ترجمة: حيدر حب الله
الكلام الإسلامي والنشأة الطبيعية ــــــــــ
شهد تاريخ الثقافة الإسلامية طائفتين كلاميتين كبيرتين هما: المعتزلة، والأشاعرة، ورغم ما قيل عن استقلال الشيعة آنذاك بمذهب كلامي، إلا أنّ هذا المذهب كانت تربطه بمدرسة الاعتزال أواصر من القرابة.
على ماذا اختلفت الأشاعرة مع المعتزلة؟ وكيف ظهر العقل الاعتزالي؟
لقد كوّنت الأديان في مسيرها التصاعدي التنموي ظاهرة الكلام، إلا أنّ ظهور علم الكلام لم يكن تدبير أحد أو تخطيط جماعة، إنما كان تنامياً طبيعياً وتكاملاً تاريخياً لمدرسة أو مذهب، فعندما يأتي نبي بدعوته، ويلقي ما عنده من وحي، فإنه لا يتكلّم بلغة المتكلّمين، ولا بلغة الفلاسفة، ولا بلغة المؤرّخين، وبعبارة جامعة: ليست اللغة النبوية لغةً علمية تخصصية، بل لا تشابه حتى اللغة الفقهية والفلسفية، إنّ اللغة النبوية لغة عرفية، غاية ما في الأمر أن أجيالاً لاحقة ستظهر
عقب العهد النبويّ، تسعى جاهدةً لفهم رسالة النبي نفسه واكتشاف مضمونها ومعطياتها.
والذي يحدث عقب تكوّن هذه المعطيات المعرفية المنبثقة عن جهود المعرفة والاكتشاف، أن يتبلور علم جديد، نطلق عليه نحن: علم الكلام، فإذا تمّ الاقتصار في فهم كلام النبي على الكلمات والجمل اللفظية فإن علم الكلام الناتج عن محاولة الفهم هذه سيكون نقلياً وتفسيرياً، أما إذا تمّ استيراد آليات الفهم الفلسفي واقتباس أسلحة هذا العقل لتوظيفها في عملية فهم الرسالة النبوية، فإن علم الكلام الحاصل إثر ذلك سيكون عقلياً أو فلنقل: كلاماً فلسفياً.
لقد حدث في أوساط المسلمين ما عرفته الحياة المسيحية من قبل، فعلم الكلام ليس سوى تلاحق طبيعي للأحداث، أمّا ما هو التطوّر الذي يشهده هذا العلم بعد ذلك؟ وما هو المسير الذي يتخذه لنفسه؟ ما هي النتائج التي تنبثق عنه؟ فهو بحث آخر لا علاقة لنا به فعلاً.
تعلمون أنّ عظماء ــ حتى داخل الوسط الكلامي ــ من أمثال الغزالي ظهروا يمارسون النقد والتفنيد في حق هذا العلم نفسه، بل يصرّحون جهاراً بأنّ علم الكلام لا يزيد على إيمان الإنسان إيماناً، إن ذلك العلم الذي ولد ليكون مدافعاً عن الاعتقادات والإيمانيات والمواقف الدينية تحوّل تدريجياً إلى حجابٍ لهذه الإيمانيات، وهذا درس كبير ينبغي علينا تعلّمه من التاريخ، وعصارة الدرس أنه قد تظهر على مرّ التاريخ ــ بين الفينة والأخرى ــ أشياء منبعثة من نوايا صادقة ومراراتٍ كثيرة، بيد أنه يتحوّل ــ عقب ذلك ــ إلى عكسه وينقلب إلى ضدّه، فبدل أن يكون سلاحاً بيد الصديق يغدو كذلك لكن بيد الخصم والعدو.
يرى جماعة من المتكلّمين أن ولادة علم الكلام وتكوّنه كانت في البدو على الشكل المذكور، كانت قصّة علم الكلام كذلك، لكن كان ذلك طبيعياً، أي لم تكن ولادة هذا العلم قيصريّةً، سيما بعد اتصال المسلمين بالشعوب والأقوام الأخرى، كاليهود والمسيحيين، ليسمعوا كلامهم، وينظروا ما عندهم، ويلتقوا متكلّميهم، ويجادلوهم، فتدخل آراؤهم أو شبهاتهم العالم الإسلامي عن هذا الطريق.
أما المسلمون، فلما كانوا باحثين سعاةً ــ بنشاط ــ لتلقف العلم واكتسابه من هنا وهناك فقد تقبلوا هذه الأفكار ورحّبوا بها، وهكذا قام علم الكلام بينهم، وكما قلت، كان ذلك مساراً طبيعياً طواه هذا العلم، فقد حظي بمنطق داخلي، كما تمتع بآخر خارجي، ومعنى ذلك كلّه أن علم الكلام كان نتيجاً طبيعياً لعلاقة المسلمين بسائر الأقوام والنحل.
ظهور العقل الاعتزالي في الحياة الإسلامية ــــــــــ
لقد كان الكلام المعتزلي مقدّماً على الكلام الأشعري، لكن دولته كانت في عجلةٍ من أمرها، أي كان أمدها قصيراً وعمرها محدوداً، فلم تدم سوى قرن واحد أو أقل؛ إذ عصفت الأحداث السياسية والكلامية بهم ونحّتهم جانباً؛ فتحوّلوا من حركة مهيمنة في تاريخ الإسلام إلى أخرى مغلوبة، وإذا لم يكن للشيعة وجود فإن حال الكلام المعتزلي كان أسوأ من ذلك بكثير، ولا يوجد بأيدينا اليوم من كُتُب المعتزلة شيء، فما نعرفه عنهم أنما هو ما بقي قابعاً داخل الردود التي تلقاها الاعتزال، فالأشاعرة ــ كما في شرح المقاصد، وشرح المواقف، والكثير من الكتب الأخرى ــ نقلوا آراء المعتزلة ثم أردفوها بالنقد والتفنيد، إلا أن هذه المنقولات عن المعتزلة كانت ــ دائماً ــ مختصرةً موجزةً، وفي الوقت عينه عابرة، حتى أنهم لم ينقلوا لنا في رأي من آراء المعتزلة عينَ عبارة مؤلفي الاعتزال ومتكلّميه، إنما كانوا يكتفون فقط بنسبة الرأي إليهم، أما إلى أيّ حدّ كان ذلك في سياقه (contex)، وإلى أي مدى كانوا أوفياء بهذا النقل، صادقين فيه، مستوفينه بشكل كامل، فهذا ما يحتاج بدوره إلى بحث ومتابعة.
ظهر للمعتزلة أواخر حياتهم أنصار في بلاد اليمن، وقد عثر على بعضٍ من أفضل وأهم كتب الاعتزال في تلك الديار، وقد طبعت هذه الكتب خلال العقدين إلى الأربعة عقود السابقة، لتوضع في متناول الباحثين وأهل الرأي، إن النصوص والمكتوبات الأصلية للمعتزلة، لو كانت موجودةً، فلا بد لنا اليوم من الرجوع إليها، فأكثر معلوماتنا عنهم إنما جاء ــ كما قلت ــ عن طريق المستندات والوثائق الأشعرية.
لم تكن لدولة المعتزلة حياة طويلة، ولطالما ظلّ البحث في سرّ انهيارها واحدةً من مسائل التاريخ الإسلامي المثيرة، لقد قيل: إن أحداث المحنة، تلك التي أقامها المعتزلة بمساعدة ودعم الواثق بالله والمأمون وآخرين أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث، كانت من فجائع التاريخ الإسلامي، وقد كانت سبباً في انقلاب المسلمين عليهم، كما وسبباً لنفوذهم في ميدان الخلافة والسياسة ليختموا تدخلهم هذا بالإطاحة بالاعتزال وتنحيته، فكما تعلمون كان المأمون معتزلياً، بل كان واحداً من متكلّميهم، كان رجلاً شديد الحبّ كبير العلاقة بعلم الكلام، باذلاً جهده في الاطلاع على آراء المتكلّمين ومقولاتهم.
ولعلّ التأثيرات التي تلقاها المسلمون من المسيحيين دفعت ــ في الوسط الاعتزالي ــ إلى فتح قصّة قدم أو حدوث الكلام الإلهي، كان هذا الموضوع آنذاك بمثابة سؤال جادّ خلقه المعتزلة، ففي المسيحية يمثل عيسى كلام الله، بل هو الله، تماماً كما جاء في أوائل إنجيل يوحنا، وهذا الكلام قديم، بمعنى أن عيسى هو الله، وأنه يتمتع بقدم ذاتي، كما أنه في الوقت عينه يتمثل كلام الله سبحانه، وقد كتب بعض المستشرقين أن قدم كلام الباري وعدمه كان نفذ ــ تدريجياً ــ من المسيحية إلى أذهان المسلمين ليشغلها به، فإذا كان الكلام الإلهي في المسيحية شخص عيسى % فإن المسلمين لديهم كلام إلهي أيضاً، ألا وهو كتاب القرآن، وهكذا انتقلت تدريجياً تلك المباحث التي شغلت بال المتكلّمين المسيحيين حول عيسى المسيح، وكونه كلام الله، وحدوثه وقدمه.. انتقلت إلى المسلمين لتشغلهم أيضاً.
وقد بلغ الحال ــ وكما قلت ــ أن شكّل الجهاز المحيط بالمأمون العباسي وكذا الواثق بالله اجتماعات امتحانية لعلماء المسلمين، كانت في واقعها نوعاً من التفتيش العقائدي، فقد كانوا يسألونهم: هل تقولون بقدم كلام الباري أو بحدوثه؟
لقد كان المعتزلة قائلين بحدوث الكلام الإلهي، ولهذا أخرجوا كلّ أولئك الذين ذهبوا إلى القول بقدم الكلام ونحّوهم جانباً، وكما تعرفون فقد أبدى أحمد بن حنبل ممانعةً في الاعتراف بحدوث الكلام، وظلّ مصرّاً على القول بقدمه، حتى سجن، وهكذا وقعت أحداث سيئة للغاية عصر المحنة هذا.
ولا بدّ لي أن أبيّن أن بعض المؤرخين في عصرنا يرفضون الاتهامات الموجهة إلى المعتزلة، ولا يرونها صحيحةً، ويعدّ فهمي جدعان، المؤرخ الأردني، واحداً من أولئك؛ فقد استدلّ في كتابه bالمحنةv ــ وبجدارة ــ على عدم صحّة هذه التهمة الموجهة إلى المعتزلة، وأن الأحداث كانت أعقد بكثير مما قيل عنها،وقد رصد جدعان كلّ المتكلّمين الذين أحاطوا بالمأمون العباسي واحداً واحداً، ممن كانوا على تماس مع البلاط، وأوضح حقيقتهم، ومقولاتهم، وأفعالهم، إنه يرفض تماماً المزعمة التي تتحدث عن الجلسات الامتحانية التي كان يعقدها المعتزلة، والتي وصفت بدعةً في تاريخ الإسلام ما لبثت أن فتحت يد الأشاعرة فيما بعد، إنه يرى الأمر مختلفاً تماماً عن هذه الصورة المزعومة، لكن على أيّ حال، فما عرضناه نحن من المشهد والصورة كان هو الرأي المشهور، حيث يقال: إن المعتزلة قد فعلوا ذلك واقعاً.
ظهور العقل الأشعري وتحوّلات الصيرورة ــــــــــ
كانت للمعتزلة عقائد متنوّعة ومتعدّدة لا يمكننا الخوض فيها بأجمعها، إلا أن أبا الحسن الأشعري، وبعد حقبةٍ من الاعتزال، يعلن ــ إثر سلسلةٍ من المباحث الكلامية وألوان الجدل الذي وقع بين المعتزلة ومخالفيهم ــ تأسيس مذهب الأشعرية، ذلك المذهب الذي تحوّل فيما بعد إلى مذهب جمهور المسلمين، ويمكن القول تقريباً: إن المذهب الغالب والكلام المهيمن على المسلمين لاثني عشر قرناً، أي منذ نهايات القرن الثاني الهجري وإلى عصرنا اليوم… هو المذهب الأشعري، والكلام الأشعري، إن عامّة الكبار والعظماء الذين نعرفهم في العالم السنّي كانوا جميعهم من الأشاعرة، مثل الفخر الرازي، والمولوي جلال الدين الرومي، والغزالي، وإمام الحرمين الجويني و… كانوا ــ جميعاً ــ يدافعون عن المواقف الأشعرية.
نعم، لكن الأشعرية لم تبقَ على حالها كما بدأت، فإذا ما قارنا أشعرية القرن السابع الهجري كما جاءت في كتاب bالمواقفv بأشعرية القرن الثاني لرأينا أنها غدت أكثر اختماراً ونضجاً من سابقتها، بل لقد دمجت بعض مواقفها لاحقاً بالمواقف الاعتزالية، وأخذت طابعاً فلسفياً بعد أن لم تكن كذلك.
ويمكن ــ كما يقول فيبر ــ الحديث عن الأشاعرة والمعتزلة تحت عنوان
Type ldeal، فنركز على موضوعنا بشكل أفضل، ألا وهو: العقل المعتزلي والعقل الأشعري.
إنني أهدف هنا، إلى طرح نظرية كي يتلقاها الأصدقاء الباحثون في هذا المضمار، وإذا ما رأوا في ذلك ضرورةً أن يشتغلوا على محورها ويقدّموا تساؤلاتهم وملاحظاتهم بغية إنضاج البحث أكثر.
العقل الإسلامي والمرحلة الرمادية في التفكير الفلسفي ــــــــــ
لقد ظهر المعتزلة في العالم الإسلامي بما يمكن القول: قبل دخول الفكر اليوناني إليه، فقد كانت الكتب اليونانية تحت الترجمة، وكان اطلاع المسلمين على الفكر الفلسفي اليوناني، سيما أفلاطون أو الطب مع جالينوس، في بداياته الأولى، وقد أنجز ذلك المأمون العباسي عبر بيت الحكمة، لكن المصطلحات المعادلة للمصطلح الفلسفي اليوناني لم تكن قد ظهرت بعد أو تبلورت، ونقول ذلك لكي يُعلم أننا حينما نطرح ــ على سبيل المثال ــ مسألة الحسن والقبح الذاتيين في الأخلاق فمن غير المؤكّد ما إذا كان مصطلح الذاتي هنا في الثقافة الإسلامية يطابق مصطلح الذاتي في الفلسفة اليونانية، فهذه الكلمات لم تكن في ذلك الزمان قد أخذت بُعدها الاصطلاحي، فقد مضت مدّة حتى استطاع المسلمون تأسيس مدرسة فلسفية تحمل في طياتها مصطلحات معادلة لتلك التي في الفلسفة اليونانية.
ويعود المعتزلة إلى حقبةٍ شهدت تفكيراً عقلياً إلا أنّها لم تكن بعدُ قد ظهرت فيها العقلية الفلسفية في وعي المسلمين، مرحلة لعلّه يمكن تسميتها بالمرحلة الرمادية، أي أن العقول لم تكن بعدُ قد تحوّلت إلى عقول فلسفية، إلا أن التفكير الفلسفي واستخدام المقولات العقلية وتكوين رؤى ذات طابع فلسفي، أي رؤى حكمية، أو بعبارةٍ أكثر دقةً: رؤى عقلانية للدين كان قد بدأ مراحله الأولية.
إنني أسمّي المعتزلة بالمدرسة الدينية غير التجربية، في مقابل المدرسة الأشعرية التي أراها مدرسةً تجربيةً دينية أو تجربيةً نقلية، فالأشاعرة في المواقف التي اتخذوها كانوا أقرب إلى التجربيين الجدد، أما المعتزلة فكانوا على النقيض من ذلك تماماً، أي لم يكونوا تجربيين، بل منشغلين بشكل أكبر في داخل المقولات العقلية القبلية.
الفلسفة بين المدارس العقلية القبلية والتجربية البَعدية ــــــــــ
ومنذ بدو تكوّن الفلسفة كانت هناك مدرستان متعارضتان، وما تزالا حتى الوقت الحاضر، ولكي نعي طبيعة النضوج والتنامي الفلسفي يلزمنا جيداً أن نفهم هاتين المدرستين ونأخذهما بعين الاعتبار.
المدرسة الأولى: تلك المدرسة التي تهدف إخضاع عالم الطبيعة وما بعد الطبيعة لنظام المقولات العقلية القبلية، بغية تفسيرهما وفقاً لتلك المقولات، وبعبارةٍ بالغة البساطة: إنها مدرسة تنظر إلى العالم من الأعلى، وترسم له خارطةً عقلانية، وهي خارطة تظهر قبل ممارسة التجربة أو الرجوع إلى هذا العالَم نفسه.
ربما تسأل: من أين أتت هذه الصورة الفلسفية عن العالم؟ لا يهمّ، لنفرض أنها بفعل الإلهام أو لنقدّم أي فرضٍ آخر، إلا أن الموضوع هو أننا نرسم خارطةً عقلانية قبلية في عقولنا قبل أن نقتحم ميدان التجربة، ثم نقوم بإسقاط هذه المنظومة التصوّرية المنتجة على العالم نفسه، ساعين قصارى جهدنا لإيجاد بنية توليفية تعيد ربط حوادث العالم المتفرّقة المشتتة في ظلّ هذه الخارطة القبلية وعلى ضوئها؛ بغية تفسير هذا العالم برمّته.
وإذا أردنا تقديم مثال على ذلك أمكننا الاستعانة بمبدأ العلية، فالحكماء معتقدون أن هذا المبدأ لم يتمّ استقاؤه من العالم الخارجي، وهو أمر متفق عليه بين الفلاسفة التجربيين وفلاسفة الميتافيزيقا، فبمشاهدة حوادث هذا العالم لا يمكنك أبداً استنتاج مبدأ يسمّى بمبدأ العلية، فيبقى التساؤل التالي مثاراً: من أين أتينا بهذا المبدأ؟ لنفرض أنه مبدأ متصل ببنيتنا العقلية أو لنفرض أنه معطى شهودي كشفي، منحنا الله إياه ووفقنا للوصول إليه، لكن على أيّ حال، ومهما كان هذا المبدأ، فإننا نسقطه على هذا العالم إسقاطاً، ثم نسعى لتحليل الوجود على أساسه، هذا هو ما نسمّيه الفلسفات القبلية، والتي منها الفلسفة الإسلامية، والفلسفة الكانطية، والفلسفة الأرسطية، والفلسفة الأفلاطونية و… إن هذه الفلسفات جميعها تنظر إلى هذا العالم من الأعلى وفقاً لخارطة مسبقة.
المدرسة الثانية: وتمثل مجموعةً أخرى من الفلسفات، لا بدّ لنا أن نسمّيها بالفلسفات البَعدية، ومعنى البعدية أنها ترسم خارطة العالم عقب رجوعها إليه ونظرها في ظواهره وأحداثه، لتمارس بعد ذلك ــ وتدريجياً ــ إكمالاً لخارطتها وتتميماً لها على ضوء هذه المراجعة المتواصلة المكرورة.
المثال الأكثر وضوحاً من مثال العلية هو مثال bالكلّياتv، فهذا البحث ــ من وجهة نظري ــ واحد من الأبحاث الفلسفية الفائقة الأهمية، ذلك أن الحياة الإسلامية لم تشهد على الإطلاق مدرسةً باسم bالمدرسة الإسميةv، ولهذا نواجه اليوم معضلاً ومشكلةً في ترجمة هذه المفردة عن أصلها الأوّلي، ولفقدان معادل لها تمّت الاستفادة من كلمة bالإسميونv و…
يذهب عامّة حكمائنا إلى القول بوجود الكليات أو (universals)، أي أنهم قائلون بالماهية، وبالكلي الطبيعي، وبالذات، لقد كانوا يعتبرون الموجودات الخارجية مصاديق للكلّي الطبيعي، كانوا يرون أنهم استحضروا هذا الكلي من مكانٍ ما ليس لنا شأن به فعلاً، فتحدّثوا عن مفهوم كلّي اسمه: الإنسان أو النبات، وأن ما في العالم الخارجي ليس سوى مصاديق لهذا المفهوم الكلّي، وأننا إنما نقوم بإسقاط هذا المعنى الكلّي على مصاديقه، وتطبيقه عليها، أمّا المدرسة التجربية، أو في الحقيقة المدرسة الإسمية، فترى أن ما لدينا ليس سوى أفراد الإنسان، وأننا نحن من يقوم بضمّ هذه الأفراد إلى جانب بعضها ثم ممارسة جمع واندكاك لها، والأثر الناتج عن هذا الجمع هو الوصول إلى عنصر مشترك، نسمّيه bالكلّيv ألا وهو bالإنسانv، فالحركة في هذه الفلسفة البعدية ــ التجربية حركة من الأسفل إلى الأعلى، أي حركة نحو جمع المشاهدات لرسم خارطة العالم بصورةٍ تدريجية، لكن ضمن قوالب كلية.
إن الخارطة حاضرة في الفلسفات القائمة على العقل القبلي، كلّ ما في الأمر أن مصاديقها تظهر في العالم، فإذا أخذنا ــ على سبيل المثال ــ المُثُل الأفلاطونية فسنجد الحال على ذلك، وعليه فهناك فلسفتان: عقلية وتجربية، أو قبلية وبعدية.
الكلام المعتزلي والأشعري وتجاذبات المنطقين: العقلي والتجربي ــــــــــ
يقترب المعتزلة أكثر من الفلسفات القبلية، لذا كانت المدرسة الاعتزالية أقلّ تجربيةً، لكن الأشاعرة على الطرف المقابل كانوا على العكس من ذلك تماماً، إذ كانوا أقرب إلى الفلسفات البعدية، وأكثر تجربيةً أيضاً، وأتعرّض لهذا الموضوع هنا في شيء من الإبهام والإجمال على نحو العمد، ذلك أنه لا يغطي تمام المواقف الاعتزالية والأشعرية، إذ قد حصلت في الطرفين تحوّلات جادة وتغيرات لافتة، إلا أنه ــ مع ذلك ــ يمكن بدرجةٍ أو بأخرى الوصول إلى النتيجة التي أشرنا إليها.
وسأطرح ــ بدايةً ــ مثالاً بسيطاً: ثمة نزاع فرعي وقع بين الأشاعرة والمعتزلة يدور حول أن الرزق هل يطلق فقط على الحلال منه أم أن مفهومه يعمّ الحلال منه والحرام؟ فهل الدخل الشخصي لفردٍ ما يسمّى رزقاً إذا كان مطابقاً للقوانين الأعم من الفقهية والعرفية، ومنطلقاً من الكسب الحلال والمشروع أم أن الدخل الشخصي يسمّى كذلك حتى لو أتى من أيّ سبيل كالغصب والسرقة، والمعاملات غير السليمة و..؟
كانت المقدّمة التي سلّطنا الضوء عليها متمركزة حول اتجاه إحدى المدرستين في حركتها التصويرية للوجود والأحداث من الأعلى إلى الأسفل فيما تعاكسها الثانية تماماً؛ إذ تتجه من الأسفل إلى الأعلى، إحداها تشبه الاتجاه القائل بالكليات فيما تشبه الأخرى المذهب الإسمي، إحداها قبلية والأخرى بَعدية، والآن نريد أن نحلّل: أيّ من هذين الرأيين في مسألة الرزق أقرب إلى الموقف الأشعري وأيّهما إلى الموقف الاعتزالي؟
والجواب: إن المعتزلة يذهبون إلى أن الرزق هو الحلال فقط، فيما يعمّمه الأشاعرة إلى الحلال والحرام.
إذا كانت لدينا قراءة بعدية تجربية بعيدة عن المعايير المسبقة التي لا نريد إقحامها في الحكم، وهي معايير عيّنت سلفاً الحلال والحرام، فإننا سنقول: الدخل الاقتصادي يعمّ الحلال منه والحرام، بل ويشمل الملفّق منهما تماماً كما قال الأشاعرة، وهو قول ينسجم مع البناءات التحتية لمدرستهم، أما لو أردنا النظر من الأعلى إلى هذا الموضوع، وهدِفنا الشروع من التعاريف والكلّيات، وأردنا تحديد وظائف الأشياء من منطلق عالم العقل والتعريف، ثم ممارسة حركة توفيقية بين ما توصلنا إليه وما هو في العالم الخارجي، فإننا سوف نعرّف الرزق في البداية، ثم نقوم باختيار ما يأتي تحت هذا التعريف من مصاديق له في الخارج، لنقصي البقية عقب ذلك.
لا أثير هنا مسألة الرزق ــ وهي مسألة فرعية ــ سوى لإعطاء مثال يقرّب الصورة، بغية جعل الفكرة التي أنا بصددها أكثر انشراحاً ووضوحاً.
بهذا نصل إلى مسألةٍ أكثر جديةً، ترجع هي الأخرى أو ترتبط باختلاف وجهات النظر بين الأشاعرة والمعتزلة، مسألة الحسن والقبح الذاتيين أو الحسن والقبح العقليين.
والجدير ذكره هنا، أن كلمة bذاتيv غير مناسبة، وإنما أضيفت بعد ذلك، وقد كان لها دور في وقوع الكثيرين في أخطاء والتباسات، إننا نرى في كتابات بعض العلماء الجدد في إيران، أنهم عندما يرِدون بحث bالذاتيv يتجهون تلقائياً ناحية bالذاتي في باب إيساغوجيv ونحو bذاتي باب البرهانv، والحال أن هذه المفاهيم والمقولات كانت بعيدةً تماماً ومنفصلة أكيداً عن العقل المعتزلي، إنها وليدة تحوّلات منطقية حدثت بعد ذلك، فعندما يقول المعتزلة: bذاتيّ شيءٍ ماv فإنهم يعنون بذلك bالشي عينهv فلم تطرح بالنسبة إليهم أبداً أية أحاديث تدور حول ذاتي باب إيساغوجي ولا ذاتي باب البرهان.
وعليه، فعندما يقول المعتزلة: إن الفعل الفلاني له حسن وقبح ذاتيان، فإنهم يعنون أن هذا الفعل إما حسن أو قبيح، فربما استخدمت أحياناً صياغات أو مصطلحات ذات طابع عقلي لتقديم مفهوم بالغ البساطة، بمعنى أن العقل ــ في مقام الإثبات أو المعرفة ــ يمكنه أن ينتقي أحدها ويلغي الآخر، إن ذاتية الحسن والقبح ــ وكذا عقليتهما ــ كانت على الدوام واحدةً من أكثر مواضع النزاع جدية وحرارة، بل تعدّ واحدةً من معالم التمييز والفصل بين هاتين المدرستين الكلاميتين الهامتين.
كان الأشاعرة (utilitarian) و(cansequencialist)، فكانوا ينظرون إلى التجربة العملية وتواليها المباشرة وغيرها، فيقولون: إن الكذب قبيح لأنه يحمل مضاراً في الجانب العملي والتجربي، فيما يقابل الصدقُ الحسنَ؛ لأنه ذو فوائد عملية وتجربية، وهذا الموقف ــ كما يبدو واضحاً ــ موقفٌ تجربي عملاني، وعلم الأخلاق حيث يتجه اليوم ناحية التجربية فإنه يمرّ تقريباً عبر هذا المسير، أما لو نظرنا إلى ذات الشيء، تماماً كما يرفع العقل الستار عنه بعيداً عن قراءة نتائجه ومستلزماته العملية، فإننا سوف نرى أن العمل الفلاني حسن في حدّ ذاته أو قبيح.
نعم، ثمة استثناءات يمكن أن تطرأ هنا، من خلال الوجوه والاعتبارات التي قد تضاف إلى العمل، إلا أنها لا تضرّ في مبدأ المسألة ذاتها، أي أن قبح الصدق أو حُسن الكذب لا يرجع حينئذٍ إلى ذاتهما، بل إلى بعض الاعتبارات والوجوه والعناوين الحادثة التي تلعب دوراً في تكوين هذه الصورة الجديدة للحسن والقبح.
لا يمكن لمدرسةٍ عقلية أن تقوم بغير ذلك، بل عليها أن تختار لنفسها هذا السبيل بالذات، أي أن ترجع إلى ذوات الأشياء، وماهياتها، ثم استخراج حكمها من داخل العقل نفسه.
لقد كانت الكثير من النزاعات الطويلة التي وقعت بين الأشاعرة والمعتزلة، سيما ما تركّز منها حول دائرة الاستدلال والفعل الاستدلالي منتجةً (productive) ومثمرة للغاية أيضاً، وترجع إلى ثلاثة أشياء هي: الأخلاق، والحسن والقبح الذاتيين، والحسن والقبح العقليين، وعلى سبيل المثال، يورد صاحب المواقف في كتابه راداً على المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليين، خمسة أو ستة أدلّة لإثبات ــ وتشريح ــ الحسن والقبح غير العقليين، وهي أدلّة من الأفضل أن نسميها بالحسن والقبح التجربيين، ذلك أنها كانت تسير على هذا المنوال، أي أن الأشاعرة كانوا يلحظون دائماً التأثير العملي والميداني للفعل.
لاحظوا هذا المثال الرائع، كان المعتزلة يطرحون ــ انطلاقاً من أن الحسن والقبح يعني في واحدٍ من معانيه المدح والذم العقلائيين ــ المثال التالي: أفرضوا أن شخصاً ما في حال الغرق، وأنكم حاضرون عنده، تنظرون إليه وتشهدون حالته، إلا أنه لا يوجد شخص آخر ينظر إليكم حتى يمدحكم أو يذمّكم على أيّ خطوةٍ تخطونها، أما أنتم فتسرعون إلى اتخاذ خطوة الإنقاذ لا لشيء، سوى لداعي الحسن والقبح الذاتيين، فتقومون بمساعدة الشخص الغريق وإخراجه من الماء، لماذا كان ذلك؛ لأن إنقاذ الغريق المشرف على الموت حسن ذاتاً، لكن ماذا يقول الأشاعرة هنا؟ إنهم يعتبرون المسألة نفسيةً، وذلك بالقول: افرضوا أنفسكم مكان هذا الرجل الغريق، تقولون: ما أجمل أن ينقذني شخصٌ آخر وأنا مشرف على الغرق التام!!
أي أنكم تمارسون نوعاً من التجربة، دون أن تلاحقوا الفعل في حسنه الذاتي، بل تتجهون نحوه انطلاقاً من تأثيراته العملانية.
إعاقة الكلام الاعتزالي ــــــــــ
لقد تحدّثت في بعض كتاباتي غير المنشورة بعد([1]) عن حُسن مدرسة الاعتزال وروعتها، وأشرت إلى أنها التفتت إلى قضايا رائعة وهامة جداً، إلا أن علاقتها الوثيقة بالنزعة الذاتية والماهوية إلى جانب مسحةٍ أرسطية خفيفة، حالت دون الوصول إلى بعض النتائج الأساسية والمنشودة، بل أفضت بها إلى الاختناق تحت وطأة المفاهيم العقلية القبلية، فأعجزتها عن أن تفتح أمامها طريقها أو أن تشقّ سبيلها.
ليس من الضروري أن نخوض ــ أكثر من هذا الحدّ ــ في قضية الحسن والقبح العقليين، فالإخوة على اطلاع تام على هذه الموضوعات، إنما كان هدفي من إثارة هذا الأمر الإشارة إلى كيفية ممارسة قراءة جديدة للمذهب الأشعري يفهمه عبر المنظار التجربي، فيما يفهم الاعتزال بوصفه اتجاهاً غير تجربي.
عينات تطبيقية من الكلام الأشعري والمعتزلي ــــــــــ
1 ــ مسألة الكليات
المسألة الأخرى هنا مسألة الكليّات، وقد أشرنا إلى أن المدرسة الأشعرية عموماً مدرسة إسمية، وكما قلت: ليست لدينا في التاريخ الإسلامي تسمية من هذا النوع، إلا أن الرجوع إلى مباحث الكليات يدفعنا إل ملاحظة هذه النزعة الأشعرية في التفكير، ولا أرى ذلك غريباً غير متوقع من شخص له انتماء أو ميول تجربية، إن شخصاً كهذا لا يمكنه أن يكوّن رأياً عقلياً قبلياً، تماماً كالتجربيين الأوروبيين، وكذلك الإسميين الذين يقصرون نظرهم على الأفراد ثم يقومون بجمعها لينالوا ــ عبر ذلك ــ الحكم الكلّي.
وحيث يطول البحث حول رأي الأشاعرة في مسألة الكليات، أنصح بمراجعة مسألة واحدة في هذا الباب عند الفخر الرازي، وهي متوفرة أيضاً باللغة الفارسية، لقد تعرّض الفخر الرازي لهذا البحث بشكل جيد، ويمكن العثور على هذا البحث عنده في كتابه bالمباحث المشرقيةv.
نعم، لبحث الكليات ميزته وروعته ولطافته ودقته الخاصّة به، حتى أنك تواجه صعوبة في تحديد أننا نقول بالكليات أم أننا إسميون، فأنا شخصياً أكثر ميلاً إلى الإسمية منّي إلى الكليات، وأرى أن التفكير الإسمي أكثر قدرةً على حلّ بعض المسائل والموضوعات والإجابة عنها، وتعرفون أن فلاسفتنا قائلون ــ نوعاً ــ بالكليات، إلا أنني قادر على الاستدلال لإثبات أن أصالة الوجود عند الملا صدرا تعبير آخر عن رفض الكليات، والعودة إلى الإسمية، فبالتأكيد مؤدّى أصالة الوجود القول بالإسمية، ومن هنا كنا أقرب إليها، إلا أن تلك المجموعة من القضايا والمستنتجات الفلسفية الناتجة عن ذلك لم يتمّ استخراجها بعد.
2 ــ مسألة العلية
وهناك مثالٌ أكثر دلالةً، ألا وهو بحث العلية، فأنتم تعرفون أن الأشاعرة غير قائلين بالعلية العرضية والطبيعية في هذا العالم، وهذا بالضبط موقف تجربي في مسألة العلية، راجعوا في هذا الصدد كتاب bمقاصد الفلاسفةv أو bتهافت الفلاسفةv للغزالي، لكي تروا كيف شاد ــ وبقوّة وبلاغة ــ أدلّة نقد مبدأ العلية، إن أدلّة الغزالي كان قريبةً جداً من أدلّة ديفيد هيوم، نعم، فهناك فرق بين رأي الغزالي في هذا الموضوع ورأي هيوم، إذ يعتقد الأخير بعدم مفهومية الربط أو علاقة الضرورة (Necessary Connection)، بل إن هذه الكلمة فاقدة للمعنى أساساً، فلا وجود لشيء اسمه الربط الضروري أو علاقة الضرورة، وأولئك الذين يتحدّثون عن هذه العلاقة لا يفهمونها، ولا يدرون ما يقولون، هذا ما يراه مذهب هيوم،وعليه يكون اكتشاف علاقة الضرورة ــ تلك العلاقة لتي يعبّر عنها بعلاقة العلية ــ أمراً غير ممكن، بل إن عدم إمكانه يسري إلى تصوّره، إذ لا يتولّد تصوّر من هذا النوع في عالم التصوّر، أما الغزالي فلا يذهب إلى عدم ولادة هذا التصوّر إطلاقاً، إنما ينفي وجود علاقة العلية في الخارج، وهذا هو ما ينتج القول بالتقارن، ذلك أننا لا نرى في هذا العالم سوى مقارنات وتوالي أحداث، وهذه المقارنات والمتواليات لو حدثت آلاف المرات فلن يمكنها أن تنتج وجود علاقة ربط ضروري بين أطرافها، ذاك الربط الذي يسمّى بمبدأ العلية.
إن هذه النظرية نظرية مختمرة منظمة مدروسة متكاملة تجربية في موضوع العلية، والفلاسفة التجربيون لا يقولون أكثر من هذا، بل إن الفلاسفة العقليين أنفسهم لا يرون أصل العلية نتاجاً لعملية تجربية بحتة، أما من أين أتى مبدأ العلية؟ فهذا ما لا شأن لنا به فعلاً، إلا أنه لم يأت بالتأكيد من التجربة ونظامها، لقد أتى من خارطة مسبقة مرسومة عقلاً أسقطت على هذا العالم.
يصرّح الأشاعرة بأن ما نراه في هذا العالم ليس عليّةً أو سببية، ويلاحظ هذا الأمر كثيراً في أشعار جلال الدين الرومي، ذلك أنه أشعري من الزاوية الكلامية.
كان المفترض بالسكنجبين أن يزيل الصفراء
لكن العكس حصل
وغدا زيت اللوز باعثاً على الجفاف
أخذ الإهليلج فذهبت الأخلاق
وأشعل الماء النار وزادها إسعاراً كما الزيت([2]).
بل ويطرح الرومي ادعاءً كبيراً بعد ذلك حينما يقول: من أول القرآن إلى آخره.
رفض للأسباب والعلل والسلام.
فكلّ القرآن نافٍ للسببية.
غدا العزّ للدرويش وصار نصيب أبي لهب الهلاك([3]).
وترون أن بيانه هنا طبيعي جداً، كما أن استدلالاته صحيحة أيضاً، إنه يقول:
أشعل فتيلاً جديداً لمصباح ليلك
ونزّه شعاع الشمس عن الفتيل
اصنع الطين لسقف منزلك
ونزّه سقف العالم عنه([4]).
إنه يحوّل العلية ويرجعها إلى مقولة العادة، ويرى أننا رأينا هذه الأشياء كثيراً، ثم ظننا أنه لو رغبنا في أن لا تتساقط نقاط المطر من سقف العالم فعلينا أن نغطّيه بالطين، غافلين عن أن ما نفرشه بالطين إنما هو سقف بيتنا، أو نظن أن فتيل السراج حيث كان من اللازم تبديله كل ليلة حتى يضيء أكثر كانت الشمس مثله، إن هذه الكلمات التي يقولها مولانا الرومي تفتح أعيننا.
نعم، فالأشاعرة يرجعون العلية لله سبحانه، وعلينا أن نلتفت إلى أن مفهوم العلية عند الأشاعرة، لا يعني العلية التجربية، بل شيئاً آخر استطاعوا عبره حلّ معضلة المعجزات.
والإنصاف القول: إنه لا يمكن تغيير الذاتيات طبقاً للنهج الفلسفي، فإذا قلتم: إن الإحراق من ذاتيات النار فإنه لا يمكن سلبه إطلاقاً عن النار نفسها، ومعنى ذلك أن المعجزات تقع في الدائرة التي لا حديث فيها عن الذاتيات.
لم يقل الأشاعرة ــ من الأساس ــ بالذاتي، بمعنى أنهم لم يكونوا قائلين بالكلّيات، لهذا كانوا يتعاملون مع المسائل بشكل أكثر ارتياحاً وسهولة، فكانوا يقولون: إن النار قد تحرق وقد لا تحرق، على أية حال، ثمة تطابق وتقارب شديدين بين إلغاء مبدأ العلية في الفكر الأشعري وإلغائه في النهج التجربي، كما أن هناك تطابقاً بين القول بالعلية في العقل الاعتزالي، والقول بها عند الفلاسفة.
3 ــ قانون الترجيح بلا مرجح
إن بحث bالترجيح بلا مرجحv من البحوث ذات الحكاية الغريبة، فقد طرحه المتكلّمون لدى حديثهم عن العلية، وكذلك عن مسألة الإرادة، حيث تعرّضوا للجواب عن التساؤل التالي: ماهي مرجّحات الإرادة؟ وكما تعلمون فإن الأشاعرة يصرّحون بجواز الترجيح بلا مرجح، فمن أمثلتهم المشهورة على ذلك، لو كان شخص ما فارّاً من قبضة ذئب، أو يد سارق أو قاتل مجرم، ثم واجه فجأةً مفترق طرق، فدخل أحدها، فإنه لا ترجيح عنده هنا لهذا الذي دخل فيه على الآخر، فقد كان يمكنه الدخول في الطريق الآخر. إن العطشان الذي يرى أمامه قدحين من الماء ينتقي واحداً منهما ثم يشرب ما فيه، إن هذا هو عين مثال bجان بوريدانv الذي أشار له انشتاين، فقد كانت تربط انشتاين بالرياضيات علاقة قوية كما كانت تربطه بالفيزياء، وقد قال ــ لدى حديثه عن حياته وسيرته ـ: إنه لم يكن يريد أن يبقى حيراناً مثل حمار bجان بوريدانv لهذا قرّر اختيار الفيزياء.
جان بوريدان واحد من متكلّمي القرون الوسطى الذين طرحوا مثالاً رائعاً في مسألة الترجيح بلا مرجح، كان يقول: إذا وضعت حماراً جائعاً في وسط مكانٍ ما، ثم وضعت له على طرفيه ــ في مسافة واحدة ــ علفاً، فإنه سوف يموت في وسط علفه من الجوع، ذلك أنه مهما اتجه سوف نقول: لماذا لم تذهب ناحية الطرف الآخر؟ وحيث كان الترجيح بلا مرجح باطلاً، كان معنى ذلك موت الحيوان في وسط المكان من الجوع.
كان أحد الاصدقاء يقول: إن الترجيح بلا مرجّح حرام، على أية حال، فسواء كان حراماً أو باطلاً، فهذه هي قصّة الموضوع.
أما الإنسان التجربي في فكره ورؤاه فهو ينظر إلى مسألة الترجيح بلا مرجح على أن الفاعل سوف يختار من بين شيئين لا امتياز إطلاقاً بينهما أحدَهما ويذر الآخر.
على أي حال، إنما ذكرت هذا الموضوع بغية تشريح مقولة الإرادة، وأنهم لم يقولوا ذلك عن جنون أو فقدان عقل، لقد كانوا يعتقدون أننا لو أردنا جعل ترجيح الإرادة بالغير للزم من ذلك التسلسل، سيما فيما يتعلّق بإرادة الله سبحانه ومسألة الخلق، فلماذا خلق الله أشياء قبل أشياء؟ وما هو مرجّح ذلك؟
والجواب: ليس من مرجّح، فالله كان قادراً على القيام بعكس ذلك تماماً، والسؤال القائل: لماذا خلق الله سبحانه في هذا العالم مخلوقات مختلفة؟ لا مرجح له، إذ لو أردنا السعي وراء المرجحات، فمعنى ذلك أننا وضعنا بيدنا خارطة العالم، وجعلنا الله يتبع في فعله ــ لزوماً ــ هذه الخارطة، وهذا ما طرح في مسألة العدل الإلهي، فمن المشهور أن المعتزلة كانوا عدليّين، فيما لم يكن الأشاعرة كذلك.
4 ــ معضل العدل الإلهي
لكن، من وجهة نظري، يعدّ تعبير غير العدلية في حق الأشاعرة تعبيراً جائراً ومجحفاً، فلم يكن الأشاعرة غير عدليين، إنما غير قائلين بالعدل بمفهومه الاعتزالي، إنهم يستحضرون مفهوماً هنا اسمه bالكَرَمv ويعتبرونه أرفع من العدل وأسمى، ثم يقومون بتنشيطه مكان العدالة، كانوا يقولون: إن الله كريم، وهذا له أرفع من العدالة، وهكذا كانوا يقولون ــ انطلاقاً من المنهج التجربي عينه ــ : إن عدل الباري تعالى مطابق لما نراه في الخارج، فإذا ما عانى شخصٌ ما ثم مات من الجوع، فيما عاش الآخر في رفاهية عالية، وقضى عمره حتى نهايته في سعادةٍ وسرور، حتى لو أقدم على ارتكاب مئات الجرائم والجنايات، دون أن يمسك أحد به أو ينال من أطرافه.. فإن ذلك كلّه مقتضى العدل الإلهي، فليس في العالم ما ليس بعدل.
انظروا إلى هذا العالم ثم أمسكوا بمظاهر العدل الإلهي فيه، إن عدله منسجم مع تمام تلك الأحداث التي تقع في العالم، فهذا العالم عين تحقق العدالة الإلهية، هكذا ينظر الأشعري إلى العالم وعدالته، أما الفيلسوف فهو لا يقرأ الأمور على هذا المنوال، إنما يضع تعريفاً مسبقاً للعدل انطلاقاً من العقل ذاته، ثم يقوم بتفسير مظاهر العالم وأحداثه التي يراها طبقاً لهذا التعريف، بحيث تغدو أحداث العالم متلائمةً مع العدل بالتعريف العقلي له، ولهذا تظهر أحياناً بعض المشاكل، وكما يقول ناصر خسرو:
لماذا كانت نعمة المنعم بحاراً بحاراً؟!
وكانت محنة المفلس سفينةً سفينة؟!
وبذلك يكون الاعتراض على عدالة الباري تعالى في واقعه اعتراضاً على تلك الصورة المنقوشة مسبقاً عن العدالة، تماماً كما يقولون ــ طبق ما رسمناه ـ: لماذا ولد فلان ناقص الخلقة؟ لماذا كان أعمى؟ لماذا كان ذاك بليد الذهن ضعيفه؟ ولماذا ثالث يأتي إلى الدنيا مبتلى بمرض الأيدز يعاني منه حتى نهاية حياته؟
إن الأشاعرة يقولون: هذه هي عدالة الله، أما المعتزلة فلا يفكرون بهذه الطريقة، إنما يرسمون لأنفسهم صورةً عن العدل مسبقة، ويسعون جهدهم لوضع تلك الظواهر برمّتها ضمن هذه الصورة، إن بداية اختلاف الأشاعرة والمعتزلة كان من مسألة العدل هذه، إذ ينقل أبو الحسن الأشعري قصّةً لأستاذه عن رجل يموت عن ثلاثة أولاد: أحدهم مؤمن لنهاية عمره، والآخر كافر لنهاية عمره، والثالث يموت وما زال طفلاً، ثم يسأل الأشعري أستاذه: كيف يجازي الله سبحانه هؤلاء الثلاثة؟ إلا أن أستاذه يعجز عن جوابه.
وتفصيل القصّة: أن أستاذه يقضي بدخول الأول الجنة، والثاني جهنم، وعندما تقوم الساعة يسأل الكافر الله: لماذا تأخذونني نحو جهنم؟ فيجيبه سبحانه: لأنك كفرت، فيسأل الكافر: ولماذا لم تأخذوا الطفل إلى جهنم؟ فيجيب الله: لقد قبضت روحه سريعاً؛ لأنني كنت أعلم أنه لو بلغ لكفر، فلم أرد إدخاله النار، هنا يقول الكافر: إذاً حبذا لو قبضت روحي صغيراً حتى لا أدخل جهنم، فلم لم تفعل ذلك؟!
إن هذا الاستدلال الساذج والبسيط فتّت الكثير من الأعمدة الفكرية لأستاذ أبي الحسن الأشعري؛ ذلك أن المعتزلة سلكوا في نظرية العدالة الإلهية المسلك الإنسي (ropomorphism Anth) ووضعوا العدل الإنساني معياراً للفعل الإلهي، مما دفعهم للخروج بنتائج غريبة، قد لا تملك قدرةً كبيرة على الدفاع والمناورة.
يتحدّث أبو حامد الغزالي بصراحة كاملة في بعض مكتوباته بشيءٍ عاد حافظ الشيرازي وقاله بعد قرنين من الزمن، bسترى قطع الرؤوس بلا جُرمv، يقول الغزالي: عندما تنظر إلى الدنيا ترى ما أكثر أولئك الذين ابتلوا بلاء عظيماً دون جرم أو جناية، وعندها ستعرف أن الفعل الإلهي يختلف في تعيينه عن حساباتنا نحن البشر، لا انسجام فيه مع تلك التعاريف التي ننسجها نحن للعدالة والرحمة وأمثال ذلك، إنها مقولة أخرى، وخلاصة القول: إن الغزالي ينقل روايةً فيها أن الله أوحى إلى داوود أن ما تتصوّره عني هو تصوّر عن سبع عقور، لا أساس منطقي لفعله.
ليس لنا شأن ــ فعلاً ــ بتحديد أيّ هذين المنطقين هو الحق، منطق المدرسة الأشعرية أم منطق الاعتزال، لكنني أشير هنا إلى مستلزماتهما، وما يفضيان إليه، إن القراءة التجربية للعالم تستدعي استنتاج مفهوم العدالة انطلاقاً من رصد الأحداث التي تقع، تماماً كما هو الحال في الرزق، فلو أنك تريد السؤال ــ انطلاقاً مما تراه ـ: هل الله رازق أم لا؟ فمن الطبيعي أن ترجع إلى ظواهر هذا العالم، لتعرف ذلك، إن مفهوم الرازقية الإلهية هو هذا الذي يتجلّى في هذا العالم، أي أن لدى شخص شيئاً أما الآخر فليس لديه هذا الشيء، وأن أحدهم جائع حتى الموت فيما الآخر ممتلئ حتى التخمة والهلاك، وإلا فلا يجدر البحث عن الرازقية خلف أسوار هذا العالم وظواهره، هذا ما يقوله الأشاعرة، وعليه، فالرزق متضمّنٌ للحلال والحرام، أما لو كنت تحمل ــ سلفاً ــ تصوّراً خاصّاً عن الرزاقية، فإن عملك حينئذٍ في البحث عن الرزق الإلهي سوف يتخذ مساراً آخر.
5 ــ تفسير النص الديني
المسألة الهامة الأخرى في نزاع الأشاعرة والمعتزلة، مسألة العقل، ما أطرحه هنا من الأمثلة يفضي ــ بالتدريج ــ إلى وضوح مفهوم العقل الاعتزالي وامتيازه ومقابلته للعقل الأشعري، فالعقل الأشعري عقل تجربي حتى عندما يرد ميدان النقل والنصوص الدينية، أما العقل الاعتزالي فهو عقل قبلي إسقاطي، حتى عندما يخوض غمار تفسير النص الديني أيضاً.
6 ــ غرضية الفعل الإلهي
ومن المواضع الأخرى التي تتجلّى فيها مظاهر النزاع الحاد بين الأشاعرة والمعتزلة موضوع غرضية الأفعال الإلهية، فهل لفعل الله غرض أم لا؟ يذهب الأشاعرة إلى أن فعل الله سبحانه غير خاضع لنظام الأغراض وغير معلّل بها، فلا غرض، ولا هدف يمكنه أن يحكم حركة الفعل الإلهي أو الفاعلية الربانية، فالله ــ كما يقول الأشاعرة ــ ليس بذاك الذي يجلس ثم يفكر، ثم يقرّر فعلاً ما لزاماً على نفسه لأنه يريد غرضاً ما، أي يلزم نفسه بالمقدمات لأنه يريد النتيجة، وقد ذهب جماعة من الحكماء، مثل الملا صدرا، وابن سينا، إلى هذا القول أيضاً، إلا أن الأشاعرة سبقوهم إلى ذلك، نعم لقد أخضع الفلاسفة هذا الموضوع ــ عقب الأشعرية ــ إلى مزيد من refine والتدقيق، فقالوا بوجود غرض إلا أنه ذات الباري تعالى، فحيث كان الله غاية الغايات ومنتهى الأشواق والحركات لذا كانت النهايات رجوعاً إلى البدايات، فالله وذاته هما غاية تمام أفعاله سبحانه.
لكن هذا الكلام لا يبطل مقولة الأشاعرة، إنما يمثل مستوى أرفع منها وأرقى، أي أن النظرية عرضت في سياق أكثر تكاملاً وتسامياً، فعندما يقال: إن أفعال الله غير معلّلة بأغراض، فإنه لا يُهدَم هذا القول بالنظرية الفلسفية المشار إليها، ذلك أن معنى الغرض ذاك الشيء الذي يكمل الفاعل به نفسه، وعندما يبلغ الأمر ساحة الباري تعالى يعني أنه يبدّل ذاته أو قوّته إلى الفعلية أو يصيّر ما ليس عنده موجوداً عنده، وكلا المعنيين لا يمكن تصوّرهما في حقّه سبحانه.
لا يمكن القول: إن عند الله نقصاً، وأنه يريد أن يكون كاملاً، أو أنّه يطلب أن يصبح ما بالقوّة عنده ما بالفعل، ولهذا لا يمكن القول بحاكمية غرضٍ ما على فعله.
أما المعتزلة، فقد كانوا يقولون بأن أفعال الله معلّلة بأغراض، ولكي يدلّلوا على تلك الأغراض المتعلّقة بفعله سبحانه وقعوا في ورطة التكلّف، فإذا ما كان حيوانٌ ما يعاني من ألمٍ أو عذاب، وسألنا: لماذا يتألّم؟ ما هو الجواب؟ تحدّث المعتزلة عن تفسير الألم والعذاب و… على الإنسان، وطرحوا نظرية التعويض التي تتلخّص في أن الله سبحانه يعوّض الناس بعد ذلك، لكن ماذا يمكن القول عن الحيوان؟
من الملفت أن بعض المعتزلة كانوا يقولون بأن الحيوانات لا تتعذب ولا تتألم ولا … لقد كان الموقف الاعتزالي ديكارتياً بامتياز، فقد كان ديكارت معتقداً بأن الحيوانات مخلوقات ميكانيكية لا تشعر بعذابٍ أو ألم، ويُقال: إن أحد تلامذة ديكارت كان يعذب حماراً، وينغزه، فكان ديكارت يقول: إنه ينعر به وكأنه يتألّم.
نعم، هذا ما كان المعتزلة يقولونه، ذلك أن منطقهم يستدعي مثل هذه النتيجة، ففي سياق الجواب عن السؤال القائل: إذا لم يكن هناك شيء من اللاغرضية في هذا العالم فلماذا يلزم على الحيوان أن يتحمل عذاباً أو ألماً لا فائدة منه؟ يلزم ــ وفق المنطق المعتزلي ــ اختيار سبيل من سبل، إما الحديث عن حشر الحيوانات في المعاد أو ادعاء أنها لا تتألّم أساساً، على خلاف الحال مع الأشاعرة، فهم في راحة بال من ذلك كلّه، إذ يقولون: ثمّة في هذا العالم بشر ناقصو الخلقة، لا يرون، أو لا يقدرون على التفكير، أو لا يستطيعون إنجاز عملٍ ما، فلماذا يلزمنا كلّ هذا التكلّف باختلاق أغراض لوجود ذلك كلّه ثم نسبتها إلى الله سبحانه، وهي أغراض ننحتها نحن بعقولنا؟!
إن نحت الأغراض على هذا المنوال يمكنه أن يلحق الضرر الجادّ ببرهان النظم في بعض جوانبه، إن القراءة الداروينية لهذا العالم كانت على الطراز نفسه، فقد اعتقد داروين بأن في أبدان الحيوانات أشياء وصل بها الزمان إلى التعطّل، فلا تعمل ولا تنتج، وهذه الأجزاء من بدن الحيوان إنما تمثل بقايا الماضي، وستزول تدريجياً، وإذا ما استجد خلقها مكرراً فإنما ذلك لأنه ليس هناك من تصوّر يقضي بضرورة أن يكون لكل شيء في هذا العالم فائدة معقولة، فهناك الكثير من الأشياء التي لا توجد أية فائدة عقلانية مترتبة عليها، هذا تماماً ما كان يقوله الأشاعرة، سواء على صعيد العالم الإنساني أم على صعيد الطبيعة.
إنني ألاحظ هنا المعطيات النهائية للمدرستين: الاعتزالية والأشعرية، لا مبادئها الفلسفية، أما ماهي أدلّة القائلين بلزوم تعلّل الأفعال الإلهية بالأغراض؟ وهل هي صحيحة أم لا؟ فلا أنظر إليه الآن، إنني أقرأ تلك الرؤية الكونية نفسها المنبثقة والقائمة على تلك الأعمدة.
وإذا ما ضممنا مجموع ما بيناه حتى الآن سوف نرى أن الأعمدة التي يمكنها أن تعطينا سقفاً محدداً مبنياً عليها هي تلك ذات النوع التجربي، والإسمي، القول بعدم العلية، القول بالعدل التجربي الإلهي، القول بالرزق، القول بأن أفعال الله غير معلّلة بأغراض، والقول بجواز الترجيح بدون مرجح، إن هذه كلّها أعمدة يمكن أن يبنى عليها سقف تجربي.
7 ــ إنكار الكرامات
الأمر الآخر عند المعتزلة، وهو أمر مثير، إنكارهم كرامات أولياء الله، وحصرهم الإعجاز بالأنبياء، فقد قالوا: إن ما جاء في القرآن الكريم مما يسمّى بالمعجزة صادق في مورد الأنبياء فحسب، أما غيرهم فلن يقدر بعد ذلك على القيام بأفعال خارقة للعادة، مما يسمّى بالكرامة، إنهم بذلك يخالفون تماماً التجربة المحضة، ويذهبون إلى أن هذه الأعمال التي نراها ليست كرامات، إنما مجرّد صدف اتفق أن حصلت، بيد أنهم ــ مع ذلك ــ لا يقولون باستحالتها، وكما قلت، لا شأن لنا هنا بأدلتهم، إلا أنهم كانوا يرون أنه لو قبلنا مقولة الكرامات فمن الممكن حينها أن يدّعى أيّ شخص النبوة، فيما المعجزة هي المعيار لتمييز النبي عن غيره! فإذا ما فتحنا هذا الباب، بحيث صار بإمكان غير الأنبياء فعل ما يشتبه حاله مع الإعجاز مثل الإخبار عن المغيبات أو قراءة ما في عقول الآخرين أو… فإنه لن يبقى من فرق بين النبي وغيره.
وكما ترون، فإن المعتزلة يردّون حقيقةً تجربيةً مستخدمين أدلّة مسبقة، إنهم يقولون: لا وجود للكرامات إطلاقاً، أما الأشاعرة، فإنهم ــ وبكل راحة بال ــ يقولون لك: اذا أردت أن تفسّر تلك الكرامات التي يقوم بها بعضهم أو تحدث مع بعض الأشخاص، فإن عليك أن ترسم صورة العالم وفقاً لها، لا أن ترسم تلك الصورة أولاً، بعيداً عنها، ثم تحذف الكرامات؛ نظراً لعدم وجودها في صورتك المرسومة سلفاً.
8 ــ مقولة الجزء الذي لا يتجزء
الأمر الآخر هو الجزء الذي لا يتجزأ، فكما تعرفون، يذهب عامة المعتزلة إلى عدم وجود الأجسام الذرية، فيقبلون الانقسام إلى ما لا نهاية، أما الأشاعرة فهم يرون الجزء الذي لا يتجزء، أي أن لديهم نظريةً ذرية، والملفت الرائع هنا العمق التاريخي للمسألة، إذ يكتب أحد المحلّلين الألمان ــ ويدعى bباناسv ــ مقالةً جيدةً في هذا المضمار، يوضح فيها منشأ النزعة الذرية الأشعرية، فإذا ما نظر إلى أدلتهم سنرى أنهم كانوا قائلين بوجود النقطة، وهذا ما جاء في كتاب شرح المواقف، والنقطة ــ طبقاً لتعريفها ــ هي الجزء الذي لا يتجزأ.
نعم، لا شأن لنا هنا بأدلتهم، إلا أن ما يعنينا هو أن النظرية الذرية نظرية تجربية، ولما كان الأشاعرة قائلين بالجزء الذي لا يتجزأ اختلف موقفهم ما بين الأعراض والجواهر، إلا أن نظرية عدم الانفصال، وأن الجسم وحدة واحدة متصلة تعدّ نظرية فلسفيةً بامتياز، حيث كانوا يثبتون عبرها وجود الهيولى.
ونلاحظ هنا كيف أن الأشاعرة التزموا جانب نزعتهم التجربية، وأنهم كانوا يدعمون مواقفهم هذه ببعض الآراء الفلسفية.
آمل أن تكون نظريتي هنا قد غدت واضحةً مفهومة.
تأويل النصّ الكلامي بين مدرســتي الاعتزال والأشعرية ــــــــــ
ولا بأس بالحديث في بضع كلمات عن نفوذ النزعة التجربية هذه مجال فهم النص وتفسير النقل، أختم بذلك موضوعي.
دعوني أستعين هنا بمولانا جلال الدين الرومي، إنه يتحدّث عن أمرٍ ما يتصل بالتسبيح والذكر، إن كل شيء يسبح الله ويحمده، إلا أننا لا نفقه هذا التسبيح، يقول المعتزلة هنا: إن هذا التسبيح عقلي، والمقصود به أن تلك الأشياء خلقت في
بنيةٍ وتكوين يدفعاننا إلى تسبيح الله سبحانه، أي أنها تدفعنا إلى عملية تسبيح
الله، إن قوام الطبيعة، ونظامها، ونظمها وقانونها و… ذلك كلّه يقع في حكم التسبيح.
ولا يوافق الرومي على هذا الكلام، ولا يستسيغه، بل يقف قباله يقول:
كان هذا تأويل أهل الاعتزال
كان من شخص يفتقد إلى نور الحال([5])
إنها تأويلات اعتزالية، أتت من أولئك الذين لا نور لهم، ثم يقول: إذا ما فتحت سمعك الباطني، فسوف تسمع تسبيح ذلك العالم حقيقةً، فثمة عرفاء كانوا وما زالوا يدّعون أنهم يسمعون تسبيح أجزاء العالم كما هو السمع الحسّي، لا أقلّ من أنّ الرومي نفسه يدعي ذلك بالقول:
إرحل من الجماد إلى الروح
واستمع إلى غليان أجزاء العالم
عندها ينجلي تسبيح الجمادات لك
وتزول عنك وساوس التأويل
إن كل أجزاء العالم
تقول لك في الخفاء ليلاً نهاراً
نحن سميعون بصيرون واعون
لكننا معكم أيها الغرباء ساكتون([6]).
لقد أتى مولانا الرومي على ذكر هذه الأشعار في السياق عينه، لقد كان الأشاعرة مخالفين للتأويل مخالفةً مطلقة، كانوا يقولون: لا صواب في الغفلة عن ظاهر الكلام والتفتيش عن بواطنه، ففي مسألة الجبر كانوا يأخذون بظواهر الآيات ويرون أنها هي التي تذكر ذلك، أي أن الله سبحانه يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، وهذا ما لا يحتاج إلى تأويل البتة.
يقول مولانا الرومي ــ بصراحة ــ :
أنك تأوّل الكلام البكر
إذهب وأوّل نفسك بدل أن تأوّل القرآن([7])
فبدل أن تحوّر معنى الكلام حاول تغيير نفسك وما عندك، وعندها سوف ترى أن المعنى الظاهر معنى سليم مستقيم صائب لا يحتاج إلى التأويل ولا يفتقر إلى التبرير، والشيء الوحيد غير المستقيم ليس سوى نفسك، إن مولانا يحاول هنا توجيه الإنسان لتغيير ذاته وفكره، والسعي للخروج به من سياج المقولات الفلسفية.
إن النزعة التجربية تسعى بشكل أكبر للإمساك بالظواهر عندما تحاول خوض ميدان التفسير والتشريح في النصوص، إنها لا تفسح مجالاً للتأويل، وهذا ما يتناسب مع الرجوع إلى الطبيعة وظواهرها ومشاهداتها في عملية تفسيرها.
وبهذا اتضحت لدينا تقريباً بنية العقل الاعتزالي، أيّ عقل كان؟ عقل مخارج إلى حد بعيد للتجربة، يسعى في عالمي العقل والنقل لتفسير العالم وحوادثه ــ سيما أفعال الباري ــ طبقاً لخارطة مسبقة، ليس لي شأن هنا بالأبعاد الفلسفية لمدرسة الاعتزال، وهو ما يحتاج إلى درس بعض الأمور العامة، إننا هنا نتعامل مع اللاهوت المعتزلي، سيما عندما يلج ميدان صفات الباري، وأفعاله، وأسمائه، وهو فيما أظن ميدان خصب يحتمل الرصد والمتابعة.
ثمة في المباحث السابقة ثغرات جادة سيما وأنها مصحوبة عادةً بنوعٍ من (Anthropomorphism)، أي نوع من المماهاة للإنسان وبلورة الأشياء وفقه، وبتعبير آخر أنسنة العالم، وعلى حدّ تعبير المغفور له السيد أحمد آرام: bاعتبار الإنسان مقياساً والحساب عليهv.
فإذا ما اعتبرنا الله سبحانه مثل الإنسان تقريباً، وأفعاله كتلك الصادرة من الفاعل الإنساني، ثم رتبنا الأحكام الأخلاقية وغير الأخلاقية للإنسان عليها، عندئذٍ سوف تبدو بوضوح أكبر صعوبة الموقف وتعقيداته، ولهذا، أعتقد أن فصل المذهب الاعتزالي عن الإنسانوية، ثم مصالحته مع النزعة التجربية، سوف يساعد على تحوّله إلى مدرسةٍ مقبولة في عالمنا اليوم، لكن:
فات الوقت على شرح هذا الهجران
فقد مضى الزمن وأوكل الأمر إلى وقت آخر.
* * *
الهوامش
(*) مفكر إيراني معروف، وأشهر منظري الإصلاح الديني في إيران، طرح أواخر ثمانينات القرن الماضي نظرية bالقبض والبسطv، ليعقبها بسلسلة نظريات معرفية أخرى، أثارت نظرياته جدلاً واسعاً واستمرّ أكثر من عقد من الزمن.
[1] ــــ المقال الذي بين يديك نص محاضرة ألقاها الدكتور سروش 2005م (التحرير).
[2] ــــ الرومي، المثنوي، الكتاب الأول، الأبيات: 53 ــ 54.
[3] ــــ المصدر نفسه، الكتاب الثالث، الأبيات: 2520 ــ 2525.
[4] ــــ المصدر نفسه، الكتاب الثاني، الأبيات: 1845 ــ 1846.
[5] ــــ المصدر نفسه، الكتاب الثالث، البيت: 1027.
[6] ــــ المصدر نفسه، الكتاب الثالث، البيت: 1019.
[7] ــــ المصدر نفسه، الكتاب الأوّل، البيت 1083.