اثر كربلاء في خطابة آل البيت والتوابين روية عناصر الواقعة واللغة الفنية
د. علي مهدي زيتون
صفات الادب وموقع النص الخطابي الفن معرفة، ولعله الوسيلة المعرفية الاولى التي استخدمها الانسان قبل ان يهتدي الى الوسيلة المنطقية، وقبل ان يصل الى المعرفة البحتة المتخلصة من كل ما هو فني، لان المعرفة المرتكزة على الفن، وان كانت معرفة حقيقية لها حقلها الذي تستكشفه دون ان يشاركها فيه اي منهج معرفي آخر، فهي قائمة على اسقاط ضمني للذات وللعلاقات الاجتماعية على الطبيعة، اي على اسقاط (الانا) الفردية و«الاجتماعية على العالم، اي على(اللاان»). ولذلك تكون الحقائق التي تاتي بها حقائق من نمط خاص، مشوبة بماهو ذاتي، ولا يستطيع الدخول في آلية الحقائق البحتة ووسائلها في توليد المعرفة وتكثيفهاوتطويرها للتعجيل في حركة التاريخ الالية خدمة للانسان في الوصول الى دنيا الرفاه والحرية.
وحين نفهم العمل الفني بهذه الطريقة، انما نطرح على انفسنا سوالا آخر يتعلق بماهية الادب بوصفه عملا فنيا. حاول تودوروف ان يقدم مفهوما للادب يشكل موضع قبول الاتجاهات النقدية المختلفة. ولم يقصد بذلك التعميم او الخروج من الصعوبة التي تحدث عنها. وهي «الاتفاق حول الهوية المحددة لموضوع الادب»، ولكنه حاول مقاربة ماتجمع عليه تلك الاتجاهات ليجعله منطلقا لبحثه الذي يريد ان يلفت انتباهها اليه. وهوحين قال: «ان هذا الاسم «يعني به الادب » او ما يجري مجراه، استعمل دائما للدلالة على كلام يبعث اللذة او يثير الاهتمام لدى سامعه او قارئه، ويكون الخلود مصيره، وبناء على ذلك فهو قول اكثر صناعة من الكلام العادي». لم يكن اختياره لطريقة التعبير عن افكاره عفويا، لان استخدامه لفظة(كلام) بصيغة التنكير للدلالة على ما يرتبط بطبيعة الادب، يقلل كثيرا من الطبيعة اللغوية لصالح ما هو خارج عنها سواء اتعلق الامر بالمتلقي الذي يجب ان تثار لذته واهتمامه، ام التقنية الفنية التي يتعامل بها مع القول ليكون اكثر صناعة من الكلام العادي. فالعلاقة بين النص والجمهور الموجه اليه هو ما يشغل باله بشكل اساسي. تلك العلاقة المعرفية التي تتاكد من خلال اشارته الى ان «الخصوصية الادبية ليست من طبيعة لغوية، وانما من طبيعة تاريخية ثقافية». ولا نستطيع ان نقبل هذه المقولة باكملها،خصوصا وانها تدق باب نظرية المحاكاة الارسطية بعد ان بدا النقد الادبي الحديث يتخلى عنها لصالح العلوم اللسانية والاسلوبية. ما هو مقبول من نظرية تودوروف هذه هو الالتفات الجدي الى خصوصية الادب ذات الطبيعة التاريخية الثقافية، وان كان لا يجوز التركيز عليهاوحدها، لان ذلك لا يميز خصوصية الادب بما هو فن مادته اللغة عن خصوصية غيره من الفنون التي تقوم على مواد اخرى مختلفة عن اللغة.
فالادب «خصوصية نصية» وفاعلية لغوية تقتضي ان يكون النص «عمقا ثقافي». واذاكانت هذه هي الصفات الاساسية لطبيعة الادب، فما هو موقع النص الخطابي من هذه الحقيقة؟.
تقوم الخطابة على الشفوية التي تقيم علاقة بين صاحب رأي ما، وجمهور يكون غالبا من الناس العاديين. وحين يكون صاحب الراي هذا ممن الم بعلوم عصره ومعارفه، فالخطابة هي رأي الثقافة المحتضنة لموقف ما في قضية محددة يقدم الى الجمهور بلغة يفهمها.ولذلك فان خصوصية النص الخطابي، بما هو موقف محدد من قضية محددة، هي من طبيعة تاريخية، وبما هو راي الثقافة المحتضنة لموقف ما، هي من طبيعة ثقافية، وبما هوراي يقدم الى الجمهور بلغة يفهمها عن طريق المشافهة، هي من طبيعة لغوية. فالخطابة لقاء الثقافة والتاريخ واللغة وما يتضمنه ذلك اللقاء من تفاعل عميق.
وحين نصل الى النصوص الخطابية التي نشات على ضفاف كربلاء سواء اتعلق الامر برجال ونساء من آل بيت الرسول(ص) وجدوا انفسهم بعيد تلك الواقعة مسوقين كما الاسارى الى الكوفة فدمشق، ام تعلق برجال من الكوفة دعوا الامام الحسين(ع) لينصروه على اعدائه فخذلوه، ثم تابوا بعد اربع سنوات واعلنوا الجهاد فسموا بالتوابين. نجد الثقافة الاسلامية وقد شكلت العمق الفكري الذي راوا من خلاله اشياء العالم واحداث التاريخ، ونجدالموقف من احقية الخلافة، بما هو حساسية مرهفة، قد استقطب تلك الثقافة حول محوره ومهدها لتكون لسان حاله في مواجهة المواقف المغايرة. وتشكل اللغة، في كل الاحوال،المفصح عن ذلك الموقف التاريخي وعن عمقه الثقافي. ونعني بها اللغة الخطابية بالذات،بما تتمتع به من حساسية متناهية في علاقتها بالواقع، وشفافية بالغة في التعبير عن الهموم.
ويقتضي هذا الفهم ان نبحث في امرين اساسيين: الروية التي نظر الخطيب من خلالها الى الامور، واللغة الفنية التي عبر بها عن تلك الروية. وهذا منسجم مع خصوصية النص الخطابي القائمة، بشكل اساسي، على تفاعل كل من الثقافة والموقف واللغة.
ا- روية كل من خطباء آل البيت والتوابين: يتناول هذا المبحث روية كل من خطباء آل البيت والتوابين لعنصرين اساسيين من عناصرواقعة الطف: الحسين وآل البيت(ع) من جهة، والحدث بين الكوفيين ويزيد من جهة ثانية.
1- صورة الحسين وآل البيت(ع) هل ستكون نظرة هذين الطرفين واحدة، ام ان مسافة ما ستفصل بينهما، املتها ظروف كل منهما؟.
وقفت السيدة زينب(ع) امام الكوفيين قائلة: «انى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب اهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقر سلمكم،واسى كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع اليه عند مقاتلتكم، ومدرة حججكم، ومنارمحجتكم»، مختزلة الشهداء جميعهم في الامام الحسين(ع). فهو الامام والقائد والركن الشديد والماوى. وضعت شهادته المشروع امام سبل متفرقة. تلمست السيدة الحدث من خلال شهادته ونظرت اليه من خلال اهمية النبوة، والاسلام، فهي لم تذكر النبي(ص)باسمه، بل كنت عنه بكنايتين هما: «خاتم النبوة»، و«معدن الرسالة» لتبرز مقام الرسول(ص)المتفوق على سائر الانبياء(ع)، وهي لم تعمد الى هاتين الكنايتين بشكل عفوي، ولكنهاقصدتهما لتحمل كلمة «سليل» التي اضيفت اليهما، الدلالة التي تراها لذلك السليل. فلم تعد سلالة دموية جسدية فحسب بل صارت سلالة عقيدية ايمانية وانتماء الى ارقى ما في النبوة منذ وجدت النبوة ايضا. وتاتي الجملة «سيد شباب اهل الجنة» المعطوفة على «سليل خاتم النبوة» لا لتذكر براي الرسول(ص) في الحسين(ع) فحسب، ولكن لتقدم مظلومية هذاالامام ومقامه عند رب العالمين ايضا، ولتضيء كلمة «سليل» اضاءة جديدة فتجعلها «سليلامميز» تومىء الى العصمة والى الدور الذي ترتبه العصمة على المعصوم في الحياة الدنيا،ممهدة بذلك للحديث عن صورة الحسين(ع) ببعدها العملي الدنيوي عبر سلسلة من اسماء المكان المضافة الى القضايا الاساسية التي تشغل بال الكوفيين. فاذا نحن امام ستة منها: «ملاذ، ومعاذ، ومقر، ومفزع، ومرجع، ومنار» تعطيه هوية الحصن الحصين بالنسبة اليهم. يامنهم من خوف ويحميهم من ضياع. انه البعد المقدس المريح المطمئن.
وتاتي التشابيه «اسى كلمكم»، «مدة حججكم» و«منار محجتكم» لتغني صورة الامام الحسين(ع)بابعاد جديدة هي قوة الشفاء والراي والهداية، فتخرجه من هويته البشرية مضفية عليه بعداروحيا يصير معه قضية ايمانية كبرى تعيد الضائع الى رشده وتقوي منطقه في مواجهة الاخرين.
يعني كل ذلك ان الامام الحسين(ع) كان محور القضية بالنسبة الى السيدة زينب(ع)، يختصركل الشهداء ويعبر عنهم، ويظل علامة فارقة لا تلتبس بمن ينتمي اليها.
اما الامام زين العابدين(ع) فيكفكف عبرة عمته زينب(ع) قائلا: «ان البكاء والحنين لا يردان من قد اباده الدهر»، وينبري مخاطبا الكوفيين، معرفا بنفسه من خلال بنوته للامام الحسين(ع): «انا علي بن الحسين المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات» مسميااباه بما حدث له في كربلاء.
وتضمر هذه التسمية امتلاك الروع في تلك الظروف الصعبة، لاما قد يتبادر الى الذهن من انها صرخة تفجعية على ما جرى.
وتعني تسمية الاشياء باسمائها رباطة الجاش والشجاعة امام الازمات.
ويختصر مكان الذبح الذي اشار اليه(شط الفرات) كل المعاناة التي واجهها الحسين(ع).وقد يكون العطش اقلها شانا. حتى ليعد الاجر العظيم الذي ناله الامام في مواجهة الظالمين امارة اساسية من امارات تكوين هذه الصورة التي قدمها الخطيب عن ابيه(ع).
وحاول زين العابدين(ع)، حين عدد اسماء جديدة لابيه، «انا ابن من انتهك حريمه، وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله». ان يعطي هذه الاسماء (الصفات) التي تشكل اشارة مهانة عند العربي ابعادا مناقضة من خلال قوله: «وكفى بذلك فخر»، موضحا ان رويته التي تستقي من الاسلام الحنيف شعاع ضوئها انما تقيس الامور بغير المقياس الجاهلي الذي يتشبث به اعداوه.
ويوكد هذا ما ذهبنا اليه من ان زين العابدين(ع) ممتلك لروعه، ناظر الى الامام الحسين بالمنظار الاسلامي دون ان يكون للحدث اي تاثير ضبابي عليه. ويشكل تعريفه بابيه الوجه الاخر «لسليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة». وهو موضع اعتزازه كما كان «السليل» موضع اعتزاز العقيلة الهاشمية(ع).
ولا يعني اختصار صورة آل البيت في صورة الحسين(ع) انهم قد حجبوا تماما عن الحضورفي النصوص الخطابية التي توجه بها الاسرى الى الكوفيين، ولكنهم حضروا معه في جوانب عديدة من تلك النصوص.
قالت فاطمة الصغرى(ع)، بوصفها واحدة من آل البيت: ان اللّه قد «جعل علمه عندنا،وفهمه لدينا. فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته في الارض في بلاده لعباده.اكرمنا اللّه بكرامته، وفضلنا بنبيه على كثير من خلقه تفضيل»، مستندة في جانب من قولها الى لغة علي(ع) حين راى في آل البيت(ع) عيبة علم اللّه ووعاء فهمه وحكمته.مومئة بذلك، وبطرف خفي، الى سلالة علمية من نمط قدسي. واضافة «العيبة» و«الوعاء»الى «علم اللّه» و«فهمه وحكمته» لا تنفذ الى وصف آل البيت بالقدرة على ادراك علم اللّهوحكمته فحسب، ولكن الى وصفهم بالقدرة على حفظه واستمراريته ايضا، وصولا الى وصفهم بانهم الموتمنون على ارث النبوة العلمي والديني.
ويفسر لنا هذا معنى ان يكونوا حجة اللّه في الارض، وان يكرمهم بكرامته ويفضلهم بنبيه.وهي حين تستجمع مثل هذه الصفات انما تريد النفاذ الى تقديم آل البيت بقية للّه على الارض يستطيع اهل الكوفة ان يروا على ضوئها مقدار السوء الذي حاق بهم نتيجة ما فعلوه في كربلاء. ولم تستند فاطمة الصغرى(ع) في نظرتها هذه الى الواقع وحده، اذ يعد قولها:«قوم زكاهم اللّه وطهرهم واذهب عنهم الرجس» صدى واضحا للاية الكريمة: (انمايريد اللّه ليذهب عنكم الرجس اهل البيت، ويطهركم تطهيرا) «الاحزاب/33».
وحين تجد السيدة زينب(ع) نفسها كالاسيرة امام يزيد في الشام تغيب صورة الافراد لتتركزصورة الجماعة والمشروع فتقول: «استاصلت الشافة باراقتك دماء ذرية محمد(ص)،ونجوم الارض من آل عبد المطلب». حيث يتراءى يزيد امويا جاهليا تتبدى جاهليته بموقفه مما يمثله محمد(ص) وذريته، وبحقده القديم على آل عبد المطلب الهاشميين.ويبدو آل البيت، في المقابل، رساليين محتضنين للرسالة. لقد استشعرت العقيلة المستقبل،وفي اكثر المواقف سوءا، بنظرة متفائلة ترى ما حل بهم في كربلاء انتصارا. كيف لا، وهم(حزب اللّه النجباء) و(حزب اللّه هم الغالبون) «المائدة/56» كما ترى الاية الكريمة.وهي حين اشارت ب«نجوم الارض من آل عبد المطلب» الى النسب الطاهر الذي اختاره اللّه حضنا لرسالته مسمية اياهم «ذرية محمد(ص») انما ابرزت البعد النبوي الايماني المتدفق في عروقهم، فلا تكون ثمة اية مسافة تفصل صورتهم عن صورة الامام الحسين(ع)في اذهان الاسرى، اللهم الا تلك المسافة التي تميز القائد عن المقود.
اما التوابون، وبعد اربع سنوات من محنة كربلاء، وبعد ان عصفت بهم ريح الندم وآنسوا انالفرصة مواتية للثار، تداعوا وتبادلوا الراي مشيرين في كلماتهم الى الحسين وآل البيتبتعابير عديدة: «ابن ابنة نبين» «ولده وحبيبه وذريته ونسله»، «آل نبين» «ولدنبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه»، «ابن بنت نبيكم» «ذا صدق وصبر،وذا امانة ونجدة وحزم، ابن اول المسلمين اسلاما وابن بنت رسول رب العالمين»، «اهلبيته»، «اخواننا بالطف رحمة اللّه عليهم».
تركز هذه الاشارات على صلة النسببالرسول(ص) دون ان تغفل طبيعة هذه الصلة وحقيقتها. فالحسين ابن بنته، والجماعة اهلبيته. وان يكون الحسين ابن بنته يعني ان يكون ولده وحبيبه وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، وفي هذا اشارة واضحة الى انه امتداد للرسول(ص) في الوجود دينيا ودنيويا.
وان تكون الجماعة اهل بيته يعني ان تكون ذريته ونسله وسلالته، وفي هذا اشارة الى انهمالمزكون المطهرون من اللّه سبحانه وتعالى. ينظر التوابون الى الحسين واهل بيته(ع) اذانظرة آل البيت الى انفسهم بوصفهم نتاجا طهريا ايمانيا علميا للدوحة المحمدية المباركة.ومن يراقب التوابين عشية معركتهم مع ابن زياد يلاحظ روحا جديدة تمازج تضاعيفالوصية التي اوصى بها سليمان بن صرد رجاله: «لا تقتلوا اسيرا من اهل دعوتكم الا انيقاتلكم بعد ان تاسروه، او يكون من قتلة اخواننا بالطف رحمة اللّه عليهم». ولا تكمنهذه الروح في النفس العلوي وحده، ولكن في تبدل الاشارة الى اهل الطف: من «اهل بيتنبين» الى «اخواننا بالطف». ولعل هذه النقلة مرتبطة بالنقلة التي تمت داخل نفوسالكوفيين. فقد تحولوا من متخاذلين الى مقبلين على الموت: (ان اللّه لا يغير ما بقوم حتىيغيروا ما بانفسهم) «الرعد/13/11». واذا ما حملوا السلاح واتخذوا قرار الشهادة انتقاماللطف اعادوا الاعتبار الى ذواتهم فباتوا يسمون شهداء واقعة كربلاء اخوانهم جريا علىالقاعدة القرآنية التي تقول: (انما المومنون اخوة) «الحجرات/49/10».
واذا ما تراءت الصورة الحسينية، عند آل البيت من خلال الاعتزاز بها والانتماء اليها، تراءتعند التوابين من خلال ترجحهم بين عقدة الذنب والنجاح في التغلب عليها، حتى لكانهمارادوا ان يحققوا اخوتهم للذرية النبوية الطاهرة عبر الشهادة على طريقها.
2- الحدث بين الكوفيين ويزيد بدت صورة الكوفيين، غداة الحدث، جلية في مخيلة آل البيت، قدموها، في خطابتهم،باسلوب مباشر بعيد عن اي شكل من اشكال التلوين الكلامي. نادتهم السيدة زينب(ع): «يااهل الكوفة، يا اهل الختل والغدر والخذل». وقال لهم زين العابدين(ع): «كتبتم الى ابيوخدعتموه واعطيتموه من انفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه».وكانت كلمة ام كلثوم(ع) الاولى لهم: «ما لكم خذلتم حسينا؟». ولئن استطاعت الصفاتالاربع الاساسية التي وصفوا الكوفيين بها: (الختل، والغدر، والخذل، والمخادعة) انتقدمهم وقد ارتكبوا خطا غير عادي بفاحشته، الا ان هذه العناوين الاربعة، وان سمت مافعلوه باسمه الذي وضعته له اللغة، فانها غير قادرة على تقديم خصوصية هذا الفعل بوصفهحدثا تم فيه قتل الحسين(ع) وسبي نسائه. وتاتي التشابيه لتعوض قصور تلك المفردات فيالتعبير عن خصوصية واقع الكوفيين: قالت لهم السيدة زينب(ع): «انما مثلكم كمثل التينقضت غزلها من بعد قوة انكاث»، فتراءوا من خلال تشبيههم بتلك المراة وقد اضاعواموقفهم القوي سدى.
ويسمهم هذا الامر بالغباء لتحولهم من الحق الى الباطل الذي لاينفعهم. وهذه الوضعية التي قدمها التشبيه لم تكن معروفة من خلال المفردات الانفة. ولاتستعين السيدة(ع) بالذكر الحكيم وحده لتقديم صورة الكوفيين، ولكنها تستعين بالحديثالشريف ايضا، حيث تشبههم قائلة: «او كمرعى على دمنة». واذا اشار المرعى الى قوةالخير والعطاء التي كان يمكن ان يمثلها الكوفيون لو وقفوا الموقف السليم، اشارت الدمنةالى قوة الاتلاف والتخريب التي حولت ذلك المرعى من مصدر للخير الى نفاية موذية،مستحضرة بهذه المشابهة حديث الرسول(ص) بكل عمقه وتكامله وما ينزله على ذلكالمرعى من صفات الغش والاذية والعواقب السيئة. اما تشبيهها لهم قائلة: «او كفضة علىملحودة» فان الفضة وان اختزنت من المعاني الايجابية ما تختزنه، الا انها باتت قيمةضائعة عندما كانت على ملحودة. فقد تعطلت وظيفتها الاساسية بوصفها زينة او قرشامدخرا.
ومن الجدير بالذكر ان التشابيه قد تدرجت بالكوفيين من نقض الغزل، الى مرعى على دمنة،الى فضة على ملحودة تدرجا يومىء الى بعد ايجابي معطل، ويحمل لوما شديدا يلقي علىالحدث ظلالا سوداء ويقدمه فعلا مستهجنا ومستنكرا. ولو عدنا الى الصفات الاربع:(الختل والغدر، والخذل، والمخادعة) وقراناها من جديد على ضوء التشابيه الثلاثة لرايناهاموجهة باذيتها الى ذات الكوفيين بقدر توجهها الى الحسين(ع)، لان الضعف الذي عراهملحظة الحسم جعل موقفهم يمثل ختلا وغدرا وخذلا ومخادعة لحقيقة الموقف الذي تمنواان يقفوه ولم يقدروا عليه. وهو بالتالي خيانة للذات واضاعة لصالحهم قبل ان يكون خيانةللحسين(ع).
وصورت السيدة زينب(ع) هذا الضعف بواسطة تشبيهين آخرين: «ملق الاماء وغمزالاعداء» مقدمة بذلك صورتهم البشعة التي لا يحسدون عليها. فالملق المعطوف علىالغمز الموجه الى آل البيت يكشف عن الدرك الذي انحدر اليه الكوفيون بخذلهمالحسين(ع).
والخذل هو الذي اسمته السيدة بالصفقة حين خاطبتهم: «خسرت الصفقة» مختصرةبهاتين الكلمتين الخطا الفادح الذي ارتكبوه. فالخسارة مركبة، لان التجارة بغير مرضاة اللّهخاسرة، وان ربحت، فكيف اذا لم يتحقق لهم ما مناهم به ضعفهم لحظة التخاذل؟ ولا تتكامل خصوصية الخذل الكوفي، ولا تتجلى كل ابعادها من خلال اللغة التصويريةوحدها، اذ لابد من ان نتبين كل ذلك على مرآة اللّه ورسوله. خاطبتهم السيدة قائلة: «بوتمبغضب من اللّه، وضربت عليكم الذلة والمسكنة» فقدمت الحدث جريمة نكراء اثارسخط اللّه، وجعلهم يتراءون امام ابصارنا على مرآة القرون البائدة من عاد وثمود وغيرهم،عبر آصرة النسب التي تربط الذلة والمسكنة بريح الصرصر العاتية. ورات فاطمةالصغرى(ع) عملهم «اجتراء منكم على اللّه ومكر» فاضاء كلامها عناصر الحدث كلها:الامام الحسين(ع) الذي تراءى موقفه ببعده الالهي الواضح، والكوفيين الذين بلغ الاثم بهمدرجة الاجتراء على اللّه والشجاعة في عصيانه، والحدث الذي تبدى جريمة بحجم اجتراءقوم لوط على نبيهم. ولقد دفعها ذلك لتقول: «فانتظروا اللعنة والعذاب فكان قد حل بكم وتواترت به السماء نقمات فيسحقكم بماكسبتم ويذيق بعضكم باس بعض».
ويسالهم الامام زين العابدين مستغربا: «باية عينتنظرون الى رسول اللّه(ص) اذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي فلستم منامتي» واذا غشي النظر ما يمنعه عن الروية الواضحة، حضر الرسول(ص) ليزيل تلكالغشاوة. فالذين قتلوا هم عترته، والحرمة التي انتهكت بسبي نساء الحسين(ع) حرمته.وحين تبلغ الامور هذا الحد هل تبقى من علاقة تربط القاتل بمن قتل ابناوه؟ ان تبرا الرسولمنهم يعني ان يتبرا الاسلام منهم. وهل هناك صفة تعد اقسى من الصفة التي رآها زينالعابدين للكوفيين؟ وتتكلم السيدة ام كلثوم(ع) باللغة نفسها: «اتدرون اي دواه دهتكم؟واي وزر على ظهوركم حملتم؟ واي دماء سفكتموها؟ واي كريمة اصبتموها؟ واي صبية سلبتموها؟ واي اموال انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي». فيخرج الاستفهام الانكاري الى التقريع ليشير كما اشار استفهام زين العابدين الى عدائية عملهم للرسول،ويقدمهم مارقين مع ما يعنيه المروق من سخط ولعنة.
وتدفعنا هذه الصورة التي تبدت للكوفيين على لسان آل البيت لنتساءل ان كانوا يحملونهم المسوولية كاملة عما جرى لهم في كربلاء. فنجد ان العقيلة(ع) توجه الاتهام مباشرة اليهم:«اتدرون ويلكم اي كبد لمحمد(ص) فرثتم، واي عهد نكثتم، واي كريمة له ابرزتم، واىحرمة له هتكتم، واي دم له سفكتم؟»، معيدة ضمير المخاطب في هذه العبارات الىالكوفيين وحدهم دون ان تترك اية اشارة الى احتمال وجود مشاركين فيه، مع انها تعرفويعرف الكوفيون ايضا ان العملية قد تمت بامر من يزيد. وهذا ما يعطي الكلام لازما دلالياله. مفاده ان السيدة تريد ان تبرز ذنبهم على مقدار الخطا الذي ارتكبوه. فهم يتحملون منمسوولية القتل ما يتحمله يزيد. فلولا رسائلهم وخذلهم لما وصلت النتائج الى ما وصلتاليه. وهي لم تحملهم مسوولية بسيطة عندما اسندت الافعال اليهم، وعدتها الى ما يرتبطبالرسول(ص): (كبده، وعهده، وكريمة له، وحرمة له، ودم له)، فالامور التي وقع الاعتداءعليها جوانب غير منفكة عن شخصيته النبوية، والاعتداء عليها اعتداء على الاسلام، اناتهام السيدة للكوفيين اتهام صائب وان تغافل عن يزيد، فهي في اثناء هذه الخطبة انماتواجه الكوفيين ولا بد من ان تحدثهم بما يعنيهم هم دون غيرهم. ونجد الفاعل نفسه للفعلنفسه عند كل من فاطمة الصغرى(ع)، وام كلثوم(ع). اما عند الامام زينالعابدين(ع) فالامر مختلف نسبيا. يعرف بنفسه امام الكوفيين: «انا ابن من انتهك حريمه،وسلب نعيمه، وانتهبت ماله، وسبي عياله» مستخدما الفعل الماضي المبني للمجهولالذي يترك الفاعل غير محدد. ولو شاء التركيز على الكوفيين لاستخدم الصيغة المعلومةللافعال واسندها اليهم.
ولكنه قصد استخدام الصيغة كما استخدمها، لانه حدد اتهامهللكوفيين بشكل واضح: «هل تعلمون انكم كتبتم الى ابي وخدعتموه واعطيتموه منانفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟» مسميا الاشياء باسمائها، حتى كلمة «قاتلتموه» فهي لا تشكل اتهاما بقتله، بل جاءت موقعة بما تدل عليه، لان دلالتها غيردلالة «قتلتموه». تبدا مسوولية الكوفيين بالمكاتبة، وتنتهي بالخذلان والمقاتلة.
يعني انهم اسهموا بكل ما جرى للحسين(ع) واهل بيته، ولكنهم ليسوا وحدهم. يضم الفاعل غيرالمحدد يزيد ومن والوه والكوفيين وربما قصد كل من اسهم بمسيرة الانحراف في الحياة السياسية الاسلامية، لانه ادى، وبطريقة غير مباشرة، الى حصول ما حصل للحسين(ع).ولعل تتويجه للتعريف بنفسه قائلا: «انا ابن من قتل صبرا فكفى بذلك فخر» انما هوافتخار بانتماء اهل بيت الحسين(ع)، الذين حل بهم ما حل، الى مسيرة الصواب في الحياةالسياسية الاسلامية في مواجهة مسيرة الانحراف. ويعني ذلك ان التضحية قد وقعت فيسياقها التاريخي الاسلامي، ولذلك كانت موضع فخره. اما ما قام به الكوفيون فقد يقع علىهامش تاريخ الانحراف لا في صلبه. وان تكون روية زين العابدين(ع) متميزة عن رويةالسيدة زينب(ع)، وفي الموقع نفسه، هو من قبيل تميز الامام المعصوم على من سواه منابناء العترة الطاهرة.
ولقد بلغ الامر بالخطباء من آل البيت ان يصلوا حد تقريع الكوفيين، فترددت عبارة «تبا لكم»في معظم كلماتهم.
واستعاضت عنها السيدة زينب(ع) بالتعبير القرآني «تبتالايدي» متوصلة بذلك الى اقصى التقريع، لان اسناد الفعل (تبت) الى (الايدي) دوناضافتها اليهم انما تفتح الباب على مصراعيه لصب جام غضبها على كل جارحة منجوارحهم. ولقد عبرت السيدة(ع) عن نقمتها هذه باساليب مختلفة: دعاء ساخطا «فلارقات العبرة ولا هدات الزفرة»، وتبكيتا لضمائرهم «الا بئس ما قدمت لكم انفسكم»مستخدمة التوكيد: «تعسا تعسا ونكسا نكس» لتبلغ بذلك النقمة اشدها.
ومن الجدير بالذكر ان هذه الامور لم تسق في هذه الخطب للتنفيس فحسب، ولكنها سيقتلوظيفة محددة. فلو ان الكوفيين كانوا مصرين على غيهم من «الصلف والعجب والشنفوالكذب» كما هي حال يزيد، لما راى آل البيت حاجة الى مثل هذا الكلام. والحقيقة انالكوفيين، وبعد ان «خسرت الصفقة»، تنبهوا الى جسامة ما اقترفوه فرقت قلوبهم حتىوجدنا شيخا من شيوخهم تخضل لحيته بالبكاء بعد ان استمع الى خطبة السيدةزينب(ع)، وسمعنا اصوات الناس وقد ارتفعت بالبكاء عند كلام زين العابدين(ع)وبعد خطبة فاطمة الصغرى، وضج الناس بالبكاء والنوح، ونشر النساء شعورهنووضعن التراب على رووسهن وخمشن وجوههن… وبكى الرجال ونتفوا لحاهم بعيد خطبةام كلثوم.
ولئن دل هذا على شيء فانما يدل على ان آل البيت قد آنسوا شيئا من التحول الايجابي فينفوس الكوفيين فتوجهوا اليهم بالتقريع، لعله ينفع في حثهم على الجهاد الحقيقي.
وحين وصل الموكب الحزين الى دمشق وقفت السيدة زينب(ع) امام يزيد متحدثة، فغابتصورة الكوفيين تماما لتحل محلها صورة المسوول الاساسي عما حدث، يزيد: «وكيفترتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف لا يستبطا فيبغضنا اهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن والاحن والاضغان». وحين تستعيرالسيدة(ع) ليزيد فاه جدته انما تقدمه حاملا لارث تلك الجدة في الحقد على الاسلام. ولقداوضحت السيدة ذلك الحقد من خلال حشد اهم المفردات التي وضعتها العربية للتعبيرعن انواعه ودرجاته: (الشنف، والشنآن، والاحن، والاضغان). ولم تكتف بتقديمه فيالموقعية السلالية الحاقدة على الاسلام، بل عمدت الى تقديمه ثمرة غير مباركة للتاريخالاموي ودوره في سفك دماء الشهداء: «ونبت لحمه من دماء الشهداء». ان اسنادالفعل(نبت) الى الفاعل (لحمه) اكسب هذا الفاعل هوية الشجرة الغريبة التي لا تسقىبالماء، لان تعدية هذا الفعل الى (دماء الشهداء) من خلال حرف الجر(من) اعطى الدماءهوية الري الغريب الذي يسقي تلك الشجرة.
ويخرج كل ذلك بلحم يزيد ليجعله الارثالاموي المتحدر عبر سواقي دماء الشهداء جيلا بعد جيل. واذا ما وضع التركيب شخصيةيزيد في موضع ضدي مع دماء الشهداء، يعني انه قدمها بذرة للشر. وشتان ما بين بذرة الشرالمتجلية في يزيد، وروح «الختل والغدر والخذل» التي راتها في الكوفيين. واذا ما تحدثتفي الكوفة وسط مناخ من الندم الذي عرا الكوفيين تحدثت في دمشق في ظل مناخ منالصلف والتجبر والكبرياء عند يزيد لا لتوثر عليه وتحوله عن موقفه، ولكن لتقول كلمتهابشجاعة، وتعلن انتصار آل البيت عليه: «اظننت يا يزيد حيث اخذت علينا اقطار الارضوآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الاسارى، ان بنا على اللّه هوانا وبك عليه كرامة،وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بانفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورا، حيثرايت الدنيا لك مستوثقة والامور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهل».ظنه في غير محله، وذلك لسوء فهمه لحقائق الامور واسرارها.
ويزيد هو من ارتكب جريمة كربلاء النكراء بكل ابعادها في نظر السيدة(ع) مستبعدةالكوفيين عن دائرة الضوء هذه المرة: «نكثت القرحة واستاصلت الشافة باراقتك دماء ذريةمحمد(ص) ونجوم الارض من آل عبد المطلب» مضيفة الاراقة الى ضمير المخاطبيزيد، معدية المصدر المضاف الى «دماء ذرية محمد(ص») قصد الاشارة الى ان استئصالالشافة المحمدية الاسلامية مستهدف من قبل يزيد من خلال تلك الاراقة. وتغييبالكوفيين ليس تبرئة لهم، ولكنه بسبب التركيز على الاهداف الاساسية التي اريقت الدماءالزكية لاجلها، وهي استئصال شافة لطالما حقد عليها الامويون ومنهم يزيد سواء اتعلقالامر بشقها النبوي الاسلامي ام بشقها الهاشمي العائلي.
وتحمله مسوولية اخرى: «وسوقك بنات رسول اللّه سبايا قد هتكت ستورهن، وابديتوجوههن، تحدو بهن الاعداء من بلد الى بلد، ويستشرفن اهل المناهل والمناقل، ويتصفحوجوههن القريب والبعيد والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولا من حماتهنحمي» مشيرة الى جريمة اضافية تكاد توازي جريمة اراقة الدماء بحجمها. كيف لا،وبنات رسول اللّه(ص) يسبين؟.
ولا يعني ذلك نصرا ليزيد. فروية السيدة(ع) للنتائج ليست كما يتصور هو، واجهته قائلة:«كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فواللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولاتدرك امدنا، ولا ترحض عنك عاره». فاذا بها تحدد اهداف يزيد من واقعة كربلاء بقدرما تعلن فشله وانتصار المقتول على القاتل.
فالامور التي تقض مضجعه: ذكر آل البيت،والوحي الذي نزل في ابياتهم، وكرامتهم عند اللّه، والتي استهدفها بقتل الحسين(ع)، لميفشل في تحقيقها فحسب، ولكنه ابتلي بعار لا يستطيع غسله مهما فعل ايضا.
ولا تقف السيدة(ع) عند هذا الحد، ولكنها تستمر في توهين امر عدوها: «وهل رايك الافند، وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد؟» واضعة كل انجازاته على مرآة الموت الذيسيجرده منها جميعا فيبدو سلطانه علامة وهن خصوصا وانه لا يقوم على مرضاة اللّه. واذاما اطمانت الى انها قد ارته انتصاره فشلا، اعلنت انتصارها عليه: «الحمد للّه رب العالمينالذي ختم لاولنا بالسعادة والمغفرة، ولاخرنا بالشهادة والرحمة».
حيث يومىء «حمداللّه» الى اعلى درجات الثقة بالنفس.
فالشهادة والرحمة مثار للعزة والفخار قبالة من يتمنىالشلل والبكم لكي لا يكون قد قال ما قال وفعل ما فعل.
يبقى ان خطباء آل البيت قد راوا الواقعة والكوفيين ويزيد على مرآة الاسلام بشكل عام. ولايعني ذلك انهم قدموا صورة واحدة عما تناولوه بحديثهم. فلكل خطيب منهم موقعهالديني والقيادي الذي اعطى رويته خصوصية تميزها عن روية سواه.
واذا تراءى الحدث كما رايناه عند خطباء آل البيت، تتحدد معالمه على ضوء الخطيب مرة:زين العابدين او السيدة زينب او السيدة فاطمة الصغرى، او ام كلثوم عليهم السلام، وعلىضوء المخاطب مرة اخرى: الكوفيين او يزيد. فكيف سيتراءى عند التوابين؟ وما هي الامورالاخرى التي استرعت انتباههم؟.
حاول المسيب بن نجبة الفزاري ان يرسم صورة للكوفيين في اثناء اجتماع التوابين للتداولفي امر الثار للحسين(ع): «كنا مغرمين بتزكية النفس، وتقريظ شيعتنا، حتى بلا اللّه اخيارنا، فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا(ص). وقد بلغتنا كتبه، وقدمت علينارسله، واعذر الينا يسالنا نصره عودا وبدءا، وعلانية وسرا فبخلنا بانفسنا، حتى قتل الىجانبنا، لا نحن نصرناه بايدينا، ولا جادلنا عنه بالسنتنا، ولا قويناه باموالنا، ولا طلبنا لهالنصرة الى عشائرن». عدى الخطيب فعل (غرام الكوفيين) الى امرين بواسطة حرفالجر الباء: (تزكية النفس) و(تقريظ شيعتهم). يعني ان اقبالهم على هذين الامرين قد تعدىحدود العلاقة العادية ليصبح شغلهم الشاغل وموضع اهتمامهم، لانه قد تجاوز دائرةالاقتناع الى دائرة الميل النفسي. فهل ستعطي هذه العلاقة اكلها؟ وهل وصلوا بتزكية انفسهمدرجة بيعها للّه؟ وهل بلغ بهم تقريظهم لشيعتهم درجة الشهادة؟ يدل الذي حصل علىفشلهم ازاء التجربة. وفي محاولة منه لمحاسبة النفس قال: «وبلغتنا كتبه وقدمت علينارسله، واعذر الينا يسالنا نصره». واول ما يلفت انتباهنا في هذا الكلام ان المسيب قدذكر كتب الامام اليهم ولم يذكر كتبهم اليه ووعدهم اياه بالنصرة. يحمل نفسه المسووليةبحدود التزامه بالتشيع، فيكون التقصير، من وجهة نظره، محصورا بعدم نصرهم اياهبايديهم، ومجادلتهم عنه بالسنتهم، وتقويتهم اياه باموالهم وعشائرهم، اي بعدم امدادهماياه باي شكل من اشكال الدعم او العون. واذا اراد ان يسمي حقيقة هذا الموقف استخدمكلمتي(الكذب) و(البخل).
ولئن المحت الكلمة الأولى الى الغدر، فأنها لم تسمه باسمهوابقته احتمالا غير موكد. ولا تشكل الكلمة الثانية توغلا اشد في القساوة من (الكذب).فهي وان احتملت الخذل في تضاعيفها الا انها لا تحتمل المعاني التي اطلقتها السيدةزينب(ع) على الكوفيين: الختل والغدر والمخادعة.
يعني ان المسيب لم يستطع ان يصلبنفسه وبالكوفيين الى الصورة التي قدمها آل البيت(ع) عنهم. فهي صورة مخففة للخطاتحمل في طياتها دعوة الى النهوض والثار.
اما سليمان بن صرد الخزاعي فيقول: «انا كنا نمد اعناقنا الى قدوم آل نبينا، ونمنيهم بالنصر،ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا وادهنا وتربصنا وانتظرنا ما يكون حتى قتلفينا… اذ جعل يستصرخ النصف فلا يعطاه… الا انهضوا فقد سخط ربكم… واللّه ما اظنه راضيا دون ان تناجزوا من قتله او تبيرو». انه يشير الى مسالة اغفلها المسيب، وهي حقيقة دعوتهم الحسين(ع) للقدوم. ان يمدوا اعناقهم الى قدوم آل نبيهم كناية عن شوقهمالشديد اليهم وتمسكهم القوي بهم.
وهذا ما ادى الى ان منوهم بالنصر وحثوهم علىالقدوم الى الكوفة. وحين يواجه سليمان بن صرد اخوانه الكوفيين بهذه المعلومات فانه لايقدم لهم معلومات يجهلونها، ولكنه يريد النفاذ من خلال كلامه هذا الى الاعتراف،باسمهم، بالخطا الكبير، خصوصا وانه يلجا الى الحجة، يعرض القول ثم يقارنه بالفعل «فلماقدموا ونين»، لكي لا يكون ثمة مجال للنقاش.
حتى لكانه يقول: افحمنا الحدث ولا نملكما ندافع به عن انفسنا، نفاذا من كل ذلك الى تقريع الانفس وحثها على الجهاد. ولكن بموصف هذا الخطا؟: «ونينا وعجزنا، وادهنا، وتربصنا وانتظرنا ما يكون». حيث نجد كلمتينمترادفتين تقريبا في البداية: (ونينا) و(عجزنا) وهما لا تدلان على ان التقصير قد جرىبسبب الوني والعجز الموجودين، ولكنهما تدلان على ان الكوفيين قد اصطنعوهمااصطناعا. وهذا ما ينفي العذر عن التقصير.
ونجد كلمتين اخريين مترادفتين تقريبا: (تربصنا) و(انتظرنا) وهما تشيران الى الحيادية التياصطنعها الكوفيون حيال الحدث طلبا لحفظ رووسهم. وتتوسط الكلمات الاربعكلمة(ادهنا) التي تختزن الخبث الذي يتدخل في توجيه دلالة تلك الكلمات ودفعها تجاهمزيد من السلبية ملمحة الى الختل والغدر والمخادعة وان لم تسم هذه المعاني باسمائها.وسليمان بن صرد وان تقدم المسيب في اتهام نفسه واتهام الكوفيين الا انه لم يصل الى ماوجهه اليهم آل البيت(ع).
حاول الكوفيون ان يقدموا صورة مخففة نسبيا عن خطاهم وان راوا انهم قد اقترفوا «الذنبالعظيم» مستقلين قتل النفس في سبيل الخروج منه لو كان قتل النفس محللا.
وحاول التوابون مراقبة ما جرى، على ضوء الاسلام، فراى عبيداللّه بن عبداللّه ان الذينارتكبوا القتل «لم يراقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول». ولم يحمل مسوولية هذاالسلوك غير الاسلامي للامويين وحدهم، لان «اللّه لم يجعل لقاتله حجه، ولا لخاذلهعذر» مفرقا بين القاتل والخاذل محملا كلا منهما ما يجب ان يتحمله. وتضيق هذهالمسافة عند رفاعة بن شداد عندما يسمي موقف الكوفيين ازاء الحدث(الذنب العظيم).ولا توضح هذه التسمية عمق العلاقة التي تربط الحسين باللّه وقوتها فحسب، ولكنها تقدمالحدث جريمة تفوق كل تصور، وتقدم الكوفيين طرداء اللّه على ارضه فكيف يكون الامربمقترفها من الامويين. ويترك سليمان بن صرد الباب مفتوحا على غير احتمال: «الا انهضوافقد سخط اللّه… واللّه ما اظنه راضيا دون ان تناجزوا من قتله او تبيرو». ولئن اختزن هذاالكلام بعدا تحريضيا تثويريا يتوخى دفع الكوفيين الى القتال ثارا للحسين(ع) الا ان اسنادالفعل (سخط) الى (اللّه) دون تعديته الى موضوع ذلك السخطيضع الكوفيين على قدمالمساواة مع الامويين في موقف اللّه منهما. وهذه المساواة عامل تثوير يضع التوابين امامتحدي تمييز الذات عن الامويين وتحدي دفع سخط اللّه عنهم خصوصا وان (قد) التيتلعب دورا تحقيقيا للفعل رسخت ذلك السخط في اذهانهم.
وميز التوابون انفسهم عن قتلة آل البيت. ويعني هذا التمييز نظرة محددة الى القتلة، فماهي؟ استخدم التوابون في وصف يزيد وابن زياد والموالين لهما الفاظا عديدة اهمها:المحلون، والمارقون، والفاسقون، والقاسطون. وتحدد هذه الالفاظ موقع هولاء القوم منالدين اما تجاوزا لحدوده، واما عصيانا لامر اللّه، واما جورا عن خط العدالة المستقيم. وهيكلمات لا تقفل الباب تماما امام هولاء القوم، بل تبقي خيط امل، ولو كان دقيقا جدا،يربطهم بالدين. فهل كان هذا حقيقة راي الكوفيين بيزيد ورجاله؟ عندما سمى عبيداللّه بينعبداللّه قتالهم جهادا في قوله: «انا ندعوكم… الى جهاد المحلين والمارقين»، انما اسبغعلى ذلك القتال صفة القداسة التي ستسبغ بدورها بعدا عدائيا للاسلام على المحلينالمارقين. ولا يعني استخدام المسيب بن نجبة كلمة (قاتل) في وصفهم تخفيفا عنهم: «وقدقتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله، لا واللّه، لا عذر دون ان تقتلوا قاتله والموالين عليه…فعسى ربنا ان يرضى عنا عند ذلك»، لانه وان تبادر الى الذهن بان هذه التسمية تسميةحيادية موضوعية، الا انها سرعان ما تستخلص حقيقتها الدلالية من مختلف اجزاء التركيب.وقوله: «فعسى ربنا ان يرضى عن» انما يقدمهم مذنبين ذلك الذنب الذي قد يكون خارجدائرة الذنوب التي يغتفرها اللّه. وحين يربط امكانية الغفران بقتل قاتل الحسين(ع) انما يعودليضيء كلمة(قاتل) التي تبدت لاول وهلة مخففة. فاذا كان قتل القاتل قد لا يرضي اللّهتعالى ولا يشكل كفارة عما اقترفه الكوفيون وهو دون القتل، فما هي وضعية القاتل عنداللّه؟ انها وضعية غير قابلة للتصور تذهب بالخيال كل مذهب.
بات التوابون اسيري عقدة الذنب اذا، فباي اتجاه سيندفعون؟ وهل سينصب سخطهم علىالدنيا وعلى التمسك باهدابها؟ هل سيتخذون قرار الموت؟ بادر المسيب بن نجبة الى رسمالطريق الذي يجب ان يسلكه التوابون: «لا واللّه لا عذر دون ان تقتلوا قاتله والموالين عليه،او تقتلوا في طلب ذلك». انها الدعوة الى الجهاد يعلنها الخطيب دون ان يكون مهتمابابعادها السياسية. كل ما في الامر ان احساسا بغضب اللّه قد انتابهم، وعليهم ان يحاولواكسب مرضاته «فعسى ربنا يرضى عن». واذا تطلب الجهاد قائدا طلب المسيب: «ايها القومولوا عليكم رجلا منكم» محددا الاولويات المطلوبة: الجهاد وقائد مسيرة ذلك الجهاد.
وكان ان امروا سليمان بن صرد الذي اتخذ قرار الموت: «الا انهضوا فقد سخط ربكم، لاترجعوا الى الحلائل والابناء حتى يرضى اللّه، واللّه ما اظنه راضيا دون ان تناجزوا من قتلهاو تبيرو». والذي يلفت الانتباه في هذا الكلام ان القائد قد وضع قرار الموت في موقعضدي مع الدنيا: «لا ترجعوا الى الحلائل والابناء حتى يرضى اللّه» ولن يرضى الا «انتناجزوا من قتله او تبيرو». ويشكل الانتصار على الدنيا انتقاما منها، لانها حالت بينهم وبيننصرة ابن بنت نبيهم(ص). وتاتي استجابة خالد بن سعيد بن نفيل نموذجية على هذا القرار:«ان كل ما اصبحت املكه، سوى سلاحي الذي اقاتل به عدوي، صدقة على المسلميناقويهم به على قتال القاسطين».
وتحويل كل ما يملكه، سوى سلاحه، الى صدقة يعنيقطع كل صلة له بالدنيا، واندفاعة لا هوادة فيها تجاه الموت، حتى لكان الدنيا منافية لمرضاةاللّه. ولعل من رسم الطريق بهدوء وقدمه هادفا يرمى الى تحقيق الاهداف التي استشهددونها الحسين(ع) هو عبيداللّه بن عبداللّه: «انا ندعوكم… الى جهاد المحلين والمارقين، فانقتلنا فما عند اللّه خير للابرار، وان ظهرنا رددنا هذا الامر الى اهل بيت نبين». لم تعدالقضية عنده ردا عفويا ينحو منحى ثاريا، صارت مشروعا سياسيا.
والذي جعل روية عبيد اللّه اكثر وضوحا هو انه لم يكن كوفيا.
كان الكوفيون مغرمين بتزكية انفسهم، وتقريظ شيعتهم حتى بلا اللّه اخيارهم، فكانت النتيجة تخاذلا سبب لهم عقدة ذنب لم يعرفها الشيعة من غير الكوفيين. ففي المدائن كانوا «مجمعين مزمعين على نصر الحسين… واللّهمثيب «هم» على حسن النية». عاش الكوفيون اذا ازمة عقدة الذنب التي لم يعشهاالشيعة الاخرون، وكانوا قادرين على وعي الابعاد السياسية لعملهم الجهادي.
ومهما يكن من امر، فان خطابة آل البيت قد فعلت فعلها ونجحت في تسعير عقدة الذنب الكوفية وتحويلها الى فعل جهادي. فانتقلوا من خاذلين متخاذلين الى توابين عازفين عنالدنيا مقبلين على الموت. واستطاعت خطابتهم في الشام ان تنغص على يزيد نشوةانتصاره وان تحوله الى اسير جريمته.
ولم يقل دور خطابة التوابين نجاحا عن خطابة آل البيت. فقد استطاعوا ان ينتصروا علىذواتهم وعلى الدنيا وان يتخذوا القرار الصعب، قرار الموت او قتل القتلة.
ب- اللغة الخطابية بين آل البيت والتوابين اكتشف الرماني، ومنذ القرن الرابع للهجرة، الامكانات التي يختزنها التركيب فقال: «ان دلالةالاسماء والصفات «اي الكلمات» متناهية، اما دلالة التاليف فلا نهاية له»، محددا منخلال هذا الفهم كيف تكون الكتابة ناجحة تتصف بالابداع، وكيف لا تكون. ان لا نهائيةالدلالة التي يقدمها التاليف تضعنا امام امكانية مفتوحة لانتاج ابكار الدلالات وتوجب علينا الا نكرر ما قلناه، او ما قاله سوانا. فالمتسع الذي تتيحه آلية التركيب متوفر للجميع، خصوصااذا ادركنا ان تعديل وضعية كلمات التركيب نفسه تقديما او تاخيرا، تعريفا او تنكيرا يجر الىتعديل واضح ودقيق في الدلالة. واذا اضفنا الى هذا الامر ان مفردات اللغة التي تشكلبطبيعتها عناوين شديدة العمومية لاشياء الوجود وهي في موقع ضدي مع حاجاتناالتعبيرية حيث كل شيء نسبي وشديد الخصوصية. لمسنا بدقة البعد الابداعي في الكتابة.فالانسان الذي يواجه امور الحياة وقضاياها بشكل حيادي غير موجود. تتم قراءاتنا للحدث او لاشياء العالم من خلال شبكة معقدة، لعل اهم امرين فيها هما: الثقافة والموقف، وقلمانرى الوجود من خارج هذين العاملين. فالثقافة هي كل ما حصله الانسان من المعرفة وتقنياتها وادواتها، والموقف هو تلك القناعات التي ترسخت في نفسه بناء على ثقافتهالخاصة ومنطقه الخاص. وحين يكون الامر على هذه الشاكلة لا بد من ان يرى كل منا ابعاداخاصة من الحدث او من اشياء الوجود لا يستطيع الاخرون ان يروها. يعني ان «تنتمي اشياء الوجود عنده الى عالمه الخاص وتستقي منه دلالاته». وتكمن قدرة المبدع فياستخدام اللغة استخداما يمكنه من تقديم تلك الابعاد الخاصة التي رآها. واللغة، بدلالة مفرداتها، وبناء على ذلك، حركة مستمرة لا تعرف الانقطاع، وهي موازية لحركة الانسانونموه النفسي والخلقي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفي. يعني انها مرتبطة بقدرتنا علىاكتشاف ابعاد جديدة لاشياء العالم. حيث نجد الكلمات (العناوين) غير قادرة على التعبيرعن خصوصية ما رايناه ولا بد من ان نلجا الى ما اوجدته اللغة نفسها لتعويض هذا القصور.عنيت بذلك الاستعارة والتشبيه والمبالغة والطباق وغير ذلك.
ونحن في كربلاء امام حدث فريد له خصوصيته الواضحة بكل جزئياته وعناصره البشريةوالنفسية والسياسية والدينية. فهل استطاع الخطباء من آل البيت والتوابين، ان يعبروا عنهذه الخصوصية؟ وهل كانت تسميتهم لمختلف عناصر هذا الحدث منتمية الى ثقافتهم وموقفهم، والى خصوصية ذلك الحديث؟.
1- لغة آل البيت الخطابية كان لخطابة آل البيت معجم خاص بها. استقطب المفردات اللغوية المتعلقة بخصوصية واقعة كربلاء من جهة وبخصوصية الاطراف المرتبطة بهذا الحدث سلبا-، امايجابا- من جهة اخرى، فكان معجما دالا على مدى الابداع الذي يتمتع به هولاءالخطباء. فهل سيكون التركيب اللغوي موازيا لذلك المعجم من الناحية الابداعية؟.
من يتصفح النصوص الخطابية التي تحدث بها آل البيت، بعيد الواقعة، يجد نفسه امام لغةخاصة لها مقوماتها سواء اتعلق الامر باستنطاقهم المشاهد للتعبير عن مشاهداتهم، ام باعادة شحن الكلمات بدلالات جديدة خاصة، ام بتحميلها مهمة التعبير عن نظرتين متناقضتين: اولا: استنطاق المشاهد: حاول هولاء الخطباء من خلال تقديم بعض المشاهد ان ينفذوا الى التعبير عن نظرتهم الىبعض عناصر الحدث الكربلائي: خاطبت السيدة زينب(ع) الكوفيين قائلة: «لقد جئتم شيئاادا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هد» فلم تكتف بوصف عملهم بالشيء الاد (الفظيع)، لان ذلك يدرجه من بين امور فظيعة كثيرة. وتسمية الحدث بهذه الطريقة هي مجرد تقديم عنوان عام لا يضعنا امام حرارة التفاصيل او خصوصية ماجرى. وياتي الفعل الناقص (تكاد) لتجعلنا المقاربة التي ينطوي عليها نترقب مقدار فظاعة ذلك الحدث من خلال الخطورة التي كان يمكن ان نواجهها لو ان تلك الفظاعة كانت اكثرمن ذلك بقليل. فالمسالة غير قابلة للحصر او التقدير، لان تفطر السماء وانشقاق الارض وانهداد الجبال ليست من الامور التي يصادفها الجيل او مما يحدث كل عدة اجيال. انهاغضب اللّه الكبير الذي ارادت الخطيبة ان ترينا على مرآته صورة كل من الكوفيين ويزيد التي راتها لهم. ولا يقدم هذا المشهد صورة من غضب اللّه عليهم فحسب، ولكنه يقدمصورة من غضب اللّه لاجلهم ايضا. تلك الصورة التي تقارب صورة الانبياء، الذين اباد اللّه لاجلهم الامم والقرون الخالية.
وتقف بنا السيدة(ع) امام مشهد آخر، وان كان عند يزيد هذه المرة: «فهذه الايدي تنطف مندمائنا، والافواه تتحلب من لحومن». يحمل المجاز المرسل، في التركيبين: الاولوالثاني، يزيد المسوولية الكاملة عما حدث لال البيت في كربلاء. والتركيبان تجاوزا العلاقة السببية ليقدما لوحة ناطقة ببشاعة ما اقدم عليه يزيد. فهما كنايتان: تشير الاولى منهما الىكثرة ما اريق من دماء آل البيت، وتبدل الثانية هوية الامويين الموضوعية بهوية فنية موحيةهي هوية الكواسر.
وتتعاون هاتان الكنايتان مع المجاز المرسل لتقدم صورة مجزرة رهيبة،وجزارا من طراز فريد.
لعبت المشاهد التي رسمها الخطباء وظيفة بالغة الاهمية في خطابتهم، لانها استطاعت انتقدم لنا خصوصية بعض العناصر الكربلائية التي لا تستطيع اللغة العادية ان تسميها لنا،سواء اتعلق الامر بوضعية الكوفيين على ضوء غضب اللّه، ام بوضعية يزيد على ضوء الايدي التي تنطف دماء والافواه التي تتحلب من لحوم آل البيت.
ثانيا: اعادة شحن الكلمات: هل نجح آل البيت في شحن الكلمات التي استخدموها في خطابتهم بدلالات جديدة تعطيها ابعادا خاصة بهم وبواقعة الطف. وصفت السيدة(ع) الكوفيين قائلة: «ملق الاماء،وغمز الاعداء». تستدعي كلمة (اماء) نقيضها (الحرائر)، لان الاضافة (ملق الاماء) اشارةالى علاقة الامة بسيدها وولي نعمتها. فاذا تاسست علاقة الحرائر بالازواج على قاعدة الاعتزاز بالانتماء والتكافو الاجتماعي، تاسست علاقة الاماء باسيادهن على قاعدة الذلةوالاحساس بالدونية. يضاف الى ذلك ان الملق قائم على الافتعال لا على العفويةوالاستجابة الطبيعية. ويرتب كل ذلك دلالة قائمة على المكر والختل والمخادعة. واذاعرفنا ان السيدة(ع) تصف رجالا بهذا النوع من الملق، ادركنا الوضعية السيئة التي قدمهمالتركيب من خلالها، خصوصا اذا نظرنا اليها على ضوء الحديث الشريف: «ليس من خلقالمومن الملق».
اما كلمة (غمز)، فانها تشكل اشارتين في ايماءة واحدة: الاولى الى اعوجاج الاخر وخطاه، والثانية الى ترفع الغامز وتعاليه عن الخوض بالمغمز. وفي الحالين ايلام للاخر واثارة لنقمته،واذا اقترنت هذه الكلمة بالملق بواسطة حرف العطف، تبادلت معها الاضاءة والاستضاءة،وتزاوجت دلالتاهما، فتبدت شخصية الكوفيين شخصية غريبة يصعب التعامل معها حتىلكانها الرمال المتحركة يستدرج الحسين(ع) الى الخوض فيها. ومما يجدر ذكره ان وضعيةالكوفيين التي قدمتها لغة السيدة زينب(ع) من خلال هذين التركيبين هي وضعية خاصة بهم وفي تجربة محددة. وهي لا تعني مختلف اجيال الكوفيين ولا اية جماعة كوفية ممن لاعلاقة لهم بما جرى في كربلاء، انها تخص اولئك الذين راسلوا الحسين(ع) ودعوه ثم خذلوه وقاتلوه. يعني ان كلمات النص (ملقراماءرغمزراعداء) بما ادته من دور وبما حملهااياه التركيب من دلالة قد باتت منتمية الى هذا النص دون سواه.
ويتكيف الفعل(رحض) مع خصوصية الذنب الكوفي في كلام السيدة نفسها(ع): «ابليتمبعارها، ومنيتم بشنارها، ولن ترحضوها ابدا، وانى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدنالرسالة». لقد اسندته الى الكوفيين وعدته الى الجريمة التي اقترفوها، فاعطت الذنبهوية الوسخ، والتخلص منه هوية الاغتسال. ويشكل الاغتسال تعبيرا اكيدا عن الرغبة فيالتخلص من الوسخ. وهو عملية سهلة يمارسها جميع الناس، ولانها كذلك استعارتها السيدة(ع) للتعبير عن رغبة الكوفيين في التخلص من الذنب، ولتضعهم بين ما يتمنون(سهولة التخلص) ويفكرون به (الرحض)، وبين استحالة تحقيقه (انى ترحضون؟).فالاستفهام الانكاري المتلبس بهذه الاستعارة تعدى الانكار الى الاستحالة، لان ما يرغبونرحضه غير قابل للرحض(قتل سليل خاتم النبوة). ولقد سبق هذا الاستفهام الانكاري نفيلهذا الفعل (لن ترحضوها) بعد توضيح لهوية ما يراد غسله (ابليتم بعارها ومنيتم بشنارها). فلا يكمن هذا الوسخ فوق جلود الكوفيين ولكنه يمازج ارواحهم حتى صار ميسما لهاوعلامة تعرف بها وجزءا من هويتها. وهذا ما جعل الفعل(رحض) محملا بالقلق الذي انتابالكوفيين ازاء ذنبهم والغصة التي يتجرعون حرقها وعقدة الذنب التي حولت حياتهم مرارة وجحيما. كيف لا؟ وهي لم تكتف باضافة كلمة (قتل) الى (سليل خاتم النبوة ومعدنالرسالة) فحسب، ولكنها اضافتها الى كل الاسماء التي تعبر عن الحسين(ع). فهو سيد شباب اهل الجنة، وملاذ حربهم، ومعاذ حزبهم، ومقر سلمهم، واسى كلمهم، ومفزغ نازلتهم، والمرجع اليه عند مقاتلتهم، ومدرة حججهم، ومنار محجتهم. وبقدر ما تتراكم هذهالصفات النوعية معبرة عن حقيقة الحسين(ع) المقدسة يشحن هذا الفعل بمعاني الصعوبة والاستحالة. حتى نشعر كانه يستعمل لاول مرة في اللغة العربية.
وتاخذ كلمة(مدرة) مثل هذا البعد في وصف الامام الحسين(ع) «مدرة حججكم». لاناضافة(مدرة) الى (حججكم) انما ابدلت الهوية الموضوعية بهوية فنية هي هوية المدراي(الطين). ولم يجر هذا الابدال بشكل عبثي ولكن وظف توظيفا دلاليا محكما. فمدرالحوض يجعله محكما ويمنع تسرب الماء منه، وكذلك الحجة الماخوذة من مدرة الامامالحسين(ع) حجة قائمة على الاحكام والدقة. وتضيء الحجة المدرة مثل ما اضاءتها. فلاتحتفظ المدرة بهويتها الموضوعية بل تستبدلها بهوية فنية هي علوم الحسين(ع) ومعارفهالتي تكسبها المدرة صفة الاتساع والعمق وعدم النفاد.
ولا تسمي زينب(ع) الحسين(ع) «مدرة حجج» الناس الا لانها مقتنعة بانه وريث علمالرسول(ص). فهي تسمية شديدة الخصوصية اكسبت كلمة (مدرة) دلالة خاصة لا نجدهالها خارج هذا النص، خصوصا اذا ادركنا دور الحجة الكبير في الجدل الذي كان دائرا فيحياة المسلمين الدينية والسياسية في تلك الحقبة.
وتتصف كلمة (لتودن) التي وجهتها السيدة زينب(ع) الى يزيد بمثل هذه الخصوصية، قالت له: «فلتردن وشيك» موردهم ولتودن انك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت مافعلت»، معدية الفعل(لتودن) الى مفعولين هما: اسم ان وخبرها وحين يتعدى هذاالفعل الى الفعلين الواقعين في محل نصب مفعول به ثان (شللت) و(بكمت). انما يحيلهمامن دلالتهما السلبية المخيفة (الشلل والبكم) الى دلالة محببة ايجابية. وحين يصير الشللوالبكم امرين مرغوبين يعني اننا امام قول وفعل ليزيد ينطويان على ذنب لا يمكننا تصور حجمه.
ويعود كل ذلك ليضيء الفعل (لتودن) اضاءة جديدة، فلا يبقى قائما على الراحة النفسية، بل ينتفي منه كل بعد ايجابي. ان يود المرء ما لا يود يعني ان الوداد قد دخل مناخا مرضيا يقدم يزيد في اقصى درجات الوهن والضعف.
ويدخل، في هذا السياق، موقف السيدة زينب(ع) من «مخاطبة» يزيد: «لئن جرت عليالدواهي مخاطبتك. اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك».تنتمي كلمة (مخاطبتك) في هذا النص الى خصوصية الموقف النفسي الزينبي من يزيد، فاسناد الفعل (جرت) الى (الدواهي) وتعديته الى (مخاطبتك)، انما يقدم تلك المخاطبة مخاطبة خاصة لا يمكن ان نجدها خارج هذا التركيب، لان ارتباط المخاطبة بالدواهي جعلها مخاطبة بالغة الصعوبة حتى لتكاد تساوي ما تخشاه السيدة(ع) وهي لا تخشىالموت. والسبب في ذلك ان السيدة تستصغر قدر يزيد وتستعظم تقريعه وتستكثر توبيخه. وهذا ما يجعلنا نحس وكاننا نسمع هذه الكلمة لاول مرة.
يتبين مما تقدم ان آل البيت، ومن موقع البداهة التي واجهوا بها الحدث الكربلائي، كانوا مخلصين للكلمة، بقدر اخلاصهم لانفسهم ولدينهم فجاءت مخلصة مما حملته اياها التجربة الابداعية قبلهم ليعاد شحنها بما يتناسب وثقافتهم وموقفهم ورويتهم.
ثالثا: كلمات اللغة امام دلالتين متناقضتين: تشير نصوص آل البيت الخطابية الى وجود لغتين: لغتهم، ولغة الاخرين. ويتجلى هذا الامرمن خلال المفردات التي وضعتها هذه النصوص امام رويتين متناقضتين. حيث ينشق الفعل (ابتلى) في كلام فاطمة الصغرى(ع): «انا اهل بيت ابتلانا اللّه بكم وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسن» الى بعدين دلاليين مختلفين من خلال تعديته الى آل البيت في مواجهة الكوفيين مرة، وتعديته الى الكوفيين في مواجهة آل البيت مرة اخرى. حتى لنحس ان جدلا يدور داخل دلالة هذا الفعل. انه امتحان الطرفين. ولكن شتان ما بين مضموني الامتحانين.ابتدات السيدة فاطمة من الفعل نفسه (ابتلى)، لتبرهن على ان لغة آل البيت مناقضة للغة الكوفيين، موكدة ان التمايز اللغوي قائم على تمايز نفسي وعقائدي يضعنا امام جدل (المنصور/ النصير) و(المقدم/ الخاذل) و(الخاسر/ الرابح) و(المنتصر/ المهزوم)، نواجهسلمين للقيم يستدعي كل واحد لغته الخاصة به.
ونجد هذه الحقيقة عند زين العابدين(ع): «انا ابن من انتهك حريمه، وسلب نعيمه، وانتهبماله، وسبى عياله، انا ابن من قتل صبرا، فكفى بذلك فخر»، حيث عدل الافتخار دلالة الافعال السلبية بابعاد دلالية ايجابية. والذي ادى الى هذا التعديل نظرته المختلفة الى الافعال التي رآها وقد اكسبت آل البيت اجرا متناسبا بسموه عكسيا مع مقدار بشاعتها. حولها الاجر الى موضع فخر الامام(ع) على عكس ما يراه يزيد برويته ولغته. وتتجلى قدرةروية الامام على تحويل دلالة الكلمات الى اضدادها في قوله: «خدعتموه واعطيتموه منانفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه». فلو وجد التركيب (اعطيتموه) مع ما تعدى اليه من مفاعيل منفردا لادى دلالة ايجابية. اما وقد عطف على (خدعتموه)، واسند مثله الى الفاعل نفسه (اهل الكوفة) وتعدى مثله الى المفعول نفسه الامام الحسين(ع)، صار امتدادا للخديعة متلبسا السلبية متخليا عن كل بعد ايجابي.
وكذلك الفعلان: (قرت) و(فرحت) في كلام السيدة فاطمة الصغرى(ع): «قرت بذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم اجتراء منكم على اللّه» نظرت الى حالهم على ضوء مرضاة اللّه فوجدتها اجتراء منهم عليه، فدفع هذا الاجتراء الفعلين لكي يتخليا عن مضمونيهما الحقيقيين وما يستتبعه ذلك من راحة وطمانينة ليتحولا الى عهر نفسي يخفي ابعادا ماساوية تضج بالقلق ويعصرها الحزن. وتصبح بذلك قرارة العيون وفرح القلوب حالا مرضية لا دليل صحة وعافية.
وتقرا السيدة زينب(ع) جذل يزيد وسروره بلغتها قائلة: «فشمخت بانفك، ونظرت فيعطفك جذلان مسرور» .
وهي حين تسوق ليزيد خبرا يعرفه، انما تريد النفاذ الى دلالةتكمن فيما وراء ذلك الخبر. ينفي الفعل(ظننت) المسبوق بهمزة الاستفهام ان يكون علىاللّه هون بل البيت وكرامة بيزيد. وحين ينتفي الظن الذي بنى يزيد شموخه وجذله وسرورهعليه تصبح هذه المشاعر مفرغة من مضمونها الحقيقي وتتحول الى حال مرضية تضعالسيدة زينب في موضع الهازئة الساخرة. وهذا من اقوى المواقف التي يقفها اسير فيمواجهة جلاده.
وتاخذ القسمة بين اللغتين ابعادا اخرى. فكما انشقت الكلمة الواحدة الى دلالتينمختلفتين، التقت الكلمتان المتناقضتان حول دلالة واحدة، تقول السيدة ليزيد: «لئناتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرم». فالمغنم في عين يزيد هو مغرم في عين آل البيت.والعكس بالعكس، لاننا امام رويتين متناقضتين ننظر من خلالهما الى هاتين الكلمتين اللتينالغيت ضدتيهما.
فالمغنم مغنم ومغرم، والمغرم مغرم ومغنم.
ونجد مثل هذا في قولها ليزيد ايضا: «ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك»، حيثيكون قتل الحسين(ع) فريا لجلده وحزا للحمه في عين الدنيا، وفريا لجلد عدوه وحزا للحمذلك العدو في نظر الاخرة. لقد وحدت الرويتان المتناقضتان دلالة ما تناقض من الكلماتكما فرقت دلالة ما ائتلف منها. ولنعد الى النصوص نجد ان كل كلمة قد انقسمت على نفسهالتجر اللغة كلها الى مثل ذلك الانقسام: النصر، الهزيمة، القتل، السبي، الانتهاك، الانتهاب،الجذل، السرور، الهوان، الكرامة، الصفاء. لكل واحدة دلالتان: واحدة تخص آل البيتواخرى تخص الاخرين. لقد استطاع آل البيت ان يعبروا عن نظرتهم الى الخطب الذي المبهم في كربلاء بلغة تخصهم.
نطقت بثقافتهم وموقفهم وطبيعة التجربة التي خاضوها.
انهالغة شديدة الخصوصية. وفي ذلك تكمن قيمتها الفنية الراقية.
2- لغة التوابين الخطابية.
التقى معجم التوابين مع معجم آل البيت حول حقل الدين، متدخلا مثله في توجيه دلالة سائر المفردات. وكان لهذا المعجم خصوصيته سواء اتعلق الامر بانتشار كلمات حقل القوة، وما يعنيه من تمسك باهدابها خصوصا بعد ان افاق الندم من رقدته ام بانتشار كلمات حقل الدنيا التي طالما دفعتهم الى ربقة ذلك الندم. ويدل هذا المعجم على امرين رئيسين: حرارة الموقف الذي استدعى الكلمات التي تناسبه، وعقدة الذنب التي حكمت سلوكهم ولغتهم. تلك العقدة التي استقطبت مفردات خطابتهم حول مناخها،فجاءت وفق دلالة تخصهم بوصفهم جماعة ترى نفسها في صف آل البيت، وقد دعت الحسين(ع) ثم خذلته حتى قتل مع جمع من اهل بيته ورجاله فاستبيحت حرمته. وهذه المفردات هي اشبه ما تكون بعناوين تعبر عن همومهم الاساسية في تلك المرحلة: (التوبة، القائد، الذات، العدو، الدنيا، الاخرة، الحق، الجهاد، الشهادة، الحرب، الموت) وان كنت ساقتصر من بينها على: الذات والتوبة والعدو لانها قادرة على اعطائنا فكرة واضحة عن لغة التوابين الخطابية في تلك المرحلة.
كان المطلوب، في بداية الامر، ان يعي التوابون ذاتهم. وتجلى هذا الوعي في حديث سليمان بن صرد: «من كان انما اخرجته ارادة وجه اللّه وثواب الاخرة، فذلك منا ونحن منه» الذي اكتشف في اثناء بحثه عن مضمون الخروج(ذات) التوابين. فليس المهم ان يكون خروج، مع اهمية الخروج بالنسبة الى من تخاذل يوم الطف ولم يخرج، ولكن المهم ان تكون ارادة وجه اللّه وثواب الاخرة وراء ذلك الخروج. لقد وضع الخطيب الخروج في آلية الجدل الكبير الدائر ما بين الدنيا والاخرة، حاسما اياه لصالح الاخرة. ونلمح قباله (اخرجته ارادة اللّه…) الضد (اخرجته ارادة الدنيا…). ولا يمكننا ان نفهم ما رمى اليه سليمان بن صرد الا من خلال تعريضه بالدنيا مميزا من يكون من التوابين عمن لا يكون منهم، ونحس وراء هذه القسمة عقدة الذنب التي اوقعتهم بها الدنيا. ويخص تعريفه هذا للذات التوابية الكوفيين في ذروة الندم الذي عصف بهم بعد مقتل الحسين(ع) دون اية مرحلة اخرى.
واذا ارادوا لذواتهم ان تكون على هذه الحال، فكيف سيكون سلوكهم؟ تاتي (التوبة) على راس المفردات التي تخص ذلك السلوك. فهل سيكون لهم توبتهم الخاصة، خصوصا وانهم قد استقوا اسمهم (صفتهم) منها؟ انتشرت الكلمة بشكل لافت في خطابتهم. واول من طالعنا بها رفاعة بن شداد في اثناء تعقيبه على المسيب بن نجبة: «ان اللّه هداك لاصوب القول، ودعوت الى ارشد الامور… دعوت الى جهاد الفاسقين، والى التوبة من الذنب العظيم». يدل كلامه على انه قد عنى بـ(اصوب القول) و(ارشد الامور) (جهادالفاسقين). وهو لم يعد دعوة المسيب الى (جهاد الفاسقين) فقط، بل عداها الى (التوبة من الذنب العظيم) ايضا. يعني ان التراكيب جميعها مترادفة تنطوي على حقيقة واحدة هي (السلوك المطلوب) من الكوفيين. واذا كان (الجهاد) من خلال صيغتي افعل التفضيل: (اصوب) و(ارشد) هو الحقيقة الكبرى الباقية في حياتهم، كانت (التوبة) هي (جهادالفاسقين) ولا شيء غيره.
وهذه التوبة التي تلبست بدلالة الجهاد وقرار الموت ليست اية توبة. انها التوبة التي لا تنفي سلوكا فحسب ولكنها التوبة (الكفارة). وتعط ي هذه الدلالة التوبة بعدا شديد الخصوصية لا يتعدى نصوص التوابين الى غيرها.
ولا تقوم هذه التوبة عند عبيد اللّه بن عبد اللّه على طمانينة المستريح الى باب اللّه يدقه ساعيا الى عفوه اذ يقول: «فويل للقاتل، وملامة للخاذل. ان اللّه لم يجعل لقاتله حجة، ولالخاذله معذرة الا ان يناصح للّه في التوبة فيجاهد القاتلين وينابذ القاسطين، فعسى اللّه عندذلك ان يقبل التوبة ويقيل العثرة». صحيح انه ميز القاتل عن الخاذل، فاقفل باب العفوفي وجه الاول وتركه مشرعا امام الثاني. الا ان ذلك بشروط. فلا معذرة للخاذل «الا ان يناصح للّه في التوبة». ولا يعني ذلك ان الامر قد هان، طالما ان باب التوبة مفتوح. الامر غيرذلك، اذ لم يكتف الخطيب بخصوصية التوبة التي عرفناها عند رفاعة (التوبة رالجهاد) و(التوبة رالكفارة)، ولكنه امعن اكثر فاكثر في تخصيصها: «فعسى اللّه عند ذلك ان يقبل التوبة ويقيل العثرة» فهذه التوبة، وان كانت نصوحا، الا انها لا تحمل على الطمانينة والراحة،لان(عسى) تختزن من احتمالات الرفض بقدر ما تختزنه من احتمالات القبول.
واذا ارتنا(عسى) حجم الذنب الاحتمالي، فانها قد ارتنا، في الوقت نفسه، ان هذه التوبة توبة منغصة بعقدة نفسية مرة لا تلبث ان تكشف عن نفسها على لسان صخير: «ما لنا خيرفي صحبة من الدنيا همته ونيته. ايها الناس: انما اخرجتنا التوبة من ذنبنا والطلب بدم ابن بنت نبين». اذ لا تقتصر دلالة (التوبة) على البعد الجهادي التكفيري الذي يقدمه اسنادالفعل(اخرجتنا) اليها. ولكنها تكتسب من النفي الذي يطالعنا به هذا النص ابعادا اخرى.فالخروج للطلب بدم ابن بنت نبيهم سلوك مضاد لصحبة «من الدنيا همته ونيته» وضدية الخروج المسند الى التوبة مع الدنيا يكسب التوبة نفسها هذه الضدية لانها فاعل الخروج.والتوبة العادية لا تعني في اي حال من الاحوال معاداة الدنيا. وحين تكون توبة الكوفيين معادية للدنيا، فانها توبة خاصة بهم تنطلق من عقدة الذنب التي عرفناها لهم.
والتوبة المعقدة بهذا القدر المتلبسة بالجهاد والتكفير تفترض عدوا له خصوصيته. فما هي الدلالة التي اضفتها خطابتهم على كلمة(عدو).
استخدم التوابون مفردات كثيرة في تسمية ذلك العدو فهو: المحل، والفاسق، والقاسط،والقاتل. وتتناول هذه الكلمات صفات متعددة تشمل مختلف الخصائص التي يراهاالتوابون لقتلة الامام الحسين(ع)، وهي خصائص عامة لا تقدم لنا العدو الذي يتوجهون الى قتاله بلحمه ودمه والجرم الذي ارتكبه، ويستدعي ذلك ان نتوغل اكثر في النص التوابي لاكتشاف خصوصية ذلك العدو.
وصف سليمان بن صرد التوابين قائلا: «من كان انما اخرجته ارادة وجه اللّه وثواب الاخرة فذلك منا ونحن منه» وهو لم يصفهم بالاقبال على الاخرة فحسب، ولكنه وصفهم بالعزوف عن الدنيا ايضا: «فواللّه ما ناتي فيئا نستفيئه ولا غنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّهرب العالمين». وحين يستانف كلامه قائلا: «وما هو الا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في اكفنا وزاد قدر البلغة الى لقاء عدون» انما يريد ان يوحي الينا بان هذا العدو يتصف بصفات مضادة لصفات التوابين حتى لكانه الدنيا التي يجب ان يثار منها. والعدو في نظرهم كما يراه خالد بن سعيد بن نفيل من خلال كلامه: «ان كل ما اصبحت املكه، سوى سلاحي الذي اقاتل به عدوي، صدقة على المسلمين اقويهم به على قتال القاسطين». عدو ذوابعاد جديدة.
فحين سمى التوابين(المسلمين) ولم يسمهم (الشيعة) اخرج الصراع من دائرة الفتنة الداخلية ليعطيه ابعادا جهادية في مواجهة الكافرين. ويعني ان (القاسطين) لم يظلوافي حدود الجور داخل الدائرة الاسلامية، ولكنهم خرجوا من الانتماء الاسلامي الى انتماءمضاد له، لان ماله «صدقة على المسلمين «يقويهم » به على قتال القاسطين» اي غيرالمسلمين بالطبع.
فهل يعني ذلك ان عدوهم قد تحدد على ضوء مشروع سياسي يعيد السلطة الى آل البيت؟ تستفيق عقدة الذنب قوية حين يتشاور التوابون في امر من يتوجهون الى قتاله اولا، اهو عمربن سعد الموجود في الكوفة نفسها، ام عبيداللّه بن زياد؟ حيث يرى سليمان بن صرد اولية الخروج الى ابن مرجانة على حد تعبيره: «فسيروا الى عدوكم على اسم اللّه» فهل يعني كلامه هذا ان ابن زياد هو العدو دون عمر بن سعد؟ نعم العدو في نظره هو من يعني قتله ثارالدم ابن بنت النبي(ص). تتحدد ابعاده الدلالية على ضوء مشروع التوابين الذي لا يهدف الى رد امر الخلافة الى آل البيت، لانهم لم يقصدوا يزيد. كما انه ليس فورة عاطفية تكتفي بعمر بن سعد. قتل ابن زياد يعني الثار لابن بنت نبيهم(ص). فهو العدو المقصود. يعني ان دلالة كلمة(عدو) متناسبة مع مشروعهم الثاري. وهذه خصوصية لا نراها لهذه الكلمة في اي نص ما خلا نصوصهم.
نستنتج مما تقدم ان للتوابين لغتهم الفنية الخاصة بهم التي تنتمي الى ثقافتهم وموقفهم والحدث الذي يحاورونه، تماما كما كان لال البيت لغتهم الفنية الخاصة بهم.
خاتمة ومهما يكن من امر، فان النتاج الخطابي الذي نجم عن واقعة كربلاء، وان تغذى بلبان القرآن والحديث والنهج فانه يتمتع بخصوصية فنية تميزه عنها، وتشده الى المرحلة التي نشا فيها،والى الحدث الذي كان سببا لوجوده. وينتمي هذا النتاج كما النهج الى مرحلة التاسيس النثري لكلام المسلمين على ضوء الاسلام.
ولعل اهمية الرجال الموسسين لذلك النثر: النبي(ص)، وعلي وغيره من رجالات آل البيت(ع) قد ادت على نحو ما الى نجاح الخطابة في ان تكون اسلامية، وان تكون مختلفة عن الخطابة الجاهلية موضوعا ولغة فنية، بعكس الشعر الذي لم يستطع ان يتخلص من المثال الجاهلي الذي استمر في الوجود بشكل من الاشكال وبمستوى من المستويات.
وهكذا وجدنا نتاج كربلاء الخطابي اسلاميا برويته ولغته.
استطاع ان يوسس لمنهج رويوي واضح، يرى في الاسلام قاعدة راسخة تتحدد على اساسها المواقف، وان قدم فهما شفافاللتاريخ يتبين على اساسه السداد والاستقامة والارتداد والانحراف. واذا وقع التوابون فريسة عقدة الذنب التي انتابتهم فكانت رويتهم للمستقبل غائمة ترى الامور من منظار الثاروالتكفير، استطاعت روية آل البيت، مع قرب خطابتهم من زمان الحدث ان تتخلص من شائبة الحزن والغيظ وهول المفاجاة وان تكون واضحة في استيعاب الواقعة، وادراك ابعادها وما تحمله للمستقبل من مواسم واعدة. سموا الخلافة حقهم، وراوا في انتصار يزيدهزيمة، وفي قوته ضعفا، وفي صفاء ملكه عكرا.
ولعل خطابتهم التي عبرت عن معارك الاسلام المبكرة مع اعدائه الذين تلبسوا بلبوس شتى، كانت التاسيس السليم للروية الاسلامية المستقبلية. خصوصا وان لغة تلك الخطابة مثلت عناد الحق في وجه الباطل وعرت الكلمات من كل ما تحمله من اوهام الروية الغائمة التي رايناها عند التوابين لتجعلها تشف بحساسية متناهية عن صدق الموقف وحرارته.ولذلك وجدنا انفسنا، ونحن نواجه خطابتهم، نحس بوجود مواجهة قاسية بين لغتين: لغة آل البيت، ولغة الاخرين. حتى لكان المواجهة العسكرية التي شهدتها كربلاء قد انتقلت الى جسد الخطاب الكربلائي فجعلت الكلمة الواحدة تنشق على نفسها فهي الحقيقة وهي ضدها، كما ازالت الضدية من بين الكلمات المتناقضة: فالحق والباطل هما الباطل والحق.ولا يعد ذلك غريبا فكلام آل البيت اول حاشية على هامش ما سطره الحسين(ع) بالدم،كيف لا، وهناك آصرة واضحة النسب ممتدة من وقفة السيدة(ع) في الشام، الى وقفة الحسين(ع) في كربلاء. وهذا ما اسس لخطابة حمالة للهموم بعيدا عن كل مظهر من مظاهرالترف التي شهدها غيرها من الفنون الادبية.