحقّ الإرث، هذا هو مقتضى القاعدة، ولم أقف ــ عاجلاً ــ على بحث لأحدٍ حول هذا الموضوع.
2 ـ ولد الشبهة بين النسبيّة والتوارث
لو كان الزنا من الرجل فقط، كما في فرض إغمائها أو نومها وإكراهها وأمثال ذلك، فلا يبعد جريان التوارث بين الولد وأمّه، فلاحظ وتأمل، وأمّا إذا كان الولد عن شبهة، فالنسب ثابت إجماعاً بقسميه عليه، كما في جواهر الكلام.
3 ـ اختصاص نفي التوارث بالزنا دون الطريق الطبّي
إنّ نفي التوراث يختصّ بالزنا دون نقل الماء إلى الرحم ــ بطريق طبّي ــ وإن كان النقل محرّماً.
الهوامش
([1]) سواء كان إفراغه حراماً، كما في الاستمناء، أو حلالاً كما في فرض ملاعبة الزوج زوجته.
([2]) الكليني، الكافي 5: 541.
([3]) لاحظ هذه الروايات في جامع أحاديث الشيعة 20: 246.
([4]) المصدر نفسه 7: 163؛ والتهذيب 9: 346؛ وجامع أحاديث الشيعة 24: 480.
([5]) لاحظ كتاب الميراث في الكتب الفقهية.
([6]) لاحظ: الشيرازي، الفقه 64: 206 وما بعدها.
([7]) الكافي 7: 162؛ والتهذيب 9: 364؛ والاستبصار 4: 185؛ وجامع أحاديث الشيعة 24: 480؛ والرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبيّة: 734؛ وانظر آراء أهل السنّة في نسب ولد الزنا وكذا الإنجاب في ضوء الإسلام: 170 ـ 171.
([8]) النواجذ: أقصى الأسنان، وهي أربعة.
([9]) جامع أحاديث الشيعة 21: 116.
([10]) المصدر نفسه: 117.
([11]) المصدر نفسه: 121.
([12]) المصدر نفسه: 118.
([13]) المصدر نفسه 24: 481.
([14]) المصدر نفسه.
([15]) المصدر نفسه 21: 120.