مقدمة ــــــــــ
إن الامتياز الذي يحمله القرآن الكريم ــ بالمقارنة مع الكتب الهائلة التي لا يكفي عمر الإنسان لدراستها وتمحيصها ــ أنّه كتاب غير بشري، منزل من عند خالق الإنسان والكون، ونعتقد أنّ هذا السبب كافٍ لأن يغضّ الباحث الطرف عن سائر العلوم البشرية، ويقدّم دراسته حول القرآن الكريم على سائر أعماله.
قبل كل شيء، أوّل ما يلفت انتباهنا عند تناولنا للقرآن، أنّه حقّ، وعند الشروع في البرهنة على هذه الحقيقة الساطعة، يتبيّن أنّ معظم الذين انبروا لبحث هذه المسألة، وضعوا قضية الإعجاز على رأس مسؤوليّات مدّعي الرسالة، الأمر الذي مهّد لظهور ثقافة الإعجاز اللغوية والاصطلاحية، وكذلك فكرة دلالة الإعجاز القرآني على كونه حقّاً، والسعي وراء استقصاء جذور الإعجاز في كتاب الله، وقد استأثر البحث الأخير ــ من بين البحوث الأخرى ــ باهتمام خاص في هذه المقالة.
لقد طرحت قديماً تصوّرات عديدة لإعجاز القرآن، من جملتها إخباره بالغيب، ونظرية الصرفة، والمحسنات الأدبية والبديعة، ومسائل علم النفس القرآنية و… أمّا في العصر الراهن، وفي ظلّ الأجواء العلمية السائدة في العالم، والتطبيقات العلمية القرآنية، فتبدو عملية البدء بدراسة نقدية للجوانب العلمية في القرآن أكثر إلحاحاً.
1 ــ مدخل إلى التعليل العلمي ــــــــــ
1 ــ 1 ــ نظرة عامة، النزاع بين المؤيّدين والمعارضين
المقصود بمصطلح التعليل العلمي للإعجاز القرآني البرهنة على عدم إمكان الإتيان بمثله، في ضوء الانسجام القائم بين القرآن الكريم والعلوم البشرية (Knowledge)، هذه العلوم التي تبدأ باكتشاف الظواهر (Phenomenon)، ثمّ تحليلها (Analyze)، وتركيبها (Synthesis)، عبر طرح الفرضيات (Hypothesis) الجديدة، وإجراء الاختبارات (Experiment) المتكرّرة؛ لإثبات صحّة الفرضيات أو عدم صحّتها، ويلعب عنصرا الزمان وتطوّر الأدوات المخبرية المستخدمة دوراً في هذه التجارب (Experience) المتوالية([2]). في المقابل، لم يكن بمقدور المؤلّف قبل ألف عام أن يكتشف ما تمّ اكتشافه اليوم من علوم، والذي يعدّ حصيلة سلسلة طويلة ومتصلة من الاختبارات والأفكار المتواصلة، فآراء ذلك المؤلف تغدو على الدوام مرآةً لعلوم زمانه، حتى لو كان من المجدّدين في عصره، ذلك أنّ مستوى أفكاره لن يتفوّق ــ إلاّ قليلاً ــ على أفكار أقرانه من العلماء المعاصرين له، ولو فرضنا جدلاً أنّ الفارق بين المستويين ــ على أبعد تقدير وفي حالات اسثنائية ــ أكبر، مع ذلك لم يكن شاملاً، إذ كانت تجمعهما عادةً بعض المشتركات، فمثلاً، عندما كان يصدر كتاب في مختلف الفروع العلمية، ويطرح بعض النظريات الخاصة، كان يصدر ــ مع مرور الوقت ــ كتاب آخر يفنّد العديد من نظريات الكتاب الأول، وإذا كان ينتمي إلى عصر الخرافة([3])، كانت بصمات ذلك العصر واضحةً عليه، لأنّه في ذلك الوقت، وبسبب ضعف وسائل الاختبار، كان المفكّرون محرومين من العديد من المشاهدات، وكانت مساحات اختبار الفرضيات معدومة، فلم يكن من سبيل إلى اكتشاف الحقائق سوى التجارب.
وفي عصر النهضة، والتطوّر النسبي للعلوم، حدثت بعض الاستثناءات، حيث أفلتت بعض النظريات (Theory) من عيون المشاهدة (Observation)، لكن في معظم الأحيان، لم يكن هذا الشيء متيسّراً، فقد كانت أمواج المشاهدات تدفع بتلك الحالات القليلة جانباً.
وعلى هذا الأساس، لو صادفنا كتاباً يحتوي على قائمة عريضة من الموضوعات، وفي الوقت نفسه، له نقاط تماس عديدة مع مختلف العلوم، فضلاً عن انطوائه على جاذبية عالية، ومواكبته لعجلة العلوم الحديثة، فإنّ هذا الكتاب بلا شك، سيعدّ فريداً من نوعه، وليس له مثيل، بل يستحيل درجه ضمن التأليفات العادية للبشر، ولهذا يعتقد دعاة التعليل العلمي أنّ القرآن الكريم إنما هو تجسيد حيّ لمثل هذا الكتاب.
في المقابل، يعترض بعض المفكّرين على هذا الأمر، وذلك من باب الحرص، معتبرين أنّ شأن القرآن أجلّ وأرفع من أن يقارن بالعلوم المتغيّرة والمتحوّلة، لأنّه أولاً، ليس كتاباً في الفيزياء أو الكيمياء، بل كتابٌ مهمّته هداية الإنسان بالدرجة الأولى، وثانياً، إنّ أسس هذا النمط من الاستنتاجات تتلاشى بمرور الزمان مع بطلان النظريات العلمية.
لذا، كان لنظرية التعليل العلمي ــ كما سيتّضح ــ مؤيّدون ومعارضون عنيدون، وقد يكون الفريقان([4]) واقعين تحت تأثير دوافعهما وتوقّعاتهما من القرآن الكريم، قبل أن يأخذا بنظر الاعتبار الواقع الخارجي له، وفي كل الأحوال، يجب الشروع بالبحث من موضوع العلاقة بين القرآن والعلوم التجريبية.
لو استمرّ أنصار التعليل العلمي بالدفاع عن رأيهم حتى قيام الساعة، فلن يعود دفاعهم هذا على المجتمعات البشرية بأيّ منفعة، ما دام القرآن بعيداً عن هذه الاستدلالات، وغريباً عن المعطيات العلمية، من جهة أخرى، إذا كان الفريق المعارض يصرّ على نظريته، وهو على خطأ، فهل ستكون نتيجة هذا الإصرار إلاّ حرمان أهل الأرض ــ وخاصّة الفريق الآخر ــ من القرآن الكريم، وفي هذه الحالة، ألا تعتبر هذه خيانة لهذا الكتاب وللبشرية، ولكن بحسن نية؟!
1 ــ 2 ــ كتاب لهداية الإنسان، أم كتاب في العلوم التجريبية؟
إنّ القائلين([5]) بأنّ القرآن الكريم ليس كتاباً في الفيزياء أو الكيمياء، بل كتاب هداية، عليهم أن ينتبهوا إلى نقطة مهمّة، وهي أنّ الجدلية المستخدمة في التعليل العلمي بين القرآن والعلم ليست أداةً لتغيير جانب الهداية في القرآن إلى موضوع علمي تجريبي، بل إنّها بنفسها جسر يوصل إلى الهداية، وبأفضل وسيلةٍ ممكنة، لأنّ أقصر طريق للبرهنة على حقّانية القرآن لأبناء هذا العصر، وكذا للعلماء والباحثين في فروع العلم التجريبية منهم على وجه الخصوص، في عصر النهضة والتطوّر النسبي للعلوم، هو أن يقفوا على الحقائق التي يستبطنها، والتي لم يكن بمقدور البشرية قبل 1400 عام بأيّ حال من الأحوال أن تحيط بمكنوناتها، بعبارة أخرى، إنّ تحوّل العصا إلى أفعى مخيفة في عصرٍ كان يعرف بالسحر والشعوذة، فيجعل السحرة يوقنون أكثر من غيرهم أنّها ليست من أعمال البشر، أو بعث الروح في ميّت في عصر ازدهار الطب القديم، فيسلّم الجميع، بالخصوص الأطباء، بأنّها ليست ضمن قدرات الإنسان، أو ظهور رائعة أدبية في عصر تألّق الأدب تأخذ على عاتقها مهمّة هداية الناس والأدباء منهم خاصة، للتسليم بحقّيتها، إن ذلك كلّه كان يتمّ الحجّة على الناس في تلك الأزمنة من خلال إيمان السحرة والأطباء والأدباء.
من هنا، يمكننا أن ندرك كيف أنّ الجانب العلمي للقرآن يلعب دوراً رئيسياً في عصر الاكتشافات العلمية الشاملة وعالم المعرفة، دون التغطية على بقية الجوانب، وهذه الملاحظة نوجّهها إلى الشيخ محمود شلتوت([6])، ومن على منحاه، فهؤلاء يعتقدون بأنّ القرآن لم ينزل لطرح النظريات العلمية، وأنّ ما نجده من آيات تتناول أسرار الطبيعة إنمّا جاء لأجل تقوية إيمان الناس عن طريق التأمّل والبحث في تلك الأسرار، علاوة على ذلك، إذا ما اخترنا مقارنة آراء القرآن بالفرضيات العلمية المتغيرة، فسيطرأ تغيّر تدريجي على آرائنا تبعاً لتغيّر تلك الفرضيات([7]).
وكأنّ دنيا العلوم عبارة عن فرضيات غير ثابتة، ولا يوجد فيها أي شيء علمي قطعي، وأنّ الحقيقة الظاهرة للقرآن نفسه ليست بمعيار، وأنّ المسألة بيدنا إن شئنا عقدنا مقارنةً بين القرآن الكريم والمسائل العلمية، وإن شئنا صرفنا النظر عن ذلك، لنفرض هنا أنّ آيةً قرآنية كانت مطابقة لإحدى الفرضيات العلمية المنسوخة، فهل بإمكاننا تغييرها؟
عدا ذلك، إذا كانت فائدة الإشارة إلى أسرار الطبيعة ــ حسب الشيخ شلتوت ــ تقويةَ إيمان الناس، فهذا يعني أنّ صورة العلم والقدرة الإلهية تبدوان أكثر وضوحاً في أعين الناس، وبالتالي تزيد من إيمانهم، أي أنّه رغم كون هذه المسائل علمية بحتة، إلاّ أنّها تحمل للمؤمن أثراً إيمانياً عميقاً على الرغم من أنّه يعزو آثار الخلق جميعها لله وحده.
لماذا لا يعي الشيخ شلتوت والتيار الفكري الذي ينتمي إليه أنّ أثر الهداية والإيمان الناتج عن مقارنة آيات القرآن الكريم مع المعطيات العلمية القطعية أكبر بكثير من ذلك الذي ذكر، فلا تقتصر النتيجة على كونها وسيلةً لتقوية إيمان المؤمن، بل إنها في الوقت عينه حجّة على العلمانيين أيضاً، الذين لا يؤمنون بأيّ دين، فليست المسألة هنا مجرّد تقوية الإيمان بعلم الله وقدرته، بل الإيمان بكتابه ورسوله، وتفاصيل شريعته، سيكون ــ هو الآخر ــ على محك معرفة الإعجاز العلمي، فهناك ـ بالتأكيد ـ بونٌ شاسع بين آثار ذلك والهدف الذي ينشده شلتوت والمفكّرون من نمطه.
لا يرى موريس بوكاي أنّ هدف القرآن شرحَ الظواهر الطبيعية، فهو يحمل رؤيةً مشابهة لتلك التي يحملها شلتوت، لكنّه ينبهر ــ في الوقت نفسه ــ كثيراً بالآيات التي أشارت قبل 1400 سنة إلى حقائق علمية توصّل إليها العلم الحديث، إذ يقول: «كما سترون لاحقاً في هذا الفصل من الكتاب أنّ المسألة المهمة الرئيسية هي أنّ القرآن الكريم الذي يدعو الناس مراراً إلى طلب العلم ونشره، يحتوي على آراء عديدة تتناول ــ بالتفصيل ــ بعض الظواهر العلمية، وهي آراء تتطابق تماماً مع معطيات العلم الحديث، وأكثر ما يشدّ انتباه القارئ لهذا الكتاب لأول مرة وفرةُ الموضوعات المطروحة، وخلوّه من الأخطاء الفادحة التي يزخر بها الكتاب المقدس بعهديه، وهذا ما جعلني أسأل نفسي، إذا كان القرآن من صنع إنسان، فكيف له أن يكتب نصّاً في القرن السابع الميلادي تنسجم محتوياته مع ما توصّلت إليه العلوم الحديثة في عصرنا الراهن؟!
كان هدفي الأول هو قراءة القرآن ومراجعة النصّ، كلمةً بكلمة، بالاستعانة بمختلف التفاسير، لصياغة رؤية نقدية، وقد شرعت في هذا الخصوص بتمحيص شروحه حول الكثير من الظواهر الطبيعية، لا يمكن استيعاب دقّة بعض التفاصيل الواردة في الكتاب وصحّتها إلاّ في مظانّها في المتن الأصلي، وقد ذهلت أكثر عند مقارنتها بالمقولات العلمية المعاصرة، ولا جدال في أنّ رجلاً من عصر محمد لا يمكن أن تكون لديه أدنى فكرة عن تلك المقولات.
بعدها انتقلت إلى مطالعة عدد من الكتب التي تناول فيها الكتّاب المسلمون الآراء العلمية في القرآن الكريم، حيث تعرّفت ــ من خلالها ــ على أفكار قيّمة ومفيدة للغاية. ومن المسلّمات الأكيدة أنّ في فترة الـ 20 عاماً من نزول الوحي على الرسول كان الإنتاج العلمي يغطّ في سبات عميق، أمّا مرحلة الصحوة من عمر الحضارة الإسلامية والتي اقترنت بطفرة علمية عظيمة، فقد بدأت مع انتهاء الوحي.
علينا أن نذعن أنّ المعرفة الفيلولوجية العميقة لا تكفي بمفردها لاستيعاب الآيات القرآنية، بل يجب توفّر مساحة واسعة من المعلومات العلمية المتنوّعة، وهذه الدراسة تتطلب بدورها ارتباطاً بشبكة من العلوم، ستشكّل في النهاية موسوعةً متكاملة، أثناء التأمّل التدريجي في الموضوعات المعروضة، سنكتشف الطيف المعرفي والعلمي العريض اللازم لفهم معاني بعض الآيات في القرآن، ومع هذا، فإنّ القرآن ليس بالكتاب الذي يهدف إلى تقرير بعض القوانين الحاكمة في الكون، بل إنّه يحمل هدفاً دينياً رئيسياً، خاصةً فيما يتعلّق بالإشارات التي تعنى بالقدرة المطلقة لله تعالى، والتي تدعو الإنسان إلى التدبّر في عظمة الخلق عبر الإشارة إلى الظواهر الموجودة، أو من خلال القوانين الإلهية التي تحكم نظام الكون. إنّ درك بعض التفاصيل الواضحة الواردة في القرآن الكريم أمر ميسور، بينما الأمر بالنسبة للبعض الآخر متعذّر من دون امتلاك بعض المعارف العلمية اللازمة»([8]).
وبشكل عام، يبدو أن بوكاي يؤمن بوجود علاقة وثيقة ومنسجمة للغاية بين القرآن الكريم والعلوم التجريبية في مرحلة نضوجها، وعلى الرغم من أنّه يشاطر شلتوت الرأي في أنّ لهذه الآيات دوراً في الحث على التدبّر ومعرفة الله، لكنّه لا يوافقه أبداً في مسألة ترك المقارنة بين الآيات والقوانين العلمية المسلّمة والظواهر العينية، إذ إنّه من الذين يدرجون هذا العامل ضمن العوامل المؤيّدة لوحيانية القرآن، حيث يقول: «في البداية تأثرت بشدّة عند قرائتي للآراء العلمية المتخصّصة التي يحتويها القرآن الكريم، لأنّه لم يكن ليخطر ببالي أن يحتوي نصّ ظهر قبل ثلاثة عشر قرناً على هذا المقدار من الحقائق في موضوعات واسعة جداً ومتناغمة مع الاكتشافات العلمية الحديثة. أيّ تعليلٍ يمكننا أن نقدّمه لهذه الظاهرة؟ أعتقد لا يوجد أي تعليل يستطيع أن يقنعنا أنّه في الوقت الذي كان الملك داكَوبر يتربّع على عرش فرنسا، يظهر شخصٌ في شبه الجزيرة العربية، يملك معلومات واسعة، تسبق معلوماتنا في بعض الموضوعات بعشرة قرون»([9]).
ومن المثير أنّ هذا المؤلف وإن كان قد سلّم بمسألة التعليل العلمي للقرآن وتأثر بشدّة بها، لكن مع ذلك، نراه حين يشرح هدف القرآن الكريم من هذه الآيات، يُعرض عن ذكر هذا الهدف الذي يبدو أسمى وأكثر فائدةً، وكأنّه لا يعي أنّ الإتيان بهذا النوع من الآيات مسألة مقصودة تماماً، إذ ربّما ظنّ أنّ الهدف الرئيسي للقرآن كَمُن في استعراض بعض مصاديق العلم وقدرة الله تعالى فحسب، وعبر تبيان هذا الهدف يتمّ التطرّق إلى بعض الفوائد الجانبية، أي الإيحاء بأنّ هذا التطابق بين القرآن والعلوم التجريبية إنّما هو من تبعات ذلك الهدف، وأنّ عامل الصدفة هو الذي مهّد لظهور التعليل العلمي، في حين أنّ تبعات هذا الهدف ليست بذات قيمة تذكر، وأنّه يعتبر هدفاً ثانوياً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار آثار التعليل العلمي.
من النقاط الجديرة بالاهتمام التي أثارت انتباه بوكاي وأكّد عليها مراراً، أنّه علاوة على تعدّد ألوان الموضوعات القرآنية وسعتها، يخلو هذا الكتاب من أيّ أغلاط علمية، بمعنى أنّ الإعجاز ليس في انسجام المعلومات المذكورة مع العلم البشري الحديث فحسب، بل إنّ سعتها تزيد من حالة الإثارة التي تحتويها، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الظروف العلمية والاجتماعية لمؤلّف القرآن فضلاً عن سلامته من التحريف والخطأ، تنتفي نهائياً فرضية كونه من صنع البشر.
يقول بوكاي: «لا تقتصر الأهمية على ما يحتويه القرآن، بل ينبغي أن تشمل الأهمية ما لا يحتويه أيضاً، فليس هناك من نظرية أطلقها القرآن في ذلك الزمان حول نظام الكون وثبت عدم صحّتها علميّاً بتاتاً»([10]).
1 ــ 3 ــ استقصاء الظواهر العلمية كافّة في القرآن
لايبدو أنّ التعليل العلمي للإعجاز يتطلّب الإشارة إلى جميع الظواهر المكتشفة وغير المكتشفة، بل يكفي التعرّض إلى ذكر أنموذج أو أكثر يتناسب مع تطوّرات مرحلته الزمنية في مختلف المجالات، أمّا الذين غالوا في هذه الناحية، فعليهم تقديم الدليل الذي يثبت مدّعاهم، وهو ــ مبدئياً ــ ليس بالأمر العلمي، وإلاّ كيف يمكن اختزال كل هذه الاختراعات الحديثة في ميادين العلم المتعددة، في كتاب واحد، ومن يملك القدرة على استيعابها والتعرّف عليها جميعاً؟ ربّما يمكن الاستشهاد بمثال بارز على هذا النوع من الأفكار بالاقتباس من تفسير القرآن الكريم للطنطاوي([11])، ونظيره تفسير سيد أحد خان هندي([12])، حيث يرى طنطاوي في تفسيره أنّ القرآن الكريم قد جمع بين ثناياه علم النجوم، والفيزياء الفلكية، وعلم الأحياء، وعلم كشف العناصر المشعة وصناعات استخراج المعادن وصهرها، ويضيف بأنّه ربّما لن يسعه العمر للبرهنة على أنّ جميع العلوم والاختراعات الصناعية الإنسانية مذكورة في القرآن، وما ثبت منها لحدّ الآن يعدّ عيّنةً تبرهن على أنّ هذا الكتاب الكريم لم يترك شاردةً أو واردة إلاّ وأخبر عنها وتنبّأ بها».
نعم، إزاء هذه المغالاة نرى من الضروري التوضيح بأنّ القرآن الكريم ليس كتاباً في الفيزياء أو الكيمياء، وربّما يكون العامل الذي أثار حفيظة المعارضين لمذهب التعليل العلمي في هذا الخصوص هو هذا الأسلوب في استنطاق آيات القرآن الكريم، وإن كان يؤخذ عليهم في المقابل موقفهم المتطرّف في اجتثاث فكرة التعليل العلمي من جذورها، دون الأخذ بعين الاعتبار الحقائق الخارجية.
1 ــ 4 ــ الوعي العلمي ودوره في خلق جسور التواصل
بعد عصر النهضة، ونتيجةً للأهمية المتزايدة التي أولاها الغرب للعلوم التجريبية، حدث تطوّر هائل على المستويين الفني والصناعي امتدّ شعاعه إلى البلدان الإسلامية في ظاهرها، التي كانت تحمل مشعل الحضارة يوماً ما،فعلى سبيل المثال، حدت الاكتشافات العلمية ببعض المسلمين، ودون خلفية مسبقة عن العلوم الحديثة، إلى انتقاء آية معينة ليربطوها بتلك الاكتشافات عبر تعليلات واهية وأسلوب متسرّع، لمجرّد البرهنة على أنّ القرآن كان قد سبقهم في التطرّق إليها، وذلك لئلا يتخلّفوا عن ركب الحضارة([13]).
وهؤلاء المسلمون ليسوا غرباء عن أجواء القضايا العلمية العميقة فحسب، بل إنّهم لا يحملون فهماً صحيحاً عن ظاهر الآيات كذلك، وهم باختلاقهم الجسور بين الآيات وتلك العلوم، إنّما يضعون أنفسهم في موضع الانتقاد واللوم، وذلك لأنّه مع افتراض معرفتهم بكنه الآيات وإحاطتهم بدقائق اللغة، لا يملكون مع ذلك صلاحية إبداء مثل هذه الآراء مطلقاً، وحتى في الحالات التي يبدو فيها المتصدّي لهذه المهمّة متوافراً على الشروط اللازمة لمدّ مثل تلك الجسور، فإنّه إمّا أن يكون قد غالى في رأيه، أو أنّه أحياناً فشل عملياً في تقديم شواهد مقبولة([14]).
1 ــ 5 ــ الفرق بين الفرضيات والقوانين العلمية والظواهر المرئية
1 ــ 5 ــ 1 ــ تحليل لموريس بوكاي
لعلّ السبب الذي يدعو المعارضين لمذهب التعليل العلمي إلى اعتبار فكرة الاستناد إلى العلم بصورةٍ مطلقة أمراً غير محمود العواقب، ناجم عن تجاهل الفرق الواضح بين الفرضيات والقوانين العلمية والظواهر المرئية، حيث يركّز موريس بوكاي على هذه النقطة بقوله: «أولئك الذين يستاؤون من إشراك العلم في تقويم النصوص، يتملّصون ممّا إذا كان بإمكان العلم أن يقدّم صورة عن مقارنة مشرّفة، فيحتجّون على أنّ العلم يتغيّر بتغيّر الزمن، وما كان مقبولاً سابقاً، قد يفنّد لاحقاً. هذا التنويه يحتاج إلى التوضيح التالي: يجب التمييز بين النظرية العلمية والظاهرة التي تجري في ظروف مخبرية، فبالنسبة للنظرية تفيد في بيان ظاهرة أو مجموعة من الظواهر يصعب استيعابها، وفي معظم الأحيان، تكون النظرية متغيرةً، ومع تلاحق التطوّر العلمي الذي يفسح المجال لتحليل الظواهر بشكل أفضل، تطرأ تغيّرات عليها أو تنسلخ عنها نظرية جديدة، أمّا الظاهرة المرئية التجريبية فهي محقّقة ومبرهنة ولا تقبل التغيير، نعم، يمكن تحليل مواصفاتها بشكل أفضل، لكنّ ما كان، سيبقى كما هو، وعلى سبيل المثال، إنّ حقيقة حركة الأرض حول الشمس وحركة القمر حول الأرض ثابتة وأزلية لا تقبل التعديل، وأقصى ما قد يحدث أن يتمّ ــ مستقبلاً ــ شرح المدارات بصورة أدقّ، هذه النقطة بالذات، أي سمة التغيّر في النظرية، هي التي صرفت انتباهي عن إحدى الآيات التي قال عنها أحد الفيزيائيين المسلمين: إنّها تعبير عن تضادّ المادة. وعلى العكس من ذلك، يمكن التسليم تماماً بحقّانية الآية القرآنية (الأنبياء: 30) التي تؤكّد على نشأة الحياة من الماء، على الرغم من أنّ التحقّق من ذلك أمر خارج عن وسعنا، لكن ثمّة دلائل متعددة تؤيّد هذه الحقيقة، أما الظواهر المرئية مثل نموّ الجنين البشري، فإنّه يمكن مقارنة مسيرة المراحل المختلفة المذكورة في القرآن الكريم مع آخر الاكتشافات السريريّة الخاصة بعلم الأجنة، لنكتشف بأنفسنا التطابق التامّ بين الآيات ذات الصلة وبين العلم الحديث»([15]).
1 ــ 5 ــ 2 ــ تحليل لآركاي ميغدل
إذا ابتغينا التعرّف بشكل أوسع على أوجه التباين بين الفرضية والظاهرة المرئية، فلا بأس في ذكر بعض العبارات لآركادي بي ميغدل (Arkadii B. Migdal)([16])، الواردة في رسالة اليونسكو، حيث يقول: «إنّ مسيرة تحوّل العقيدة إلى حقيقة مسلّم بها علمياً، أو الفرضية إلى قانون فيزيائي محبوك، عمليةٌ طويلة وشاقة، وغالباً ما تكون معقّدة… إنّ الخطوة الأولى في أيّ بحث علمي تتمثل في رسم الحدود الفاصلة بين الحقائق العلمية المسلّمة وبين المستحيلات، أي الأشياء التي تخرج بنتائج متعارضة في التجارب العلمية المكررة. وتتوسّط هاتين المنطقتين منطقةٌ محايدة تحتوي على الظواهر التي لم تتمّ دراستها، لكنّها أدرجت ضمن الممكنات.
قبل ظهور النظرية النسبية لأينشتاين، كان من المعقول أن يتصوّر الإنسان أنّ القوانين الميكانيكية والألكتروديناميكية المطبّقة على السرعات العادية يمكن أن تصدق أيضاً على السرعات العالية، لكن بعد إجراء التجارب العلمية في هذا المجال، اهتزّت أركان تلك الفرضيات، وبدأت الشكوك تحوم حول صحّتها، وهناك أمثلة عديدة توضّح كيف أنّ النظريات التي كانت مقبولةً في الماضي، أصبحت عائقاً بوجه تقدّم العلم، لقد ارتكب مؤسّس النظرية النسبية نفسه خطأ من هذا القبيل، حينما حصل على نتائج خاطئة أثناء اكتشافه لأسلوب نظري جديد في مجال علم الأكوان، وذلك بسبب استناده إلى فرضية قديمة معتمدة([17]).
لقد نوقشت بالتحليل والتمحيص عدد من تلك الأخطاء العلمية، وتمّ التوصّل إلى نتائج تساعد على المنهجية العلمية، وإحدى هذه النتائج القطعية هي أنّه بالنسبة للفروع العلمية التي لم تأخذ وقتاً كافياً من البحث، لا يجوز للعلماء أن يصدروا أحكاماً مطلقة، نعم، إنّ البحث العلمي لا يقتصر على دائرة الممكنات الضيقة، بل يشمل القضايا المبرهنة أيضاً، ومن هذه النافذة، نوجّه اهتمام الباحثين إلى الموضوعات التي تقتضي إطلاق مسيرة البحوث فيها»([18]).
1 ــ 5 ــ 3 ــ أنموذج لتغيير الفرضية إلى ظاهرة مرئية
بعد أن دحض أنشتاين (1879 ــ 1955م) مصداقية قوانين الهندسة الإقليدية بالنسبة للأجرام العظيمة، همّ برفع خطوات جريئة وواسعة إلى الأمام فيما يتعلق بنظرية منطقة الجاذبية في شرح الكون، وقد وضع التفسير الواقعي لتناثر الأجرام السماوية في الفضاء، وعوضاً عن ذلك، اختار مفهوم تراكم متوسّط المادة المستخدم عادةً في الغازات، إلاّ أنّه تبيّن له فيما بعد أنّ استخدام معادلات الجاذبية لتفسير الكون ليست بالبساطة التي يتصوّرها.
اعتقد أنشتاين أنّ الكون نظام مغلق ومحدود، وأنّ دائرة انحنائه مستقلة عن الزمن، ولاختيار صيغة للكون تتوافق مع هذا التصوّر، أضاف ــ من عنده ــ عاملاً إضافياً إلى معادلات الجاذبية، ألا وهو النسبة الثابتة للكون التي أطاحت بانسجام تلك المعادلات، وبالتزامن، كان أحد علماء الرياضيات من بتروغراد وهو ألكسندر فريدمان، منهمكاً في دراسة السبل المتاحة لحل معادلات أنشتاين دون إدخال النسبة الثابتة المذكورة، وقد توصّل إلى أنّ الكون في حالة تمدّد، وأنّه يمكن تعديل فكرة الأنموذج المغلق للكون إلى أنموذج مفتوح، وذلك لمقادير محدودة من تراكم معدل الكتلة، واستناداً إلى ذلك تتمدّد حدود الكون بشكل غير متناهي.
في البداية، انتقد أنشتاين خطة فريدمان، لكنّه رجع بعد ذلك ليسلّم بكل محتوياتها، وسحب فكرته في إضافة النسبة الثابتة إلى معادلات الجاذبية.
يقول أنشتاين: «لقد قرأت رسالة فريدمان، التي بعث بها السيد غروتغوف (الفيزيائي الروسي)، وأذعن الآن بأن انتقاداتي كانت مبنيةً على حسابات خاطئة، أعتقد أنّ النتائج التي توصّل إليها فريدمان صحيحة، وتسلّط ضوءاً جديداً على هذه المسألة»([19]).
لقد ثبتت نظرية فريدمان بالتجربة العلمية، في الوقت نفسه الذي أثبت فيه المنجّم الأمريكي إدوين هابل([20]) أنّ المجرّات تبتعد عن بعضها([21]).
2 ــ دراسة نظرية علاقة القرآن بالعلوم التجريبية ــــــــــ
2 ــ 1 ــ إمكانية التعليل العلمي
من أجل إنهاء الجدل بين المؤيّدين والمعارضين لنظرية التعليل العلمي للإعجاز، يجب أن نحسم قضيتين مهمّتين، الأولى: هل توجد علاقة ذات شأن بين القرآن بوصفه منظومة مركّبة من العبارات والألفاظ التي تحمل معاني خاصة وبين عالم العلم بما يحتوي من فرضيات ونظريات وقوانين ومشاهدات عينية؟ الثانية: في حالة وجود مثل هذه العلاقة، هل هي من نمط التنسيق المستمر أم من أنماط أخرى؟
الظاهرة أو الحقيقة ــ من وجهة نظر العلم ــ إمّا أن تكون قطعية وأحياناً مرئية، أو محل شك وترديد، وحتى إذا وجدنا آثار هذه الظاهرة في آية قرآنية، فيجب أن نأخذ في الحسبان بأنّ دلالة الألفاظ القرآنية على وجود تلك الظاهرة قد تحمل طابعاً احتمالياً أو قطعياً، ومن هنا، نجد أنفسنا أمام أربع حالات متباينة:
1 ــ أن تكون ذات بعد احتمالي من وجهة نظر العلوم الحديثة، فتُحمل عبارات القرآن كذلك على الاحتمال.
2 ــ أن ينظر إليها العلم على أنّها قطعية، وأحياناً مبرهن عليها، لكنّ القرآن لا يرى قطعيّتها.
3 ــ أن تكون مجرّد احتمال من الناحية العلمية، لكنّ القرآن يراها قطعية.
4 ــ أن ينظر إليها كل من القرآن الكريم والعلم على أنّها قطعية ومبرهن عليها.
في الحالتين الأولى والثانية، ينتفي التعليل العلمي للإعجاز القرآني، ولو فرضنا شمول هذه الحالة للقرآن بأكمله، فلن يكون لها تطبيقات هنا، ولا يمكن الاستناد إليها بتاتاً.
بالنسبة للحالة الرابعة، من المؤكّد أن التعليل العلمي ينطبق عليها، وكلما زاد عدد الحالات من هذا النوع، تضاعفت قوّتها وقدرتها.
أمّا الحالة الثالثة، فليست لها أي تطبيقات في الوقت الحاضر، ولكن يمكن أن تشكّل للعلماء المؤمنين بالقرآن عوناً مناسباً في البحوث العلمية، وإذا ما نجحوا في البرهنة على قطعية تلك الظاهرة أو الحقيقة، خاصةً عبر المشاهدة العينية، فإنّهم لن يخطوا خطوات على طريق مسيرتهم العلمية فحسب، وإنّما سيثرون مصاديق التعليل العلمي للإعجاز القرآني.
في هذا الصدد، يقول بوكاي: «لقد بحثت كذلك في أنّه هل توجد إشارات أو ظواهر في القرآن قابلة للاستيعاب من قبل البشر، لم يبرهن عليها العلم الحديث بعد؟ أعتقد أنّ هناك إشارات قرآنية إلى وجود كواكب في الكون شبيهة بالأرض (الطلاق: 12)، وجدير بالذكر أنّ عدداً من العلماء يؤيّدون تماماً هذه الحقيقة، دون أن تخلق هذه المعلومات الجديدة أدنى يقين، لكنّي ارتأيت أن أذكرها هنا مع شيء من التحفّظ. لو كنت قد شرعت بهذه الدراسة قبل 30 عاماً، لكان لزاماً عليّ أن أضيف حقيقةً أخرى ذكرها القرآن حول النجوم، وهي مسألة غزو الفضاء، في ذلك الوقت، وكنتيجة لأولى التجارب التي أجريت على السفن الفضائية، ظهرت فكرة وهي أنّه إذا ما توفّرت الإمكانات المادية اللازمة للإنسان في المستقبل فإنّه قد يستطيع الهروب من البيئة الأرضية باتجاه أعماق الفضاء، وعندها اكتشفوا وجود آية قرآنية تتنبّأ ببلوغ الإنسان لهذا الهدف يوماً ما، وها هو ذا قد تحقّق هذا الهدف»([22]).
3 ــ دراسة ميدانية للتعليل العلمي ــــــــــ
3 ــ 1 ــ أمثلة عن المصاديق، القرآن وظاهرة تمدّد الكون
إحدى المصاديق للحالة الرابعة المشار إليها آنفاً، تصريح القرآن الكريم بمسألة تمدّد الكون، وابتعاد المجرّات عن بعضها، حتى أنّها لا تبقي أي مجال للشك لأي منصف محايد. بعبارة موجزة ودون أي تعقيد، يذكر القرآن
هذه الظاهرة القطعية المرئية العلمية بقوله: >وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ< الذاريات: 47([23]).
ويلاحظ أنّ القرآن الكريم قد استخدم صيغة الماضي في ذكر بناء السماء، ولم يفعل ذلك مع التوسيع «أوسعناها»، إذ استخدم عبارة، >إِنَّا لَمُوسِعُونَ< التي يستشف منها صيغة الاستمرارية، كما تصدق أيضاً على الزمان الفعلي.
3 ــ 2 ــ لمحة عن فرضية التورية البيانية في النص القرآني
تعدّ ظاهرة توسّع الكون وتمدّده، من الظواهر المرئية الحديثة في القرن الحاضر، لكنّا نعلم أنّ القرآن ذكرها قبل 1400 عام بصورة واضحة وبدون أي ضجيج، فهل كان على الوحي الذي أتى على ذكر هذه المسألة بهذه الثقة، أن يصرّ على توضيحها للمسلمين في ذلك الوقت؟ بالطبع لا، لأنّه حتى لو كانوا أحاطوا بهذه الحقيقة، فلم يكن بحوزتهم ما يمكنهم بواسطته التحقّق من صحّتها، مثل التلسكوبات المتقدمة أو أيّ وسيلة اختبار أخرى، بمعنى أنّ شرح الموضوع بوضوح كان سيرتدّ عليهم بنتائج عكسية، وأولئك الذين قالوا: >إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ< القلم: 51، إنّما كان قولهم هذا بسبب بيانه لبعض المسائل التي كانت أرقى من مستوى فهم ذلك العصر، فكانوا يستخدمونها سلاحاً دعائياً لمحاربته والنيل من أفكاره، لذا، استخدم القرآن الكريم التورية البيانية لصرف انتباههم عن هذه المسائل، لأنّ هذه الموضوعات لم تكن تعنيهم بشكل مباشر، فبدلاً من أن يقول نوسعها قال: >وإنّا لموسعون< ليتداعى معنى آخر هو «موسع»([24]) أي «قادر» ويحول بذلك دون الالتفات إلى موضوع التوسّع والتمدّد.
والمثير للدهشة حقّاً، أنّه بخلاف عادة المكتشفين والنوابغ، سواء في هذه الحالة أو في الحالات الأخرى([25])، لا يفتعل القرآن أي ضجّة أو صخب ليبرهن على آرائه العلمية، لكنّه يضفي عليها حجاباً رقيقاً، وبحسب الضرورة، كي لا يشوّش على أذهان الناس الذين لا يملكون الاستعداد لذلك، ولكي يترك للتطوّر العلمي مهمّة الكشف عنها بهدوء متى ما تهيّأت الظروف، وبهذا تتجلّى حقّية القرآن للعلماء وسواهم([26]).
طبعاً في هذه الحالات، ثمّة قرائن ــ دائماً ــ مناسبة لتحديد هذه التورية، فأحياناً، يستغني القرآن الكريم عن استخدام التورية، وذلك لإمكان تداعي تصورات خاطئة في أذهان الناس عن بعض الظواهر العلمية، على سبيل المثال، موضوع الحركة الطويلة للشمس الواردة في الآية الثامنة والثلاثين من سورة يس المباركة، والتي ظلّت لفترة طويلة تنسب إلى الشمس خطأ.
4 ــ تفسير لآراء القرآن الكريم في موضوع التعليل العلمي
وبيان الحق ــــــــــ
4 ــ 1 ــ التنبّؤ بالطفرة العلمية للبشر والتمهيد لأسباب التعليل العلمي
يصرّح القرآن بأنّ ساعة فهم حقّيته تمرّ عبر ازدهار العلم وتطوره، وذلك بقوله: >سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ< فصّلت: 53، إذ تثير هذه الآية الكريمة سؤالاً محدّداً في العقول المتطلّعة وهو: أيّ علاقة بين رؤية الآيات والظواهر في الآفاق وفي نفس الإنسان وبين سطوع حقّية القرآن، بمعنى، أنّه بالنظر إلى كون الضمير في «أنّه الحق» يعود إلى القرآن الكريم([27])، فكيف يمكن لتجلّي الظواهر في الطبيعة وفي أعماق الإنسان، أن يفضي إلى معرفة حقّية القرآن؟!
السبيل الوحيد هو أن نقرن عملية الكشف عن الظواهر بالإشارة إلى بعض الأمثلة عن الحقائق الواردة في القرآن. وجدير بالذكر أنّ هذه النقطة بالذات والتي تشير إليها الآية الكريمة، تعتبر إحدى النبوءات التي نعيش لحظات تحقّقها، أي نبوءة حول عصر ازدهار العلوم البشرية وتطوّرها، لكيلا يشوب المراد من آياتنا أي غموض، نعرض لبعض الآيات والظواهر: >وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ..< فصّلت: 37، >وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ…< فصّلت: 39، >وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَث فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ< الشورى: 29، >وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ…< الشورى: 32.
وكذلك الحال في السورة التي تسبقها، إذ إنّه بعد ذكر بعض الآيات والظواهر، يقول القرآن: >وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ< المؤمن: 82، علاوة على سورة أخرى تتضمّن أمثلةً للظواهر الطبيعية، وهي لا تقبل أن يقصر بعض المفسّرين([28]) معنى آية «سنريهم آياتنا» مثلاً في ظهور علائم العذاب، حتى مع وجود بعض الروايات المعتبرة التي تؤيّد هذا المعنى، حيث يمكننا حملها على مقولة خاطبوا الناس على قدر عقولهم، لأنّه لم يكن من الممكن في ذلك العصر حمل التصوّر الحالي.
4 ــ 2 ــ من تجلّي الحقّية إلى حصول اليقين، من العلم إلى العمل
من المسائل المثيرة للاهتمام، أنّه بالإضافة إلى نبوءة الطفرة العلمية للإنسان وظهور الإعجاز العلمي في هذا الخصوص، تحمل الآية 54 من سورة فصّلت نبوءة أخرى تبيّن بوضوح أنّ عملية تبيين الآيات والظواهر وتجلّي حقّية القرآن، تهدف جميعها إلى إلقاء الحجّة، وهي لا تعني بالضرورة أنّ جميعهم سيؤمن، نعم، سيدركون حقّية القرآن، إلاّ أنّ هذا لا يعني تمسّكهم بأحكامه كما يفعل المؤمن، لأنّ القرآن الكريم يقول: >أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ< فصّلت: 54.
والآن، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا يشكّكون بلقاء ربّهم على الرغم من إقرارهم بحقّية القرآن وبأنّه كتاب منزل من عندالله؟! الجواب في الآية التي تليها: >فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا< الكهف: 110، أي أنّ اللقاء رهن بالعمل الصالح المقرون بالإخلاص في عبادة الله ومحبته، وطبيعي، كلما زيد في ذلك، حظي الإنسان بدرجات لقاء أرقى.
[1]) أستاذ مساعد في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية بجامعة طهران.
[2]) راجع: علي أكبر سياسي، المنطق وعلم النفس: 82، طهران، 1957م؛ وفيلسين شاله، معرفة مناهج العلوم: 112، ترجمة: يحيى مهدوي، طهران، 1971م.
[3]) علي أكبر ترابي، فلسفة العلوم: 140، طهران، 1968م.
[4]) هذان الفريقان وإن كانا مختلفين من الناحية الفكرية، إلاّ أنهما يسلكان النهج نفسه، لأنّ كليهما يقيس القرآن على مفاهيم خاصة ما أنـزل الله بها من سلطان، وقاعدة هذا القياس النظرة الشخصية، الحدس، المصالح الفردية والجماعية، وليس فهم حقيقة القرآن، انظر: مجلّة كيهان انديشه، العدد 28: 58، 1989م.
[5]) الشيخ شلتوت، تفسير القرآن الكريم: المقدمة، القاهرة، 1966م.
[6]) محمود شلتوت (1893 ــ 1963م)، مفتي الديار المصرية ورئيس جامعة الأزهر، أحد المفسرين المصريين، له أسلوب ومنهج تقليدي نقلي بارز، ومختلف عن منهج الشيخ محمد عبده =
= (1266 ــ 1323هـ) العلمي العقلي. من مؤلفاته: إلى القرآن الكريم، من هدي القرآن، وتفسير القرآن الكريم، الأجزاء العشرة الأولى، راجع: خرمشاهي، بهاء الدين، تفسير وتفاسير جديدة: 30، طهران، 1985م.
[7]) شلتوت، تفسير القرآن الكريم، مصدر سابق: المقدمة.
[8]) موريس بوكاي، مقارنة بين التوراة والإنجيل والقرآن والعلم: 22، 51، إعداد: ذبيح الله دبير، طهران، 1989.
[9]) المصدر نفسه: 172 ــ 173.
[10]) المصدر نفسه: 211.
[11]) الجواهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكنونات وغرائب الآيات الباهرات.
[12]) تفسير القرآن وهو الهدي والفرقان، ترجمة محمد تقي فخر داعي جيلاني.
[13]) للتعرّف على بعض هذه الشواهد انظر: القرآن والعلوم الطبيعية، تأليف مهدي كلشني، وكذلك رسالة القرآن في عصر الفضاء، تأليف عبدالرضا حجازي.
[14]) يمكن الإشارة هنا إلى كتاب آيات من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تأليف جمال الدين حسين مهران، وكذلك القرآن والظواهر الطبيعية في ميزان العلوم الحديثة ليحيى نظيري.
[15]) بوكاي، مقارنة بين التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، مصدر سابق: 43، وللاستزادة في هذا الموضوع، يراجع كتاب من علم الطب القرآني تأليف عدنان شريف.
[16]) عالم شهير في الفيزياء النظرية، من الاتحاد السوفياتي السابق، عضو أكاديمية العلوم السوفياتية، ومستشار معهد لاندايف للفيزياء النظرية، وخبير في مجال نظرية الذرات الأولية والخلايا النووية، له نحو 150 مقالة و 5 كتب. نشرت له دار بنجامين كومينغز في الولايات المتحدة عام 1977، كتاباً بعنوان «الأساليب النوعية في النظرية الكوانتومية (الكمية) ».
[17]) سيتمّ التطرّق إلى ذلك في ذيل الموضوع التالي.
[18]) ميغدل، رسالة اليونسكو، العدد الخاص بأنشتاين: 29 ــ 30، 1979م.
[19]) لقد علم فريدمان بهذه التصريحات قبيل موته عام 1925م.
[20]) يحمل أضخم تلسكوب في العالم اسم هذا العالم. Edwin – Habbel (1889 ــ 1935م) وقد نجح القسّ لومته Lemaiter عالم الرياضيات البلجيكي في مواصلة نظرية تمدّد الكون وذلك بالاستعانة بنظرية هابل.
[21]) المصدر نفسه، وكذلك: مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية: 384، إعداد محمود شاكر، القاهرة، بدون تاريخ.
[22]) بوكاي، مقارنة بين التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، مصدر سابق: 175.
[23]) من جملة الكتب أو التفاسير التي تشير إلى هذه الظاهرة بوصفها إعجازاً علمياً قرآنياً، أو أنّها نظرت إليها من هذه الزاوية: كشف الحقائق 3: 421؛ والميزان 18: 413؛ وأحسن الحديث 10: 353؛ وتقريب القرآن: 27: 16؛ ومن وحي القرآن 21: 259؛ من هدي القرآن 14: 60؛ ونقل بعض الآراء عن «من الذرة إلى النجم»، الكاشف 7: 155، ونقل بعض الآراء عن «التكامل في الإسلام» 3: 67.
[24]) من التفاسير التي لم تحمل اللفظة على محمل الإعجاز العلمي، وذكرت لموسع معنى غير علمي هي: غازر 9: 224؛ والمواهب العلية 4: 211؛ ومنهج الصادقين 9: 47؛ وخلاصته 6: 27؛ وشريف لاهيجي 4: 266؛ والاثني عشري 12: 79؛ ومخزن العرفان 6: 326؛ والعاملي 8: 62؛ والروح الخالدة 5: 69؛ وأطيب البيان 12: 283؛ والقمي 2: 330؛ والتبيان 9: 394؛ ومجمع البيان 5: 160؛ ومختصره 3: 329؛ وجوامع الجامع 4: 67؛ والصافي 5: 73؛ والبرهان 5: 235؛ ونور الثقلين 5: 129؛ والمعين 3: 1412؛ وكنـز الدقائق 12: 429؛ وشبر 1: 522؛ والجوهر الثمين 6: 88؛ وبيان السعادة 4: 115؛ ومقتنيات الدرر 10: 234؛ والجديد 7: 30؛ والمنير 7: 326.
[25]) مثل إدراج الآية 88 من سورة النمل ضمن آيات القيامة، وتناول مسألة حركة الأرض من جميع جوانبها وبشكل دقيق للغاية، حيث سنأتي على تفصيل هذا الموضوع في وقته.
[26]) يجب الانتباه إلى أنّه ليس جميع آيات التورية تحمل ــ بالضرورة ــ أغراضاً علمية، بل تحتجب وراء العديد منها دوافع سياسية واجتماعية ونفسية، من قبيل تغيّر الضمائر في آية التطهير من سورة الأحزاب: 33، وإدخال آية الإكمال في المائدة: 3، ضمن بعض آيات الأحكام، حتى يتسنّى تفسيرها حسب رياح السلطة فيصرفها بذلك عن تحريف الألفاظ، ويتحقق وعد الآية التاسعة من سورة الحجر.
[27]) الطبرسي 5: 19؛ شبر 1: 481.
[28]) محسن الفيض الكاشاني، الصافي في تفسير القرآن 2: 505، طهران، 1986م.