ترجمة : مشتاق الحلو
بإمكاننا تقسيم العلوم والمعارف المرتبطة باللغة جميعها إلى قسمين أساسيّين:
1 ـ العلوم والمعارف التي تتناول لغةً خاصة.
2 ـ العلوم والمعارف التي تتناول اللغة بصورةٍ عامة.
فعلومٌ كالصرف، والنحو، ومعاني الألفاظ من القسم الأول، ولا شأن لنا بها فعلاً، حيث يدور بحثنا حول القسم الثاني، أي حول اللغة بما هي لغة، دون اختصاصٍ بلغةٍ بعينها.
وينشطر القسم الثاني أيضاً إلى قسمين:
1. العلوم والمعارف التي تتناول اللغة من زاوية فلسفية.
2. العلوم والمعارف التي تتناول اللغة من زاوية تأريخية وتجريبية.
ويدرس علم اللغة (Linguistics)، اللغات من ناحية تجريبية وتأريخية، وهو حقل لا يعني كثيراً دارسي اللغة من زاوية عقلية ومفاهيمية.
أمّا العلوم التي تتناول اللغة من زاوية فلسفية فهي:
1 ـ فلسفة اللغة (Philosophy of Language): وهو علم يتناول التحليل المفاهيمي والنظري والعقلي للّغة، ويمكننا القول بشكل عام: إنّ أيّ جهدٍ عقليّ يتخذ اللسان محوراً لدراسته يعدّ من هذا القسم، وقد اعتبر بعضهم أن مسائل هذا العلم تبلغ اثنين وعشرين مسألة، كنت قد تعرّضت لها باختصار في محاضرةٍ سبق أن ألقيتها.
2 ـ فلسفة الألسنيات (Linguistic philosophy): فلسفة الألسنيات أو ما يسمّى بالتحليل الألسني(Linguistic Analysis) هو الموضوع الآخرالذي يبحث تحت هذا العنوان، وتعتبر فلسفة اللغة من العلوم العقلية، بينما لا يعتبر التحليل الألسني من العلوم الفلسفية، بل هو نظريةٌ في الفلسفة، مفادها أن بعض الفلاسفة يعتقدون بأننا نستطيع الإجابة على الأسئلة الفلسفية أو إلغائها من الأساس، من خلال تحليل اللغات المتعارفة بين الناس؛ أي أنّه بعد تحليل لغة الناس، تخرج كثير من المسائل الفلسفية عن النطاق الفلسفي لتتحوّل إلى ألغاز، لكنّ فريقاً آخر من الفلاسفة يعتقد بإمكان حلّ المسائل الفلسفية بهذه الطريقة.
أبرز فلاسفة الألسنية أو التحليل الألسني: فتغنشتاين([1])، جون ويزدوم([2])، وغلبرت رايل([3])، وهم، وإن تضاربت آراؤهم في مجالات مختلفة، بيد أنّهم متفقون على ضرورة تحليل اللغة للإجابة عن المسائل الفلسفية.
3 ـ فلسفة اللغة المألوفة (Ordinary Language Philosophy): وهي الموضوع الثالث الذي يبحث عنه في الألسنيات،مع العلم أن بعض الفلاسفة يعتقد بأن هذه الفلسفة هي الفلسفة الألسنية نفسها، بينما يرى القسم الآخر أنها تفترق في بعض المجالات عنها.
على أيّ حال، تبحث هذه الفلسفة اللغةَ المألوفة،وتقضي بأن المسلّمات الأساسية للّسان تعكس لنا حقائق العالم الخارجي؛ أي أننا إذا درسنا افتراضات اللغة، نصل إلى قضايا تكشف لنا عن الحقائق، فعلى سبيل المثال، هناك في اللغة مسندٌ، ومسند إليه، واسم ذات، وصفة؛ فالمسند صفةٌ والمسندإليه اسم ذات، من هنا نفهم أن عالم الطبيعة يحتوي جوهراً وعرضاً، أي أننا توصّلنا من مسألةٍ لغوية إلى حكمٍ وجوديّ فلسفي.
و قد تعطينا فلسفة اللغة المألوفة، إضافةً إلى الأحكام الإيجابية المذكورة، أحكاماً سلبية؛ فالمنطق المرموز والمحفوف بالألغاز لا يساعدنا على حلّ المسائل الفلسفية، لذا يختلف مؤيّدو هذه الفلسفة مع كارناب([4]) وكواين([5]).
وربما تمكّن أنصار فلسفة اللغة المألوفة الأخذَ بفلسفة الفهم العرفي (Common sensory philosophy)؛ لأن افتراضات اللغة المألوفة افتراضات عرفية، كما أن فيلسوفان من فلاسفة الفهم العرفي، يمكن اعتبار فلسفتهما من فلسفة اللغة المألوفة، وإن لم يصرّحا بذلك، وهما: توماس ريد([6]) وجورج إدوردمور([7]).
4 ـ الفلسفة التحليلية (Analytical philosophy or Analytic philosophy): وهي الحقل الرابع الذي نتناوله تحت هذا العنوان، وتمثل نهضةً فلسفية حدثت في القرن العشرين، وينتمي أتباعها إلى اتجاه واحد، لكنهم لا يصلون إلى نتائج موحّدة، فلا تعدّ مدرسةً فلسفية، بل نهضةً فلسفية تعتقد بأنه من الواجب أن تكون دعاوينا الفلسفية أوضح وبراهيننا عليها أقوى.
بُنية العلوم الألسنية ــــــــــ
نتناول هنا عدّة نقاط:
النقطة الأولى: تنقسم المجالات المعرفية التي تتناول اللغة إلى قسمين: المجالات التي تتناولها للإجابة عن المسائل الفلسفية، والمجالات التي تهتمّ باللغة بحدّ ذاتها.
وتندرج المباحث اللغوية من علم أصول الفقه في القسم الثاني؛ لأنها تهتمّ بالتحليل الفلسفي والفلسفة التحليلية.
النقطة الثانية: يقال: إن علم أصول الفقه قد انتفخ أو تورّم، لكن يجب أن ننتبه إلى أن لا علم الأصول ولا أيّ علم آخر يمكنه أن ينتفخ، فما الذي يقصد من هذا الكلام؟ إذا كان المقصود أن أخطاء دخلت علم الأصول وفيه ما هو جهل مركّب، فهذا الأمر لا يختصّ بعلم الأصول، فكل علم يمكن أن يواجه أمراً كهذا، وإذا كان المراد أن معلوماتنا الأصولية باتت كثيرة جداً، فهذا الكلام لا معنى له في العلم وحياته.
نعم، نستطيع اعتبار علمٍ ما منتفخاً من زاويةٍ واحدة فقط، وهي ما إذا كان ذلك العلم مقدّمةً لعلمٍ آخر؛ ففي هذه الحالة، يجب الأخذ منه بقدر سدّ الحاجة للمقدّمة، من هذه الناحية، يمكن وصف علم الأصول بالمتورّم، أي يمكننا الادعاء بأن هذا العلم دخل مجالات لا يحتاجها الفقيه بما هو فقيه، وفي هذه الحالة، يجب تعيين الموضوع غير ذي الصلة بعمل الفقيه والذي اُقحم نطاقَ أصول الفقه.
والمسألة الأهم، وجود بحوث لغوية في أصول الفقه لم تحدّد طبيعتُها، أي ليس هناك وضوح للمجال الذي يجب أن تبحث فيه، في الإطار التجريبي للمسألة، أو في الإطار التأريخي، أو في الإطار العقلي والفلسفي، مما أدّى إلى حدوث بعض المشاكل.
النقطة الثالثة: تنقسم المعرفة البشرية إلى قسمين:
1. معرفة الأعيان والموجودات، أي معرفة عالم الواقع، سواء على صعيد عالم الآفاق أو الأنفس.
2. معرفة النصوص، سواء الملفوظ منها أو المكتوب، ولا يسمى هذا الشقّ علماً بل فهمٌ وتفسير، علماً أن ما قلناه هو أحد معاني العلم والفهم؛ لأن العلم والفهم مشتركان لفظيان، لهما معان متعدّدة، إذاً بإمكاننا القول: إن المعلوم إذا لم يكن بنفسه دالاً، فموضوعنا العلم، وإذا كان دالاً بنفسه، فموضوعنا الفهم. ومن الممكن تناول كلّ من العلم والفهم بالبحث، ودراسة ملابسات نشأة كل منهما، وتمايزهما عن بعضهما و.. فالبحوث المختصّة بالعلم، تسمّى علم المعرفة، أمّا تلك المرتبطة بالفهم والاستيعاب، فتسمى الهرمنيوطيقا.
النقطة الرابعة: إنّ ما حث الأصوليين على خوض غمار مباحث الألفاظ سعيهم لفهم الدليل اللفظي، إذاً فيمكن عدّ عملهم هذا شكلاً من أشكال الفعل الهرمنيوطيقي، لكن الهرمنيوطيقا التي تستخدم في مباحث الألفاظ من علم الأصول لا تختصّ بالفقه، بل تستخدم في استنباط الأحكام الأخلاقية في علم الأخلاق، أو تلك العقائدية في علم الكلام، وأمثال ذلك، وعليه فهذه الدراسات ليست أصولاً للفقه فحسب، بل أصول لفهم النص عموماً.
النقطة الخامسة: رأى الأصوليون أنهم في عملية استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والروايات في حاجة ماسّة إلى علوم كالصرف والنحو واللغة والمعاني والبيان والرجال والدراية و…، ولكلّ من هذه العلوم من تكفّل به، لكن البحوث اللغوية التي تمتاز بصبغةٍ فلسفية لم يتكفّلها أحد، لذا اضطرّ الأصوليون إلى تبنّيها بأنفسهم.
النقطة السادسة: يدرس الأصوليون النصوص في علم الهرمنيوطيقا الخاصّ بهم ـ وهو علم الأصول ـ بغية معرفة مسائل كدلالة الأمر، هل هي على الفور أوالتراخي؟ وعلى الوجوب أو الاستحباب؟ و… لكن علم الهرمنيوطيقا، إضافةً للنص، يبحث في أمور أخرى دخيلة في الفهم، كدراسة ظروف صدور النص، الناطق أو الكاتب، البعد الزمني بين صدور النص وتفسيره، مناخ المفسّر وميزاته و…
النقطة السابعة: يجب فصل البحوث التي تخصّ اللغة بصورةٍ عامة،عمّا يختصّ باللغة العربية من مباحث الألفاظ في علم الأصول؛ فما يختصّ باللغة العربية يجب درجه في آخر علم الأصول، أما المسائل العامّة فتنقسم إلى ثلاثة أقسام، يعبّر عن مجموعها في بعض الأحيان بعلم العلامات (Semiology)، وهي: علم النحو، علم المعنى، وعلم الوظائف.
وقد اختلطت هذه المسائل في الكتب الأصولية، ولم يتمّ فرزها جيّداً، ونرى في الأقسام جميعها تعابير (الكلمة، العبارة، والجملة)، فنبحث في علم النحو علاقة علامةٍ لغوية ما بعلامةٍ لغوية أخرى، وفي علم المعنى نبحث علاقة الدالّ والعلامات اللغوية بغير الدالّ، أي ارتباط الدال بمعناه ومدلوله، أمّا في علم الوظائف فنبحث علاقة العلامات اللغوية بوظائفها ودورها الذي تؤديه، كما تدرس أبحاث الوضع والاستعمال في هذا القسم أيضاً.
* * *
الهوامش
(*) أستاذ جامعي بارز، أحد أكبر منظري الإصلاح الديني في إيران اليوم، يحمل نزعةً إيمانية لا تركّز على مفردات العقيدة بقدر مبدأ العلاقة الروحية، له نقد على نظرية القبض والبسط، مترجم عن اللغات الأجنبية.
1 ــ Ludwig Wittgenstein (1889 – 1915) فيلسوف ومنطقي نمساوي.
[2] ــ John Wisdom.
[3] ــ Gilbert Ryle )1900(، فيلسوف بريطاني.
[4] ــ Carnap (1891 – 1970) فيلسوف ومنطقي ألماني.
[5] ــ Quine (1908 – …) فيلسوف ومنطقي أميركي.
[6] ــ Thomas Reid (1710 – 1796) فيلسوف اسكتلندي.
[7] ــ George Edward Moore (1873 – 1958) فيلسوف بريطاني.