أساسيّات المنهج في الحوار الدينيّ
الرّوافد الشيعيّة الإماميّة لتعزيز الحوار بين رسالتي المسيحيّة والمحمّديّة في الدّين الإلهيّ
يحيي ميرزائي [1]
يُجمِعُ الدّارسون في الحقول الدّينيّة والاجتماعيّة على أنّ الحياة البشريّة اليوم غارقة في الأزمات والمآزق رغمَ التطوّرات الهائلة على الصعيد العلميّ والتقنيّ. هذه المخاطر والانهيارات وصلت إلى درجة تعريض الحضارة الإنسانيّة كلّها لخطر الانقراض والاضمحلال.
من جهة أخرى، أنّ خبراء وعلماء الأديان يعتقدون أنّ هذه الانهيارات الشاملة قد طرأت على العالم إثرَ تجاهل الإنسان للقيم الإلهيّة ورفضه للإرادة الرّبّانيّة ويُلحّون على أنّ الحلول الأكثر نجاعة للإفلاح والنجاة تكمن في العودة إلى التّسليم بحكم الله وقضاء الرّب.
لكن، كما نرى أنّ اختصار المشكلة أو تقديم الوصفة بهذه السهولة أمر قد لايساعد كثيرًا على الحلّ ؛ لأنّ الإشكاليّات الّتي أدّت إلى هذه الوضعيّة المنهارة هي أكثر تعقيدًا من أنّ نختصرها هكذا. لِسببِ تسلّل عقائدَ خاطئة حول الفكر الدّيني في أعماق المنظومة الفلسفيّة الإنسانيّة والّتي أدّت في آخر الأمر إلى نفي وإبعاد الأديان ومن خلفها الشريعة الربّانيّة من الفاعليّة في بناء الحياة والحضارة.و هي إشكاليّة كبيرة تمثّلت في التسليم بعلمانيّة وفصل مسارات العلم والعقل ومؤخّرًا الأخلاق مع الدّين! بدلا من السعي المعمّق للوصول إلى الحلّ ورفض هذا الفصل بين فعل الله المتمثّل بالطبيعة والحياةو العلم ؛ وقوله المتمثّل بالشرائع والكتب السماويّة!
رغم كلّ ذلك وحتى لو قبلنا بتقرير مثل الّذي أسلفناه هنا، من الضروريّ تجنّب الحلول النّمطية الجاهزة واعتبار خصومًا معلومين مسؤولين عن تحييد الدين وقيمه إلى المجتمع فليس علينا إلا السعي لإعادة الدّين إلى معترك الحياة ! لأنّ أسبابًا معقّدة ومتنوّعة جدًّا هي الّتي أسهمت بقوّة في خلق هذا الوضع المأساويّ، عليه لا يمكن أن نلقى الحلّ إلى بوعي عميق من تراكمات فكريّة وفلسفيّة واجتماعيّة عن العلاقة بين الفكر الدينيّ وكلّ من المسار العلميّ والعقليّ وأيضًا اتصالات الفكر الدينيّ والصعيد السياسيّ العامّ.
قد لا يروق لبعض منّا أن نسمع عن إفلاس بعض المساجد والكنائس في مراحل تاريخيّة خاصة في بناء العلاقة المنطقيّة معَ وبينَ مسارات العلم والعقل والاجتماع.و لكنّنا مُخُيَّرون بين أن نقول بموت الله النيتشويّ – والعياذ بالله من مقولات كُفريّة كهذا – ونقول بعدم جدوائية الفكر الدّينيّ في معالجة قضايا الحياة أو أن نقبل بموت الناطقين باسمه تعالى عندما عجزوا عن تفسير منطقيّ يؤلّف ويوائم بين الخلق الإلهيّ وكلمته ؛ بين تكوينه وتشريعه.وفي الحقيقية أحببت التّذكيرَ بهذا الأمر لتأكيد أنّ جزءا من مسؤوليّة هذه الانهيارات وحالات الإلحاد ونبذ الدّين في عصرنا هذا راجع إلى هذا الإفلاس والعجز في الجمع بين العقل والعلم والشرائع السماويّة في منظومة فكرية فلسفيّة مُوَحَّدة تقنع الإنسان بضرورة الأخذ بها وتؤسّس الإيمان بفاعليّتها في إنقاذه من المهالك والمخاطر المحدقة به.
1- الإنسانيّة منطلقًا للحوار العالمي
كنت أتخيّل للوهلة الأولى عندما قرأت الكلمةَ الشهيرةَ للإمام عليّ عن حقوق الإنسان في عهده إلى مالك الأشتر وهو: «وأشعر قلبَک الرحمةَ للرّعیّةِ والمحبّةَ لهم واللطفَ بهم ولا تکوننّ علیهم سَبُعًا زاریًا تغتنم أکلَهم فإنّهم صنفان إمّا أخٌ لكَ فى الدّين أو نظيرٌ لك فى الخلقِ»[2] خُيّلَ إليّ أنّ الإمام يعني من « أخ لك في الدّين» المسلمين ولكنّني بقليل من التّأمّل والمراجعة أدركتُ أنّ الأخوّة الدينيّة يمكن أن تشملَ جميعَ أَتْباعِ الرسالات في الدّين الإلهيّ الواحد؛ لأنّني كما سبق وأكّدتُ أنّ الدّين الإلهيّ واحد غيرَ أنّ الرسالات تتعدّد والنبوءات السّماويّة تتنوّع حسب مقتضيات الزمن وتطوّرات التّاريخ والإنسان ولكنّ هذا كلّه لا يمنع أن يكون الجوهر الاساس لهذا التّكثّر الرساليّ واحدًا.و انتهبتُ إلى أنّ «النظير في الخلق» هو الّذي لا يتّبعُ رسالةً إلهيّةَ.
عليه، فإنّ الإنسانيّة هي كافية لاستحقاق الإنسان كلّ الحقوق المدنيّة ما دام ملتزمًا بالقوانين الحافظة لأمنِ وو سلامِ واستقرار المجتمع وحقوق الآخرين.هكذا يضع الإمام عليه السّلام أساسًا تاريخيًّا لما هو أبعد من الحوار، أعني التعامل والتعايش الإنسانيّ بين جميع البشر الملتقين على الأخوّة الدّينيّة أو التماثل الخَلقي والطبيعيّ.
كما أنّنا نجد في الوثيقة التّاريخيّة للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني عبارات لافتة وتأسيسيّة للحوار بين جميع أتباع الرسالات والأديان على أساس إنسانيّ مشترك، في بيان جدّ هامّ ومصيريّ ينصّ في بدايته على رغبة الكنيسة في تعزيز الوحدة بين النّاس، بل بين الشّعوب جميعًا.يقول النّص:
«في هذا العصر الّذي يتزايد فيه يومًا بعد يوم توثّق اتّحاد الجنس البشريّ، وتزداد فيه علاقات الشعوب بعضها ببعض، تنظرُ الكنيسة بِتَبَصّر في ما تكون عليه علاقاتها بالأديان غير المسيحيّة، فإنّها، في مهمّتها الرّامية إلى تعزيز الوحدة بين النّاس، تنظر ههنا في ما هو مشترك بين النّاس ويحدوهم على أن يُحْيوا مصيرهم المشترك». [3]
وهو ما يذكّرنا بالإضافة إلى بيان الإمام علي الّذي سبق وأشرنا إلى بعض عباراته يذكّرنا أيضًا بالآية القرآنيّة شديدة الأهمّيّة في قضايا الحوار، أي: ( وما كان النّاس إلاّ أمّة واحدة فاختلفوا) [4]؛ والآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).[5]
ومن أروع ما في الوثيقة المجمعيّة الفاتيكانيّة هو إرجاع هذه الوحدة الإنسانيّة إلى المرجعيّة الإلهيّة والغائيّة الرّبّانيّة عندما ينصّ على أنّ:
«ذلك بأنّ جميع الشعوب يؤلّفون أسرة واحدة ؛ فهم جميعهم من أصل واحد إذ أسكن اللهُ الجنسَ البشريَّ كلَّه على وجه الأرض،و لهم جميعًا غاية قصوى واحدة وهي الله الّذي يبسط على الجميع كنفَ عنايته وآيات لطفه ومقاصده الخلاصيّة »[6]
2- دينُ الله الواحد والرسالات والنّبوءات المتعدّدة
من جهة أخرى علينا أن نشير هنا إلى ضرورة فهم الشرائع والرسالات الإلهيّة بصفتها حقيقة الهيّة ذات جوهر موحّد ؛ وإنّما التّعدّد قد ظهر فيها على أثر تنوّع البيئ والظروف الاجتماعيّة المختلفة، ممّا تطلّب أنواعًا متنوّعة من الاختبارات والتجلّيّات وكتبًا ورسلاً لتلك الحقيقة وذلك الجوهر الواحد وهذا ما أحدثَ تكَثّرًا في مصاديقه وتحقّقاته وتمظهرته في سياق الرسالات والنبوءات.
دين الله في حقيقته وكُنهِه لا يقبل التّعددَ كما الله لا يمكن أن يتعدّد.. وإنما الّذي يتعدد أو يتكثّرُ هو المستوى الإدراكي منه أو ما يحمله كلّ رسول أو نبيّ منه حسبَ المقتضيات.. ولكنّه في نهاية الأمر ؛كلّ يعبّر عن حقيقة واحدة وكلّ يعملُ على رسم صورة عن تلك الجوهرة المتطابقة مع الإرادة الإلهيّة الواحدة من جهة والفطرة الإنسانية القابلة للتألّه من جهة ثانية.
واليوم نحن أمام ثورة تراثيّة ضخمة جدًّا من جرّاء تراكم هذه الاختبارات والتجارب الدّينيّة الغنيّة وهذا ما يدعوا إلى ضرورة إعادة النّظر في نمط التعامل منع هذه الرسالات وتراثها الغنيّ وعلى الخصوص لو التفتنا إلى أنّ كلَّ تجربة منها ترتكز إلى تحقّقات وتجلّيّات لها ارتباطات منطقيّة بجغرافيا خاصة ووضعيّات اجتماعيّة خاصّة، ممّا يوجد فينا يقينًا بأنّها كلّها معًا تنطوي على إمكانيّات كاملة وحقيقيّة لدعمنا للخروج من أزماتنا وانهياراتنا الرّاهنة.
لكنّ رؤية إلغائيّة لكلّ طرف تسود الأجواءَ. وهذا أمر شديد الغرابة لِتبايُنه مع أسُس ومقاصد هذه الرسالات، ولِتناقض هذا السعي مع صريح النّصوص المقدّسة في كلّ الرسالات الإلهيّة. وتأريخيًّا أيضا نجد أنّ فُرصَ اللقاء والتّعامل بين المسلمين والمسيحيّين كانت منتجةً ومفيدةً للطّرفين وسببَ تراكمٍ إيجابيّ للتجارب والاختبارات العلميّة وعنصرَ إسهام في الحضارة السليمة والمتعادلة. وفي هذا المضمار يقول الدكتور رضوان السيّد:
"وقد أسهمَ المسيحيّون في الحياة الثقافيّةوالعلميّة إسهاماتٍ بارزة ً ترجمةً ونقلًا وإبداعًا..ونحن نعلم أنه رغم القطيعة الطاهرة في الجداليات فإنّ المسيحيّة أثّرت في سائر مناحي الحياة الدينيّة للمسلمين بما في ذلك الكلاميّات والفقهيّات والرّوحانيّات،فضلًا على تأثيرها الّذي لا ينكره أحدٌ في الحياة الثقافيّة بشكل عامّ"[7]
ومن الطبيعيّ القول إنّ التأثّر هذا أمر متبادل وليس لطرف على آخر فقط. ينقل الأب سمير خليل[8] مقطوعة من سنة 760 لكاتب مجهول يعتبره اقدم نصّ عربي مسيحيّ، فيها عبارات كالتّالي:
باسم الأب والإبن وروحِ القُدُس
إلاهٍ واحدٍ
اللهمّ برحمتك توفّقنا
للصّدق والصّواب
الحمد لله الّذي لم يكن شيئ قبلَه
وكان قبل كلّ شيئ
الّذي ليس شيئ بعده
وهو وارث كلّ شيئ
وإليه مصير كلّ شيئ
الّذي حفظَ بِعِلمه علمَ كلّ شيئ
ولم يسعْ لذلك غلاّ عقلُه
الّذي إلى علمه انتهى كلّ شيئ
وأحصى كلّ شيئ بِعِلمه
نسألك اللهمَّ برحمتك وقدرتكَ
أن تجعلنا ممّن يعرف حقَّك
ويتّبع رضاك ويتجنّب سَخَطَك
ويسبّح بإسمائك الحسنى
ويتكلّم بأمثالك العليا
أنت الرّاحم
الرّحمن الرّحيم
على العرش استويتَ
وعلى الخلائق عَلَيتَ
وكلّ شيئ ملأتَ
تخير ولا يُخارُ عليك
إليك المصير
وأنت على كلّ شيئ قدير
مقارنة بين هذه الفقرات وما يُسمّى في الفكر الإسلاميّ الشيعيّ بدعاء كميل [9] أو حتى الآيات القرآنيّة لا تبقي أدنى شكّ في أنّ للفكر الإسلاميّ القرآنيّ أكبر التّأثير في صياغة الفكر المسيحيّ الشرقي وهذه التفاعلات الكبيرة كانت إيجابيّة وهي بمثابة حوارات تاريخيّة حقّقت أهدافها في التقريب المعرفي والأخلاقيّ والقيميّ بين أتباع هذه الرسالات السماويّة.
لسنا هنا على صدد التقييم تصويبًا أو تخطئةً وإنّما نرمي إلى وصف حقبة زمنيّة عاشت التجربة المسيحيّة واليهوديّة ( أهل الكتاب) جنبًا إلى جنب مع التجربة الإسلاميّة المحمّديّة وهي حقبة تاريخيّة تحكي لنا تثاقفًا كبيرًا بين هذه الأطراف وبالذّات في حقل التفسير القرآنيّ وهي تجربة لافتة حقًّا ؛ لأنّنا نجد أنّ الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد يحتوي على الاختبارات الدّينيّة نفسها التي تمّ التطرّق لها في القرآن مع فوارق وبما أنّ القرآن متأخّر عن الكتاب المقدّس فإنّنا نستطيع أن نسترفد من الأخير للوقوف على الكثير من التّفاصيل التّاريخيّة الدّينيّة.و العلاقة هنا من النوع التكامليّ والتعامليّ وهذا ما حصل بالفعل وعُرف في تاريخ التفسير القرآنيّ باسم الاسرائيليّات وإن في سياق الرؤية السلبية ولكنّ الحقيقة تقول غير ذلك رغم أنّنا لا ننكر بعض التعاملات الإسقاطية في هذا التعاطي.[10]
ششِ ولا يمكن إنكار الدور المسيحيّ واليهوديّ في بعض تفاسير القرآن الكريم بحكم الجوار الإسلاميّ مع أهل الكتاب المقدّس وهذه تجربة رغم قابليّتها للنّقد الموضوعيّ إلا أنها لم تستمرّ لسبب تكريس التعامل الإيجابيّ مع الكتاب المقدّس بوصفه اتّهامًا ! رغم أنّ العهدين يحتويان على ثراء ضخم هائل من الحكمة الإلهيّة والبشائر السّماويّة الحقّة للإنسان وأنّ القرآن قد أيّدها ودعا إلى الأخذ بها.
ويبدو لي اليوم أنّ دراسة النصوص الالهيّة في موسوعة توحيديّة واحدة أمر ضروريّ لأنّ هذه النّصوص تفسّر بعضها بعضاً ويغطّي بعضها على بعض في ضوء إدراك أنّها كلّها عناصر تفسير الله الواحد الّذي لا يقبل التّعدّد والاختلافو لكنّها صور تعكس تجلّيات الله في النّص أو الإنسان أو الطبيعة والكون. هي نصوص نزلت في ظروف مختلفة وتواريخ متنوّعة إلا أنّه تنتشر فيها كلّها المحكمات ويسهل معالجة متشابهاتها من خلال إحالتها إلى المحكمات المنتشرة في العهدين والقرآن ضمن ضوابط فنّيّة لتعامل الكتب السماويّة معًا.
تحقيقًا لهذا الهدف السامي، علينا أن ننشئَ مراكز دراسات الكتب السّماويّة لتقديم الفكرة الحضاريّة الإلهيّة إلى العالم اليوم بالاستناد إلى الفكر الديني التوحيدي الّذي ترفده نصوصُ الرسالات الإلهيّة كلّها.و هذا هو المشروع الحواريّ العالميّ الشامل الّذي سيسعى للمصالحة التّاريخيّة بين وجهة الكون الطبيعيّ والعقل الفطري البشريّ من جهة وبينها وبين المعطيات الدّينيّة.
لأنّ الدين الإلهيّ بكلّ تجلّيّاته الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة لو تعاونت سياقاته المختلفة المرتبطة بالتراكمات الحضاريّة المتنوّعة فإنّه سيشهد تحوّلًا جوهريًّا في تفسير منطقيّ عقلانيّ وعلميّ للحياة.والتأكيد هنا للجانب الخلقيّ والقيميّ والعقلانيّ قبل الوجهة العلميّة المتحرّكة نوعًا ما.لا شكّ أنّ كلّ رسالة تعالج بعدًا من الإشكاليّات الطارئة على الحضارة المعاصرة ولا يمكن لأيّ من الرسالات أن يستغني عن غيرها لأسباب واقعيّة أو معرفيّة حتى.
3- مقدّمة في عوائق أمامَ تطوريّة الفكر الدينيّ
لا شكّ في أنّ رحابة مفاهيم ومفردات ومعطيات الفكر الدّينيّ عموماً في انسجامه مع الفطرة الإنسانية وسعة دلالاتها المتطابقة مع الحيثيّيات والمتطلّبات الرّوحيّة والنفسيّة والجسديّة للإنسان ؛ تمثّل أكبرَ عنصر للعمل الإنساني المشترك على صعيد الحياة كلّها، وأنّ العملَ الدينيّ لو صيغ منسجماً مع هذه الخصوصيّات الإنسانيّة العامّة فإنّه سينصبّ في صالح الحياة وانسجامها ودورها البنّاء.
لكنّ الفكر الدّينيّ مع ما له من خصوصيّات فطريّة إنسانيّة أو بالأحرى ما يمكن إطلاق الصفة الإنسانيّة عليه على أساس انطباقه مع الطبيعة البشريّة والغاية الإنسانيّة الّتي أخذت في إعتبار الله الصائغ والمُشرّع له، إلا أنّ عدّة عناصر هامّة أحدثت شروخاً بين الفكر الدّينيّ والأدوار التّوحيديّة الإنسانيّة الّتي ذكرناها آنفاً، نذكر جملة منها:
1. تجاهلُ حقيقة أنّ الفكر الدّينيّ يخضع دوماً لعمليّة بشريّة للفهم والتّفسير، وأنّ الإنسان وما يطرأ عليه من تحوّلات على صعيد عقله ومجتمعه وحياته سيترك بصماته القويّة على طبيعة الفكر الديني ومقوّماته الاجتماعيّة ودلالاته العرفيّة ومحاصيله الابستمولوجية.عليه فإنّ اعتبار كلّ التراث الدّينيّ وكافّة التفاسير الدّينيّة من المسلّمات واليقينيّات لَهو ممّا يحدثُ تصلبّاً وتشدّداً دينيّاً ويسبّب حالة صدام واحتكاك بين اتباع الدين.
2. عدم الالتفات العلميّ إلى تطوّريّة الفكر الدّينيّ عبر التّاريخ وقابليّة التغيّر في بعض فروعه وشعبه ومفرداته وهو أمر يوهم وكأنّ الفكر الدّينيّ أمر ثابت عبر الزّمن وغير خاضع للحالة الوضعية الحياتيّة وهو أوجب فجوة كبيرة بين الدين وكلّ من العقل والعلم الّذين خاضعان لتطوريّة واضحة ولهما علاقة بالطبيعة وقوانين دقيقة تخضع بدورها للفهم الإنسانيّ.
3. تداخل الإنسانيّ والإلهيّ، أمر في غاية السّوء في تأثيره على مجمل الفكر الدينيّ ويخلط أوراق المقدّس وغير المقدّس وهو بدوره من جهة يضرب العقلَ الإنسانيَّ من خلال تجميده وتجفيف حَرَكيّته واعتبار معارضته معارضة للمقدّس وهذا يعني تحييدَه من قابليّة التحوّل الإيجابيّ، كما أنّه من جهة ثانيّة يضربُ العلمَ في ضوء إخضاعه للقوانين التأريخيّة المتحوّلة أو فصله من مسار الدّين وهذا ما أحدثَ بصمات جدّ مدمّرة على المسارين.و أخيراً سيضرّ بالدّين نفسه عبرَ إبعاد البعد العقلانيّ والعلميّ منه وهذا ما لا يقبل به الإنسان والمجتمع المعاصر.
4. ضياع المنهجيّة الدينيّة وخلط الطبقات العُلويّة والسُفليّة في التّراتب الدلاليّ ممّا سبّبَ أن يغلبَ على نسبة مهمّة من مصاديق الفكر الدّينيّ المستوى الطقوسيّ والتّقاليديّ وتقلّص الاهتمام بالفكرة المركزيّة للدّين عموماً.
5. تجاهل حقيقةِ أنّ حالات الصّدام والمواجهة التّاريخيّة بينَ أتباع رسالات الدّين الإلهيّ نتجت عن المصالح السياسيّة والاجتماعيّة وليس السبب الجوهريّ فيها يرجع إلى المعطيات المعرفيّة أو القيميّة.و سحب هذه المشاكل والمواجهات التّاريخيّة على الرّسالات نفسها جريمة في حقّ دين الله الواحد وفلسفة الشرائع الإلهيّة يجب وضع حدّ لها بصراحة وجرأة دفاعًا عن الله في مشيئته والإنسان في حقّه أن يكون خليفة الرّب على الأرض ومَجلى أسمائه وصفاته.
هنا ينبغي علينا أن نقرأ بتمعّن شديد ما يحاول صامويل هانتغتون في كتابه الشهير " صدام الحضارات" لنتأكّد يقينًا أنّ ما يسعى له الكاتب في إيحاء صِداميّة العلاقة بين الإسلام والمسيحيّة ليس إلا استغلالاً غير أخلاقيّ للدّين لتحقيق مآرب سياسيّة.هو في بعض صفحات كتابه يقول رافضًا إدّعاء الرّئيس كلينتون بأنّ مشكلة الغرب ليست مع الإسلام وإنّما مع بعض المتشدّدين المسلمين:
"أربعة عشر قرنًا من التّاريخ تقول عكس ذلك.العلاقات بين الإسلام والمسيحيّة سواء الأرثوذوكسيّة أو الغربيّة كانت عاصفة غالبًا " [11]
والغريب المؤسف هو أنّ الرّجل رغم تأكيده المتواصل[12] للعناصر غير الدّينيّة في تفجير العلاقة وتأجيج النّار بين المسيحيين والمسلمين غير أنّه يلحّ على تسمية الإشكاليّة أزمةَ الإسلام والمسيحيّة !
4- منطلقات الحوار الإسلاميّ المسيحيّ
من الضروريّ المنطقيّ أن يبادر الأطراف الدينيّة من كلّ الجهات الإسلاميّة والمسيحيّة إلى تقييم ما آلت إليه الجولات الحواريّة بين الرسالتين المسيحيّة والمحمّدية – عليهما السلام – منذ القدم.لأنّه رغم حيويّة ومصيريّة التعامل والحوار بين الرسالتين وحتميّة التلاقيّ بينهما في الأصول والجوهر ومع أنّ الرضى بالتباعد التّاريخيّ بينهما وغيرهما من الرسالات الدينيّة الالهيّة سينتهي في آخر المطاف إلى المزيد من الصعوبة في التعايش الإسلاميّ المسيحيّ في المجتمعات المعاصرة وهو ما يفضي إلى تفويت فرص التعامل بينهما للخروج من الأزمات الحضارية الضخمة أمام حركة الإنسان نحو التجسّد القيم الإلهيّة على ساحة حياة الإنسان، غير أنّ تعثّرات كبيرة في هذه التعاملات والحوارات منعت تحقّق أهداف كثيرة وعوائق أساسيّة في طريقهما سبّبت بقاء التباعد أو حتى التباغض الكامن بينهما وهو أمر في غاية الأهمّيّة وعلينا الالتفات إليه والسعي لتعبيد الطرق نحو بناء نقاط اللقاء الحقيقيّة.
من جهة أخرى فإنّنا نشهد بعض الخلل في الحوار على أساس فقدان المنطقية والمنهجيّة في تراتبيّة الحوار وهو أمر لو لا يتمّ تداركه سيفضي إلى لاجدوائيّة اللقاءات.يبدو أنّ ترتيب الأولويّات في النّقاش والحوار وبالذّات السعي لتحديد النقاط المُفَخّخة والقابلة للتّفجّر أمر غاية في الأهمّية والخطورة والسعي للخلط بين إشكاليّات المجتمعات والحضارات والثقافات وبين المعطيات الدّينيّة الصريحة في النّصوص المقدّسة أمر خطر وعنصر سوء تفاهم كبير.
البدأ بالحوار من المناطق الأكثر التصاقًا بالبُنى التحتيّة والأُسُس المشترَكة للدّين بكلّ تجلّياته وأنواعه ورسالاته التي حملها أنبياء الله إلى الإنسانِ، له أهمّيّة بالغة من جهتين:
1 -باعتبارِ أنّها المنطقة الأقلّ اختلافًا والأكثر اتفاقًا بين الأطراف ؛ لأنّه من الحيّز الذّاتي للدّين.
2- وعلى أساسِ أنّها الأكثر خصوبة وصلاحية لتكونَ فيها منطقة البدأ بالحوار ؛ لأنها الأساس لأجلِ أنّ القضايا الأكثر تفريعًا عليها تُبنى وبها تثبت أو تخدش.عليه فإنّ البدأ بقضايا من هذا النوع أمر منهجيّ في البحث بين الرسالات المتنوّعة للدّين.
محاور العقل والعلم والأخلاق والقيم تمثّل أربعة أركان جوهريّة للدّيانة.
نقلاً: عن موقع الشيخ يحيى الميرزائي