ترجمة: مشتاق الحلو
مدخل ــــــــــ
كثيرة هي الآيات القرآنية التي تدعو الإنسان للتدبر في خلق السماوات والأرض والحيوانات والإنسان: >أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها<؛ >فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها<؛ >فلينظر الإنسان ممّ خلق * خلق من ماء دافق<. ومن جانب آخر، يعتبر القرآن الكريم جميع هذه المخلوقات آيات إلهية: >كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته<؛ >ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون<؛ >ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات<.
يتضح من ملاحظة الجانبين المذكورين أن تحريض القرآن والروايات على التدبر والتفكر والمطالعة والمشاهدة للخلقة إنما هو لكونها فوق طبيعية ([1]).
تعني الآية العلامة والقرينة، وتدل على ما هو أسمى منها؛ أي أن المعرفة بالآيات تعني الانتقال من الآية إلى صاحبها ومن الأثر إلى المؤثر، ويعتقد الشيخ المطهري بأن المعرفة المبتنية على bالآيةv تشكّل قسماً مهماً من المعرفة البشرية، فلا نعرف الله بالآثار والعلائم المحسوسة فحسب، بل نتخذ هذا المنهج لمعرفة أمور أخرى غير محسوسة كاللاشعور فينا أو العقل أو أحاسيس الآخرين، وحتى الشخصيات التاريخية نعرفها بآثارها وعلائمها، وأهم من ذلك bحتى معرفة الذهن الفلسفي بالوجود الخارجي والعيني للمحسوسات أيضاً يتم بواسطة علائمها وآثارها المباشرة على حواسنا، ونسمّي هذا القسم من المعرفة بالمعرفة الاستنباطية أو الاستدلالية أو ــ تبعاً للقرآن ــ المعرفة بالآياتv ([2]).
وتتجلّى أهمية المعرفة بالآيات، بغض النظر عن دورها المهم في منظومة المعرفة البشرية، في تكرار لفظ الآية أو الآيات أكثر من أربعمائة مرّة في القرآن، وفي أكثرها يدعو الإنسان للنظر والتدبر فيها.
نظام المعرفة الإلهية بالآثار وتفسيراته الأربعة ــــــــــ
دوّن هذا المقال لإيضاح أصناف التفاسير الخاصة بآلية العبور من الآية إلى صاحبها ومعرفته في ظلّ الآية، ونتمنى أن تكون باكورة بحوث أدق وأوسع في هذا المجال، ونستعرض ــ فيما يلي ــ أربعة تفاسير للمعرفة بالآيات هي:
التفسير الأول ــ المعرفة بالآيات بمعنى الاستنباط العلمي ــــــــــ
المنهجية العلمية وإن تعرّضت على مدى التاريخ لتغيرات وتطورات واسعة، لكن بإمكاننا اعتبار أركانها بصورة موجزة كالتالي: المشاهدة، الفرضية، والاختبار([3])، إذ يقوم الباحث ــ أولاً ــ بمطالعة الحوادث، ثم يقدّم افتراضاً لتفسيرها، ويتغاضى عنها بشكل مؤقت ليطرح افتراضات بديلة ومنافسة؛ كي يتحقق من إمكانية افتراضه الأساسي على وقدرته على تفسير الظاهرة..
وتكمن الخطوة المهمة في المنهجية العلمية في تقييم مدى إمكان تفسير المشاهدات بكلّ واحد من الافتراضات، ويأتي هنا دور حساب الاحتمالات، فمن خلاله يمكننا تعيين قيمة احتمال تفسير المشاهدات المختلفة بالافتراضات المتعددة، فقيمة الاحتمال المذكور مهمة جداً في صياغة النظرية، وعلى سبيل المثال، إذا اتضح لدينا أن الافتراض الثاني يستطيع تفسير الظواهر والمشاهدات بقيمة احتمالية عالية، فإما أن نترك الافتراض الأول نهائياً أو على أقل التقادير لا نستطيع تحويله إلى نظرية، لكن إذا كانت قيمة الاحتمال في الفرض السابق ضئيلةً بحيث يمكننا التغاضي عنها، فسوف يتحوّل الافتراض الأول إلى نظرية علمية، المدعى هنا أن معرفة الله بواسطة الطبيعة ــ أي المعرفة بالآيات ــ منطبقة تماماً على المنهج العلمي هذا، أي الدليل الاستقرائي المبتني على حساب الاحتمالات.
فمن يهدف إثبات وجود الله من خلال مخلوقاته، يبدأ بالنظر إلى السماء والأرض والجبال والبحار والإنسان نفسه، ويتدبر فيها، فيشاهد نظمها وهدايتها وجمالها،وتحتاج هذه المشاهدات إلى تفسير، فيسعى عقل الإنسان دائماً في حلّ ألغازها، وقد أثبتت تجارب الإنسان أنه كلّما كان هناك نظم وهداية وجمال وفن، فلابد من وجود منظّم ومدبر وفنان، وتسبب هذه التجربة العامة طرح فرضية تدخل منظم حكيم في خلق الظواهر المنظمة اللامتناهية في عالم المخلوقات. (نؤكد على النظم الخاص الموجود في أماكن مختلفة من العالم، لأن إثبات وجود النظم في كل العالم وجعله مقدّمة للاستدلال أمر صعب).
لكن المنهجية العلمية تفرض على الباحث التخلّي عن هذه الفرضية ليطرح مكانها فرضيةً أخرى، مثل القول بأن النظم الذي نشاهده في مواضع من الخليقة لم يوجده ناظم حكيم، بل وجد بالصدفة ([4]).
فلنتأمل في المنظومة الشمسية المتشكّلة من آلاف الأجزاء، فلو كانت الفاصلة بين الأرض والشمس أكثر أو أقلّ مما هي عليه الآن، لما أمكن الحياة عليها، أو لو كانت نسبة الأوكسيجين في جوّ الأرض أكثر مما هي عليه الآن، لاحترق كلّ شيء عليها، ولو كان أقلّ من ذلك لما أمكننا حرق شيء ولصعبت الحياة حينذاك.
فهل لقواعد حساب الاحتمالات تقييم مدى احتمال استقرار أعضاء هذه المنظومة بأعدادها الهائلة إلى جانب بعضها؟ وبما أن احتمال وقوع أيّ أمر يمثل بكسرٍ بين الصفر والواحد، واحتمال وقوع أمرين يحاسب بضرب احتمال حدوث كلّ منهما في الآخر، فكم سيكون احتمال استقرار هذه الأعداد الهائلة بهذا الشكل المحدّد ضئيلاً، خاصةً وأن بإمكان كلّ جزء أن يستقرّ بمئات الحالات ([5]).
إذن، لم يبق أمام الباحث إلا افتراض وجود ناظم مدبّر في خلق المنظومة الشمسية، وأهم من ذلك في خلق الإنسان نفسه بوصف ذلك فرضيةً علمية، فكلّما تأملنا في عالم الخلق أكثر، اكتشفنا نظماً أكثر دقةً، وتضاءل احتمال وجودها بالصدفة أكثر فأكثر.
نعم! كلّما تأملنا في عالم الخلق أكثر، أصبح إيماننا بالله أقوى، وتضاءل احتمال وجود هذا العالم من دون خالق مدبر، حتى يكاد ينعدم.
وقد طرح الشيخ المطهري والسيد الصدر منهج معرفة الله بالتدبر في مخلوقاته (المعرفة بالآيات)، واستدلا عليه ([6])،يقول الشيخ المطهري: bحقيقة معرفة الله ليست متباينةً عن سائر معارفنا، كمعرفتنا بحقائق الطبيعة مثل الحياة، باطن الإنسان وغيرهاv ([7])، وفي مكان آخر يعتبر التمايز بين معرفة الله واللاهوت عن علم الأحياء أو علم النفس في كون موضوع أحدهما جزئي والآخر كلّي، لا في المنهج المتبع في كلّ منها ([8]).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السيد محمد باقر الصدر سمّى هذا المنهج بالدليل العلمي الاستقرائي، واستدلّ له، لكن الشيخ مطهري على الرغم من دفاعه عن هذا المنهج، لم يسمّه بعنوان علمي بحت، بل فضّل إطلاق الطريق العلمي ــ الفلسفي عليه ([9])، ويعود سبب ذلك إلى أنه يعتقد باعتماد المنهج العلمي على المشاهدة والاختبار، بينما الذات الربوبية منزهة عنهما ([10])، وعلى هذا الأساس، يؤكّد في مواضع عديدة على أن اللاهوت غير علمي، ويسمّيه في بعض الأحيان فلسفياً أو تعقلياً؛ ليبيّن أن موضوع وجود الله ليس كسائر المواضيع التي يمكننا مشاهدتها، بل يجب علينا الخروج من عالم المحسوسات إلى غير المحسوسات، ولكن إذا اعتبرنا المنهج العلمي أعمّ من المشاهدة والاختبار المباشر للموضوع كما هو سائد اليوم، ومبتنياً على حساب الاحتمالات، وجب علينا القول بأن المنهج الذي سلكه المطهري في بيان برهان النظم هو منهج علمي أيضاً.
وبإمكاننا استلهام هذا المعنى في أن المعرفة بالآيات تقع قبال المعرفة العلمية ــ بمعنى المشاهدة والاختبار ــ من صريح عباراته حيث يقول: bأغلب معلوماتنا ليست بالحسية المباشرة ــ الإدراك الحسي المباشر ــ ولا منطقية علمية تجريبية (حيث تكون موضوعاً للتجربة والاختبار)، بل على حدّ تعبير القرآن: معرفةً بالآيات (معرفة بالآثار)v([11]).
إذن، نستطيع القول بأن النقاش يدور حول الألفاظ، فهو لم يسمّ المنهج المبنيّ على الاحتمالات في معرفة الله بالمنهج العلمي، كي لا يوهم القارئ بأن موضوع معرفة الله قابل للمشاهدة، لذا سمّاه: المنهج العلمي ــ الفلسفي.
لكن ثمة إشكال في بيانه؛ فعلى الرغم من استدلاله للمعرفة بالآيات وهو استدلال مبنيّ على حساب الاحتمالات (برهان النظم) ([12])ودفاعه عنه، يذهب في أحد مؤلفاته إلى أن اللاهوت لا يخضع لحساب الاحتمالات ([13]).
ونلاحظ هذه المسألة ــ أي بيان برهان النظم بطريقة متمايزة ــ في كتابات الفلاسفة المسيحيين أيضاً([14])، وقد ناقشوها بشكل واسع، لكننا لا نتطرّق إليها، فهدفنا استعراض التفاسير المختلفة عن المعرفة بالآيات.
التفسير الثاني ــ المعرفة بالآيات بمعنى الاستدلال الفلسفي ــــــــ
المراد بالاستدلال الفلسفي أن كبرى القضية في الاستدلال قاعدةٌ عقلية لا يمكن إثباتها بالاستقراء والاختبار، بل تأخذ مصداقيتها من العقل بصفتها قانوناً فلسفياً، إذاً من الممكن أن تكون صغرى القضية في الاستدلال الفلسفي من الأمور التجريبية أو المحسوسة، لكن الكبرى يجب أن تكون عقلية.
وقد اعتبر بعض العلماء أن لمنهج المعرفة بالآيات الذي يدعو إليه القرآن، حقيقةٌ فلسفية، وعلى الرغم من إنكار السيد الطباطبائي لوجود أيّ استدلال في القرآن على وجود الله، واعتقاده باعتبار وجود الله ــ قرآنياً ــ من البديهيات([15])، إلا أنه في مقام تفسير حقيقة المعرفة بالآيات يقرّ بإمكان التوصل إلى أمور تدلّ على وجود الله وصفاته بالتدبر والتأمل في آيات الله التكوينية، والأخذ بنظر الاعتبار الأصول العقلية، فكون الموجودات الطبيعية مخلوقةً ــ إضافةً لحاجتها وافتقارها ــ يدلّ بوضوح على وجود الله وصفاته، نظراً للأصل العقلي الذي يصرّح بحاجة كل مخلوق إلى خالقه واعتماده عليه ([16])، ومن الملاحظ استخدام هذا المنهج ــ اتخاذ خلق الموجودات الطبيعية وتكاملها ونظمها وهدايتها ــ مقدمةً للاستدلال الفلسفي وإثبات وجود الله على هذا الأساس بأشكال مختلفة، فتأخذ البراهين المسماة بالعلميوجودية في فلسفة الدين المسيحي في الغالب بمقدمة تجريبية مثل bالحدوثv أو bالحركةv و…، وتضمها إلى أصل فلسفي، كحاجة كلّ حادث إلى محدث، أو متحرّك إلى محرّك، وتقوم بإثبات وجود الله.
وكذلك برهان الوجوب والإمكان الذي يعتمده الفلاسفة، أو برهان الحدوث الذي يعتمده المتكلمون ([17])، ويشير السيد الصدر إلى ضرورة وجود عاقل حكيم، من خارج عالم المادة لرعاية النموّ والتكامل في الموجودات المتكاملة، فكثير منها، كنطفة الإنسان، بحاجة إلى علّة في تطورها وتكاملها (أصل فلسفي)، ومن الضروري أن تكون هذه العلة ذات شعور، فمعطي الشيء يجب أن يكون متمتعاً به (الأصل الفلسفي القائل بسنخية العلة والمعلول) ([18]).
على أيّ حال، نستطيع القول: إن المعرفة بالآثار من خلال المخلوقات والأمور الطبيعية في التفسيرين المذكورين تابعةٌ للعملية المعرفية التالية:
القرائن والأدلة ¬ عملية الاستدلال ¬ الإيمان والتصديق
أي أن حقيقة المعرفة منطقية واستدلالية، ونتوصل إليها بمقدمات وأصول استدلالية علمية أو فلسفية.
التفسير الثالث ــ المعرفة بالآيات بمعنى البيان الديني (التعبير الديني) ـــــــــ
لجون هيغ([19])، أحد فلاسفة الدين المعاصرين، نظرة إيجابية إلى الدين ومبانيه، ويعتقد بعجز الأدلة عن إثبات وجود الله بصورة قطعية، لكنه يعتبر الإيمان بالله من الأمور المعقولة ومن المعتقدات غير المبتنية على الاستدلال والاستنباط، ويتساءل: هل تعني المعرفة الإثبات؟ فيجيب: على أقل التقادير، لم يعتقد الذين دونوا الكتاب المقدّس بذلك؛ بل كانوا يعدّون وجود الله أمراً ملموساً وتجريبياً، لا موضوعاً للاستدلال والاستنباط.
تتضمن فحوى الاستدلال وجمع القرائن والأدلة نوعاً من الانفصال والتمايز بين الواقع المشهود ــ الذي يعدّ مقدمةً ــ والهدف المطلوب، وهو نتيجة الاستدلال، فأثر القدم يدلّ على السير، لكن رؤية الشخص نفسه في حالة السير ليست دليلاً على الاعتقاد بوجوده، فليس هناك مجال للاستدلال.
ادعى جون هيغ ــ معتمداً قواعد علم المعرفة الحديثة ــ أن ما عرف تحت عنوان قاعدة كليفورد([20])، والتي مفادها أن bلا يصحّ في أي زمان وأي مكان ولأي شخص أن يعتقد بشيء دون تقديم دليل مقنع عليهv.. يحتاج إلى تعديل؛ لأننا نحتاج ذكر الشواهد والأدلة في المعارف الاستدلالية وغير التجريبية، لكننا لا نحتاج الاستدلال والاستنباط في المعارف التجريبية، والتي تشكل قسطاً مهماً من معارفنا.
إننا نثق بمعطيات حواسنا، لكننا لا نثبتها بالأدلة والقرائن؛ إذاً باستطاعتنا تقسيم معارفنا إلى صنفين أساسيين: صنف مبتنٍ على الشواهد والأدلة، وصنف غير قائمٍ عليها، وتقع الحركة في الصنف الأول (المعارف الاستدلالية) على النحو التالي: الشواهد والأدلة ¬ الاستنباط ¬ الاعتقاد، لكننا لا نحتاج شواهد واستنباط في الصنف الثاني، بل ننطلق مباشرةً من التجربة الفعّالة أو البدهيات العقلية إلى الاعتقاد بالموضوع.
وتتألف البدهيات العقلية من بعض المعارف غير الاستدلالية، كامتناع اجتماع النقيضين، فعلى الرغم من فقدان الدليل على صحتها، تغدو موضع تصديق لدى العقل، ولكن المدركات الحسية تشكّل أهم قسم من المعارف غير الاستدلالية، وهي أفضل أنموذج لهذه المعتقدات، فعلى الرغم من انعدام الدليل المنطقي عليها، يؤمن بها الناس، ويعتبر هيغ إدراكاتنا الدينية من هذا النوع.
يستخدم جون هيغ مصطلحين لشرح فكرته هما: المعتقد الأساسي (Basic) والمعتقد الجذري (Fundational) ([21])، ويعود كلا هذين الصنفين من المعارف، إلى المعرفة التجريبية غير الاستدلالية، لكن الفارق بينهما أن الأول يختصّ بمدركات خاصة وتجارب معينة، كرؤية منضدة في مكان ما والاعتقاد بوجودها، لكن الاعتقاد بوجود أشياء مادية كالمنضدة، أو الاعتقاد بإمكان معرفة عالم المادة بالحواس وأمور كهذه ــ لا تدخل في إطار تجربة أو إدراك حسي خاص ــ يسمى بالمعتقد الجذري، ويرى هيغ أن المعتقدات الأساسية يمكنها أن تخطأ وإن كان من الممكن معرفة أخطائها، بيد أنه لا يمكننا النقاش فيما يخصّ المعتقدات الجذرية، و ينقل هيغ عن هيوم([22]) قوله: لا يحقّ لنا أن نسأل: هل عالم المادة موجود أم لا؟ وإن كنا نستطيع النقاش حول تفاصيل الاعتقاد بعالم المادة، بعبارة أخرى، المعتقدات الجذرية هي المصادرات القبلية في كلّ معتقد أساسي، بحيث لا يمكن التوصل إلى المعتقدات الأساسية من دونها.
وقد وقع الحديث هنا في موضعين:
الأول: قضايا الفهم الديني الخاص، وهي محلّ نقاش وأخذ وردّ، كرؤية الله على شكل معين أو رؤية نصرته وعونه (معتقد أساسي)، ولا يختلف هذا الصنف عن المدركات الحسية الخاصة.
الثاني: الحديث عن أصل وجود الله وعالم الغيب، وإمكان انكشافه للبشر (معتقد جذري)، وهو كأصل الاعتقاد بوجود عالم المادّة و انكشافه، غير قابل للنقاش، ويعدّ من قبليات أيّ تجربة دينية خاصة.
ويعتقد هيغ أن الموضوع الأهمّ يكمن في التمييز ــ في دائرة الدين ــ بين المعتقدات الأساسية والجذرية؛ لأن المعتقدات الجذرية الدينية، كوجود الله وعالم الغيب، محلّ سجال ونقاش أكثر من المعتقدات الجذرية في مجال الطبيعة، كما يمكن استخدام التمايز المذكور في شرح أسباب اختلاف المؤمنين، فاختلافهم غالباً ما يكون في المعتقدات الأساسية لا الجذرية.
ويبين هيغ ــ بعد سرد هذه المقدمات ــ أصل ادعائه بأن بإمكاننا الوصول إلى شكل من المعرفة غير المباشرة (midiated) وغير الاستدلالية بالله تعالى؛ فيرى أن علمنا بالحوادث الطبيعية يصنع الخلفية التجريبية لعلمنا بالله، فنحن نجرّب الله في الطبيعة، والمعرفة بالآيات لا تعني أننا نستنبط وجود الله بواسطتها، بل نجرّب آيات الله وآثاره، أي نرى الله في حجاب الطبيعة، كما يعتقد هيغ أن الإطار المعرفي لمعرفة الله مماهٍ للإطار المعرفي لمعرفة سائر الأمور التجريبية، وإن كان متعلّق المعرفة الدينية هو الذات الوحدانية (الله) التي لا مثيل لها (unique)، ويرى أننا لا نعرف الله بهذه الوسائط فحسب، بل معرفة أيّ شيء آخر إنما تتم بالطريقة نفسها.
يستخدم هيغ مصطلحين أساسيين لعرض فكرته: الأول significance بمعنى الدال أو المشير، والآخر interpretation بمعنى التفسير أو التأويل، فالدال أمر خارجي والتأويل أمر ذهني، والمعرفة تتكوّن من تركيبهما، فنحن نعيش في عالمٍ جميعُ موجوداته دالّة، أي أنها تعطينا معنى معيناً، وهذه هي الميزة التي تسمّى بالوجود في البيت (homeness)، وهي خصوصية مهمة لاستمرار حياة الإنسان؛ أي أن العالم ليس صندوقاً مغلقاً يقف الإنسان محتاراً أمامه، بل إنه يستطيع التعرّف عليه، وللعنصر الدال ــ وهو أمر خارجي ــ أهميّته في هذه العملية، وإن كانت المعرفة تتمّ نتيجة نشاط ذهن الإنسان، فإذا عرفنا كيفية التعامل مع هذه الدوالّ، سننتبه إلى وجودها، من هنا تمتزج المعرفة بالعمل ويرتبط اختلاف ردود الأفعال باختلاف المعاني.
ويذهب هيغ إلى أن الإنسان يميل للذرائعيّة (pragmatic) متأثراً بغريزته، أي يختار دوالّ تؤمّن بقاءه وترفع حوائجه، وتنبع هذه الطريقة من الانتقاء من وجدان الإنسان، فهو بطبيعته يهتم بنقل دوال إلى ذهنه تساعده على البقاء أكثر من الدوال الأخرى، فالدوال التي تنتقل إلى ذهنه تأوّل وتفسّر، فتولد منها المعرفة، وتتمّ عملية التفسير والتأويل على ضوء الحاجات والملاحظات الذرائعية، ولذا يفسّر دالّ ما أحياناً بصور مختلفة.
بعض التعبيرات غير قابلة للجمع (exclusive)؛ فمثلاً لا نستطيع تفسير دالّ حسّي واحد بكلب وثعلب، لكن بعض التعبيرات ملائمة (compatible)، كتعبيرنا عن شيء واحد بحيوان وكلب، حسب حاجتنا لذلك، فكلمات: bحيوانv وbكلبv قابلة للجمع، وترتبط طبقات المعنى فيها بصورةٍ دقيقة بإمكان تلائم التعبيرات المختلفة.
قد تفسّر الكلمات على الورق أحياناً بأنها نتيجة التقاء صدفي للقلم والورقة، فيما تفسّر أحياناً أخرى بكلمات ذات معنى، وثالثة بألغاز، وهذه التعبيرات كلّها قابلة للجمع، ويعود اختلاف التعبير والتفسير ــ إضافةً لاختلاف الأغراض ــ إلى مدى معلومات المفسّر أيضاً.
يدخل هيغ ــ بعد بيان هذه المقدمات ــ في صلب موضوعه، ساعياً لإثبات أننا نتخذ طريقةً واحدة للارتباط بأقسام الدوالّ الثلاثة، أي الطبيعة والإنسان والله، وفي الواقع الأقسام الثلاثة هذه، هي أقسامٌ للوجود أيضاً؛ فوجود الشيء بالنسبة لنا دلالته؛ لأننا لا نستطيع إدراك شيء لا دلالة له.
إننا نعتبر ــ وإن لم نمتلك دليلاً ــ أصل وجود عالم الطبيعة وإمكان معرفته أمراً مسلّماً، من خلال عملٍ تفسيري، ثم نقوم بتجارب خاصة (المعتقدات الأساسية) بناءً عليه، كالإحساس بالحرّ والبرد، كما نعتبر الإنسان عنصراً مسؤولاً، حين تناوله بالبحث، ونعتقد أن مسؤوليته ناتجة عن الأحكام الأخلاقية التي يمكن التعرّف عليها، كذلك نعتبر أصل وجود الغيب وإمكان انكشافه لنا من المسلّمات، ونقوم ــ على هذا الأساس ــ بتجارب دينية خاصة، كرؤية نصرة الله وعونه أو سخطه في حادثةٍ ما.
لكن كما لا يمكننا إقناع أحد بوجود عالم المادة بالبراهين، كذلك لا يمكننا إثبات إلزامات أخلاقية له بالاستدلال، كما لا نستطيع البرهنة على وجود عالم الغيب.
إن حاجة الفرد للتفسير الطبيعي للأشياء إنما هي لأجل بقائه، الأمر الذي يدفعه للإيمان بالمادة وعالم الطبيعة وإمكان معرفتهما، وهذه الحاجة وإدراكها ليس أمراً خارجياً، إنما هو نابع من ذات الإنسان، وفي المجالات الأخلاقية أيضاً حاجة الفرد للتفسير الأخلاقي هي التي تضطرّه للإذعان بالإلزامات الأخلاقية؛ فحينما يمرّ شخصان بطفلٍ مجروح، يفسّر أحدهم الحادثة على أنها طبيعية ويمضي، فيما يقدّم الآخر ــ إضافةً لهذا التفسير ــ تفسيراً أخلاقياً، ويرى نفسه ملزماً بإلزامات أخلاقية لمساعدة هذا الطفل، وهذان التفسيران متلائمان، وبينهما نوعٌ من التسلسل، أي أن التفسير الأخلاقي لا يتمّ من دون خلفية، بل يقوم على تفسير طبيعي؛ فإذا أردنا إلزام أحد بالدائرة الأخلاقية، فلا يمكننا ذلك عبر ممارسة استدلال يهدف إثبات وجود إلزامات أخلاقية، بل يجب علينا تفعيل إحساسه بالحاجة إلى التفاسير الأخلاقية.
المسألة نفسها بالنسبة للتفسير الديني؛ أي أن ما يعبّر عنه بصورة طبيعية، يقع أحياناً موضوعاً للتفسير الديني. فحينما نرى خشبةً تطفو على الماء ــ ونحن في حال غرق ــ ثم ننجو بواسطتها، نفسّر هذا الحدث على أنه حدث طبيعي مبنيّ على قانون العلية، كما نفسّره عنايةً إلهية أتت لإنقاذنا، وهذا التفسير الديني وُلِد في ظلّ ذلك التفسير الطبيعي، لكنه منبعث من حاجتنا للسكون والطمأنينة التي يكفلها لنا الله.
يرى المؤمن في هذا العالم أموراً ودوالاً، وأفضل ما يستطيع فعله قبالها الاعتماد عليها والتبعية لها، فتشكّل الطبيعةُ ومعرفتها الأرضيةَ الخصبة لانبثاق التفاسير الدينية، لهذا اعتبرنا معرفة الله والإيمان به مبتنياً على معرفة الطبيعة والتصديق بها، ومعنى ذلك أنّ الحوادث الطبيعية والنظم والهداية، تصنع الأرضية المناسبة للتفسير الديني، فنحن لا نمارس ــ ثمّة ــ ستدلالاً، بل نواجه الله بشكلٍ من الأشكال من خلال الطبيعة، ولدعوة الإنسان إلى الإيمان، يجب علينا دعوته لمعرفة نفسه واحتياجاته، فإذا انبثق إحساس الحاجة إلى الله في قلبه، نمت شجرة الإيمان في حياته.
وفي الختام، يقرّ هيغ بأن في الإيمان بالله ومعرفته نوعاً من المجازفة، فعلى الإنسان أن يتخذ قراراً محدّداً وخياراً معيناً (معتقد جذري) في أيّ حال من الأحوال، لكنها مجازفةٌ لا تمنع المعرفة، كما أن سائر المعارف الجذرية المتعلّقة بالمادة والإنسان تستلزم هي الآخرى نوعاً من المجازفة؛ فنرى أنفسنا ملزمين بالاعتراف بوجود عالم المادة دون أن نعرف سرّه، كما أننا نجهل آلية هذا الاعتقاد.
كذلك، يرى الإنسان نفسه ملزماً بقبول بعض الأحكام حين مواجهة أناس آخرين، جاهلاً سرّ هذا الأمر، كما يرى بعض الناس أنفسهم مضطرين للإيمان بوجود الله في مواجهتهم لعالم الغيب، وإن لم يكن إيمانهم مبتنياً على استدلال، لكنه معقول ومقبول لدينا، كما هو الحال بالنسبة لعالم المادة ([23]).
التفسير الرابع ــ المعرفة بالآيات بمعنى التذكر ــــــــــ
تبتني هذه القراءة على قبول العلم الحضوري والمسبق بوجود الله تعالى بصورة فطرية وسابقة على الاستدلال والتجربة، لكن هذا العلم قد أصابه الفتور بسبب الذنوب والابتعاد عن الله، ويؤدي التأمل في الطبيعة ــ بوصفها علامات وآثار على وجود الله ــ إلى استرجاع ذكريات bاللقاء الحضوري مع اللهv والميثاق الأزلي معه، وبالنتيجة تنبّه الإنسان.
تعني الآية الأثر والعلامة، ولها أقسام مختلفة: وضعية كاللغة، وغير وضعية (تكوينية)، وهو القسم المراد هنا، فللدوالّ في دلالتها على مدلولها مراتب متعددة، إذ تدلّ في بعض الأحيان على فردٍ من مجموعة، فأثر القدم يدلّ على مرور أحد ما، وبتمحيصٍ أكثر قد نتوصل إلى مواصفات العابر، ككونه امرأةً أو رجلاً.
المسألة المهمة أن العلائم المذكورة لا يمكنها تحديد العابر بدقة، إلا أن تكون لنا معرفة مسبقة بمواصفاته، أو أن نراه، أو نقوم بتحديده اعتماداً على معرفة آخرين له ([24]).
ونلاحظ ــ لدى مراجعة آيات القرآن ــ أن خلق السماء والأرض وسائر الأمور الطبيعية الأخرى إنما ذكرت بوصفها آيات وعلامات على الذات الربوبية نفسها: >ذلك من آيات الله لعلهم يذّكرون<؛ >ويريكم آياته فأيّ آيات الله تنكرون<، فلو لم تكن للإنسان معرفةٌ سابقة بالله تعالى، لكان وجود خالقٍ للطبيعة وناظم لها هو أكثر ما يمكن أن يدلّ عليه التأمّل في خلق السماء والأرض.
يبدو من الأفضل تفسير المعرفة بالآيات التي دعا إليها القرآن الكريم، بأن الإنسان مدعو للتأمّل في علامات الرب وآثاره التي يحسّ بها في أعماق وجوده، ويميل له بفطرته، ويحمل ذكريات مبعثرة عن اللقاء به في عالم الذر، فيزيل التأمّل الغبار عن تلك الذكريات، ويتنبّه الإنسان بتصفية باطنه ومشاهدة آثار ربّه، فيذكره على وجه التعيين، لا أن يعرف بوجود خالق وناظم مجهول.
وثمّة شواهد أخرى على هذا الرأي، منها: أن المفسرين ــ تبعاً للأئمة من أهل البيت ــ اعتبروا الآية الشريفة: >فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله< مشيرةً إلى كون المعرفة بالله فطرية، كما قال الإمام الصادق u في تفسيرها: bفطرهم على المعرفة بهv ([25])، وتؤكّد الأمر روايةٌ أخرى مفادها أن الإنسان لو لم يعرف الله من قبل، لما استطاع معرفته أبداً ([26])، والذي يبدو أن هذه الرواية تدلّ على أن الاستدلال والبرهان يمكنهما الدلالة على وجود فرد من مجموعة ما، لكن معرفة ميزات ذلك الفرد وصفاته بصورة دقيقة منوطةٌ بحضوره ومشاهدته.
الشاهد الآخر في هذا المجال هو عدم ذكر عالم الخلق بوصفه علامةً للجميع، فلو كانت العملية عملية استدلال لما اختصّته الآيات القرآنية بالمؤمنين دون غيرهم، أو لم يعد علامةً لمن لم ينسوا الميثاق على أقل التقادير: >إن في ذلك لآية لقوم يذكّرون<.
وتعدّ الآيات القرآنية تكذيب الآيات الإلهية نتيجةً لنقض المواثيق ونسيانها: >فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله …<، ويدلّ هذا على أن الكفر ليس عدم معرفة الله؛ لأن الجميع يعرفه، بل هو التغاضي عما هو معلوم ومعروف.
وأكثر من ذلك دلالةً وصراحة، الآياتُ القرآنية التي تعتبر الآيات التكوينية والتشريعية لا تفيد غير المؤمنين ومن نقضوا عهدهم وميثاقهم: >وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون<، وهم الذين لطالما نبّههم الله بآياته كي يتذكّروا الميثاق العظيم، لكنهم أعرضوا عنها وهم أظلم الناس أجمعين: >ومن أظلم ممن ذكّر بآيات الله فأعرض عنها<، وتدلّ هذه الآيات على كون السماء والأرض آيةً لمن يحتفظ بإيمانه الفطري فحسب، أو من يحتفظ بذكرياته عن عالم الغيب.
خلاصة واستنتاج ــــــــــ
من التفاسير الأربعة التي ذكرناها للمعرفة بالآيات، أو على حدّ تعبير جون هيغ المعرفة بالوسائط، لا يمكننا قبول تفسير هيغ، ولسنا هنا بصدد مناقشة رأيه بشكل مفصّل، لكن تجدر الإشارة إلى أهمّ نقاط الضعف في رأيه، فتبعاً للوثر([27]) في تفسيره للإيمان، اعتبر جون هيغ الاتكال ركناً أساسياً في الإيمان، مؤكّداً على دوره في المعتقدات الجذرية جميعها؛ لأن على الإنسان في النهاية اتخاذ القرار بشأنها، وهو ما يكون فيه نوع من المجازفة دائماً.
المشكلة الأساسية لدى هيغ نظرته الذرائعية للمعرفة البشرية، فهو يعتقد بأن المعرفة البشرية تنجز على أساس حوائج الإنسان، لهذا يجيز تفسير ظاهرةٍ واحدة حسب مستويات مختلفة من حاجات الإنسان بطرق مختلفة، وتكشف المعرفة الدينية عنده عن حاجات الإنسان أكثر مما تكشف عن حقائق عالم الواقع، وفي رأيه لا يختصّ هذا بالمعرفة الدينية، بل المعارف جميعها مرتبطة بحاجات الإنسان أيضاً، لكن الحقيقة أن الإيمان ليس قراراً مبنياً على الاتكال ومصحوباً بالمجازفة حول أمر مجهول (الذات الربوبية)، بل هو اتكال على موجودٍ معلوم (الذات الربوبية)، وطمأنينة به، والفارق بين هذين القولين كبير.
والإشكال الرئيس في رؤية هيغ اعتقاده بإمكان حصول الإنسان على تفسير ديني دون الإيمان برب معيّن، متعالٍ عن عالم الطبيعة، وهو مغزى دعوة الأديان، وهذا ما يخالف مرتكزات المؤمنين التي يريد هيغ تفسيرها.
ولا يعني هذا أن لا وجود لنقاط إيجابية ومفيدة في نظريّته، لكن لا يسع المقام لاستعراضها.
أما التفاسير الثلاثة الأخرى، فبغضّ النظر عن الإشكالات الجزئية الواردة عليها جميعاً، نرى أن لا مانع من تعدّد الطرق في مجال إثبات وجود الله، فتعدّد الطرق في معرفة شيء واحد أو التذكير بوجوده (الذات الربوبية) ناشئ عن تعدّد أبعاد الإنسان نفسه؛ فعقل الإنسان العلمي يقتضي طريقةً علمية، وعقله الفلسفي يستدعي طريقةً فلسفية، ومن جهة أخرى روح الإنسان محتاجة للقاء حضوري لمعرفة الله في مستوى أسمى من المعرفة العقلية، والذي تمّ ــ على حد تعبير القرآن الكريم ــ في عالم الذرّ، ويستعيد الإنسان اليوم ذكرياته من ذلك اللقاء عبر التأمل في الطبيعة، وفي نفسه، وفي سائر آيات الله.
فطعن العرفاء بالفلاسفة واستهزاؤهم بهم، ليس لعجز العقل عن إثبات وجود الله، بل لاعتقادهم بلا منطقيةِ حرمان الإنسان نفسه مشاهدةَ الله ما دام ذلك ممكناً له، ولذا نرى جلال الدين الرومي يأخذ على الفلاسفة عدم استماعهم لصوت الله الذي يترنم في الطبيعة، وعدم رؤيتهم لجلاله وجماله، وتعاملهم معه بصفته موجوداً غائباً يبحثون عن دليل لإثبات وجوده.
اعذرني! إن كنت لا أرى مع كلّ هذه الغوغاء والأصوات والأصداء والصراعات! ([28]).
الأشعار التالية دليلنا على دعوة الرومي وسائر العرفاء للسموّ من عالم العقل إلى عالم الحضور، لا نبذ العقل في نطاقه الخاص به:
إذا كان لك بصر فلا تسِر كالأعمى، وإن لم تكن بصيراً فالزم العصا
إذا لم يكن لك بصر، فاجعل عصا الاستدلال والبرهان قائدَك
وإن لم تكن لديك عصا الاستدلال وسرت من دون مرشد، فستواجه الضباب على كل طريق
وسر كما يسير الأعمى، كي تخلص نفسك من الأحجار والآبار([29]).
ويتجاوز ابن عربي هذه الآراء ليقول: إن مجالات المعرفة البشرية جميعها ــ سواء منها العلم والعقل أو الكشف والشهود ــ تثير حيرة الإنسان، ولن يحصل على الطمأنينة والسكينة إلا في ظلّ الحب والانجذاب، مسمّياً هذه المرحلة بـ bالإعلام الإلهيv، ويقصد بذلك أن مادام الإنسان يسعى بنفسه لمعرفة الله، سواء بالعلم أو الفلسفة أو العرفان (الشهود)، فلن يطمئن أبداً لنتيجة سعيه؛ ولا يمكنه الاطمئنان والاستقرار حتى يهبّ عليه نسيم الإعلام الإلهي (معرفة يهبها الله ولا يتوصّل الإنسان إليها بنفسه)([30]).
ملخّص الحديث: إن بإمكاننا تقبل طرق مختلفة في تفسير المعرفة بالآثار، ويعود سبب ذلك إلى وجود أبعاد مختلفة في الإنسان نفسه، ولعلّ تعدّد صور دعوة القرآن للمعرفة بالآيات دليلٌ على إمكان معرفة الله كذلك بطرق مختلفة؛ فبعض الآيات القرآنية تعدّ الخلق آياتٍ للعلماء: >إن في ذلك لآية لقوم يعلمون< (27: 52)، وفي موضع آخر عدّت لأصحاب الفكر والعقلاء: >إن في ذلك لآية لقوم يعقلون< (16: 67)، >إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون< (16: 69)، كما عدّت في آيات أخرى للمتذكّرين: >إن في ذلك لآية لقوم يذكّرون< (16: 13).
* * *
الهوامش
1 ــــ لا نقصد إنكار قيمة مطالعة الطبيعة للاستمتاع بنعمها، بل نريد تبيين سبب تأكيد القرآن على مشاهدة الطبيعة والتدبر فيها، وهو كونها آية ودليلاً على الله سبحانه وتعالى.
2 ــــ مجموعة مؤلفات الشيخ مطهري 3: 50؛ وكذلك: 13: 424، 441. ومقالات فلسفي (فلسفية) 2: 239.
3 ــــ راجع: ايان باربور، علم ودين: 18، 27، 41، ترجمه للفارسية: بهاءالدين خرمشاهي، مركز نشر دانشكاهي؛ ودرآمدي تاريخي به فلسفه علم (إطلالة تاريخية على فلسفة العلم)، جان لازي، ترجمه للفارسية: علي بايا، مركز نشر دانشكاهي؛ وعلم شناسي فلسفي (دراسة فلسفية للعلم)، مجموعة مقالات من دائرة معارف بل ادواردز الفلسفية (مقاله هاي تبيين علمي، روش علمي)، ترجمه للفارسية: عبد الكريم سروش، مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنكي.
4 ــــ يعتبر السيد الصدر أن الافتراضات الممكنة في مجال تفسير ظواهر العالم أربعة، ويتحدث عن القيمة الاحتمالية لكل منها بشكل مفصل. راجع: الأسس المنطقية للاستقراء: 403، دار التعارف للمطبوعات.
5 ــــ مطهري، التوحيد: 73، نشر صدرا.
6 ــــ تناول الشيخ المطهري هذا الموضوع بشكل موسع في كتاب التوحيد: 58ـ 98، أكثر من سائر مؤلفاته. وتناولها السيد الصدر بصورة مستدلّة في رسالة تحت عنوان: bالمرسل والرسول والرسالةv: 38ـ 47.
7 ــــ مجموعة مؤلفات الشيخ الٍمطهري 3: 50.
8 ــــ المصدر نفسه 13: 441.
9 ــــ مطهري، التوحيد: 44، 60.
10 ــــ المصدر نفسه: 44.
11 ــــ مجموعة مؤلفات الشيخ المطهري 13: 441.
12 ــــ يعتقد المطهري أن المعرفة بالآيات هي برهان النظم، bأبسط وأعمّ برهان يُقام على وجود الله هو برهان النظم، فالقرآن الكريم يسمّي المخلوقات بالآيات، أي العلائم والدلائل على اللهv، مجموعة التأليفات 1: 537.
13 ــــ المصدر نفسه 13: 400، ويبدو أن الشيخ في كتاب التوحيد ــ الذي ذكر فيه صراحةً ابتناء برهان النظم على الاحتمالات ــ يريد بيان أحد مناهج معرفة الله، وحينما ينكر ابتناء معرفة الله على حساب الاحتمالات، يريد بذلك إنكار انحصار منهج معرفة الله بالافتراض والاحتمال، الوجه الآخر للجمع بين القولين هو أن الطريقة العلمية المبتنية على الاحتمالات تثبت أصل وجود الله، لكن اللاهوت الذي يعني معرفة صفات الله، تتطلّب أموراً لا يمكن إثباتها بالحساب نفسه، والشاهد على هذا الرأي قوله: bلم يوص القرآن إطلاقاً بمعرفة وحدانية الله التي تحصل بالمطالعة في نظام الخلق، حيث يؤكّد على أن معرفة الخالق الفَوق طبيعية تتمّ بهذا المنهج، وتوصية كهذه غير صائبة البتةv، راجع: سيري در نهج البلاغة (تأملات في نهج البلاغة): 54، انتشارات صدرا.
14 ــــ على سبيل المثال، اسوين برن في مقال تحت عنوان: The argument from design في كتاب:
Philosophy of religion: An anthology louis P.pojman P.39.
15 ــــ الطباطبائي، الميزان 1: 395، انتشارات اسماعيليان؛ وقد اعتبر بعض كبار فلاسفة المسلمين بعض آيات القرآن دلالة على براهين خاصة، ذكروها لإثبات وجود الله، أي أنهم كانوا يدافعون عن فكرة وجود استدلالات في القرآن الكريم على وجود الله، خلافاً للسيد الطباطبائي؛ فعلى سبيل المثال راجع: ابن سينا في الإشارات والتنبيهات 3: 66؛ وصدرالمتألهين في الأسفار العقلية 6: 14، وأكثرهم صراحةً ابن رشد الذي يذكر شكلين من البرهنة على وجود الله في القرآن: دليل العناية ودليل الاختراع، نقلاً عن كتاب التصور الذري في الفكر الفلسفي الإسلامي للدكتورة منى أحمد أبو زيد، المؤسسة الجامعية، ص221.
16 ــــ الميزان 18: 154.
17 ــــ علماً أن برهان الوجوب والإمكان قابل للإثبات ــ حسب ادعاء ابن سينا ــ دون أيّ مقدمات تجريبية وبشكل فلسفي محض، انظر: الإشارات 3: 66.
18 ــــ محمد باقر الصدر، المرسل، الرسول، الرسالة: 49، دار التعارف؛ ومطهري، التوحيد: 85.
من فلاسفة الدين الألمانيين John Hick (1922 – …). ــــ 19
وليم كينغدون كليفورد (1845ـ 1879)، عالم في الرياضيات وفيلسوف بريطاني William ــــ 20 Kingdon Clifford.
21 ــــ راجع المصدر التالي حول المعتقد الجذري:
An interoduction tocontem porary Epistomology Gon ATHAN DANCY Basil Black well part 11.
ديفيد هيوم، فيلسوف ومؤرخ وعالم اقتصاد اسكتلندي22. David Hume (1711-1776).
23 ــــ أوردنا رأي جون هيغ اعتماداً على كتابه bفلسفة الدينv ومقال bحقيقة الإيمانv؛ راجع: فلسفة الدين، جون هيك، ترجمه للفارسية: بهرام راد، انتشارات الهدى، الفصل السادس؛ ويجدر التنبيه هنا إلى أنه على الرغم من الادعاء في مقدّمة الترجمة الفارسية أنها تمّت للطبعة الرابعة من الكتاب، لكن تطبيق الترجمة على النص الأصلي، يظهر أن قسماً من البحث المذكور هنا لم يترجم؛ وهو الصفحة 75 من الطبعة الرابعة، كذلك راجع مقال bحقيقة الإيمانv في كتاب: Philosophy of Religioned. George Abernethy … Newyork, The macmilan company p.252.
24 ــــ يؤكّد السيد الطباطبائي في الصفحة 76 من كتاب bنهاية الحكمةv، نشر جماعة المدرسين، أن التمييز الدقيق والتعيين لا يتم إلا بالوجود، وجمع مفاهيم ماهوية وكلية لا توصل للتشخيص الفردي (تعيين الفرد).
25 ــــ تفسير نور الثقلين للعروسي 4: 128، نشر اسماعيليان.
26 ــــ أصول الكافي 2: 13، ح 4.
مارتن لوثر، مصلح ديني ألماني ومؤسس البروتستانتية 27. Martin Luther (1483- 1546).
28 ــــ جلال الدين الرومي، المثنوي 6، البيت: 2512، تصحيح: الدكتور استعلامي.
29 ــــ المصدر نفسه 3: 20، البيت: 276 إلى 280.
30 ــــ ابن عربي، الفتوحات المكية 4: 31، دار الفكر.