إنتاج المعرفة في الفكر الديني
مَنهجَة الانسداد أو انسداد المنهج
نجف علي الميرزائي*
إنّ استمداد الفكرِ الديني من مصادرَ معرفيةٍ متعالية مثلَ الوحي والسنّةِ من جهة، وانفتاحَه الّلامحدودَ علی حقيقة العقلِ المسدَّدِ من جهة ثانية، واحترامه الشديد للتجارب المعرفية الوضعيةِ من جهة أخرى، يضفي علی النظرياتِ الإسلامية طاقاتٍ، وإمكانيّاتٍ، واحتمالاتِ المرونة والتطبيقِ ما يفوقُ التصوّرَ الأوّليَّ للباحثِ الموضوعي.
ولولا مشكلة إساءةِ التعاملِ مع هذه القدراتِ الكامنة في عمقِ المصادر المعرفيّة الإسلاميةِ ذاتِ القيم العاليةِ حين ممارسةِ عملية الاجتهاد، ما واجهتِ الأمّةُ الإسلاميةُ خطّاً عريضاً من التخلّف وواقعاً مُؤلماً جديراً بالحزن والأسف! يمتدُّ من كلّ جهةٍ إلی أقصاها. ورغمَ أنّنا لسنا بصددِ تحديد حجمِ الدَّمار الثقافي والانهيارات التربويةِ والاجتماعية بخاصةٍ، إلاّ أنّ الأوضاعَ الإسلاميةَ داخلَ الوطنِ العربي وغير العربي الصارخةَ بالتداعياتِ الخطيرةِ وصلت إلی درجةٍ من خطورة السُّقوط واحتمالِ التلاشي في نواحٍ غير سياسية أيضاً؛ بحيث يشعر الضّميرُ المسلمُ بالجُرحِ ويَحُسّ الوجدانُ بالنَّزيفِ. وإنّ بقاءَ الظّروفِ الحالية واستمرارَ الوضعِ الموجود يُنذرُ بتفاقمٍ أكثر وبتعقيدِ الحُلول وبدائلِ الخروج.
بحثاً عن الحلول … المنهاج أوّلاً
وسطَ زحمةِ المساعي المبذولةِ لأجلِ البحثِ عن الحلِّ وصياغةِ نظرياتٍ للتنظير ونظرياتٍ للممارسةِ والتطبيقِ، ما يُقلقُ المرءَ هو تضاؤلُ الاهتمامِ بتأصيلِ المعرفة والعقلِ المسلمِ أوّلاً، ثمّ ضعفُ الجهودِ العلميّةِ الراميةِ إلی ترشيدِ المنهجيّةِ في ذلك ثانياً؛ لأنّ ما نشهده اليومَ مِن تحرّكات علمية نشاطات فكرية يغلبُ عليها طابعُ العاطفة والصُّراخِ حيناً، وحالةُ الانفعالِ بالآخر وتجاهلِ الذّات والهويةِ حيناً آخر. نلحظ في وقت ثالثٍ أنّ توجهاتٍ اجتهادية إسلامية في حين تذوب في تفاصيل المعلومات الإسلامية وبخاصة التاريخية منها يَغيبُ عن بالها فهمٌ للمنهج المعرفي الذي هو سابق علی المعرفة ذاتها والتفاعلات الداخلية فيها هي مصدر تحوّل المعرفة.
ومع أنّ الأوضاعَ الصعبة حرجة وأنّ الاعتقادَ بضرورةِ كونِ الحلولِ تَتَّسِمُ بالشموليةِ والاستيعابِ هو الصحيحُ، وأنَّ تكوينَ جبهةٍ علميةٍ تَحظی بوعي الواقعِ وبوعي الأصالة من كلّ ناحية، هي وحدها تَفتحُ للانطلاق نحوَ الانفراجِ طريقاً، غيرَ أنّ المسعى المنهاجي وترشيدَ وعَقلنة العلاقةِ بينَ طرقِ تصنيعِ المعرفةِ وإنتاج النظريةِ الفكريّةِ يعتبر في رأينا البابَ الأوسعَ للنهوض والسّبيلَ الأرحب المفضي إلی التحوّلات الاجتماعيّةِ الإيجابية الشاملة داخل الأمّة الإسلامية من ناحيةٍ أخری؛ فإنَّ صعوبةَ العملِ المنهجي علی الصّعيدِ المعرفي وتحوّلَ «إشكالية المعرفة» إلی «إشكالية المنهج المعرفي» تتزايدُ حيث نَلحظُ أنَّ الاهتمامَ الكثيفَ بالمنهجية في الحضارة الغربيّةِ مع كلّ الإيجابياتِ فيها وما نشأ عنها من نهضةٍ شِبه طفرويةٍ علی أكثر من صعيدٍ، وأنّ التّحولاتِ المتسارعةِ في القرنين الماضيَينِ هي جزءٌ لا ينفصل عن الانقلابِ المنهجي وهي نتيجِةُ الاعتمادِ علی مَسار معرفي جديدٍ.. إلاّ أنّ تلك القواعدَ العلميَّةَ الحاسمةَ في ميدانِ الطبيعةِ قد فَشِلت فشلاً ذريعاً عند تطبيقها كمنهجيةِ بحثٍ في دراسةِ الإنسانِ وفتح الطريق أمامه للوصول إلی تنظيم اجتماعي يدعم سعادته بالمعنی الشموليّ. وبالأحرى؛ أنّها قد فجَّرت طاقاتِ الطبيعةِ ونَمَّت إمكانياتِ المُتعةِ الطبيعيةِ في الإنسانِ وساعَدَت علی اكتشافٍ هائلٍ للعلاقاتِ والمعادلاتِ والقوانينِ التي تخضع لها الطبيعةُ، ولكنّها قد بانت نقطةُ عجزها وظهرَ ارتباكها عندما حاولَ أصحابُها عبثاً تعميمَها من المجال الطبيعي إلی المجال الاجتماعي _ الإنساني.
وإنّ الاضطراباتِ الحاصلةَ إثرَ هذا الارتباك التطبيقي لها لأجل خدمةِ قضية الإنسانِ هي جوهرُ التوجهاتِ الحداثويةِ ومن ثمّ «ما بعد الحداثة»؛ لأنَّ الحداثةَ وإن كانت قد قدّمت للحياةِ شيئاً كثيراً، وأنها قد حصلت بفعل تحوّلٍ جذري علی مسارِ تصنيع المعرفةِ وتوليدِها دونَ عائقٍ _ بَيدَ أنّ مِن ثمارها الخافيةِ أيضاً تصنيعَ الإنسانِ بل تشييئَه وتأليتَه (تحويله إلى آلة)؛ وكلُّ ذلك تحتَ غطاء جاهل من الألوهيّة تارةً والحرّيةِ أو الليبراليّةٍ الشاملةِ! أخری. وأمّا الحقيقةُ فهي تَصرخُ اليومَ بأنّه قد خَسرَ الإنسانُ إنسانيَّتهُ في ظلّ الحركات التنمويةِ الأحاديّةِ الجانبِ! وإن تطوّرت النزعةُ الطبيعيّةُ، فالصِّناعةُ، فالاجتماعُ.
وهنا تكمن صعوبةُ الترشيدِ المنهاجيِّ؛ ذلك أنّنا لا نتحدث عن عالَم معرفي لا منهجَ فيه، أو لا اهتمامَ بالمنهجية فيه، وإنّما نحكى عن واقعٍ إنساني مأزومٍ وَقَع طرفٌ (الحضارة الغربية) في فخِّ المنهجية المنقوصة وهي التي جاءت لتكونَ المنقذةَ للإنسانِ صارت بُؤرة للأزمات، ووقع آخر (العالم الإسلامي أو الثالثُ عموماً) في إشكاليةِ تجاهلِ «المنهج المعرفي» والتركيزِ الزائدِ علی ترديد المعرفةِ ونَقلها من جيلٍ إلی آخر مع أقلّ قدرٍ ممكنٍ مِن التّحويل الجوهري وكذلك اختصارِ دور العالِم الإسلامي فيه في حفظِها ونقلِها وشرحِها وتفسيرِها الحسنِ في أحسن الحالاتِ دونَ الالتفاتِ إلی وجوب فهمِ شبكةِ علاقاتٍ واسعةٍ بين مقوِّماتِ المعرفةِ، ومصادرِها، وقِيَمِها، وتفاعُلِها المتحتِّمِ مع الداخل أو مع أطراف الحياة ومصيرِ الإنسان الواقعي (وليسَ الإنسان أو الاجتماع التاريخي).
مساعي التصحيحِ لمسارِ المنهجيةِ
ثِقلُ المسؤوليّةِ والالتزامِ، علی عاتق الجيل الواعي من علماء ومفكّرى العالم الإسلامي هو نتيجةٌ لِما يجب أن يتحقَّقَ بيدهم من إعادةِ فهم وصياغةِ قواعدَ عامّةٍ وقوانينَ كلّيّةٍ تسودُ حركةَ تكوّنِ المعرفةِ الدينيّةِ من جهة، وتقويمِ ما هو الحاصلُ في المنهجيَّةِ المعرفيَّةِ الغربيةِ من انحرافٍ، والسعي لإعطائها ما يُقدِرها على معالجة قضايا الإنسان، وإفساحِ المجال للعلومِ غير التّطبيقيَّةِ وغير التجريبيّةِ لِتُسهمَ في صياغة المناهجِ (الصانعة بمجموعها للحضارة القادمة) بقوّةٍ من جهة ثانية.
من المؤكّد أنّ أنماط المنهجيّةِ المعرفيةِ الغربيّة يَنقصها الحضورُ الإنساني العاقلُ أَوَّلاً لكي يَخرجَ الإنسانُ ودورُه فيها من نطاق «الشيئيّة» و«الآليّة» غيرِ العاقلةِ والخاضعةِ للطبيعةِ الداخلية والخارجية، ويتسّمَ بإمكانيات التّلقّي للمعرفةِ من مصادرَ مقدّسةٍ لها، وينقصها أيضاً الحضورُ المعرفي الرباني الفاعل من خلالِ إطاعةِ الإنسانِ العابدةِ للوحي والشّريعة المعزِّزانِ للوعي والرّشدِ والعقلِ، والموجبانِ لتنميةٍ وجوديّةٍ شاملةٍ في الإنسانِ علی صعيدِ العقل والقلبِ والسلوك معاً. وإنَّ علاقةَ الوحي والعقلِ والحواسّ في فهم منهجي إسلامي، هي علاقةٌ تكامليّةٌ، تَخِفُّ الحالةُ الجدليةُ فيها، ويتعزَّزُ العاملُ التكاملي بين أطرافها.
وإنَّ المعرفةَ الوحيانيّةَ علی نقيضٍ مع الحالةِ التخديريَّةِ الكامنةِ في عمقِ المنهجيّةِ الغربيّةِ المعرفيّةِ لجانبٍ من الوجودِ الإنساني، تتسّمُ بِقدراتِ التنشيطِ وطاقاتِ التحريك لإدراكه (عقلاً وقلباً)، وتُسبِّبُ وقوعَ تحوّلاتٍ بنّاءةٍ هائلةٍ علی الصعيد العقلي حيناً وعلی الناحيةِ الإيمانية القلبيّةِ المشاعريّةِ حيناً آخر.
لأنّ الإنسانَ في منهاجِ الوحي هو كائنٌ علی «الأرض» فيجب أن يتعامل مع الحياة المادّيةِ بإيجابيةٍ وَيتفاعلَ مع قوانين الطبيعة والحالة السُّننيَّةِ بتسالمٍ وتصالحٍ تامٍّ، وفي الوقت نفسه عليه أن يُحسِنَ العلاقةَ مع فاطر السمواتِ وخالقِ الكون كلِّه، علاقةَ كائنٍ برقيبٍ له وسميع وبصيرٍ ومحاسبِه ومعاقِبه أو مُثيبِه، علاقةً ثنائيةً دقيقةً تتجلى في إقامةِ صلوةٍ وإيتاءِ زكاةٍ، لَها عمودٌ نحوَ السَّماء وأفقٌ علی الأرض، مع الذّاتِ والإنسانِ والطبيعةِ. والناتجُ عن تلازمٍ مِثلَ هذا بينَ الغيبِ والشهودِ، هو تطوّرٌ في غيب الحياة أي المتعلّقِ بالجانبِ الروحي غيرِ المشهودِ وتنميةٌ لِشهوده الطبيعي.
ولا شك في أنَّ الخلل في هذه العناصر يُؤدّي إلی الخلل في الفهمِ والعقلِ والمعرفة، وأنَّ تجاهلَ الغيبِ وما يحتويه من إمكانياتِ التطوير وقدراتِ التنشيط، أو تجاهلَ الشهودِ وما يَتضمنُّه من تحديدِ المسار التكليفىّ للإنسان في علاقاته مع الحياة المشهودة، لا يسمحُ لِبناء التوازنِ وصياغةِ الحضارة التي هي بمثابةِ مَجلی تَحقّقِ الذات الإنسانية الواسعة والممتدةِ إلی الأسمى والأعلی.
المنهجيةُ المعرفية في الإسلام وإشكاليةُ المرجعيةِ
جاء في حديثٍ صحيحٍ عن الإمام جعفر الصادق(ع):
«العقلُ دليلُ المؤمنِ»(1)
وعن أبيه عليهما السلامُ:
«لَمّا خلقَ اللهُ العقلَ، قالَ له: أقبِل فأقبَلَ. ثمّ قال لَه أدبِر فأدبَرَ.
فقالَ: وعزتي وجَلالي ما خلقتُ خلقاً أحسنَ مِنكَ. إيّاكَ آمُرُ وإيّاكَ أَنهى وإيّاكَ أُثيبُ وإيّاكَ أعاقبُ»(2).
حينما نتحدّثُ عن المرجعيّةِ للعقل في النّصوصِ الشرعيّةِ، لا نقصد من ذلك اعتبارَها مُقوّمَ المعرفة أو صانعها الوحيدَ، وإنّما نريدُ القولَ: إنّ القناعةَ العقليةَ أو الإيمانَ العقلي هو السبيلُ الوحيد لتصويبِ محاسبة ومسائلةِ الإنسانِ في الداخل ومن الخارج. وبدون الاعتقادِ بوجود قدرةٍ باطنيةٍ في الإنسان علی التمييزِ والتحديدِ كمرجعيةٍ للتصحيحِ والتخطئةِ يَصعبُ فرض حكمٍ من الخارج غيرِ مدعومٍ بتأييدِ الذات.
أو بعبارةٍ أخری؛ فإنّ العقلَ داخلَ المنظومة المنهجيةِ للمصادر المعرفيةِ يُشكّلُ العصبَ والمحورَ، تدورُ حولهمداراتُ العلاقةِ والتعاملِ بين الإنسانِ وربِّه أو حتی بينه وبين ضميره الحي ووجدانِه الحسّاسِ، لأنَّ الخطابَ الشرعي ومداليلَ النصوصِ الدينيَّةِ الإسلاميّةِ، لا يتضاربُ مع فهمِ وتشخيصِ وتحديدِ العقل للأُطُرِ. ولا تتباينُ الدعوةُ الوحيانيّةُ للإنسان إلی أمر مع التوصيات العقلية له به. وإنّ جزءاً كبيراً من إشكاليّة هذه العلاقةِ يَسهلُ فهمُهُ من خلالِ اعتبارها علاقةَ تكاملٍ وتذكيرٍ؛ حيثُ إنَّ الخطابَ الشرعي لا يمثل فرضاً علی الإدراك العقلي، وإنّما هو مُذكّرٌ ومُنبّهٌ له وهو؛ أي الوحي، يعطي للعقل الإنساني حالةً من اليقظةِ والانتباهِ والحيويةِ والنشاطِ. ومن المؤكَّدِ أنّ الأحكام التقبيحيَّةِ أو التحسينيّةِ في لغة الشارع تتّسم بطابع التنبيهِ والتأكيد لا التأسيسِ والإيجاد لها.
من هنا، يمكنُ عرضُ إشكاليةِ صياغةِ خطابٍ ديني يعتمدُ علی عقليةٍ في فهم الدين مضمونُها الدعوةُ إلی إسكاتِ العقلِ وإضعافِهِ أو استضعافِه بحجَّة مرجعيَّةِ النّص الشرعي! والحقيقةُ الأكثرُ أهميةً هي أنّ تصوَّرَ الانفصالِ والاستقلالِ خاطئ ومُضرٌّ بفاعليتهما وحياتهما.
وأمّا المآلُ فهو يُحسَمُ وفقاً للتعامل الإنساني مع عقله، ومن الضروري إعادةُ الاعتبارِ والمكانة التي يستحقّها العقلُ ضمن آلياتِ المنهج لإنهاءِ الأوهام الجدلية بين العقل ولغة الشارع. ومما يزيد الأسفَ ويوجبُ الحزنَ هو: أنّ النّاس أنفسهم يمنعون الإنسان حقاً قد منحه الله عز وجلّ بذريعة الخوف علی الشريعة والدين.
والداعي إلی حث صنّاع التنظيرات المنهاجية لدينا علی ذلك لم يكن الإشفاق علی العقل وإنّما الضرورة الواقعية في الموائمة بين العقل والشرع، وكذلك فتح مدخل جادّ وواسع إلی صياغة نظرياتٍ إسلاميةٍ تقبلُ التشميلَ والتطبيقَ علی المستوی العالمي دعتنا إلی ذلك.
كما أنّ اعتبار العقل والفطرة كأساس لحركة البناء الإنساني الشامل يعدّ إرساءً للقاعدة المشتركة بين الأمم والثقافات والمذاهب؛ لأنّ النّاس هم علی اختلاف كبير في أعرافهم وآدابهم إلاّ أنهم علی وئام ووفاق كبير جداً في طبيعة أحكامهم وتصوّراتهم العقلية والفطرية. وهنا لا بدّ من طرح سؤال هامّ وهو:
إن كان العقل في الخطاب المنهجي السائد علی عمليات صناعة المعرفة الدينية في الهامش فما الفرق بين أن يصبح الإنسان آلة وشيئاً عليه أن يخضع لرسائل خارجية غير مفهومة عقلاً ومرغوب فيها غريزةً أو طبيعة (في المنهجية الليبرالية للمعرفة والتي تعتمد علی الحسّ والشهود والتجربة وحدها) وبين أن يقع العقل الإنساني ضحيّة الغيرة العلمائية دفاعاً عن شريعةٍ هي أوّل المبادرين إلی إقرار العقل كمعيار للعقاب والثواب علی الإطلاق؟!
أليس المآل هو أمراً واحداً، إلغاء فاعلية العقل والشطب علی الفطرة الواعية؟
المنهجيّةُ وبناءُ المفاهيم … التحيُّزُ والحيادُ
رَغمَ أنَّ السؤالَ عن مدی إمكانية اعتبار المنهجِ ثابتاً أو مُحايداً، يبدو سؤالاً في غير محلّه لِشدَّةِ وضوح أنَّ المنهجَ هو مَصوغٌ ومصنوعُ فكرٍ وعقلٍ إلي حدّ كبير ولأنّ المنهجيةَ هي عنوانُ عمليات تحوّلٍ وطريقُ تكوّنِ مفرداتٍ إلی معرفة، غيرَ أنّ واقعاً نلحظُهُ أمامنا شاخصاً يدلنّا علی وجود تصوّراتٍ أو تصديقاتٍ بالمهنجية المعرفية للبحث باعتبارها الطريق الوحيد، الذي لا يقبل التعدد والتحوّل وفقاً لمعطيات الداخل. وأظنّ أنه لا حاجة إلی تذكير القارئ الكريم بالّذين يدعون إلى تبعيّة منهجية خاصة دعوةً مطلَقةً توحي بوجودِ قناعةٍ لديهم في أنها قد وُلِدت وكبرت ونَضجت، فلا حيلةَ لنا معها إلاّ تطبيقها وترجمتها في كلّ ظرفٍ حضاري، بل هي السبيلُ الوحيدُ لتجسيدِ الحضارةِ!
إلاّ أنّ الحقيقةَ تُقرُّ بغير ذلك وأنَّ المفاهيمَ الأساسيةَ هي التي تُكوّن المهنجيةَ وأنّ التحوّلَ علی أُطُر هذه المفاهيم سَينعكسُ علی الأولی بالطبع. ومن هنا، يمكن التحقّقُ من أنّ قِوام أي عملٍ منهاجي هو التأصيل المفاهيمي. ومن جهة أخرى، فإنّ تفاعلَ المنهجية مع الواقع المعرفي أو الحياتي هو متأثّر في طبيعته بالأصول الدقيقة من المفاهيم التي تُبنی عليها اللبنة المنهجيةِ وأساسها وأنّ منظومةً متنوّعةً من المفاهيم المرجعية والمؤَصَّلة هي بمثابة الرابط والناظم لحلقات المنهج وطبيعة العلاقات الارتباطية بينها؛ بحيث تمنعها من أن تتخذَ عمليةُ التكامل المنهجي مسار الفكر الغربي نفسه مثلاً.
«و إنّ بناء هذه المفاهيم الإسلامية هو ضرورةٌ مهنجيةٌ علی المستوى النظري والحركي في آن واحد» وترجع هذه الضرورة إلی كون المنهج في جوهره مجموعةً من مفاهيم يوظّفها الباحثُ في معالجة موضوعه ويستعين بها علی تتبعه وتحليله وتفسيره بل وتقويمه، الأمر الذي يعني أنّ أي خطأ أو غموضٍ أو خللٍ في هذه المفاهيم، فهمها وتبيينها، من شأنها التأثير في شبكة العلاقات المنتجة للمنهج والذي بدوره سيكوّن المعرفة. وأَخيراً سينعكس الأمر سلباً علی قيمة الناتج المعرفي إثرَ تطبيق المنهج.
فاللازم علی المعني بصياغة المنهجية أو المطبّق لها أن يقوم بذلك وفقاً لأسس واعتبارات مفهومية متأصّلةٌ ومتآلفة مع قيم الذات.
المنهجية وإشكاليات الرؤية التفكيكية والتخصّصيّة
مع أن درجة الخصوبة وقابلية التوليد والإنتاج في الفكر الديني عالية جداً وأنّ سِمات هذا الفكر هي تُحفِّز علی التحديث والتجديد أكثر من أي حقل علمي آخر، بيد أنّ الخلل في المنهج التعاملي بين العناصر الداخلية، ووجود حالة تفكّكٍ في علاقتها بعضها ببعض يمنع المعرفةَ من أن تتزايدَ وتتوالدَ أو يعيق الفكرَ من أن يتجدّد ويَغزر. والسبب في ذلك بنظرنا عائدٌ إلی الالتزام الشديد بالدرس التجزيئي والإنتاج التخصّصي البعيد عن حيوية العلاقة بين مستويات ومعطيات المعرفة ومعطياتها في حدود واسعة؛ حيث إنّ رؤيةً تفكيكيَّةً تدعو الفقيهَ مثلاً إلی أن يركّزَ علی قضايا منهجيةٍ تخدم المعلومةَ الفقهيةَ أو الحكمَ الشرعيَّ الفقهيَّ في مناخ هامشي أو فضاء معرفيّ محدّدٍ لهذا الحقل بمنأى عن فهم شبكة واسعة من الصِّلات السائدة بين هذا المستوی من المعرفة الدينية ومصادرها وبين الحقول الأخرى التي وإن كانت هي حسب التصنيف التّخصصي غير داخلة إلاّ أن رؤيةً تركيبيَّةً دقيقةً تفرض علی الباحث أن يبني المعرفةَ درجةً درجةً وفقاً للمرور علی كافة المعطيات والمؤثِّراتِ المعرفية الوجودية ومن ثم الشرعية الكلّية من العقل والنّص القرآني المهيمن وصولاً إلی النصوص الفرعية والتطبيقية لهذه القواعد الكلية.
إنّ تصوّرَ هذه الحقولِ وحدودِها بشكلٍ مستقلٍّ عن بعض – حينما يَنشط الباحثُ للرّحلة العلمية الاستكشافية – لا يخل بالحركة العلمية بل هو يخدم استيضاحَ الصورةِ للسؤال المحورِ. وإنّما الخللُ الكبيرُ يحصل وقتما تهدف عملية إنتاج المعرفة ضمن الاعتماد علی منهجية بحثٍ لا تواصلَ وتفاعلَ قوياً فيها بين كافة الحقول المعرفية الدينية وأكثر من ذلك إنّه تسودها حالة قطيعةٍ بين المجالات والحقول العلمية المتفاعلة مع بعضها البعض؛ لأنّ المؤالفة بين أجزاء الفضاء المعرفي الشرعي كافةً هي شديدة وأنّ المخالفة وإن كانت مقبولة إلاّ أنها غير واردة في قراءة شاملة وكليّة لحركة المعرفة الدينية بكلّ أجزائها وتخصّصاتها. فالمطلوب هنا انتهاج سياسة التفكيك والتحليل والتجزئة لحظةَ المطالعة الأوّليّةِ للمصادر من جهة وللسؤال المطروح من جهة ثانية والاعتماد علی التركيب والرؤية التكاملية بين عناصر الفكر الديني كافة في مرحلة الصياغة النهائية والإنتاج العلمي؛ لأنّ ما ترمي إليه الشريعة وما يهدف إلی تحقيقه الدّينُ هو عناوين كليّة مثلَ الصلاح والسعادة والهداية والنجاة وغيرها ممّا لا يقبل التجزئة والتفكيك في جوهره. فيجب أن تتسمّ الرؤى الإسلامية التي تقع علی مسيرة صناعة الحلول وإنتاج النظرية والنظام يجب أن تتسمّ بالشمولية والاستيعاب اللذين تضمنهما المنهجيةُ التكامليّة الإسلامية والأخيرةُ بدورها تحتضن في داخلها عناصر الإسلام برمتها ومأخوذ فيها بعين الاعتبار رحابةُ الأسئلة المعاصرة ورحابة الأجوبة الربانية الشرعية، الخصوصيات التي تضيع في مناهج منقوصة وتسقط علی أعتاب الفهم التفكيكي والفكر المفتقر إلی وحدة وتناسق التوجّه الكلّى.
عن موقع الرسول الأكرم(ص) – مجلة الحياة الطيبة – العدد الرابع عشر.
الهوامش:
*- رئيس تحرير مجلةِ الحياة الطيّبة اللبنانية
1- الكافى، محمد بن يعقوب الكلينى، ج 1، ص 58.
2- م، ن.