ألقى السيد محمد باقر الصدر سلسلة محاضرات فقهيّة حول إحياء الأراضي الموات، في عطلة شهر رمضان المبارك، شرع فيها ليلة السبت 3ـ رمضان ـ 1391هـ، وأنهاها في السابع عشر منه، (تشرين الأول والثاني، 1971م)، وكان في 1 ـ رمضان ـ 1381هـ
(7 ـ 2 ـ 1962م) قد درّس الموضوع نفسه، معتبراً إيّاه خميرة الجزء الثاني من كتاب اقتصادنا، وقد قرّر هذه الدروس سماحة السيد كاظم الحائري، أحد خلّص طلاب السيد الشهيد، وقد قدّم لمجلّة >الاجتهاد والتجديد< ـ مشكوراً ـ هذه الدراسة التي تُنشر للمرّة الأولى >مركزُ الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر< في مدينة قم الإيرانية، وقد قام الشيخ حيدر حبّ الله بتحقيق وتصحيح هذه المحاضرات العلميّة؛ عبر تقويم نصّها، واستخراج مصادرها، وعنونة موضوعاتها، كما يراه القارئ هنا، واعدين القارئ بنشر سلسلةٍٍ من بحوث السيد الصدر لم يسبق نشرها من قبل، آسفين لتأخّر نشرها إلى اليوم، بعد عقدين ونصف على استشهاده ) (التحرير).
تمهيد
نختار في هذا البحث من كتاب إحياء الموات ثلاثَ مسائل؛ لعدم كفاية الوقت لأكثر من ذلك، وهي: 1 ـ تحديد مالكية الأرض الميتة. 2 ـ ماذا يكتسب المحيي بالإحياء فيها؟ 3 ـ لو أحيى الأرض ثم أهملها وأحياها شخصٌ آخر؛ فما هو حاصل ذاك الشخص الثاني؟
مالكيّة الأرض الميتة بين ملك الإمام (الدولة) وغيره
لا إشكال عند فقهائنا أنّ الأرض الميتة بالأصالة ملكٌ للإمام، وقد جاء نقل الإجماع بنحو الاستفاضة في ذلك([1])، والدليل على هذا القول ـ بعد كونه مسلّماً ـ عدّة مجموعات من الروايات:
المجموعة الأولى: ما دلّ على أنّ الأراضي الموات للإمام، وورد بعنوان الموات نفسه، وهذه المجموعة لا يوجد فيها سوى حديث واحد، حيث جاء فيه: <والموات كلّها هي له>([2])، وأما سائر الروايات فهي إما عبّر فيها بغير الموات، أو جاء التعبير بالموات مع إضافة بعض القيود، وهي روايات غير تامة السند؛ فبين مرسلة ومرفوعة، ولولا الإشكال السندي لتمّت هذه الطائفة؛ لأنّ دلالة هذه الرواية تامّة.
المجموعة الثانية: الروايات التي أخذ في موضوعها عنوان: الأرض الخربة، وحُكم فيها بأنّها ملكٌ للإمام. وهذه الطائفة فيها روايات عديدة، بعضها أخذ في موضوعه عنوان الأرض الخربة بلا قيد، كرواية حفص البختري التي جاء فيها: <وكل أرض خربة>([3])، وغيرها([4])، وبعضها جاء فيه <كلّ أرض خربة باد أهلها>، كمرسلة حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح([5])، وجاء في خبر داوود بن فرقد: <كلّ أرض ميتة قد جلا أهلها> ([6]).
وقد استشكل المحقّق الإصفهاني ) في دلالة هذه الطائفة بأنها مختصّة بغير ما هو محلّ الكلام، أي بالأرض التي كانت عامرةً ثم خربت، وهذا المطلب هو ظاهر جملة من هذه الروايات؛ على أساس عنصر التعبير بالخربة، بل في صريح بعض الروايات التعبيرُ بـ (بادَ أهلُها)([7]).
لكن مع ذلك، يمكن تتميم دلالة هذه الروايات على المقصود بأحد تقريبات:
التقريب الأول: إنّ هذه الروايات موضوعُها الميّت بعد أن كان له أهل، ومن الواضح ـ بحسب مناسبات الحكم والموضوع المركوزة عرفاً ـ أنّ كون هذه الأرض كان لها أهل غير دخيل في مالكيّة الإمام، وإنما الدخيل في ذلك موتُها؛ فتُلغى خصوصية هذا القيد، ويقال: إنّ تمام الموضوع هو كون الأرض ميتة ومجرّدة وعاطلة، ووجود مالك سابق إن لم يكن يناسب الدخل في عدم جعل مالك في مقابله فهو لا يناسب الدخل في جعل مالك في مقابله.
التقريب الثاني: إننا نفرض أرضاً كانت عامرةً بطبعها لا بعمارة بشر، ثم عرَض عليها الموت بعارضٍ طبيعي؛ فلا إشكال حينئذٍ في أنه يصدق عليها أنها خربة، وتشملها بعض روايات هذه المجموعة، وهي الروايات التي كان موضوعها عنوان الخربة على الإطلاق من دون تقييد بوصف: باد أهلها؛ وإذا ثبت الحكم في الأرض الميتة بفعل الطبيعة تعدّينا ـ بارتكاز عدم الفرق وعدم التفصيل في الفتوى ـ إلى الميتة بطبعها الأصلي.
التقريب الثالث: إذا كان عنوان الخربة بمعنى الخراب بعد العمران يكون الإشكال تامّاً، أما إذا كان عنوان الخربة في مقابل العامرة، فهو مطلقٌ حينئذٍ يشمل الخراب بالأصل، تماماً كالميت؛ حيث له لحاظان؛ فقد يُستعمل بمعنى الميّت بعد الحياة كما هو طبع كلمة الميت، وقد يستعمل بمعنى الميت في مقابل الحيّ، أي كلّ ما من شأنه قبول الحياة وليس حياً، وقد حمل المحقق الإصفهاني عنوان الميت على هذا المعنى وإن لم يحمل عنوان الخربة على ذلك، واصطلاح الفقهاء وإن استقرّ على إطلاق الميّت على الأرض الميتة بالأصالة، إلا أنّ المعنى اللغوي لا فرق فيه بين العنوانين؛ وعليه فإن استظهر ـ ولو بمناسبات الحكم والموضوع ـ من كلمة الميّت المعنى الثاني وجب استظهار ذلك من كلمة خربة أيضاً، وإلا وجب الاستشكال فيهما، فلم تُعرف نكتة تخصيص الإشكال بالطائفة الثانية.
المجموعة الثالثة: الروايات التي أخذ في موضوعها عنوان: لا ربّ لها، من قبيل مرسلة حمّاد بن عيسى، حيث عبّرت بكل أرض ميتة لا ربّ لها([8])، وموثقة إسحاق بن عمار الواردة في تفسير علي بن إبراهيم، حيث عبّرت بكل أرض لا ربّ لها([9])، ونحوهما بعض الروايات الأخرى([10]).
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات موقوفٌ على نفي مالك آخر ـ كالمسلمين ـ ولو باستصحاب عدم جعل ذلك في الشريعة؛ فإنّ موضوع هذه الروايات هو الأرض الميتة التي لا ربّ لها؛ فيقال: هذه أرضٌ ميتة بالوجدان، ولا ربّ لها بالاستصحاب؛ فيثبت أنها للإمام، لكن يبقى فرق فنّي بين هذه المجموعة والمجموعتين السابقتين، وهو أنه إذا ورد دليلٌ في بعض أقسام الأراضي الميتة يُثبت لها مالكاً، يكون معارضاً للطائفتين السابقتين، فلابدّ من التخصيص أو التساقط أو غير ذلك من قواعد باب الجمع والمعارضة، لكنّه لا يكون معارضاً للطائفة الثالثة بل حاكمٌ عليها ورافعٌ لموضوعها، ويظهر الأثر العملي بعد ذلك حينما نتكلّم في الأخبار المعارضة.
إشكالات في تحليل المجموعات الحديثية الثلاث
بقي هنا ثلاثة إشكالات لابد من التعرّض لها:
الإشكال الأول: وهو إشكال مربوط بالطائفة الثالثة التي قرّبنا الاستدلال بها بإحراز موضوعها بالاستصحاب، من دون فرق في ذلك بين أن نقول: إنّ قوله: <كل أرض ميتة لا ربّ لها> يدل بمفهوم الوصف على أنّ الأرض الميتة التي لها ربّ ليست للإمام أو لا.
وحاصل الإشكال: إنّ القضية الوصفية يدّعى لها ظهوران: أحدهما الظهور في انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، وهذا هو المسمّى بمفهوم الوصف الذي وقع محلاً لخلاف المشهور. والثاني: الظهور في أنّ الموصوف قابلٌ للاتصاف بالصفة وعدم الاتصاف بها، وهذا الظهور قد يُقبل حتى عند المنكر لمفهوم الوصف؛ فلو قال مثلاً: أكرم الإنسان الأبيض، كان ظاهره أنّ الإنسان قابل لأن يتّصف بالبياض تارةً وبعدم البياض تارةً أخرى، وفيما نحن فيه قُيّدت الأرض الميتة بأن تكون موصوفةً بأنها لا ربّ لها؛ فيقال: إنّ هذا التوصيف له ظهور عرفيّ ـ مثلاً ـ في أنّ الأرض الميتة لها وصفان؛ فتارة تتصف بأنها لا ربّ لها، وأخرى تتصف بأنّ لها ربّاً، وهذا ما ينافي المطلوب؛ فإنّ المطلوب أنّ الأرض الميتة بحسب طبعها كلّها للإمام.
والجواب: إنّ قوله: <كلّ أرض ميتة لا ربّ لها> وإن دلّ على أنّ الأرض الميتة قد يكون لها ربّ، لكنّ هذه قضية مهملة يُحتمل انطباقها على خصوص أرضٍ كانت معمورةً ثم خرجت بزلزال ونحوه، ولا إشكال في أنها لأصحابها، وكلامنا في الأرض الميتة بالأصالة، والفتوى المشهورة الثابتة بنحو الموجبة الكلية إنما تحكم بأنّ كلّ أرض ميتة بالأصالة فهي للإمام، ولا تشمل الأرض الميتة بالعرض.
الإشكال الثاني: قلنا: إن المجموعة الثالثة تختلف عن المجموعتين: الأولى والثانية، في أنّه لابد من إحراز موضوعها بالاستصحاب، وأنه لو دلّ دليلٌ في أرضٍ ما على أنّ لها ربّاً كان حاكماً على الثالثة ومعارضاً للأولى والثانية، وقلنا: إن أثر ذلك يظهر فيما بعد، والإشكال الثاني هنا متعلّق بهذه النقطة بالذات، وحاصله: إنّ الطائفة الثالثة أخصّ من الأولى والثانية؛ إذ إنها مقيّدة بقيد عدم وجود الربّ لها؛ فلابد من تقييد المجموعتين الأوليين بالمجموعة الثالثة حملاً للمطلق على المقيد؛ فبعد تقييدهما بهذا القيد ـ ولو بمقيّد منفصل ـ تلحقان بالمجموعة الثالثة في نقطة الضعف؛ فتحتاجان ـ أيضاً ـ إلى تنقيح الموضوع بالاستصحاب؛ إذ من دون الاستصحاب يكون التمسّك بالعام في المقام ـ عند الشك في ثبوت الربّ وعدمه ـ تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص، وهو غير جائز وإن كان المخصّص منفصلاً، وإذا ورد دليل يثبت الربّ لقسمٍ من أقسام الأرض كان حاكماً على هاتين المجموعتين أيضاً.
والجواب ـ بغضّ النظر عن دخول بحثنا هنا تحت قاعدة حمل المطلق على المقيد وعدمه ـ : إنّنا قد حقّقنا في علم الأصول أنّ التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص المنفصل في مثل المقام جائز؛ فإنه إنما لا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقية إذا كانت نسبة المولى وغيره إلى معرفة القيد على حدّ سواء، كما لو قيّد وجوب إكرام العالم بكونه عادلاً، أمّا في مثل المقام مما يكون المولى ـ بما هو مولى ـ له خبرة بحال القيد وجوداً وعدماً فالتمسّك بالعام جائز([11])، وتشخيص جعل مالكٍ آخر غير الإمام وعدمه في المقام راجعٌ إلى المولى ومن وظيفته؛ فإنه هو الذي يجعل الملكية لمن أراد؛ فيجوز هنا التمسّك بالعام لإثبات مالكية الإمام، ومن ثمّ إثبات أن القيد ـ وهو عدم الربّ ـ ثابت، وتحقيق هذا المدعى موكول إلى علم الأصول.
الإشكال الثالث: إنّ العمومات التي دلّت في المجموعة الأولى والثانية على أنّ كلّ أرضٍ ميتة أو كل أرض خربة هي للإمام، قد يدّعي أنّها مقيّدة ببعض روايات المجموعة الثانية، وهي روايات كلّ أرض ميتة باد أهلها؛ على أساس أنّها تدلّ ـ بمفهوم الوصف ـ على أنّ غير هذه الحصّة من الأراضي الخراب ليست للإمام.
والجواب: إنّ هذا الكلام غير تام حتى على القول بمفهوم الوصف؛ فإنه إن كان لهذه الروايات مفهومٌ فمفهومها أنّ الأرض الخربة التي لها أهل إن لم يبد أهلها ليست للإمام؛ فإنّ موضوع هذه الطائفة إنما هو الأرض التي كان لها أهل، ولا تدلّ بالمفهوم على أنّ كل أرض خربة غير هذا القسم ليست للإمام؛ فتكون هذه الروايات من قبيل أن يقال: كلّ إنسان فقّه أولاده فهو صالح، فمفهومه أنّ كل إنسان كان له أولاد ولم يفقّههم فهو غير صالح، أما ذاك الإنسان الذي ليس له ولد فهو خارج عن المفهوم.
وبهذا اتضح أنّ هذه المجموعات الثلاث تامّة دلالةً، نعم الأولى منها غير تامة سنداً.
المجموعة الرابعة: ما دلّ على أنّ الأرض كلّها للإمام؛ فكلّما دلّ دليل على العدم في مورد يكون خارجاً ـ تخصيصاً ـ عن هذا العموم، ويبقى الباقي؛ وحيث إنّ الأرض الميتة لم يدلّ دليلٌ فيها على العدم فهي داخلة في العموم؛ فتكون مصداقاً لهذه المجموعة من الأحاديث.
ومن نماذج هذه المجموعة ومصاديقها رواية أبي يسار بن أبي عبدالملك، وهي رواية طويلة، جاء فيها هذا المقطع: فقال %: <وما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟! يا أبا سيار! الأرضُ كلّها لنا؛ فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا>([12]).
وقد ذكر بعضهم ـ كالمحقق الإصفهاني وغيره من قبله([13]) ـ أنّه لكي لا يلزم تخصيص الأكثر، يجب حمل هذه الملكية على ملكية عرفانية أخلاقية لا ملكية فقهيّة؛ فتسقط الرواية عن قابلية الاستدلال بها.
لكنّ هذا الكلام مناقش بأنّ هذا الحمل يكاد يكون خلاف صريح الرواية؛ حيث يقول % بعد ذكر ملكية الإمام للأرض كلها: <وشيعتنا محلّلون فيما هو تحت أيديهم>؛ فموضوع التحليل والتمليك شرعاً إنما هو الملكية بالمعنى الفقهي لا الملكية بالمعنى العرفاني الأخلاقي؛ فالمتعيّن حمل الرواية على المالكية الفقهية، ولا يلزم من ذلك تخصيص الأكثر؛ لأنّ الأرض ـ حينما يُنظر إليها بحسب طبعها الأولي وبقطع النظر عن عمل البشر ـ على قسمين: الأرض الميتة بالأصالة والأرض العامرة بالإضافة، وكلاهما ملكٌ للإمام؛ فالأرض الميتة بالأصالة للإمام، كما سنُثبته في هذا البحث، وأمّا العامرة بالأصالة فهي ملكٌ له أيضاً، كما هو المشهور المنصور؛ فالأرض كلّها بالأصالة للإمام، وقد تخرج عن ذلك بالعوارض، وأهمّ هذه العوارض هو الإحياء، وسوف يأتي أنّ الإحياء لا يُخرج الأرضَ عن ملك الإمام وإنما يُثبت للمحيي حقّ الأولوية بالنسبة إلى غيره من الناس، لا بالنسبة إلى إمامه.
وبهذا بان واتضح أنّ المجموعات والطوائف الأربع كلّها تامة الدلالة على المطلوب، غاية الأمر أنّ الطائفة الأولى والثانية والرابعة تامّة الدلالة في نفسها، فيما الطائفة الثالثة تحتاج إلى ضمّ أصل ينقّح موضوعها، وهو عنوان: لا ربّ لها.
نصوص مالكيّة الإمام (الدولة) للأراضي ومشكلة التعارض
وبعدما تقدّم، يقع الكلام في أنه هل يوجد دليلٌ آخر يصلح لمعارضة دليل مالكية الإمام للأراضي الموات أو لا؟
وبهذا الصدد، يمكن الإشارة إلى دليل آخر قد يُجعل معارضاً لمالكية الإمام بالعموم من وجه، وهو الروايات التي تدلّ على أنّ ما أخذ عنوةً فهو ملكٌ للمسلمين؛ حيث يقال: إنّ روايات مالكية الإمام للأرض الموات تدلّ على ملكيته الأرض الميتة سواء كانت مفتوحةً عنوة أو لا، كما أنّ دليل مالكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة تشمل المفتوحة عنوة العامرة والمفتوحة عنوةً الميتة؛ فمادّة الاجتماع هي الأرض الميتة المفتوحة عنوةً، فتقع المعارضة حينئذٍ.
وأوّل من رأيناه أوقع التعارض بالعموم من وجه بين الدليلين المذكورين ـ بحسب ما نعلم ـ هو السيد الطباطبائي (1231هـ) صاحب رياض المسائل([14]).
وقفة نقدية مع محاولة السيد الخوئي حلَّ التعارض القائم
ولا يمكن الجواب على هذا التعارض بما ذكره السيد الأستاذ (مدّ ظله) ـ على
ما في تقريرات بحثه([15]) ـ من أنه لو قدّم دليل ملكية المسلمين لزم إلغاء دليل ملكية
الإمام بخلاف العكس، وتوضيحه أنه إذا قدّم دليل الأرض المفتوحة عنوة، وقلنا: إنّها لا تكون ملكاً للإمام؛ إذاً فأين هو ملك الإمام وكلّ أراضي الموات كانت تحت أيدي الكفار وأخذت منهم؟! وهذا بخلاف العكس فإنّه لو أخرج من دليل الأرض الخراجية خصوصُ الموات، بقي له القسم العامر؛ فإنّ الأراضي المفتوحة عنوةً قسمٌ كبير منها
كان عامراً.
والسبب في النظر في هذا الجواب هو أنه يمكن في المقام الالتزام بتقديم دليل أرض الخراج دون لزوم إلغاء دليل مالكية الإمام؛ لأنّ دليل أرض الخراج مخصوصٌ بخصوص ما أخذ عنوةً؛ فليكن مواتٌ ما أخذ عنوة للمسلمين ويبقى تحت دليل ملكية الإمام مواتٌ أخرى من قبيل موات الأراضي التي أسلم أهلُها عليها طوعاً، أو استسلم أهلها صلحاً، أو أوقفوا السلاح خوفاً دون أن يوجَف عليها بخيل أو ركاب، أو أراضي الموات التي تحدُث بعد الإسلام من قبيل جزيرةٍ تنحسر عنها الماء بعد الإسلام.
الصيغة الصحيحة لحلّ أزمة التعارض بين النصوص
والتحقيق في علاج هذه المعارضة أن يُقال: إنّ دليل مالكية المسلمين للأرض المأخوذة بالسيف فيه احتمالان ـ ثبوتاً ـ :
الأول: أن يكون موضوعه ما أخذ من أملاك الكفار.
الثاني: أن يكون موضوعه ما أخذ ممّا كان تحت سيطرة الكفار خارجاً، سواء كان ملكاً لهم أو لا.
أ ـ فإذا استظهرنا الاحتمال الأول، فلن يشمل هذا الدليل ـ إذاً ـ الأرضَ الميتة من أصله؛ إذ لا دليل على أنّها ملكُ الكفار في المرتبة السابقة؛ فإنّ غاية ما يدلّ عليه الدليل أنّ من عمّر أرضاً ملكها مثلاً.
ب ـ أما إذا استظهرنا الاحتمال الثاني، فموضوع هذا الدليل تامّ في المقام؛ فيقع التعارض بين الدليلين، ويمكن وضع معالجة فنيّة لهذا التعارض عبر أحد وجوه أربعة تُنتج الفتوى المشهورة الصحيحة، وهي ملكية الإمام.
الوجه الأول: تقديم دليل مالكية الإمام على أساس أنّه دلّ على الإطلاق بالعموم الوضعي؛ حيث قال: كلّ أرض خربة أو الموات كلّها للإمام، أما أخبار ملكية المسلمين للأرض الخراجية فالإطلاق فيها إطلاق حُكمي، والعموم الوضعي مقدّم على الإطلاق الحكمي، إمّا للحكومة من باب أنّ هذا تنجيزي وذاك تعليقي، أو ـ على الأقل ـ للأظهرية.
الوجه الثاني: ويحتاج إلى بيان مقدمة حاصلها: إنه إذا تعارضت طائفتان من الروايات وكان في الطائفة الأولى قسمان: قسم يصلح أن يكون معادلاً ومكافئاً للطائفة الثانية، وقسم آخر ليس حاله كذلك، بل لو خلّي وحده مع الطائفة الأولى لحكمت الطائفة الأولى عليه؛ فالقسم الأول مع الطائفة الثانية يتعارضان ويتساقطان، وتصل النوبة إلى القسم الثاني الذي كان محكوماً للطائفة الثانية.
وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ روايات مالكية الإمام تقع على قسمين: قسمٌ منها ما يدلّ على مالكية الإمام منجز، أمّا القسم الثاني فيدلّ على مالكيته لما لا ربّ له، والطائفة الثانية معارضة للقسم الأول وحاكمة على القسم الثاني؛ لأنها تبيّن وجود ربّ للأرض، وفي مثل ذلك لا نوقع المعارضة بين الطائفة الثانية وكلا قسمي الطائفة الأولى؛ لأنّ القسم الثاني مغلوبٌ ومحكوم لها، والمحكوم يستحيل أن يقع طرفاً في المعارضة؛ فتنحصر المعارضة في الطائفة الثانية مع القسم الأول من الطائفة الأولى، وبعد التساقط وموت الحاكم مع معارِضِه، تصل النوبة إلى القسم المحكوم، وهو هنا ما دلّ على مالكية الإمام لما لا ربّ له من الأراضي، ونحرز عدم الربّ بالاستصحاب ويثبت المقصود.
وهذا الوجه من ناحية الكبرى صحيح فنيّ، وقد طبّقناه في موارد كثيرة في الفقه، أما من حيث صغراه في المقام، فبعد إسقاط القسم الأول مع الطائفة الثانية والرجوع إلى القسم الثاني نحتاج إلى الاستصحاب كما مضى؛ فلابدّ من نفي مالكية المسلمين قبل تشريع الأنفال؛ وذلك أنّ لدينا تشريعَ الأنفال وملكيتها للإمام، كما أنّ عندنا تشريعَ مالكية المسلمين للأرض المأخوذة عنوةً، وعندنا أيضاً الفتح عنوة؛ فإنّ فرض أنّ تشريع الأنفال كان قبل مالكية المسلمين أو مقارناً معه أمكن إجراء استصحاب عدم مالكية المسلمين، أما إذا فرض أنّ ملكية المسلمين كانت قبل تشريع الأنفال فالملكية للمسلمين ثبتت ولا يمكن استصحاب عدم الملكية قبل الفتح؛ فبناءً على الاستصحاب التعليقي يُستصحب ملكية المسلمين؛ حيث إنه قبل تشريع الأنفال لو كانوا يفتحون لكانوا يملكون، وبناء على عدم الاستصحاب التعليقي يستصحب عدم ملكية المسلمين.
الوجه الثالث: إنّه بعد فرض التساقط نرجع إلى مرجع فوقاني، وهو الطائفة الرابعة التي دلّت على أنّ الأرض كلّها للإمام؛ فإنّ هذا العموم ورد عليه مخصّص، وهو دليل مالكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوةً، وهذا المخصّص ابتُلي بالمعارض في الأرض الميتة من الأراضي المفتوحة عنوةً وتساقطا حسب الفرض؛ فنرجع إلى العموم الفوقاني، وهو رواية مسمع بن عبدالملك بن سيار المعتبرة سنداً، التي مضى ذكرها، ورواية أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر %، قال: <وجدنا في كتاب عليّ % أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتقون والأرض كلّها لنا؛ فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها>([16]).
الوجه الرابع: إنه بعد فرض التساقط وعدم وجود مرجع عام فوقاني، نرجع إلى الأصول العملية فنستصحب مالكية الإمام، بناءً على أنّ تشريع مالكية الإمام كان قبل ملكية المسلمين.
حقوق المحيي في إحياء الأراضي الموات
المسألة الثانية التي نودّ الحديث عنها هنا هي: ماذا يكتسب المحيي بالإحياء؟
لا إشكال في أن المحيي يكتسب حقاً بالإحياء، بحيث تختلف علاقته بالإحياء مع الأرض عن علاقته بأرضٍ أخرى، إلا أنّ الكلام في أنّ هذا الحق هل هو عبارة عن انتقال ملكية رقبة الأرض من الإمام إلى المحيي أو أنه عبارة عن حقّ الأولوية؟ فالمحيي حينما يُقاس بغير الإمام يكون أولى بالأرض منه، ومن شؤون هذا الفرق أنه على الأول لا معنى لاستحقاق الإمام الأجرة على المحيي؛ لأنها ملكٌ للمحيي، أما على الثاني فهو يتصرّف في مال الغير فيصحّ للغير أن يضمّنه أجرةَ المنفعة.
طوائف النصوص المحدّدة لحقوق المحيي للأرض الموات
وفي مجال تحديد هذا الحق، لابد أن نتكلّم في ضوء الروايات الواردة في هذه المسألة، ويمكن تصنيفها إلى أربع طوائف:
الطائفة الأولى: الروايات التي تدلّ بصراحتها العرفية على أنّ الأرض لا تخرج بالإحياء عن كونها ملكاً للإمام، وأنّ المحيي لا يثبت له حقّ الملكية وإنما يكون له حقّ الأولوية، ونذكر لهذه الطائفة مصداقين:
1 ـ رواية أبي خالد الكابلي المتقدّمة، عن أبي جعفر %: <وجدنا في كتاب
علي % أنّ الأرض لله.. >([17]) وهي واضحة الدلالة على أنّ رقبة الأرض لا تخرج عن ملك الإمام، حيث إنّ تعبيرها يتناسب مع حكم الأجير لا المالك.
2 ـ رواية عمر بن يزيد التي رواها الشيخ الطوسي بسند معتبر، قال: <سمعت رجلاً من أهل الجبل يسأل أبا عبدالله عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها.. قال: فقال أبو عبدالله: كان أمير المؤمنين يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر الإمام فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه>([18]).
وهذه الرواية كالصريحة في أنّ الرقبة تبقى للإمام وأنّ المحيي ـ كالمستأجر ـ عليه أداء الطسق والأجرة؛ فإنّ قوله: <من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له>، وإن كان يناسب مالكية المحيي، لكنّ الجملة الثانية: <وعليه طسقها> قرينة واضحة على أنها له انتفاعاً لا ملكية، وإلا فكيف يؤخذ الطسق منه ويوطّن نفسه على أن تؤخذ منه؟! ولعلّ قول
أمير المؤمنين المشار إليه في هذه الرواية هو نفس ما أشير إليه في صحيحة الكابلي؛ حيث قال: <وجدنا في كتاب علي.. > فكأنّ الروايتين تشيران إلى مطلب واحد.
الطائفة الثانية: الروايات التي تدلّ على ثبوت حقّ للمحيي في الجملة بالمعنى الجامع المنسجم مع الملكية ومع حقّ الأولوية، من قبيل صحيحة محمد بن مسلم عن أبي
جعفر %، قال: <أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها>([19]).
الطائفة الثالثة: الروايات التي دلّت بذاتها على ثبوت الحقّ، وبإطلاقها على أنّ هذا الحق هو حقّ الملكية، كصحيحة محمد بن مسلم، قال: <سألته عن الشراء من أرض اليهود والنصارى.. وأيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروه (عملوه) فهم أحقّ بها وهي لهم>([20]).
واللام بطبعها تدلّ على الاختصاص، وإطلاق الاختصاص يدلّ على الاختصاص المطلق الذي هو الملكية.
الطائفة الرابعة: الروايات التي تدلّ على مالكية المحيي لما أحياه بالصراحة العرفية لا بالإطلاق، من قبيل صحيحة سليمان بن خالد، قال: <سألت أبا عبدالله عن الرجل يأتي الأرض الخربة ويجري أنهارَها.. ماذا عليه؟ قال: الصدقة>([21]).
ومن الواضح أنّ هذه الرواية تدلّ على نفي الخراج والطسق لا بالإطلاق ومفهوم الحصر بل بالظهور العرفي؛ لوضوح أنّ السائل حينما سأل: ماذا عليه؟ لم يكن يسأل عن الصدقة؛ فإن ثبوت الزكاة في الغلات الأربع لا إشكال فيه عنده، وإنما السؤال متّجه نحو الخراج والطسق لا لما هو الأعم منه ومن الصدقة، ففي مقام الجواب عندما يحصر ما عليه بالصدقة يكون كالصريح عرفاً في الخراج والطسق.
محاولات في حلّ تعارض روايات حقوق المحيي، وقفات نقديّة
وعندما نواجه هذه الطوائف الأربع، نرى أنّ الطائفة الثانية لا تعارض أيّ طائفة أخرى؛ لأنها تثبت جمع الحقّ الملتئم مع كل الطوائف؛ إذاً فالتعارض ـ بدواً ـ يقع بين الطائفة الأولى من جهة والطائفة الثالثة والرابعة من جهة أخرى، وتوجد حلول خمسة ـ غير الحلّ المختار ـ في علاج هذا التعارض:
المحاولة الأولى: إنّ التعارض بين الطائفة الأولى والأخيرتين تعارضٌ بين الحجّة واللاحجة؛ لأن الطائفة الأولى ساقطة عن الحجية؛ وذلك بأحد تقريبين:
التقريب الأول: إنّ سيرة المسلمين منعقدة في كلّ عصر وزمان على إحياء الأرض دون استحقاق الأجرة للإمام، وهذه السيرة قطعية إلى أيام الأئمة (؛ إذ لو كان ديدنهم قائماً على دفع الأجرة لشاع واشتهر بين أصحابهم، من قبيل سيرتهم على إعطاء الخمس في أيامهم، مع أنّه لم ينعكس ولم يُعرف عنهم ذلك؛ وبهذا يحصل الاطمئنان بوجود خلل في الطائفة الأولى؛ فتسقط عن الحجية.
والجواب: إنه إذا لوحظت سيرة العامّة فسيرتهم مبنية على الغصب والاعتداء وإنكار الولاية والإمامة رأساً، فلا يحسب لذلك حساب، وإذا لوحظت سيرة الشيعة فسيرتهم ـ خارجاً ـ وإن انعقدت على عدم إعطاء الخراج، لكنّ ذلك كما يناسب حصول الملكية كذلك يناسب افتراض أنّ الأرض باقية على ملكية الإمام، لكنه % حلّل الخراج موقّتاً على الشيعة مادام عاجزاً عن تسلّمه بالشكل المناسب، من قبيل أن يحلّ شخص داره التي يعجز عن الاستفادة منها على أصدقائه ليتصرّفوا فيها؛ فإنّ هذا لا يعني عدم بقاء رقبة الدار في ملكه.
التقريب الثاني: دعوى سقوط الطائفة الأولى عن الحجية بإعراض المشهور القائلين بالملكية عنها.
والجواب: إنّ قولهم بالملكية لعلّه لإيقاع المعارضة وتقديم المعارض الآخر لا للطعن في السند، وهذا اجتهاد منهم لا يكون حجّةً علينا، نعم حينما يعرض المشهور عن رواية صحيحة السند غير مبتلاة بالمعارض فقد يحصل للفقيه اطمئنان بكون ذلك منهم للطعن في السند؛ وحينئذٍ نلتزم بكاسرية الإعراض لهذا السند.
المحاولة الثانية: أن يقال: إنّ التعارض بينهما تعارضٌ بدوي، وليس تعارضاً حقيقيّاً؛ لأن غاية ما يدلّ عليه الطسق والخراج هو أنّ الأرض لا تزال ملكاً للإمام، فيطالب بالأجرة، والروايات الأخرى تدلّ على عدم المطالبة بالأجرة، فنحن نفترض أنّ الإمام ـ بمنصبه ـ مالكٌ للأرض الموات حتى بعد الإحياء؛ فيحقّ له المطالبة بالأرض كما يحقّ له عدم المطالبة، وروايات المطالبة كانت من قبل إمامٍ فيما روايات عدم المطالبة كانت من قبل إمامٍ آخر فلا تعارض بينهما؛ إذ من المعقول اختلاف الحال باختلاف الأزمنة والأحوال؛ فيمكن أن يطالب الإمامُ الأوّل ـ حينئذٍ ـ بالأجرة، ثم يعفو الإمام السادس عنها، نعم لو كانت الأجرة وعدمها حكمين إلهيين لزم المنافاة حتى لو كانا من قبل إمامين اثنين، أمّا إذا كان ذلك جعلاً من قبل المالك فمن المعقول اختلاف الحال من مالكٍ إلى آخر.
والجواب أولاً: إنّ جعل الأجرة من قبل أمير المؤمنين % جعلٌ ثابت إلى زمان الإمام الصادق، بقرينة نقل الصادق % له في مقام توضيح الوظيفة تجاه الأرض الموات، وبقرينة أنّ ظاهر الرواية ثبوت الحكم في تمام أيام الهدنة.
ثانياً: إنّ ظاهر الطائفة الثانية والرابعة كون الحكم حكماً إلهياً على أساس حصول الملك للمحيي، لا مجرّد عفو من قبل المالك.
المحاولة الثالثة: حمل روايات المطالبة بالأجرة على الاستحباب؛ بقرينة الروايات النافية لذلك.
والجواب: إنّ مورد هذا الجمع منحصر فيما إذا ورد حكمٌ تكليفي، من قبيل: اغتسل غسل الجمعة، وورد معه الترخيص في الترك، ولا يتم فيما إذا ورد أمر إرشادي إلى حكم وضعي من قبيل المالكية والاستحقاق، كما هي الحال في روايات دفع الخراج؛ فإنه ليس مفادها مجرّد حكم تكليفي صرف، بل ظاهرها الإرشاد إلى الحكم الوضعي بمالكية الإمام واستحقاقه؛ وحينئذ ليس هذا الجمع جمعاً عرفياً؛ لأنّ النكتة التي تقتضي في موارد الحكم التكليفي صحّة هذا الجمع غير موجودة في المقام، فإنّها أحد أمور ثلاثة باختلاف المباني في دلالة الأمر على الوجوب، وهي:
الأولى: وهي مبنية على مبنى المحقق النائيني ) من أنّ الوجوب إنما هو بحكم العقل إذا لم يرد ترخيص من قبل الشارع، وليس الوجوبُ مدلولاً للدليل اللفظي([22])؛ فعلى هذا المبنى تكون نكتة الحمل على الاستحباب واضحة جداً؛ إذ ليس ثمّة تعارض بين الدليلين اللفظيين حتى نحتاج إلى أيّ تصرّف في لسان أحدهما، وإنما الوجوب شيءٌ يحكم به العقل عند عدم ورود الترخيص، فمع وروده يرتفع موضوع حكم العقل.
الثانية: وهي مبنية على مبنى لم يستبعده الخراساني (1329هـ) صاحب الكفاية، من أنّ الوجوب إنما يستفاد من إطلاق الصيغة الدالّة على إرادة الطلب الشديد، فنكتة الحمل حينئذٍ هي تقييد المطلق بالمقيّد المنفصل([23]).
الثالثة: وهي مبنية على المبنى المشهور المنصور([24])، من أنّ الوجوب يُستفاد من الصيغة بالوضع؛ وحينئذٍ نقول: حيث إنّ انقسام الطلب إلى الوجوب والاستحباب أمرٌ مركوز في الأذهان العرفية، وكلّ من القسمين شائع في الموارد العرفية؛ لهذا ينعقد لصيغة الأمر ظهوران طوليان: ظهور أولي في الوجوب، وظهور ثانوي في الاستحباب على تقدير عدم الوجوب، فإذا أمكنه الحمل على الوجوب عمل به وإذا جاء دليلٌ ينفي الوجوب حُمل الأمر على الاستحباب، ونكتة الحمل هي الظهور الثانوي في الاستحباب.
فإذا تبيّن ذلك، فإنّ هذه النكات جميعها لا ترد هنا:
أما الأولى؛ فلأنه من الواضح أنّ الوجوب إنما كان بحكم العقل في الحكم التكليفي، أما الملكية والاستحقاق فهما حكمٌ شرعي يستفاد من اللفظ لا أمراً عقليّاً.
وأما الثانية؛ فلأنّ الملكية والاستحقاق لم يستفادا من الإطلاق، بل من نفس الأمر بأداء الخراج أمراً إرشادياً إلى ذلك.
وأما الثالثة؛ فلأنه ليس من المعروف والمركوز كون الملكية على قسمين: ملكية لزومية وملكية استحبابية، كما هي الحال في الطلب؛ فنكتة ثبوت ظهورين طوليين في الطلب التكليفي غير موجودة هنا.
نعم، يُلحق بالأوامر التكليفية في هذا الجمع بعض الأحكام الوضعية، وهي الأحكام الوضعية التي يكون انقسامها إلى الشديد والضعيف مركوزاً ومألوفاً عند العرف، كالطهارة والنجاسة؛ فإذا ورد: إغسل ثوبك من دم البق والبرغوث، وورد الترخيص بعد الغسل؛ أمكن حمل الأمر على النجاسة التنزيهية للنكتة الثالثة عينها.
وعليه، فالنتيجة المتحصّلة أنّ هذه المحاولة الثالثة في معالجة الموقف غير صحيحة أيضاً.
المحاولة الرابعة: الاعتماد على انقلاب النسبة؛ وذلك بإدخال روايات أخرى في الحساب، وهي أخبار التحليل؛ فيقال: إنّ أخبار التحليل تدلّ على تحليل مثل أجرة أراضي الأنفال للشيعة في هذا الزمان، فتعارض المجموعة الأولى من الروايات هنا، أعني الروايات الدالّة على لزوم أداء الطسق والأجرة إلى الإمام، لكنّ أخبار التحليل إنما وردت في حقّ الشيعة بالخصوص، بخلاف المجموعة الأولى ـ وهي الروايات الدالة على أنه يلزم على المحيي دفع الطسق والأجرة ـ فهي غير مخصوصة بالشيعة، بل تشمل المسلمين جميعاً؛ إذاً فالطائفة الأولى لها معارضان: أحدهما المجموعة الدالّة على نفي الخراج ـ وهي الطائفة الثالثة والرابعة ـ والآخر أخبار التحليل، وهي تختصّ بالشيعة؛ فتكون أخبار التحليل أخصّ مطلقاً من المجموعة الأولى الدالّة على ثبوت الخراج مطلقاً؛ فالشيعي يخرج من إطلاقها، وتختص تلك المجموعة بغير الشيعي؛ فتصبح أخصّ مطلقاً من المجموعة الأخرى ـ أي روايات نفي الخراج مطلقاً ـ فتخصَّص بها ويرتفع التعارض، وتكون النتيجة هي التفصيل بين الشيعي وغيره.
والجواب أولاً: إنّ هذا العلاج مبنيّ على تمامية كبرى انقلاب النسبة، كما ذهب إلى ذلك المحقّق النائيني )([25])، وأما على ما هو الصحيح من إنكار مبنى انقلاب النسبة([26])، فلا مجال لهذا العلاج، وتحقيق ذلك موكولٌ إلى علم الأصول.
ثانياً: إنّه لو سلّم بنظرية انقلاب النسبة، فإنما يتمّ ذلك عندما يكون المخصّص لأحد المتعارضين المتساويين غير معارضٍ للمعارض الآخر، أمّا إذا كان ذاك المخصّص يُخرج مورده من كلا المتعارضين بإثبات حكم ثالث له، فالنسبة تبقى على حالها كما هو واضح، فمثلاً لو ورد: يجب إكرام الشيوخ، وورد يحرم إكرام الشيوخ، ثم ورد دليلٌ ثالث يقول: لا يجب إكرام الشيوخ غير العدول؛ فهذا مورد انقلاب النسبة؛ لأنه يخصّص الدليل الأول فقط، وأما إذا كان لسان الدليل الثالث هو إثبات الكراهة لإكرام الشيوخ غير العدول، فهو يخرج الشيوخ غير العدول من كلا المتعارضين؛ فالتعارض يبقى على حاله.
وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ أخبار التحليل تعارض المجموعة الثانية أيضاً؛ لأنّ ظاهرها التحليل المالكي؛ حيث يقول: ما كان لنا فشيعتنا فيه محلّلون، وظاهر المجموعة الثانية هو التحليل الإلهي، أي نفي ملكية الإمام بعد الإحياء؛ حيث يقول: ماذا عليه؟ فيقول: عليه الصدقة.
ثالثاً: بعد فرض قبول كبرى انقلاب النسبة وغض النظر عن المناقشة الثانية، يمكن القول: إنه لو خصّصنا المجموعة الأولى وأخرجنا الشيعة منهم، لزم أن يكون عنوان المؤمنين أو المسلمين في المجموعة الأولى مخصوصاً بغير الشيعي، وهو غير ممكن؛ فإنّ إطلاق لفظ المؤمن أو المسلم وإرادة خصوص غير الشيعي ليس أمراً متعارفاً؛ فيتعامل مع هذا الخاص والعام معاملة المتعارضين.
المحاولة الخامسة: كنّا قد قسّمنا الروايات ـ وفق ما مضى ـ إلى طوائف أربع: فالأولى منها كانت تدلّ على مالكية المحيي بالصراحة العرفية، والطائفة الرابعة كانت تدلّ على مالكية الإمام بالصراحة العرفيّة، والطائفة الثالثة كانت تدلّ على مالكية المحيي بالإطلاق؛ فيقع التعارض بين الطائفة الأولى والرابعة، وتتساقطان؛ فيُرجع إلى الطائفة الثالثة؛ لأنّ المطلق يستحيل أن يعارض مقيّدَه؛ لأنه محكوم له، فبعد سقوط مقيّده مع المعارض يرجع إليه. وإن شئتم قلتم: إنّ الطائفة الثالثة بمثابة العام الفوقاني الذي يُرجع إليه بعد سقوط المخصّص مع معارضه.
وهذا البيان فنيٌّ صحيح في نفسه، لكنه موقوف على تسليم تساقط الطائفة الأولى والرابعة، أما إذا أعملنا المرجّحات وقدّمنا إحداهما، فلا تصل النوبة إلى هذه المحاولة؛ إذاً فلابدّ من الرجوع إلى المحاولة السادسة هنا، وهي التي ترى العلاج بالترجيح، فإن تمّت فبها، وإلاّ تمّت المحاولة الخامسة.
المنهج الصحيح لتجاوز أزمة اختلاف النصوص في حقوق المحيي
المحاولة السادسة: بعد استحكام التعارض بين الطائفة الأولى والطائفة الرابعة لابد من الرجوع إلى المرجّحات، ونحن نؤمن بمرجّحين في باب التعارض هما: موافقة الكتاب ومخالفة العامّة، وكلاهما يقتضي تقديم الطائفة الأولى:
أ ـ أما المرجح الثاني فواضح؛ فإنّ أهل السنّة لا يُفتون بملكية الإمام بل بملكية المحيي.
ب ـ وأما المرجّح الأوّل، فلأن الطائفة الرابعة مخالفةٌ لعموم آية: >لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ<، بناء على ما نصّ في محلّه من أنّ الاستثناء متصل وأنّ معناه: لا تأكلوا أموالكم بينكم بأيّ سبب فإنه باطل إلا أن يكون تجارةً عن تراض؛ فيدلّ على حصر سبب الأكل المحلّل فيما يكون عن تراض وتعامل بين الطرفين، ومن المعلوم أنّ أحد مصاديق الأكل إن لم يكن أبرزها هو التملّك، والطائفة الرابعة تدلّ على أن المحيي يملك الأرض ملكيّةً مجعولة من قبل الله، أي ملكية غير منوطة برضا المالك ـ وهو الإمام ـ والتعامل معه؛ فهذه الملكية داخلة في عموم النهي عن أكل المال بالباطل الوارد في الآية الشريفة فتعيّن العمل بالطائفة الأولى.
وبهذا يثبت أنّ الأرض المحياة تبقى ملكاً للإمام، نعم يثبت للمحيي حقّ الأولوية؛ وذلك ببركة الطائفة الثانية من الطوائف الأربع التي قلنا فيما سبق أنّها تفيد ثبوت الحقّ والأولوية المناسب مع الملكية ومع عدم الملكية، فإذا ضممنا الطائفة الثانية إلى الطائفة الأولى التي تمّت حجيّتها فعلاً، استنتجنا أنّ الملكيةَ للإمام، وأن هذا الحقّ المجعول في الطائفة الثانية مختلف عن الملكية، وليس هو مجرّد الإباحة المالكية، أي أنّ الإمام الذي هو المالك لا يرضى لأحد أن يتصرّف في أرضه إلا لمن أحياها، فإنّ هذا خلاف ظاهر الطائفة الثانية؛ فإنها ظاهرة في بيان حقٍّ إلهي مجعول من قبل الشارع لا مجرّد إباحة مالكية، ومعنى هذا الحق هو الاختصاص في مقابل غير الإمام، أي متى ما حصل التزاحم مع الإمام نفسه تقدّم الإمام؛ لكونه مالكاً، ومتى ما لم يكن معه ولم يمنع بل كان مع إنسان آخر تقدّم حقّ المحيي.
وطرفية الأرض لهذا الحقّ تصحّح مثل البيع والنقل والانتقال والإرث؛ فهناك إضافتان للأرض مجعلوتان من قبل الله سبحانه: إضافة ملكية بالنسبة للإمام، وإضافة حقّية في مقابل الآخرين بالنسبة للمحيي، وباعتبار الحقّ الثاني تباع الأرض وتشترى وتورّث.
وقد يأتي هذا الكلام عينه في الأرض المفتوحة عنوةً؛ ذلك أنّ الكافر حينما أحيى الأرض الميتة قبل الفتح لم يملكها وإنما ثبت له حقّ الاختصاص، فحينما فُتحت عنوةً قد يقال: إنه قام المسلمون فيها مقام الكافر فيما كان له من حقّ لا أنه تبدّل جوهر الحقّ، إذاً فالأرض باقية في ملكيتها للإمام، لكن المسلمين صار لهم حقّ الاختصاص بالأرض، وهذا إنما يتمّ بناءً على أحد مبنيين في تملّك ما يؤخذ بالسلاح مضى ذكرهما وهو القول بأنه يملك بالفتح ما كان ملكاً للكافر لا مطلق ما كان في سيطرة الكافر، ولا يبعد أن يكون الصحيح هو المبنى الآخر، أعني أنه يملك مطلق ما كان تحت سيطرة الكافر.
خلاصات واستنتاجات في مسألة حقوق المحيي
توصّلنا ـ حتى الآن ـ إلى أنّ الأرض الميتة للإمام وأنها لا تملك بالإحياء بل تبقى ملكاً للإمام، نعم يحصل للمحيي حقّ الاختصاص في مقابل غير الإمام، وانطلاقاً من هذا الحق تجري المعاوضات والإرث والوقف ونحو ذلك عليها، فإن لم يتفق المحيي المتصرّف في الأرض مع الإمام أو نائبه على أجرة معينة كان مشغول الذمّة بأجرة المثل، أمّا إذا اتفق معه أو مع نائبه عليها كان عليه أجرة المسمى، وقد خرّجنا من ذلك خصوص الشيعة انطلاقاً من أخبار التحليل؛ فليس عليهم أجرة؛ لأن المالك بذل برضاه المنفعة مجاناً، وأخبار التحليل لا تعارض روايات مالكية الإمام وثبوت الأجرة على المحيي، فإنها إنما تبيّن ما هو مقتضى القاعدة في نفسها بغضّ النظر عن بذل الإمام مجاناً.
إحياء الأرض بعد إهمالها، بين حقوق المحيي الأول والثاني
المسألة الثالثة التي نتناولها هنا هي أنّ الأرض الميتة لو أهملت، فما هو حال المحيي الثاني بعد إهمال المحيي الأوّل لها؟
والبحث هنا يقع في فرعين:
1 ـ خراب الأرض المهملة ثم ممارسة الإحياء الثاني عليها
يدور الفرع الأول حول ما إذا خربت الأرض المهملة وماتت ثم أحياها الآخر.
والحديث يدور في محورين: الأوّل استنتاج الموقف من خلال القواعد. والثاني استنتاجه عبر الروايات الخاصّة.
أ ـ مستدعيات القواعد العامّة
أمّا الحديث على صعيد المحور الأوّل، فمقتضى إطلاق الموصول في دليل: من أحيا أرضاً فهي له ـ ملكاً أو حقاً ـ هو الشمول للمحيي الثاني؛ فيثبت له الحق عينه، سواء التزمنا بأنّ حقّ الأول انقطع بالخراب وارتفاع الحياة عن الأرض أو قلنا ببقاء الحقّ إلى حين الإحياء الثاني.
وهنا يقع الكلام في أنّه هل يوجد معارض لهذا الإطلاق في الجملة نفسها أو لا؟ والذي يمكن أن يُجعل معارضاً لهذا الإطلاق هو الإطلاق الأزماني للمحمول؛ حيث يؤكّد ثبوت الحقّ للمحيي الأول حتى بعد إحياء الثاني للأرض؛ فيقع التعارض بين موضوع الإطلاق الأزماني في المحمول بلحاظ المحيي الأول، والإطلاق الأفرادي بلحاظ المحيي الثاني؛ إذ يلزم من الجمع بينهما وجود مالكين أو مستحقّين لهذه الأرض، وهو أمرٌ غير معقول؛ فلابد من تقييد أحد الإطلاقين، وحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر تساقطا، ورجعنا إلى الأصول العملية بالنحو الذي يأتي بيانه.
هذا لو بني على الإطلاق الأزماني في المحمول، أما لو قلنا: إنّ المحمول لا ينظر إلى تمام عمود الزمان حتى بعد الخراب وإحياء الآخر، بقي العموم الآخر للموضوع على حاله بلا معارض، ويثبت ـ ببركة ذلك ـ أنّ المحيي الثاني هو صاحب الأرض.
وعليه، فلابدّ من بحث هذه النقطة بالخصوص، وهي أنّه هل يثبت للمحمول إطلاق أزماني أو لا؟ في الحقيقة إنّ هذا موقوفٌ على مسألة أنّ الحياة حيثية تقييدية أو تعليلية، وبتعبير أوضح: هل إنّ الحياة عنوانٌ للموضوع أو شرطٌ للحكم؟
أ ـ فإذا كانت عنواناً للموضوع ـ أي إنّ الأرض المحياة متعلّقة للحقّ ـ زال الحكم بزوال الموضوع، من قبيل ما لو قال: أكرم العالم، ثمّ ثبت تبدّل علم العالم إلى الجهل.
ب ـ وأما إذا كانت شرطاً للحكم، فالشرط قد حصل فيبقى الحكم.
والمميّز لكون الشيء شرطاً أو عنواناً للموضوع هو أسلوب التعبير اللفظي،
نعم مناسبات الحكم والموضوع قد تصرف ما أخذ بحسب لسان اللفظ موضوعاً إلى الشرط وبالعكس؛ فتنقلب الدلالة بلحاظ المناسبات، فمثلاً لو قال المولى: إذا تفقّه زيد فخذ منه الأحكام؛ فالتفقّه وإن أخذ شرطاً لكن بمناسبات الحكم والموضوع يُجعل موضوعاً.
فإذا عرفت ذلك نقول: إنّ الحياة والإحياء جعلا في لسان الدليل هنا شرطاً، ولا توجد مناسبة ارتكازية عرفية على خلاف ذلك؛ إذاً فلابد من الأخذ بلسان الدليل فيتمّ الإطلاق الأزماني فيتعارض الإطلاق، ويصبح الكلام مجملاً؛ فنرجع إلى الأصل العملي، وهو ـ هنا ـ الاستصحاب؛ ذلك أنّ هناك استصحابان: استصحاب تنجيزي ـ وهو استصحاب بقاء ملكية المحيي الأول ـ واستحصاب تعليقي بلحاظ المحيي الثاني؛ حيث إنه لو أحيى شخصٌ هذه الأرض قبل الإحياء الأول ثبت له الحقّ؛ فتُستصحب هذه القضية الشرطية إلى ما بعد الإحياء الأول؛ فمن يبني على عدم جريان الاستصحاب التعليقي ـ كالمحقق النائيني([27]) ـ أجرى الاستصحاب الأول وثبّت ملكية المحيي الأول أو أحقّيته، أمّا من يبني على جريان الاستصحاب التعليقي في مثل المقام ـ كما هو الحقّ واختاره صاحب الكفاية([28]) ـ جرى الاستصحاب التعليقي، وقدّم حينئذ على الاستصحاب التنجيزي على ما حقّق في علم الأصول.
ب ـ معطيات الروايات الخاصّة
وأمّا الحديث على صعيد المحور الثاني، فيتمثل في وجود ثلاث روايات:
الرواية الأولى: صحيحة معاوية بن وهب، قال: <سمعت أبا عبدالله يقول: أيّما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمّرها، فإنّ عليه فيها الصدقة، فإن كانت أرضاً لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها، ثم جاء بعدُ يطلبها، فإنّ الأرض لله ولمن عمّرها>([29]).
والرواية تامة سنداً في نقل الكليني والطوسي معاً، وأما من حيث الدلالة فمحطّ الاستدلال فيها قوله: فإن كانت أرضاً لرجل..؛ وقد يُقال: إنّ جملة (الأرض لله ولمن عمّرها) مجملة؛ إذ كلا الشخصين يصدق عليه أنّه قد عمّرها، لكنّ هذا الإجمال في غير محلّه؛ إذ لا ينبغي الإشكال في أنّ المقصود منها هو الشخص الثاني؛ لعدة قرائن في الرواية:
أ ـ قوله في المقدّمة: <فإن كانت أرضاً لرجل قبله فغاب عنها وتركها وأخربها>، فإنّ ذكر كلّ هذه القيود ـ أي غاب عنها وتركها وأخربها ـ يفهم منه عرفاً التوطئة لتقبّل الحكم بانتزاع الأرض من الأوّل، وإلا فما هو الداعي للإتيان بهذه الكلمات المتعارفة التي كأنّها تبيّن تقصير الرجل الأوّل.
ب ـ قوله: <فإنّ الأرض لله>؛ إذ ما هي نكتة البدء بالله تعالى؟ إذ لو كان المقصود جعل الملكية للثاني كان الأمر في غاية الوضوح، حيث يقول: الأرض وإن كانت ملكاً للرجل الأول لكنّها ليست حقّاً ذاتياً أصليّاً له، حتى يقال: كيف تنتزع منه؟ بل هي لله، وكانت عاريةً عند الأوّل، وحيث أساء بالعارية انتُزعت منه، أما لو كان المقصود جعل الملكية للأول فلا تبقى نكتةٌ عرفية واضحة لذلك؛ فبهذه القرائن تكون الرواية كالصريحة ـ تقريباً ـ في ملكية الثاني.
الرواية الثانية: خبر أبي خالد الكابلي الذي رواه الكليني والطوسي بسند معتبر، عن أبي جعفر %: <وجدنا في كتاب علي % أنّ الأرض لله ـ إلى أن قال ـ : وله ما أكل منها.. ثم يقول: فإن تركها وأخربها فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده، فعمّرها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها؛ فليؤدّ خراجها.. >([30]).
وهي صريحة ـ أيضاً ـ في أن الأرض للثاني، أما من حيث السند فسندها إلى أبي خالد الكابلي معتبر، إنّما الإشكال في الكابلي نفسه؛ إمّا من حيث تعدّده واشتراكه بين الكابلي الذي عدّ من حواريّ السجاد % والكابلي الآخر الذي هو من أصحاب الباقرين، ولم يقم دليل على وثاقته، وكلا الكابليين يرويان عن الباقر %؛ فلا تمييز في المقام، وإمّا لعدم ثبوت وثاقة كلا الكابليين؛ انطلاقاً من أنّ الرواية التي جعلت الكابلي من الحواريين ضعيفة السند([31]).
الرواية الثالثة: معتبرة سليمان بن خالد، قال: <سألت أبا عبدالله % عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويُجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ماذا عليه؟ قال: الصدقة، قلت: فإن كان يعرف صاحبها؟ قال: فليؤدّ إليه حقّه>([32]).
وكلمة الحق هنا وإن كانت مجملةً؛ حيث لم يقل: ليؤدّ إليه أرضه، لكن باعتبار أنه لم يفرض مسبقاً في الكلام حقّ له غير الأرض، ينصرف الحقّ إليها، وإنما عبّر عن الأرض بالحقّ؛ لأن اللازم هو الأعم من إعطاء عين الأرض أو أجرتها بالتراضي؛ فالحقّ يؤدّى بكلا هذين الشكلين؛ فهذه الرواية معارضة للروايتين السابقتين.
أمّا سند هذه الرواية فمعتبر، وإن ادّعي ضعفُها من قبل بعضهم ـ كالمحقق الإصفهاني([33]) ـ ولعلّه باعتبار سليمان بن خالد الذي لم يصرّح بوثاقته في كلمات الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي، ولكن مع ذلك الحقُّ وثاقته:
أ ـ لرواية بعض الثلاثة عنه، مثل صفوان وابن أبي عمير.
ب ـ ولأنه لا يبعد استفادة وثاقته من بعض كلمات النجاشي والكشي؛ فقد نقل الكشي عن حمدويه، عن أيوب بن نوح بن دراج، ما يستشعر منه وثاقته([34])، وحتى لو فرض عدم وثاقته لم يضرّنا ذلك؛ لأنّ الرواية منقولة بسند آخر معتبر، وهو سند الشيخ الطوسي عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن الحلبي؛ وكأنّ المستشكلين في السند لم يلتفتوا إلى هذا السند.
والنتيجة أنّ هناك تعارضاً بين روايات الباب؛ فهل يمكن علاج هذا التعارض أو أنّه مستحكم يبلغ حدّ التساقط؟
محاولات للتوفيق بين النصوص في حقوق المحيي الأوّل والثاني
ويمكن ذكر محاولات علاجية عدّة منها:
المحاولة الأولى: إنّ الرواية الثالثة والأولى مطلقتان من حيث كون المالك الأول مالكاً بالشراء أو بالإحياء، فيما الرواية الثانية مختصّة بما إذا كان مالكاً بالإحياء؛ فتخصّص بها الثالثة، ثم تخصّص بالثالثة الأولى بناءً على انقلاب النسبة.
والجواب: إنّ هذا الكلام يتمّ إذا تمّت شروطٌ أربعة:
أ ـ تمامية كبرى انقلاب النسبة.
ب ـ تماميّة سند رواية الكابلي.
ج ـ عدم تمامية وجه آخر للعلاج حاكم على هذ الوجه، كما سيأتي من دعوى أنّ العرف لا يقبل فرض كون حقّ المشتري أشدّ من حقّ المحيي نفسه، وعلى الأقل الشروط الثلاثة الأولى مفقودة هنا.
د ـ إنّه لو أريد التخصيص بالشراء من الإمام فهذا تخصيص بالفرد النادر وليس جمعاً عرفياً، ولو أريد التخصيص بالشراء من المحيي فهذا معناه أنّ المشتري مع أنّ حقّه في طول حقّ المحيي لا يسقط حقّه لو خربت الأرض، فيما يسقط حقّ المحيي لو خربت؛ فلو ادّعي وجود ارتكاز عرفي يمنع عن أشدّية حق الفرع عن حقّ الأصل هنا كان ذلك مبطلاً لهذا الوجه من الجمع.
المحاولة الثانية: أن نطبّق مباني انقلاب النسبة بوجهٍ آخر؛ وذلك بأن يقال: إنّ
رواية الكابلي مختصّة بما إذا ماتت الأرض؛ وذلك بقرينة قوله: <فعمرها وأحياها>، فبذكر الإحياء نعرف أنّ الأرض الخربة كانت قد ماتت فأحييت مرّةً أخرى، أما
رواية سليمان بن خالد فلم يُفرض فيها إحياء الأرض الخربة، وإنما قال: إذا استخرجها وأجرى أنهارها وزرعها و.. وهذه العبارة كما تناسب الإحياء، كما لو فرض أنّ الأرض خربت بنحوٍ أصبحت ميتةً، تناسب ـ أيضاً ـ افتراض أنّ الأرض لم تكن ميتةً، بمعنى
زوال الماء عنها نهائياً، وإنما كانت أنهارها واقفةً، وكانت خربةً في مقابل كونها مزروعة؛ فهذه الرواية تشمل ـ بإطلاقها ـ الخربة في مقابل الميتة والخربة في مقابل المزروعة، فحيث كانت رواية الكابلي مختصّة بالخربة في مقابل الميتة؛ فتخصّص رواية سليمان بن خالد بها، وبعد التخصيص تُصبح أخصّ من الرواية الأولى والتي هي أيضاً مطلقة،
تشمل الخراب بكلا القسمين؛ فتخصّص الرواية الأولى بالرواية الثالثة، ونستنتج من
ذلك التفصيل بينما لو جاء الثاني فأحياها فيملك وما لو لم تكن ميتة وإنّما عمّرها
فلا يملك.
والجواب: إنّ هذا الحلّ غير تام؛ لأسباب، منها: عدم تمامية كبرى انقلاب النسبة، وعدم تمامية سند رواية الكابلي، وغير ذلك.
المحاولة الثالثة: وتقوم على ما هو الصحيح من عدم تمامية كبرى انقلاب النسبة، فإنّ الرواية الأولى والثالثة متعارضتان بالتباين، ورواية الكابلي أخصّ منهما؛ إما لأنّ موردها ما إذا ملك الأوّلُ الأرضَ بالإحياء لا بالشراء، أو لكونه خاصّاً بحالة ما إذا ماتت الأرض وأحياها الثاني، وباعتبار أخصّيّتها لا معنى لمعارضتها رواية سليمان وتساقطها معها، بل رواية سليمان ورواية معاوية بن وهب تتساقطان، ونرجع إلى رواية الكابلي، وفي غير مورد رواية الكابلي نرجع إلى مقتضى القاعدة التي أسّسناها سابقاً.
والجواب: إنّ هذا العلاج ضعيف؛ لأسباب عدّة، منها: ضعف سند رواية الكابلي؛ فلو سقطت الروايتان لم نرجع إليها، بل رجعنا في تمام الموارد إلى مقتضى القاعدة.
المحاولة الرابعة: إنّ رواية الكابلي ومعاوية بن وهب نصٌّ في أنّ الأرض لا تنزع من الثاني وتعطى إلى الأول، وظاهرٌ في أنّ الأول ليس له حق أصلاً، أمّا رواية سليمان فهي نصٌّ في ثبوت حقّ للأول، وظاهرٌ في أنّ حقّه متعلّق بنزع الأرض من الثاني وإعطائها له؛ فنرفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر؛ ونستنتج أنّ الأرض تبقى في يد الثاني وتعطى الأجرة للأوّل، فالأرض للثاني انتفاعاً وللأول ماليةً وأجرةً وملكاً.
والجواب: ليس كلّ تأويلٍ لظهور بلحاظ النص يكون جمعاً عرفياً؛ ففي مثل دليلين متعارضين بالظهور يمكن إرجاع كلّ من الظهورين بالتحليل إلى دلالتين يكون مثل هذا الجمع رهيناً بتقبّل العرف له، والعرف لا يقبل مثل ذلك؛ لكونه مبنيّاً على التحليل؛ فليس الدليلان بنحو يذهب العرف ـ بمجرّد أن يراهما ـ إلى هذا الجمع من دون تحيّر.
المحاولة الخامسة: وهي المحاولة الصحيحة، وتقوم على أنّ رواية معاوية والكابلي موردهما إعراض الأول عن إعمار الأرض؛ بقرينة قوله: <تركها وأخرجها>، لا إعراضه عن ذات الأرض، أمّا رواية سليمان فمطلقة تشمل ما إذا كان خراب الأرض بنفسها أو بتركها والإعراض عن إعمارها؛ فتخصّص بالروايتين الأوليين، وتكون النتيجة هي التفصيل بين ما إذا أهمل الأولُ الأرضَ وخربت فتكون ـ أي الأرض ـ للثاني، وما إذا خربت بعارضٍ من دون إعراضٍ عن إعمارها فتكون ـ أي الأرض ـ للأول.
2 ـ إهمال الأرض مع عدم موتها
لو أهمل الأرض بمعنى أنه لم يزرعها لكنّها لم تمت، فالحكم هو ما تقدّم في الفرع الأوّل، مع اختلاف عنه في بضع نقاط، أهمّها ورود رواية خاصّة في هذا الفرع، وهي رواية يونس، عن العبد الصالح %، قال: قال: <إنّ الأرض لله تعالى جعلها وقفاً على عباده؛ فمن عطّل أرضاً ثلاث سنين متوالية لغير ما علّة أخذت من يده ودُفعت إلى غيره، ومن ترك مطالبة حقّ له عشر سنين فلا حقّ له>([35]).
وفي هذه الرواية وإن فرض أنّ الأرض تؤخذ منه، أي أنّ وليّ الأمر يأخذها منه، إلا أنّ هذا دليلٌ على أنّ حقّ الأول كان قد سقط بالإهمال؛ فيجوز لوليّ الأمر أخذها منه، إلا أنّ الرواية ضعيفة السند.
وبهذا يتمّ ما أردنا بيانه من مباحث في مسألة إحياء الأرض الموات.
* * *
الهوامش
([1]) انظر: الطوسي، الخلاف 3: 525؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء (ط ق) 2: 400؛ والسبزواري، كفاية الأحكام 2: 544 (نفي الخلاف)، والأنصاري، كتاب الخمس: 349 ـ 350 و..
([2]) وسائل الشيعة 9: 529 ـ 530، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب الأول، ح 17.
([3]) المصدر نفسه 9: 523، ح 1.
([4]) المصدر نفسه، الأحاديث : 8، 10، 12 و..
([5]) المصدر نفسه: 524، ح 4.
([6]) المصدر نفسه: 534، ح 32.
([7]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 15 ـ 16.
([8]) وسائل الشيعة 9: 524، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب الأول، ح 4.
([9]) المصدر نفسه: 531 ـ 532، ح 20.
([10]) المصدر نفسه: 533، ح 28.
([11]) الصدر، بحوث في علم الأصول 3: 308 ـ 326.
([12]) وسائل الشيعة 9: 548، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب الرابع، ح 12.
([13]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 16.
([14]) السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل 7: 549 ـ 550، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدّرسين، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1415هـ .
([15]) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 844.
([16]) وسائل الشيعة 25: 414 ـ 415، كتاب إحياء الموات، الباب الثالث، ح 2.
([17]) المصدر نفسه.
([18]) المصدر نفسه 9: 549، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب الرابع، ح 13.
([19]) المصدر نفسه 25: 411 ـ 412، كتاب إحياء الموات، الباب الأول، ح 3.
([20]) المصدر نفسه 25: 411، ح 1.
([21]) المصدر نفسه 25: 415، كتاب إحياء الموات، الباب الثالث، ح 3.
([22]) النائيني، فوائد الأصول 1: 136 ـ 137، بقلم: محمد علي الكاظمي الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، 1404هـ.
([23]) ذكر صاحب الكفاية صيغةً للتمسّك بمقدمات الحكمة لإثبات الظهور في الوجوب من الصيغة الأمرية، لكنه كان في صدد بحث تنـزلي؛ لأنه يقول بوضعها للوجوب نظراً لاستناده إلى التبادر، فانظر له: كفاية الأصول: 92 ـ 94. نعم المعروف أن المحقق العراقي هو من استند للإطلاق لاستفادة الوجوب بمقدمات الحكمة، فانظر له: مقالات الأصول 1: 208، 244؛ ونهاية الأفكار 1: 160 ـ 163، 179 ـ 180.
([24]) الصدر، بحوث في علم الأصول 2: 18 ـ 24.
([25]) النائيني، فوائد الأصول 4: 740 ـ 748.
([26]) الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 288 ـ 312، ومباحث الأصول ق 2، ج 5: 660 ـ 682.
([27]) النائيني، فوائد الأصول 4: 458 ـ 477.
([28]) الخراساني، كفاية الأصول: 467 ـ 469، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، إيران، الطبعة الثالثة، 1415 هـ؛ ومحمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 6: 280 ـ 294؛ ومباحث الأصول ق 2، ج 5: 386 ـ 420.
([29]) وسائل الشيعة 25: 414، كتاب إحياء الموات، الباب الثالث، ح 1.
([30]) المصدر نفسه، ح 2.
([31]) انظر حول الكابلي ـ لمزيد من الاطلاع ـ: الخوئي، معجم رجال الحديث 15: 133 ـ 137؛ رقم: 9779، و20: 210، رقم 13166 ـ 13167؛ و20: 241، رقم: 13245، و22: 151 ـ 153، رقم: 14240 ـ14241.
([32]) وسائل الشيعة 25: 415، كتاب إحياء الموات، الباب الثالث، ح 3.
([33]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 32، نعم ذهب إلى انجبار الضعف بعمل القدماء.
([34]) راجع: الخوئي، معجم رجال الحديث 9: 255 ـ 265، رقم: 5440.
([35]) وسائل الشيعة 25: 434، كتاب إحياء الموات، الباب 17، ح 1.