تصنَّف “العلمانية” من ضمن المناطق الشائكة في الفكر العربي المعاصر، ففي الغرب -مثلا- ينسب هذا الفكر إلى الشخص الذي يعيش المعاصرة والحداثة في حياته بغضالنظر عن موقفه من الدين بالسلب أو الإيجاب، بينما يُعتبر هذا المفهوم فيالعالم العربي ضمن منطقة الممنوع التفكير فيه أو الاقتراب منه، وربما يؤديإلى الاتهام بالكفر والضلال المبين، بل إن هناك من يعتبر الحداثةوالليبرالية وحتى القراءات المعاصرة للدين تندرج أيضا ضمن هذا المفهوم؛وبالتالي هدفا لسهام التكفير والتفسيق والاتهام بالإلحادوالزندقة…وغيرها. وقد ألَّف أحد رجال الدين وهو الدكتور سعيد الغامديأطروحة جامعية طبعت في ثلاثة مجلدات ضخمة تحت عنوان “الانحراف العقدي فيأدب الحداثة وفكرها”، كفَّر فيها بجرَّة قلم أكثر من مائتي مفكر ومبدععربي. والمؤسف أن التوجس من العلمانية انتقل ليشمل مفكرين كبارا لهم وزنهمفي فضاء الفكر العربي أمثال المفكر الراحل محمد عابد الجابري الذي رفض فيحواره مع الدكتور حسن حنفي استخدام مصطلح العلمانية “وطالب بسحبها منالقاموس التداولي للفكر العربي أيضا واستبدالها بمصطلح العقلانية”، حيث قالفي كتاب “حوار المشرق والغرب” (ص:99): “وفي رأيي أنه من الواجب استبعادشعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطيةوالعقلانية فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي”. ولم يقدم الجابري تفسيرا واضحا حول كيفية تحقق العقلانية والديمقراطية بدونالالتزام بمنهج العلمانية!
وباستثناء مجموعة قليلة من المفكرين العرب -أمثال: محمدآركون، وجورج طرابيشي، ورجاء بن سلامة، والعفيفي الأخضر، وهاشم صالح، وعزيزالعظمة..وقلة آخرين- فإن أغلبية النخب العربية تتوجس من العلمانية وترىأنها إنتاج غربي لا تتلاءم مع البيئة العربية، وقام آخرون مثل الجابريبربطها بالكنيسة وأنه ما دام لا وجود للكنيسة في الإسلام فلا مبرر أيضالوجود العلمانية، ولكن لم يقدم لنا هؤلاء تفسيرا مقنعا حول ربط الكنيسةبالعلمانية؟ أو حتى جوابا مقنعا حول نجاح العلمانية في دول ومجتمعات لاتربطها صلة دينية بينها وبين المسيحية مثل الهند واليابان وكورياالجنوبية…وغيرها، بل ودول إسلامية أيضا مثل تركيا.
وفي سياق التوجس من العلمانية والخشية في الوقت نفسه منوصول التيارات الدينية الأصولية إلى الحكم والسلطة، طُرحت بعض النظرياتالتي قدَّمت نوعا من التوفيق بين الدين والعلمانية مثل أدلجة الدين التيدعا إليها المفكر الايراني علي شريعتي في بعض كتاباته المختلفة مثل كتاب “معرفة الإسلام” وكتاب “دين ضد الدين” وغيرها، ودعا فيها إلى إسلامأيديولوجي يهتم بمسائل الحياة والآخرة معا ولكن بدون سلطة رجال الدينوتفسيراتهم للإسلام، وإخضاع التاريخ الإسلامي والنصوص الدينية للنقدالتاريخي. وكذلك محاولة المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري حول تقسيمالعلمانية إلى جزأين رئيسيين؛ هما: العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة،في كتاب يحمل نفس هذا العنوان، ودعا من خلاله إلى العلمانية الجزئية التيتعني فصل الدين عن السياسة وربما الاقتصاد أيضا، مقابل الالتزام بمرجعيةالفقه الإسلامي في القوانين الأخرى، خاصة التي تتعلق بالأحوال الشخصية،ورفض العلمانية الشاملة التي لا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصلكل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية في جانبيها العام والخاص؛ بحيثتنتزع القداسة عن العالم، ويتحوَّل إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالحالأقوى. وفي السياق المعرفي نفسه، صدر كتاب “الدين العلماني” للدكتورعبدالكريم سروش وتبنى نوعا ما نظرية الدكتور شريعتي.
وبعيداً عن الدخول في معترك التنظير الفكري حول مفهومالعلمانية بمفاهيمها المتعددة ومدلولاتها المختلفة، فإنها كظاهرة فكرية تقفموقفا محايدا من الأديان والمعتقدات، وتحترم كل الأفكار المختلفة في سياقالاختلاف المعرفي معها ولا تعاديها أو تعمل على إقصائها كما يروج ذلكالخطاب الديني المؤدلج، بل إن كثيرا من التجارب المعاصرة أثبتت بأن الأحزابالدينية المسيّسة التي وصلت إلى السلطة في بعض الدول هي التي بادرت بإقصاءالآخرين واتهمتهم بالكفر والضلال والعداء للإسلام، مع العلم بأن كثيرا منالعلمانيين يعيشون التدين والأجواء الروحانية في حياتهم الخاصة، وقدانطلقوا في الإيمان بالعلمانية كظاهرة فكرية من خلال إيمانهم العميق بضرورةعدم الزج بالدين بأحكامه المقدسة وطهارته الروحية في الخلافات والمعاركالسياسية مع ما يتسبب ذلك من إذكاء روح الطائفية البغيضة وإضعاف الروحالوطنية في المجتمع لصالح الدين والمذهب، ولعل تجربة حزب التنمية والعدالةفي تركيا أبرز مثال على ذلك، فرغم المرجعية الإسلامية للحزب وقادته إلا أنهفي سياق العمل السياسي ملتزم بالعلمانية الأتاتوركية، وعندما زار رئيسالوزراء التركي أردوغان مصر بعد التغيير السياسي فيها عام 2011، دعاالمصريين إلى تبني خيار الدولة العلمانية الأمر الذي أثار غضب الإخوانالمسلمين في مصر عليه وشنوا عليه هجوما عنيفا.
وينقلُالمفكرالسوريهاشمصالحفيكتابه “الانتفاضاتالعربية”، عن المفكر الفرنسي البروفيسور جان بوبيرو، أنَّ العلمانية لم تعد “استثناء فرنسيا أو أوروبيا وإنما أصبحت ظاهرة عالمية حيث لم تعد هناكعلمانية واحدة وإنما علمانيات متعددة”. وكما أن القراءة الطالبانية أوالداعشية لا تمثل الإسلام الحضاري المستنير فكذلك العلمانية المتطرفة فإنهالا تمثل أيضا العلمانية المستنيرة التي انتشلت الغرب من براثن الأصوليةوالصراعات الطائفية إلى الحداثة والتنمية والحضارة.
… بقيأننقولإنالمجتمعاتالعربيةتستطيعأنتتقبلالحداثةوالقراءاتالمعاصرةللدين،ولكنهاترفضأيةنظريةفكريةمتطرفةتحاولفصلهاعندينهاوعقيدتها؛سواءكانتتحتعنوانالعلمانيةأوغيرها.