علم الهيئة وثبوت الهلال
تحظى مسألة بداية الأشهر الهجرية القمرية بأهمية كبيرة؛ نظراً لعلاقتها المباشرة بالالتزامات الشرعية والحقوقية والعرفية، وما تفرزه هذه المسألة على الدوام من اختلافات كثيرة في وجهات النظر؛ لذلك وبسبب هذه العوامل وغيرها، جاء هذا البحث ليجيب عن الاستفهامات التي تعلق في الأذهان في كثير من الأحيان، والتي من جملتها حكم الرجوع إلى آراء علماء الهيئة لإثبات حلول الشهر واستبيان رأي الشرع والفقه في هذا الموضوع.
وحيث إنّ ثبوت الهلال ينطوي على عنصر الطريقية، وأهميته تكمن في كونه يمثّل سبيلاً قطعياً للتحقّق من إمكان رؤية الهلال من عدمه، من هنا فإنّ السؤال المطروح هو: هل يشكّل رأي العلم حجّة بالنسبة للمكلّف في حال لم تتح له الرؤية العينية مع إقرارنا بأنّها أوكد لليقين، بعبارة أخرى، هل يمكن الرجوع إلى أهل العلم والخبرة عند انتفاء أيّ إمكانية في الرؤية العينية؟ أم أنّ الدين قد حسم الأمر في الرؤية العينية الحسّية فحسب؟
بناء العقلاء ورأي أهل الخبرة
بناء العقلاء هو السبيل الذي يلجأ إليه أصحاب الرأي السديد للبتّ في قضاياهم الاجتماعية، وهو يعني عمل العقلاء على الرجوع إلى أهل العلم والخبرة فيما يجهلونه من شؤونهم الحياتية وغيرها، وعلى سبيل المثال، رجوع الفرد إلى المهندس الاستشاري المختصّ لرسم التصاميم والخرائط الهندسية الخاصة بالعمارات أو شقّ الطرق، أو رجوع المريض إلى الطبيب عندما يعرض له عارض صحي ويهمّ الطبيب بمعالجته على اعتبار أنّه جهة معتمدة للبتّ في مرضه. وقد أمضى القرآن الكريم هذا الأسلوب وأكّد عليه، إذ لم نلحظ حالة واحدة تحمل ردعاً أو إلغاءً لسيرة العقلاء، بل العكس هو الصحيح، فلو اعتبرنا أهل الذكر في عداد أهل الخبرة في الآية الشريفة: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فستكون تأكيداً لما ذهبنا إليه؛ لذا، فإنّ الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص هو أصلٌ يدور حول مداره العقلاء أينما كانوا في هذه الدنيا، ذلك إنّما كان رجوع الجاهل إلى العالم ممدوحاً لاستناده إلى حكم العقل.
وقد درجت سيرة الفقهاء عبر التاريخ على الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ علم واختصاص، من قبيل رجوعهم إلى علماء اللغة في القضايا اللغوية، أو إلى الأطباء فيما يعرض لهم من مسائل طبية، وهكذا في العلوم الأخرى: المساحة، الجبر، الهندسة… بغضّ النظر عن عدالتهم وفسقهم، بل يكفي أن تحرز حذاقتهم في مجال اختصاصهم ليكونوا موضع ثقة، وهذه الوثاقة إنّما هي لجهة الظنّ القوي المحرز من قبل جماعة كثيرة تشهد بتبحّر هؤلاء في مجال خبرتهم([1]).
تأسيس حجّية رأي علم الهيئة
قلنا: إنّ سيرة العقلاء هي رجوعهم إلى أهل الفن والخبرة في شؤونهم الحياتية، لكن متى يكون رأيهم حجّة؟ الجواب على ذلك هو أنّ رأي أهل الخبرة يعتبر حجّة حينما لا يكون هناك ردع من الشرع أو منع، ولكن هل صدر من الشرع ردع لآراء علماء الهيئة؟
في الحقيقة، لم يصدر ردع مطلق من الشارع المقدس بشأن آراء المنجمين، بل يمكن القول بأنّ الردع الوارد كان إمّا لجهة التشكيك في أقوالهم، أو دحض نبوءاتهم حول حوادث السماء والأرض، أي لم يكن ردع الشارع لأقوالهم ونبوءاتهم بشأن أحوال الكواكب والنجوم (لا أحكامها) بل إنّ الشارع قد أكّد على ضرورة مثل هذه الأقوال وأمضاها، كما هي الحال في استخراج المعلومات حول تحديد جهة القبلة والمواقيت الشرعية كمواقيت الصلاة وغيرها، في هذه الحالات فقط تكون أقوال الفلكيين حجة وينبغي العمل بها، وسنوضح لاحقاً ردع الأحاديث النبوية عن علم النجوم الذي يعتني بسعود الأيام ونحوسها، وليس علم النجوم بمفهومه المعاصر، كما يؤكّد المحقق الكركي على هذه الناحية بالقول: >وأما علم الهيئة فلا كراهة فيه، بل ربما كان مستحباً، لما فيه من الاطّلاع على عظم قدرة الله تعالى<([2]).
ولهذا نرى الشريف المرتضى والشيخ أبا الفتح الكراجكي يقولان: >إنّ الكسوفات واقتران الكواكب وانفصالها من باب الحساب وسير الكواكب، وله أصول صحيحة وقواعد سديدة، وليس كذلك ما يدعونه عن تأثير الكواكب في الخير والشرّ والنفع والضرر<.
ويستطيع الفلكي تحديد إمكان رؤية الهلال أو عدم إمكان ذلك، استناداً إلى الخبرة والاختصاص اللذين يمتلكهما في هذا المجال، كما يمكنه تحديد مواقيت خسوف القمر وكسوف الشمس، أو تحديد اتجاه القبلة من خلال حسابات رياضية، وليقول بالتالي بثقة قاطعة بأنّه في حال كانت السماء صافية، يمكن رؤية الهلال بالعين المجردة في الليلة الفلانية والمنطقة الفلانية أو لا يمكن.
الجدير بالذكر أنّ ذمّ الروايات للمنجّم وسمعته غير الطيبة في الماضي تعود إلى استغلال بعضهم للبسطاء من الناس واحتيالهم عليهم، بيد أنّه في الوقت الحاضر لم يعد من مجال لهذا الاستغلال.
موقف السنّة الشريفة من نبوءات المنجّمين
في العصور السالفة، كان علم النجوم يعدّ ضرباً من الكهانة والسحر؛ ولذلك لم يكن يحظى بأيّ سمعة حسنة أو احترام، لكنّ هذه النظرة قد تغيّرت مع تغيّر العصر ودخول هذا العلم في زمرة العلوم التطبيقية والرياضية، فلابدّ في هذه الحال أن يرتفع عامل منعه.
اعتقد المنجّمون في الماضي أنّ حوادث الأرض على علاقة وثيقة بأوضاع السماء ونتيجة طبيعية لها، ومن ثم فإنّ تأثيرات السماء تظهر جليةً على الأرض. وثمّة منجمّون ـ ليس منهم الهنود ـ اعتقدوا أنّ هذه العلاقة محصورة بين الكواكب السيارة السبعة في كل يوم وبين حوادث الأرض في ذلك اليوم؛ ولهذا فإنّ لأوضاعها المختلفة آثاراً مختلفة على الأرض، جمعوها وأطلقوا عليها «أحكام النجوم»، وكانوا يتنبؤون بها ويقولون: سيأتي على الأرض أحداث كذا وكذا. هذا وقد اختلف المنجّمون في أمر النجوم والكواكب، حيث اعتبر بعضهم أنّها أجرام ذوات أرواح حية وإرادة، وتقوم بالأفعال بوصفها علّة فاعلية، فيما قال بعضٌ آخر بأنّها عديمة الروح لكنّ ما يصدر عنها من أثر هو بمثابة علّة فاعلية، وقال فريق ثالث: إنّ آثارها ليست بعلّة فاعلية غير أنّها تمهّد للفعل الإلهي، وهي فاعلة لحوادث الله تعالى. وقال آخرون بأنّ الكواكب وأوضاعها عبارة عن علامات تنبئ بحوادث الزمان، وهي لذاتها ليست بشيء، والحوادث ليست من فعلها ولا هي ممهّدة لفعل الله تعالى في الحوادث، ومنهم من قال: لا توجد أي علاقة بتاتاً بين أوضاع الكواكب وبين حوادث الأرض، وأنّ تلك الأوضاع لا تمثل أيّ علامة على وقوع تلك الحوادث، بل شاءت إرادة الله أن تقترن الحادثة الفلانية بالوضع السماوي الفلاني… وكذا دواليك([3]).
من هذا المنطلق، سنقوم في بحثنا هذا بتصنيف الروايات إلى أربع مجموعات على الشكل التالي:
المجموعة الأولى: روايات سعود الأيام ونحوسها
وهي الروايات التي تتحدّث عن تأثير أو عدم تأثير أوضاع الكواكب على السعود والنحوس في الأيام، وهي كثيرة وتنقسم أقساماً عدّة، حيث يحمل ظاهر بعضها على السعد والنحس، مثل: الروايتين عن الإمام علي الذي يقول: >يكره أن يسافر الرجل أو يتزوج في محاق الشهر، وإذا كان القمر في العقرب<([4]). وكذا رواية فقه الرضا والتي تقول: إذا أدخلت عليك فخذ بناصيتها واستقبل القبلة، وقل «اللهم أمانتي أخذتها، وبميثاقي استحللت فرجها، اللهم فارزقني منها ولداً مباركاً سوياً ولا تجعل للشيطان فيه شركاً ولا نصيباً». واتق التزويج إذا كان القمر في العقرب فإنّ أبا عبد الله× قال: من تزوج والقمر في العقرب لم ير خيراً أبداً([5]).
يقول العلامة الطباطبائي: >قد تُحمل هذه الروايات وأمثالها على التقية، أو ربّما تحمل على التطيّر الذي اعتاد عليه العوام، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات؛ ذلك لأنها تحضّ المؤمن على دفع النحس عن يومه بالصدقة، كالرواية التي نقلها الراوندي بسنده نقلاً عن الإمام موسى الكاظم× عن أبيه عن جدّه، حيث قال: «إذا أصبحت فتصدّق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدّق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة»([6])، قد يقال: إنّ هذه الروايات تفسّر العلاقة الخاصة بين أوضاع السماء وحوادث الأرض على نحو الاقتضاء وليس العلّية<([7]).
المجموعة الثانية: الروايات التي تدحض عقائد المنجّمين جملة وتفصيلاً
وهذه الروايات هي:
1 ـ ما عن الرسول الأعظم’، أنّه قال: «من صدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافر بما أنزل على محمد»([8]).
2 ـ خبر هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصادق× في ردّه على زنديق سأله عن رأيه في علم النجوم فأجابه: «علم نفعه قليل وضرره كبير، لا يردّ القضاء والقدر بالنجوم، وليس باستطاعة المرء دفع البلايا، إذا علم منجّم بالبلاء الذي سيصيبه فلا رادّ لقضاء الله، وكذا إن علم بخير سيصيبه فليس بمقدوره تعجيله، وإن أصابه شرّ فلا دافع له. إذا ظنّ المنجّم أنّ بمقدوره ردّ قضاء الله عن الناس، فقد حادد الله<([9]).
3 ـ رواية عبدالملك بن أعين التي يقول فيها: قلت لأبي عبد الله×: إنّي قد ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشرّ جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: >تقضي<؟ قلت: نعم، قال: >أحرق كتبك<([10]).
ورد علم النجوم في هذه الروايات بمعنى السحر والكهانة، وليس العلوم التطبيقية والرياضية، وهو لذلك لا اعتبار به.
المجموعة الثالثة: الروايات التي تتنبّأ برؤية الهلال بواسطة الحسّاب (المنجّم)
1 ـ خبر محمد بن عيسى قال: كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي: إنّه ربّما أشكل علينا هلال شهر رمضان ولا نراه ونرى السماء ليست فيها علّة، ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحُسّاب قبلنا: إنّه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر، وإفريقية والأندلس، هل يجوز ـ يا مولاي ـ ما قال الحسّاب في هذا الباب حتى يختلف العرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقع: >لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته<([11]).
وكما نلاحظ، لم يأت لفظ المنجّم في الرواية، بل استخدمت كلمة «حسّاب» أي المحاسب، ولو أمعنّا النظر في هذه الرواية سنجد أنّ المراد من نهي الإمام لم يكن هنا الحسابات الفلكية، بل العمل بالشك وبرأي الحسّابين في ذلك العصر، في حين أنّ علم النجوم في عصرنا لا يحتمل أيّ شكّ، فهو يعطينا الحساب الدقيق لرؤية الهلال دون أدنى احتمال بالخطأ، وهذا لعمري غير مشمول بالرواية آنفة الذكر، من هنا، فإنّ صحيحة أبي عمرو تدعم قول علماء النجوم، لجهة أنّ قول الإمام ليس فيه ردع عن قول المنجّم.
المجموعة الرابعة: خطبة الإمام علي× في نهج البلاغة
يقسّم الإمام علي× في الخطبة 79 من نهج البلاغة أقوالَ المنجّمين قسمين: قسم منهيّ عنه يندرج ضمن أقوال الكهنة، وقسم آخر هو موضع تأييد؛ إذ لمّا عزم × على المسير إلى الخوارج قال له أحد أصحابه: يا أمير المؤمنين! إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فأجابه الإمام: «أتزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء وتُخوّف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع، وأمِن الضرّ. أيّها الناس! إيّاكم وتعلّم النجوم، إلاّ ما يهتدى به في برٍّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، والمنجّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله».
وهنا نرى الإمام يحضّ على تعلّم علم النجوم الذي يهدي المرء في البراري والبحار بقوله: «إلاّ ما يهتدى به في برٍّ أو بحر»، ومن الواضح أنّ هذه الهداية هي على سبيل المثال لا الحصر، وهذا يؤكّد بجلاء أنّ الإمام لم ينه عن تعلّم علم النجوم بشكل مطلق، بل نهى عن العلم الذي عاقبته الكهانة والسحر. وبتعبير أوضح: إنّ علم النجوم المنهيّ عنه في هذه الخطبة هو ذلك العلم الذي يتحدّث عن أوضاع النجوم المختلفة والخير والشر والطالع ويتنبّأ بالوقائع الآتية، وليس العلم الذي يحدّد مواقع الأجرام السماوية من خلال توظيف قوانين الطبيعة التي سخّرها الله تعالى لعباده، وعلى هذا لا يوجد أدنى شكّ في أنّ الحسابات النجومية التي تهدف إلى تحديد اتجاه القبلة واستخراج مواقيت الصلاة وحساب فصول السنة وغيرها، هي جميعاً مجازة من قبل الشارع، إن لم نقل: إنّها مقدّمة للتكاليف الشرعية، إذاً وبناءً على هذه الدلائل؛ لم يعد ثمّة مجال للشك بأنّ المراد بعبارة «المنجّم.. كالكافر» الواردة في الرواية هو ـ بالتأكيد ـ ليس الذي يقوم بهذه الحسابات الفلكية والنجومية المنوّه إليها.
ومعلوم أنّه أصبح بالإمكان اليوم ـ عن طريق علم الفلك والنجوم وبواسطة الحسابات الفلكية التي يقوم بها متخصصون في هذا المجال ـ تحديد موعد رؤية الهلال بدقة متناهية باليوم والساعة والثانية ومنطقة الرؤية أيضاً.
الفرق بين علم الهيئة (أوضاع النجوم) وعلم النجوم (أحكام النجوم)
بالإضافة إلى ما تمثله رؤية الهلال من مسألة شرعية، فهي بلا شك مسألة علمية أيضاً، فمتى ما ظهر الهلال في الأفق كان ذلك إيذاناً ببداية شهر جديد، بينما يشترط الشرع رؤيته بالعين المجرّدة لكي تصدق الرؤية ومن ثمّ يبدأ الشهر الجديد. والحقيقة إنّ الهلال، وهو انعكاس ضوء الشمس على حافة القمر، يحتاج إلى 8 ساعات على الأقل لكي يولد، وإلى 12 ساعة كي يُرى بالناظور، أمّا الرؤية بالعين المجرّدة فتلزم حوالي 18 ساعة على الأقل، هذا في حال كانت السماء صافية غير ملبّدة بالغيوم وغير ملوّثة؛ وفي إطار هذه المعلومات العلمية، فإنّ قبول شهادة رؤية الهلال بالناظور لأقلّ من 12 ساعة وبالعين المجرّدة لأقل من 18 ساعة هو محل شك وترديد.
يقول خبراء الفلك: إنّه إذا كان ارتفاع الهلال حوالي 5 /7 درجة، وفترة مكوثه زهاء 35 دقيقة، ومسافة الزاوية 5 /8 درجة (مركز الأرض) عرض شمال، وكانت بقية ظروف الرصد مناسبة والسماء صافية والأفق مفتوحاً، يمكن في هذه الحال رؤية الهلال بالناظور. أمّا إذا كانت مسافة الزاوية 5/9 درجة، وارتفاع الهلال أكثر من 9 درجات وفترة مكوثه تتجاوز فترة 45 دقيقة، علاوة على وجود ظروف رصد مناسبة وجوّ صاف وانتفاء أيّة موانع أخرى، فإنّ رؤية الهلال ستكون ممكنة بالعين المجرّدة.
وإذا أردنا التمييز بين هذين العلمين يجب ـ أولاً ـ أن نوضح نقطة مهمة وهي: كان المنجّم في عصر الرسول الكريم’ والأئمة^ ينبئ عن أوضاع الكواكب ويحدس بحوادث الأرض، وبهذه الوسيلة كان يسخّر الناس ويسيطر عليهم، أمّا الهيئوي (نسبة إلى علم الهيئة) أو الحسّاب فهو الذي يستطيع من خلال حسابات دقيقة وبالاستعانة بعلم الرياضيات والوسائل الحديثة تحديد مواعيد رؤية الهلال في مختلف المناطق. وفي هذا يقول المحقق الكركي: «والمراد من التنجيم: الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية التي مرجعها إلى القياس والتخمين… وأما علم الهيئة، فلا كراهة فيه، بل ربما كان مستحباً لما فيه من الاطلاع على عظم قدرة الله تعالى»([12]). ويقول العلامة حسن زاده آملي: >علم الهيئة أو علم الفلك، علم مبنيّ على أسس الرياضيات الصحيحة، ومسائل الهندسة الرصينة، وإذا ما وظّفها الحسّاب بطريقة سليمة وصحيحة، فستكون حساباته مطابقة للواقع، هذا العلم النبيل ممدوح شرعاً وعقلاً، ولا يعترض عليه عاقل. أمّا أحكام النجوم التي يعبّر عنها بعلم التنجيم أو علم النجوم، والممارس لها بالمنجّم، فهي مجموعة القواعد والأسس التي تخبر عن أوضاع الكواكب والنجوم وأحوال العالم والبشر وسعود الأيام ونحوسها ونظائر ذلك، والطعن على هذا النمط من العلم كثير، والاعتراض ضدّه شديد. ولا يقول المعترضون بعدم وجود أثر تكويني للكواكب في نظام الخلق، إذ لا يتفوّه بهذا عاقل، بل إنّ اعتراضهم هو على فائدة العلم في قطعية وقوع الحوادث، وكيف يمكن للبشر الوقوف على أسرار وأوضاع الكواكب وأحوالها<.
ويتابع حديثه قائلاً: >على هذا، فإنّ الهيئوي لا يكتفي بالجدول الفلكي لإثبات استهلال الشهر، فالجدول الأداة الرئيسية في حساباتهم، حيث تمّ فيه تبيين الشهر الفلكي الوسطي وهو غير الشهر الحقيقي الخارجي، وهي (الشهور الوسطية) عبارة عن نظام رياضي يتمّ تنظيمها في الجداول الفلكية، ومن ثمّ يقوم الحسّاب أو المحاسب باستخراج المواقيت الخاصة بظهور الهلال الواقعي الخارجي بالاستعانة بالنظام الخاص لتلك الجداول والكسور والسنة الكبيسة وجميع الأمور ذات الصلة. بعبارة أخرى: إنّ الشهر الفلكي هو مقدمة لمعرفة الشهر الحقيقي الخارجي المبني على الحركة الوسطية، وتكون الشهور في الجداول الفردية تامة دائماً، أي تتألف من 30 يوماً، والشهور الزوجية ناقصة، وتزيد عندما تكون السنة كبيسة<([13]).
الجدول الفلکي (الزيج) وعدم حجيته عند الفقهاء
يتّفق الفقهاء على عدم حجّية الجدول الفلكي وأنّه فاقد لأيّ اعتبار، لكن ما هو هذا الجدول الفلكي الذي نتحدّث عنه وما هي أوصافه؟
الجدول هو عبارة عن حسابات خاصة مستخرجة من حركة القمر، يبدأ الحساب بشهر محرّم، وتتناوب الأشهر بين تام وناقص ـ كما يقول الطريحي في مجمع البحرين ـ وهو ما يطلق عليه الزيج. والزيج في العربية أداة فلكية، وأصل الكلمة هو الحبل، والسبب في استخدام هذه الكلمة للإشارة إلى الجدول حيث إنّ الخطوط المستخدمة في هذه الجداول جعلت منها أشبه بمكانة النسيج([14]).
يقول العلامة حسن زاده آملي: >الزيج هو كتاب يجمع المعلومات الموجودة في المرصد من حسابات حركات الكواكب وخطوط الطول والعرض وكل ما يتعلّق بعلم الهيئة والنجوم، وهي معرّبة عن كلمة زيج أو زه([15]). بالنسبة للتعريب عن كلمة زيج فقد أورد عبد الله بن محمد ذلك في خطابه إلى محارتخان في بداية تسهيل الزيج لمحمد شاهي، أمّا التعريب عن زه فقد قال به الفيلسوف أبو ريحان البيروني في المقالة الثالثة من (قانون المسعودي)، ولهذا، فإنّ قول الشهيد: «لا عبرة بالجدول» يريد به جدول ثبوت رؤية الهلال. وقد عرفنا منذ قليل توضيح العلامة حسن زاده آملي لمعنى الجدول، حيث فسّره بكتب الزيج، وأنّ حساباته على أساس الحركات الوسطية للكواكب.
الفرق بين الشهر الحقيقي والشهر الوسطي
الشهر القمري الحقيقي هو من الهلال إلى الهلال، أقل أيّامه 29 يوماً وأكثرها 30، ولا يمكن للشهر أن يكون 30 يوماً لأربع مرات متتالية، ولا 29 يوماً لثلاث مرات متتالية.
ويقوم أصحاب الزيج بحساب الشهر القمري الوسطي على أساس قاعدة الحركات الوسطية للكواكب، وعلى هذا يحتسب شهر محرّم، وهو فاتحة الشهور القمرية، 30 يوماً، والشهر الذي يليه أي شهر صفر 29 يوماً، وهكذا فإنّ كلّ شهر فردي يحتسب 30 يوماً وكل شهر زوجي 29 يوماً.
رأي الفقهاء في الجداول
اتّفق الفقهاء على عدم اعتبار الجدول([16])،ويقول العلامة حسن زاده آملي: «أهل الهيئة والنجوم أنفسهم لا ينظرون إلى الجدول (الزيج) كمعيار لبداية الشهر وانتهائه، فقد نظّم على أساس الحركة الوسطية، ولتلافي وقوع أي خطأ في الحسابات، وضعوا الشهر الوسطي بإزاء الشهر الحقيقي (وهو من رؤية الهلال إلى رؤية الهلال). وتبدأ الأشهر في الجدول (الزيج) بشهر محرّم؛ حيث إنّ الأشهر الفردية 30 يوماً والأشهر الزوجية 29 يوماً، لهذا السبب يحتسب شهر رمضان دائماً 30 يوماً، بيد أنّ هذا الشهر هو شهر وسطي وليس حقيقياً معتبراً عند الشارع ومبنياً على الرؤية([17]).
ويقول([18]): كلام الشهيد الثاني في اللمعة: «ولا عبرة بالجدول» يعني به جدول الزيج الذي يستند إلى الحركة الوسطية وليس الأشهر الحقيقية، وأنّ رؤية الهلال هو الحجة في الشرع، وليس الأشهر الوسطية المستندة إلى جدول الزيج.
وعلى هذا الأساس، فإنّ معايير الأشهر الحقيقية من الهلال إلى الهلال لا يُعمل بها في كتب الزيج، إذ إنّ حساباتها تعتمد الشهر الوسطي، ولما كان المعيار الذي تعترف به الشريعة الإسلامية هو الشهر الحقيقي الذي يبدأ برؤية الهلال وليس بالشهر الوسطي المعمول به في كتب «الزيج»، من هذا المنطلق، كتب الشهيد الأول يقول: لا اعتبار للجدول (ويقصد الزيج) لإثبات رؤية الهلال (وهو علامة بداية الشهر).
ومن المؤكّد أنّ ثمّة اختلاف واضح بين حساب أصحاب الزيج للأشهر القمرية والحسابات الفلكية المعاصرة التي تعتمد مشاهدات الأجرام الفلكية وتحليلها على أساس القواعد الدقيقة الصارمة، إذ إنّ بإمكان علم الفلك الحديث أن يحدّد بدقة ويقين وقت رؤية هلال أول الشهر وفي أي منطقة من الكرة الأرضية، وذلك بعد غروب الشمس في أعلى الأفق الغربي.
آراء الفقهاء في أقوال المنجّمين
1 ـ لا يعترف الفقهاء المعاصرون([19]) ـ ومنهم الإمام الخميني والإمام الخوئي والسيد الكلبايكاني ـ بدايةً بأقوال المنجّمين بصورة مطلقة بقولهم: ولا اعتبار بقول المنجّمين، إلاّ أنّهم من زاوية أخرى لا يوصدون الباب نهائياً، حيث يستدركون قائلين: لا يثبت أوّل الشهر بأقوال المنجّمين، ولكن إذا اطمئن المرء لقولهم وحصل له اليقين، عليه العمل بقولهم. وهو رأي تقول به جميع المرجعيات الدينية الأخرى مع اختلاف في الصياغات والعبارات.
وبالنسبة للسؤال: هل يثبت بداية الشهر بأقوال المنجّمين؟ يجيب الفقهاء: التبريزي، بهجت، الخامنئي، السيستاني، الخراساني، والزنجاني بقولهم: نعم إذا اطمئنّ المرء لقولهم وحصل اليقين يجب عليه العمل بقولهم. ويعتبر الشهيد السيد محمد باقر الصدر أقوال علماء الهيئة والفلك أحد الطرق في إثبات رؤية الهلال، إذ يقول: >الخامس: كل جهد علمي يؤدّي إلى اليقين أو الاطمئنان بأنّ القمر قد خرج من المحاق وأنّ الجزء النيّر منه الذي يواجه الأرض (الهلال) موجود في الأفق بصورة يمكن رؤيته، فلا يكفي لإثبات الشهر القمري الشرعي أن يؤكّد العلم بوسائله الحديثة خروج القمر من المحاق ما لم يؤكّد إلى جانب ذلك إمكان الرؤية<([20]).
والشيخ فاضل اللنكراني في ردّه على السؤال: هل يعتنى بالحسابات الفلكية والنجومية باعتبارها معياراً للرؤية الشرعية؟ يقول ـ نقلاً عن موقعه على الأنترنت ـ: الحسابات الفلكية والنجومية لا تجزئ إلا لمن حصل له اليقين التامّ بها.
2 ـ أمّا الفقهاء المتقدّمون وعلماء السلف وبعض المتأخرين مثل: الشيخ المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي وابن زهرة والعلامة الحلي وأبي جمهور الأحسائي والسيد علي الطباطبائي وابن فهد الحلي و.. فلم يعتمدوا على الحسابات الفلكية؛ إذ يعتقدون أنّ لا حجّة شرعية لها لتحديد بداية الشهر القمري([21]).
نظرية العلامة الحلي في عدم القبول بأقوال المنجّمين
يقول العلامة الحلي: >لا يجوز التعويل على الجدول، ولا على كلام المنجّمين، لأنّ أصل الجدول مأخوذ من الحساب النجومي في ضبط سير القمر واجتماعه بالشمس، ولا يجوز المصير إلى كلام المنجّم ولا الاجتهاد فيه وهو قول أكثر العامة لما تقدّم من الروايات، ولو كان قول المنجّم طريقاً دليلاً على الهلال، لوجب أن يبيّنه× للناس، لأنّهم في محل الحاجة إليه، ولم يجز له× حصر الدلالة في الرؤية والشهادة، وحكي عن قوم من العامة أنّهم قالوا: يجتهد في ذلك، ويرجع إلى المنجّمين. وهو باطل، لما تقدّم ولقول الصادق×: ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، ليس على المسلمين إلا الرؤية<([22]).
نقد نظرية العلامة الحلي
ونلاحظ أنّ الدليلين اللذين ساقهما العلامة الحلي في رفض قول المنجمين عبارة عن الروايات وعدم بيان المعصوم:
أمّا بالنسبة للدليل الأول، فإذا كان المقصود بالروايات تلك التي تعنى بموضوع رؤية الهلال، فهي تمثّل إحدى طرق ثبوت أول الشهر وليس الطريق الوحيد، والروايات التي تنهى عن الشكّ والظن لا تشمل قول المنجمين الذين يعلنون أول الشهر عن طرق الحسابات الدقيقة واليقينية، أمّا إذا كان المقصود بالروايات الحديث النبوي الشهير: >من صدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافر بما أنزل على محمد’<([23])، أو الرواية المنقولة عن الإمام علي×: >إيّاكم وتعلّم النجوم إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر؛ فإنّها تدعو إلى الكهانة، والمنجّم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النّار<، ففي جوابنا على ذلك نقول:
أولاً: المعنيّ بالذمّ الوارد في الحديث الشريف هو المنجّم الذي ينكر مبدأ العالم، ويقول بأنّ الكواكب في ذواتها مؤثّرة على العالم، أو الذي بزعمه ينبئ بسعود الأيام ونحوسها([24]). وفي هذا السياق، يقول الشيخ البهائي: >ما زعمه المنجّمون من ارتباط بعض الحوادث السفلية بالأجرام العلوية، إن زعموا أنّها هي العلة المؤثرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنّها شريكة في التأثير فهذا لا يحلّ للمسلم اعتقاده، وعلم النجوم المبتني على هذا كفر. وعلى هذا حمل ما ورد من التحذير عن علم النجوم والنهي عن اعتقاد صحته<([25]). أمّا العلامة المجلسي فيقول: >لا نزاع بين الأمة في أنّ من اعتقد أنّ الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنّه يكون كافراً على الإطلاق<([26]). بينما يقول الآغا حسين الخوانساري: >إنّ النهي الوارد في الأخبار لا يشمل استخراج الأهلّة من الحساب المتعلّق بالأرصاد، بل إنّما تعلّق بتصديق المنجّم، أي بتصديق من يحكم على الكائنات والحوادث من أوضاع النجوم… وأمثال هذه، كما هو المفهوم من علم النجوم، كيف لا، وقد ورد في الشريعة المقدسة بعض الأمور المنوطة بالأرصاد ككون القمر في برج العقرب، ليحترز عنه مريد السفر أو التزويج<([27]).
وقد اعتبر فقهاء السلف والمعاصرون أنّه في حالات عديدة ـ مثل الخسوف والكسوف ودخول القمر في المحاق وكون القمر في العقرب وانتقال الشمس من برج إلى آخر ـ اعتبروا كلام الهيئوي (الفلكي) وضمن شروط معينة معتبراً وحجّة.
إذن، تبيّن لنا أنّ ذمّ المنجّم الوارد في الأحاديث الشريفة ليس المقصود به ردّ قول الهيئوي أو الفلكي، وأنّ اللعن والوعيد بالنار هو للمنجّم الذي ينكر مبدأ العالم ويعتبر الكواكب في ذواتها مؤثرة على العالم، أو الذي يؤمن بسعد الأيام ونحسها، وقد جاء في كتاب تحف العقول: >قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد× وقد نكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك، فقال× لي: يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟ قال الحسن: فأثاب إليّ عقلي وتبيّنت خطأي فقلت: يا مولاي استغفر الله، فقال: يا حسن ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم بها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي يا ابن رسول الله، قال: ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه. قال: لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي<([28]).
ثانياً: وكذا الأمر بالنسبة لكلام الإمام علي؛ حيث لا نجد ردعاً أو منعاً لمطلق علم النجوم، بل منع لذلك العلم الذي ينتهي إلى الكهانة والسحر، وهو ما يؤيّده الاستثناء الوارد في كلامه «إلاّ ما يهتدى به في برٍّ أو بحر»، ولا يخفى أنّ هذا الاستثناء من باب المثال؛ إذ من المعلوم أنّنا نتعرّف على اتجاه القبلة بواسطة نجم الجدي، وهو ما أخبرنا به الأئمة^ أنفسهم، عندما كانوا يتعرّفون على ظواهر الخسوف والكسوف بواسطة حركة الكواكب المنتظمة، وكانت القوافل تسري ليلاً في الصحاري وكانت السفن تهتدي بالنجوم لتحديد وجهتها وذلك قبل اختراع البوصلة والوسائل الحديثة الأخرى، وهذا كله بفضل علم الهيئة أو النجوم.
من هنا، نلاحظ أنّ الآثار الطبيعية المترتبة على حركة الكواكب وتغيّر أوضاعها، لا تدخل ضمن العلم المحظور لذلك لا ضير من السعي وراء اكتساب هذا النوع من العلوم، بل نقول: إنّها ضرورية في الحياة العملية للبشر، يبقى الإيمان بتأثير الأفلاك والكواكب وتدخلها في مصائر البشر وسعادتهم وشقائهم وجميع شؤون حياتهم، هو المنهي عنه وهو التنبؤ الذي يقول به الكهنة. فالإمام علي في هذه الخطبة يقول بأنّ علم التنجيم يؤدّي بكم إلى الكهانة والعرافة «المنجم كالكاهن» والكاهن عرّاف يرجم بالغيب، أي أنّ المنجّم الذي ينبئ بالغيب عن طريق الاتصال بالنجوم والأفلاك بزعمه، إنّما مثله مثل الكاهن، وأنّ الكاهن كالساحر حيث يسعى كل منهما إلى التأثير على أوضاع العالم بخلاف قوانين الطبيعة، وكلاهما يسعى إلى إعطاء صورة مغايرة للواقع والحقيقة، كسحرة فرعون الذين كانوا يحيلون الحبال وأشياء أخرى إلى حيّات وأفاعي، إلاّ أنّهم في الحقيقة كانوا يسخّرون القوة الخيالية لدى المشاهد، وقد جاء في القرآن الكريم: {فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} (طه: 66)، وكنتيجة لسحرهم كان يخيّل للناس بأنّ الحبال والعصي تتحرّك، وهذه الحركة بطبيعة الحال هي خلاف نظام الطبيعة، وعليه يكون الكاهن كالساحر.
وفي الخطبة نفسها، نجد أنّ الإمام عليّاً× يميّز بين حساب «أوضاع النجوم» وبين «أحكام النجوم»، أو بعبارة أوضح، بين علم التنجيم وبين علم الهيئة، مشيراً إلى العواقب الوخيمة لعلم التنجيم الذي لا يقوم على أسس سليمة، بينما نجده يحضّ على الاستعانة بعلم الهيئة والفلك من خلال توظيف حركة الكواكب في السماء بهدف الاهتداء بها عند السير في البرّ والبحر، بالإضافة إلى مسائل أخرى بنيت على حقائق أوضاع النجوم، وهذا النوع من العلوم قد وردت تأكيدات كثيرة على تعلّمه واكتسابه، وذلك لأنّه ينسجم مع طبيعة النظام الذي يقوم عليه المجتمع البشري؛ فقد ورد في كتاب الكافي بسنده عن عبد الرحمن بن سيابة أنّه قال: >قلت لأبي عبد الله×: إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها وهي تعجبني فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شيء يضرّ بديني، وإن كانت لا تضرّ بديني فوالله إنّي لأشتهيها وأشتهي النظر فيها، فقال: ليس كما يقولون، لا تضر بدينك. ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها، كثيره لا يدرك وقليله لا ينفع به<([29])، كما ورد في بحار الأنوار في كتاب النجوم لابن طاووس عن محمد بن يحيى الخثعمي أنّه قال: >سألت أبا عبد الله× عن النجوم حقّ هي؟ قال لي: نعم، فقلت له: وفي الأرض من يعلمها؟ قال: نعم وفي الأرض من يعلمها»([30]).
ثالثاً: الواقع أنّ علم النجوم في عصرنا أضحى من العلوم الضرورية، بحيث إنّ المنجم المختصّ العادل إذا أدلى بشهادته بثقة واطمئنان كخبير أو شهادة عدلين تُقبل شهادته، ذلك أنّ المنجّمين والهيئويين هم من أهل الخبرة، ورجوع الجاهل إلى أهل الخبرة مما قامت عليه سيرة العقلاء وموضع تأييد الشرع، من ناحية أخرى، فإنّ شهادة المنجّمين في رؤية الهلال هي ـ في غالب الأحوال ـ شهادة قطعية ويقينية، وهذا ما يجعل الرجوع إليهم والقبول برأيهم القطعي بلا إشكال.
يعتقد أهل الهيئة والمنجمون أنّه يمكنهم القول بصورة قاطعة بإمكان رؤية الهلال أو عدم إمكانه وذلك بعد إجراء الحسابات والقواعد الرياضية وغيرها، وفي حالات نادرة لا يصلون إلى نتيجة أكيدة وقاطعة، وفي هذه الحال، أي عندما يكون كلامهم قطعياً (في الرؤية أو عدم الرؤية) فإنّ الرجوع إليهم غير ذي إشكال، أمّا عندما يكون كلامهم غير قطعي ويشوبه الشك، فينبغي على المكلّف أن يطلب الرؤية الخارجية للتأكّد.
رابعاً: إذا كانت عدم حجّية أقوال المنجّمين مردّها إلى اختلاف أقوالهم في تحديد زمان رؤية الهلال في الأفق، فنقول في هذا: إنّ اختلاف آراء المنجّمين لا يعدّ دليلاً على عدم صحّة الحسابات الفلكية، لأنّه لو كان الأمر كذلك، لفقدت أكثر العلوم النظرية اعتبارها وحجيتها، بما في ذلك علم الفقه، حيث إنّه عند اختلاف الآراء يصار إلى الرأي المتواتر.
خامساً: الشهادة على الرؤية أحد طرق رؤية الهلال وهي تفيد الظنّ، دون أن تحرز يقيناً، بينما الحسابات الفلكية إذا كانت قطعية ترجح على شهادة الشهود وذلك بحكم العقل، وإن لم تكن قطعية كانت في موازاة البيّنة، مع الفارق أنّ البيّنة هي حجة شرعية، ففي حال تعارض قول الفلكي مع شهود الرؤية، فإنّ الأولوية للبيّنة التي تحظى بشروط القبول، وفي حال كان الجو ملبّداً وما شاكل ذلك، فإنّ الأولوية لقول الفلكي.
سادساً: وجواباً على قول المرحوم العلامة الحلي في التذكرة بأنّ الإمام× لم يذكره كسبيل يُلجأ إليه، نقول: إنّ عدم ذكره لا ينفي حجّية وصحة أقوالهم، وشبيه ذلك وجود طرق أخرى في ثبوت أول الشهر لكنّ الروايات لم تأت على ذكرها، من قبيل حكم الحاكم، حيث تقول فتاوى الفقهاء بأنّه أحد طرق ثبوت أول الشهر مستدلين ببعض الأدلة، ذلك أنّ حكم الحاكم لا يقع في عرض (موازاة) بقية طرق إثبات الهلال بل في طولها وتستند إلى أحدها، لهذا، فإنّ مجرّد عدم ذكر المنجّم أو الهيئوي في روايات الرؤية لا يعدّ دليلاً يفنّد قولنا.
ومع ذلك، فإنّ ثمّة رواية صحيحة لأبي عمرو تؤيّد قول المنجّم، وهذه الرواية هي عن محمد بن الحسن (بسند صحيح) عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن عيسى قال: >كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي، إنّه ربّما أشكل علينا هلال شهر رمضان ولا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحُسّاب قبلنا: إنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وإفريقية والأندلس، هل يجوز ـ يا مولاي ـ ما قال الحُسّاب في هذا الباب حتى يختلف العرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقع: لا تصومنّ الشكّ، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته<[31].
ونتيجة لذلك، يمكن بفضل التقدّم الحاصل في مجال علم النجوم أو علم الفلك حساب بداية الشهر القمري بدقة متناهية، وتبنّي هذه العلوم باعتبارها من جملة طرق ثبوت رؤية الهلال. وهذا يقودنا إلى أنّنا إذا لم نأخذ برأي المنجّمين في رؤية الهلال في حال توفّرت شروط ذلك، فمن باب أولى ألاّ نقبل بآرائهم في مسائل أخرى مثل الخسوف والكسوف وتحديد اتجاه القبلة، والحال أنّ الفقهاء ـ ماضياً وحاضراً ـ أكّدوا على حجية آرائهم إذا ما توافرت الشروط اللازمة.
وعليه نلمس هنا الفارق الجوهري بين الحسابات الفلكية المعاصرة التي تستند إلى مشاهدات الأجرام السماوية وتحليلها طبقاً للقواعد والأصول الدقيقة، وبين الأحكام النجومية في زمن صدور الروايات؛ فلقد أصبح بإمكان علم الفلك المعاصر تحديد موعد رؤية الهلال في منطقة معينة أو مناطق معينة من الكرة الأرضية باليوم والساعة وبدقة متناهية غروباً وفي الأفق الغربي، وذلك بصورة قاطعة وأكيدة، شرط أن يقوم فلكيون متخصّصون بإجراء الحسابات المضبوطة والدقيقة، ولا شكّ أنّه في ظروف كهذه ستكون النتائج مطمئنة وصحيحة وتوجب العلم اليقيني برؤية الهلال في الزمان والمكان المعيّنين.
مشروعية علم النجوم في أقوال الفقهاء
يميّز الفقهاء بين علم الهيئة وعلم النجوم أو بتعبير أدقّ بين أوضاع النجوم وأحكامها، فهم يحرّمون الاعتقاد بامتلاك الأجرام السماوية تأثيراً على الحوادث الأرضية، إلا أنّهم لا يُشركون تعلّم علم النجوم الذي يفيد في تحديد اتجاه القبلة ومعرفة الأشهر وما شابه. ولنر ما يقوله فقهاؤنا الأجلاء في هذا الخصوص:
1. يقول المحقق الكركي: >والمراد من التنجيم: الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية التي مرجعها إلى القياس والتخمين… فاعلم أنّ التنجيم مع اعتقاد أنّ للنجوم تأثيراً في الموجودات السفلية ولو على جهة المدخلية حرام، وكذا تعلّم النجوم على هذا الوجه، بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه، نعوذ بالله منه. أما التنجيم لا على هذا الوجه مع التحرز من الكذب فإنّه جائز، فقد ثبت كراهية التزوج وسفر الحج والقمر في العقرب، وذلك من هذا القبيل، وأما علم الهيئة فلا كراهة فيه، بل ربما كان مستحباً، لما فيه من الاطلاع على عظم قدرة الله تعالى<([32]).
2. ويقول المحقق البحراني: >إعلم أنّ الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا لأكثر البلدان علامات تعرف بها قبلتها، والظاهر أنّ ذلك كله أو أكثره مأخوذ من كلام علماء الهيئة الآخذين ذلك من الأرصاد ومعرفة البلاد طولاً وعرضاً<([33]).
3. ويقول السيد محمد جواد العاملي: >قد استحبّ الشهيد والمحقق الثاني النظر في علم الهيئة، ولا يخلو من قوة إذا لم يعتقد فيه ما يخالف الآيات والأخبار كتطابق الأفلاك، ولم يجزم فيه بما لا برهان عليه فيكون داخلاً في القول بلا علم<([34]).
4 ـ ويقول العلامة المجلسي: >منها علم الهيئة والنظر في هيئات الأفلاك وحركاتها، وجوازه لا يخلو من قوة إذا لم يعتقد فيه ما يخالف الآيات والأخبار كتطابق الأفلاك، ولم يجزم بما لا برهان عليه<([35]).
5 ـ ويقول الشيخ البهائي: >قال شيخنا طاب ثراه في الذكرى([36]): إنّ أكثر أمارات القبلة مأخوذة من علم الهيئة، وهي مفيدة للظن الغالب بالعين والقطع بالجهة انتهى([37])… ثم يقول: أما إذا اعتقدت بأنّ أيّاً من أقوال المنجّمين لا تفيد العلم أو حتى الظنّ، فذلك أمر بعيد عن الحقّ والإنصاف، وكيف يقال: إنّ أقوالهم لا تفيد علماً ولا ظنّاً، في حين أنّ معظم تلك الأقوال قد ثبتت صحّتها بالأدلة الهندسية والبراهين اليقينية التي لا ينفذ إليها شك أو شبهة، وهو أمر واضح تماماً لمن له أدنى معرفة في حيثيات هذا العلم وأسراره.
ويضيف قائلاً: لقد جرت عادة الفقهاء عبر التاريخ ـ جيلاً بعد جيل ـ أن يرجعوا في المسائل المتخصّصة إلى أهل الخبرة والفن، كمراجعتهم للنحاة في مسائل النحو أو إلى علماء اللغة في قضايا اللغة وإلى الأطباء فيما يتعلّق بأمور الطبابة وإلى علماء الحساب في مسائل المساحة والجبر والهندسة وغير ذلك، دون الخوض في عدالتهم أو فسقهم، لأنّ المهم هو استشارة أهل الخبرة والعمل بما يرونه ضرورياً في مجال اختصاصهم، والأخذ باستشارتهم، وذلك لجهة الظنّ القوي الذي يفرزه اتفاق جمهور كبير من أهل الخبرة بشأن مسألة اختصاصية معيّنة بما يبعد أي احتمال للخطأ عنها، وهو على غرار الظنّ الذي يفرزه الخبر المتواتر حيث إنّه موضع قبول حتى وإن كان راويه فاسقاً بل وكافر أيضاً. أوليس القبول برأي عالم متخصص مثل الجوهري في مسألة لغوية تتعلّق بالقرآن والروايات والتماس استشارته أمر تغلب عليه الفائدة والصواب، بينما استشارة نصير الدين والملة الشيخ الطوسي قدس الله روحه وجمع كثير من علماء الهيئة أمر غير ذي فائدة في نفس الموضوع المذكور، مع عظم منزلته وسمو مقامه، وذات الشيء ينطبق على مراجعتنا لطبيب يهودي ووثوقنا باستشارته وتشخيصه لحالة معينة كأن ينصح مريضه بعدم الصوم لاحتمال كبير في وقوع ضرر عليه، أو أن يشير عليه بأنّ القيام والجلوس في الصلاة يضرّ به وأنّه يجب عليه الاستلقاء على ظهره، إذاً القبول هنا باستشارة الطبيب اليهودي هو لجهة الشهرة التي اكتسبها كنتيجة للتجربة والممارسة فتولّدت قناعة لدى الكثيرين بصواب رأيه، ومن هنا قبولنا نحن أيضاً بهذا الرأي واطمئناننا له. لذلك، ومن باب أولى القبول بقول جماعة عظيمة من علماء الإسلام بالرجوع إلى أهل الخبرة والعمل بما يشيرون به…
ويتابع قوله: لقد أفتى جماعة من مشاهير علمائنا مثل المحقق والمرحوم الشيخ الشهيد وغيرهم، بجواز قبول خبر الكافر حول القبلة، شرط أن يفيد هذا الخبر الظن، وألا يوجد طريق آخر للاجتهاد حول وجهة القبلة سوى ذلك الكافر، وهو بمثابة اجتهاد ظني في ظرف الإكراه. وقد علّل المرحوم الشهيد هذه الفتوى في كتاب الذكرى بقوله بأنّ ترجيح الظنّ في العبادات يقوم مقام العلم، وفي هذه الحالة، فإنّ تمحيص خبر الفاسق لا سيما في العبادات، يكون في حال عدم إفادته للظن<([38]).
6 ـ ويقول صاحب الجواهر: >وحيث عرفت وتعرف إنّ شاء الله قيام الظن هنا (في مسائل علم النجوم) مقام العلم عقلاً ونقلاً لم يكن بأس في الرجوع إلى قواعد الهيئة، ولا بتقليد أهلها في ذلك، بل ربما استفاد الماهر فيها العلم بالاستقبال، كما أنه لا ريب في حصول الظن به منها، بل الظاهر أنّه أقوى من غيره، ولذا عوّل أصحابنا عليها، ووضعوا كثيراً من العلامات بمراعاتها كما اعترف به بعضهم، فمن الغريب دعوى عدم استفادة شيء من العلم أو الظن من كلامهم، مع أنّ أكثره ـ كما قيل ـ ثابت بالبراهين القطعية والدلائل الهندسية التي لا يتطرّق إليها شبهة، ولا يحوم حولها وصمة ريب، وعدم الوثوق بإسلامهم فضلاً عن عدالتهم لا يمنع حصول الظنّ، كما لا يمنع من حصوله في غيره من اللغة والصرف والنحو والطب وغير ذلك الذي من المعلوم ضرورة الرجوع إليه<([39]).
7. ويقول السيد أبو الحسن الأصفهاني والسيد الكلبايكاني، والإمام الخميني: >تثبت الآية وكذا وقتها ومقدار مكثها بالعلم وشهادة العدلين، بل وبالعدل الواحد على الأحوط، وبإخبار الرصدي الذي يُطمأنّ بصدقه أيضاً على الأحوط لو لم يكن الأقوى<، كما جاء في رسائلهم العملية في بحث صلاة الآيات.
8. وفي تعليقه على رأي السيد «في قبول رأي الهيئوي إشكال» في الحاشية، يقول الإمام الخوئي: >أمّا الثبوت بإخبار الرصدي مع حصول الاطمئنان بصدقه فقد استشكل فيه في المتن، لكنّ الإشكال في غير محله بعد فرض حصول الاطمئنان الذي هو حجة عقلائية كالقطع. نعم التعويل حينئذ إنّما هو على الاطمئنان الحاصل من قوله لا على قوله بما هو كذلك، اللهم إلاّ أن يكون مراده حصول الاطمئنان بصدق المخبر لا بصدق الخبر، كما لو كان الرصدي مأموناً من الكذب فجزمنا بكونه صادقاً في إخباره، ومع ذلك لم نطمئن بصدق الخبر؛ لاحتمال خطئه وعدم إصابته الواقع<([40]).
9. ويقول الشيخ بهجت: >أما قول أهل الحساب، فإنّه بعد اطمئنان المرء لصدقهم بالإضافة إلى الحسابات الدقيقة وتعدّد المحاسبين وعدالتهم، بصورة يصل الإعلان عن إمكان الرؤية إلى المطابقة أو الاستلزام، فإنّ الأظهر القبول بقولهم<([41]).
10. وجاء في البيان الذي أصدره الإمام موسى الصدر في فترة تواجده في لبنان: >كانت رؤية الهلال في الماضي هي العلامة الوحيدة لتحديد بداية الشهر القمري الجديد وانتهاء الشهر القديم، ومن المعروف أنّ المراصد آنذاك كانت بدائية بالمقارنة مع مراصد اليوم الحديثة، ولذلك كانت حسابات المنجّمين والرصديين فيما يتعلق بتحديد مواقع القمر وبداية الشهر ونهايته مبنية في معظم الحالات على الحدس والاحتمالات، ونظراً للأهمية التي أولاها الإسلام العظيم لشهر رمضان المبارك باعتباره من الأشهر الفضيلة، اعتبر الفقهاء الطرق والأساليب القديمة غير كافية لاستخراج الحسابات المضبوطة، لذلك اعتمدوا الرؤية العينية لهلال شهر رمضان الكريم واليقين القطعي بدخول الشهر وخروجه الحاصل عن هذا الطريق. أمّا في عصرنا الحاضر، فإنّ تطوّر أجهزة الرصد والتقدم العلمي الهائل في هذا المجال، يتيح تحديد موقع القمر وزاوية حركته بما لا يترك مجالاً للشكّ بصحّة معلومات الرصديين ودقّتها، لهذا السبب، فإنّ اعتماد رأي العلم الحديث والوثوق بأقوال أهله هو الوسيلة الفضلى لإثبات هلال الشهر وبالتالي تحديد بدايته. كلنا نعلم كم من المفاسد والأمور السلبية تنشأ عن عدم حصول اليقين في إثبات هلال عيد الفطر وانتهاء شهر رمضان الكريم، وهذه السلبيات امتدّت لتشمل بتأثيرها أحكام المحاكم ومعاملات الناس والعلاقات الاقتصادية الرسمية وبرنامج الحياة اليومية… لقد طرحت اقتراحاً على مجمع البحوث الإسلامية والمحافل اللبنانية، قلت فيه: يجب الاستناد إلى العلوم الحديثة مثل علم الفلك والنجوم ودعوة المختصّين في تلك العلوم ليرفدونا بعلومهم وخبراتهم، أو الدعوة إلى اجتماع مشترك للاستماع إلى شهود الرؤية، واتّخاذ القرارات اللازمة بشأن ثبوت رؤية هلال العيد أو عدمها، وإذا لم يؤخذ هذان المقترحان بنظر الاعتبار، فلن نصل إلى عيد موحّد نجتمع تحت ظلّه<([42]).
بناءً على هذا، فإنّنا نلاحظ بأنّ عدم وثوق السلف بحسابات الحسّابين والمنجمين كان لجهة الاستفادة الخاطئة والتوظيف السلبي لعلومهم، وأحياناً كانوا ـ كما السحرة ـ يستغلون بساطة الناس وسذاجتهم من خلال نسج الأساطير والخزعبلات ويحتالون عليهم ليحصلوا على أموال طائلة بهذه الطرق والوسائل غير المشروعة، فاختلط الحابل بالنابل والخرافات بالقضايا العلمية، وأدّى ذلك إلى التشكيك بالعلم ومنجزاته، ومعلوم أنّ التمييز بين ما هو علمي وما هو خرافي أمر صعب وعسير على عامة الناس والبسطاء، ولذلك فإن انتشار تلك الطرق الملتوية أدّى إلى التحرّز منها والتحذير من المنجّمين والحسّابين في تلك الأزمان. أمّا في زمننا الحاضر، فلقد خبرنا صحّة التنبّوءات العلمية طويلة المدى (التي تتنبّأ لعدّة سنوات قادمة) التي تصدر عن المؤسسات الجيوفيزيائية، حتى حصل اليقين بعدم إمكان حصول أي استغلال البتة من النمط الذي ذكرنا، واستحالة وجود أي إمكانية لاستغلال تلك الأساليب لأغراض الخرافات والخزعبلات، فضلاً عن الاطمئنان الحاصل من النتائج العلمية الأكيدة التي تنطوي عليها، وعليه فإنّ المبرّرات التي كانت تسوقها بعض الروايات للتحذير من المنجّمين قد انتفت ولم يعد لها وجود في العصر الحاضر.
إذن، وفي ضوء الأدلة المقدمة في هذا البحث، فإنّ مسألة ثبوت رؤية الهلال ما عادت مقتصرة على الرؤية العينية، وأنّ التأكيد عليها أكثر من سائر الطرق الأخرى هو لجهة عدم توفّر الإمكانات الخاصة بالرؤية لمعظم الناس في تلك الأزمان، فنُصحوا باستخدام حواسهم الطبيعية والبصرية بهدف زيادة الاطمئنان واليقين، ولهذا، فإنّ استخدام الأساليب العلمية والحسابات الجيوفيزيائية لاستخراج المعلومات الخاصة بثبوت رؤية الهلال وبداية الشهر ونهايته، أقول: إنّ استخدام هذه الأساليب أصبح اليوم ضرورة حياتية لا غنى عنها، وقد أخذت مكانها إلى جانب بقية الأساليب المتّبعة.
الأدلة التي تدعم آراء المنجّمين في رؤية الهلال
ومن أجل البرهنة على صحّة الرجوع إلى آراء المنجّم أو الهيئوي فيما يتعلّق برؤية الهلال نذكر فيما يلي بعض الأدلة:
1 ـ رؤية الهلال في المشرق وحجّيتها بالنسبة لأهل المغرب الذين لم يروه عياناً:
أ ـ صحيحة إسحاق بن عمار: >سألت أبا عبد الله×: عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: لا تصمه إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه، فاقضه<([43]).
ب ـ جاء في صحيحة أبي بصير أنّ الإمام الصادق× قال في قضاء يوم من شهر رمضان: >لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر، وقال: لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه<([44]).
ج ـ صحيحة محمد بن عيسى المتقدّمة فلا نعيدها([45]). وفيها نلاحظ أنّ الإمام× لم يصرّح بأي قول يستشفّ منه ردع أو منع لقول الحسّابين، بل أشار إلى نتيجة ذلك القول، فخلاصة قوله: «لا تركن إلى سبيل الشك، بل اعتمد اليقين» وهو يؤيّد ما ذهبنا إليه من أنّ قول الحسّابين كانت موضع شك وترديد في تلك الأزمنة فقط، ذلك أنّ السائل ـ كبقية الناس ـ لم تلك لديه الوسائل الكفيلة بالتثبّت والتأكّد من صحّة أقوالهم، وبتعبير أعمّ وبيان أوضح نقول بأنّ معنى كلام الإمام× هو: «إذا كانت أقوال الحسّابين تفيد الاطمئنان للفرد أو الأفراد، فهو نافذ ومعتبر بالنسبة لهم».
استنتاج وخلاصة
نستنتج في ضوء الروايات التي أوردناها خلال البحث أنّه لم يرد ردع أو منع مطلق من قبل الشارع المقدس إزاء قول المنجم، بل المنع الوارد لجهة الشكّ بأقوالهم، أو للنبوءات التي كانوا يطرحونها ومزاعمهم بالنسبة لتأثيرات السماء على حوادث الأرض، ولو حصل اطمئنان لأقوالهم أو ثبت أنّها ليست نبوءات بأحوال النجوم وأوضاعها، فلا يوجد منع بتاتاً، بل إنّها بلا شك ستكون موضع تأييد الشرع وقبوله، وعليه فإنّ توظيف علم الهيئة والنجوم والاستفادة منهما لأغراض بيان جهة القبلة وتحديد مواقيت الصلاة والمسائل الشرعية الأخرى، يؤدّي بلا ريب إلى حصول الاطمئنان واليقين بأقوال أهل الهيئة واعتماد أقوالهم.
وبالنسبة للفقهاء، فإنّهم يميّزون بين علم النجوم وبين أحوال وأحكام النجوم من حيث إنّهما شيئان متباينان، فلقد اتفقوا على حرمة الإيمان بتأثيرات الأجرام على الحوادث الأرضية، في حين أنّ تعلّم هذا العلم لأغراض تحديد اتجاه القبلة في المدن المختلفة وما شابه أمر جائز بل محبّذ عندهم. وما يعرف في عصرنا بعلم النجوم هو من النوع الثاني الذي ذكرنا وهو نفسه علم الفلك الذي يتمّ بواسطته استخراج مواقيت رؤية الهلال في الأفق وفق حسابات رياضية دقيقة، ومن خلاله يتمّ تحديد أول الشهر.
ومن نافلة القول: إنّ عصر النجوم أضحى في عصرنا من العلوم الضرورية للبشر، وقول المنجّم المتخصص العادل له اعتبار وحجية الخبير أو شهادة العدلين شرط أن يصدر عن يقين وقطع، ذلك أنّ المنجم والهيئوي هما في عداد أهل الخبرة والاختصاص، وسيرة العقلاء في الرجوع إلى أهل الخبرة، وهي موضع تأييد الشرع.
وفي ختام بحثنا، واستناداً إلى الأدلة المطروحة، نقترح تشكيل لجنة مشتركة تضمّ مجموعة من الأخصّائيين في علم الهيئة وممثّلين عن الفقهاء والمرجعيات الدينية ممّن لهم إلمام بمبادئ الفقه وعلم النجوم، وتأخذ هذه اللجنة على عاتقها إجراء الحسابات الفلكية الدقيقة لاستخراج مواقيت ظهور الهلال في الغروب ومناطق رؤيته بشكل قاطع وذلك لتحديد اليوم الأول للعيد بدقة ويقين.
الهوامش
(*) أمّا الدكتور إمام، فهو أستاذ مساعد في كلية الشريعة بجامعة طهران، وأمّا الأستاذ إبراهيمي فهو باحث برتبة أستاذ مساعد في اللغة العربية وآدابها.
([1]) انظر: الخراساني، کفاية الأصول: 287؛ والإمام الخميني، الرسائل، الاجتهاد والتقليد 2: 130، مؤسسة إسماعيليان 1385هـ؛ ومحمد تقي الحکيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 198؛ ومحمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 4: 247، دار الکتاب اللبناني، 1406هـ.
([2]) علي بن الحسين الکرکي، جامع المقاصد 4: 31، مؤسسة آل البيت، قم 1408هـ.
([3]) الطباطبائي، الميزان 19: 74 ـ 76.
([4]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار 55: 254؛ وابن طاووس، فرج المهموم: 113.
([5]) انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 55: 254، و100: 277؛ والبروجردي، جامع أحاديث الشيعة 20: 103.
([6]) قطب الدين الراوندي، سلوة الحزين المعروف بالدعوات: 112، مدرسة الإمام المهدي، قم 1407هـ.
([7]) الميزان 19: 76.
([8]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب أحکام شهر رمضان، الباب 15، ح2.
([9]) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج 2: 95، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف، 1384هـ.
([10]) ابن بابويه الصدوق، من لا يحضره الفقيه 2: 267، مؤسسة النشر الإسلامي.
([11]) وسائل الشيعة 10: 297. الباب 15، ح1؛ والطوسي، التهذيب 4: 159، 446.
([12])جامع المقاصد 4: 31.
([13]) رؤية الهلال 1: 73، نقلاً عن محاضرات الفلك وسائر الفروع الرياضية 2: 758.
([14]) حسن زاده آملي، ألف ملاحظة وملاحظة، مرکز رجاء للنشر الثقافي، 1364هـ.
([15]) حسن زاده آملي، ألف ملاحظة وملاحظة 1: 251، الملاحظة 485.
([16]) الطوسي المبسوط 1: 267؛ والقاضي ابن البراج، المهذّب 2: 9؛ وابن زهرة، غنية النـزوع: 189؛ والمحقق الحلي، شرائع الإسلام 1: 142؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 6: 137؛ والشهيد الأول، الدروس الشرعية 2: 12؛ والشهيد الثاني، الروضة البهية 1: 738.
([17]) محاضرات في علم الهيئة وعلوم رياضية أخرى 1: 738، المحاضرة: 107.
([18]) حسن زاده آملي، دروس في معرفة الوقت والقبلة: 534، الدرس: 75.
([19]) الخميني، تحرير الوسيلة 1: 296؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 278؛ والكلبايكاني، هداية العباد 1: 271.
([20]) الصدر، الفتاوى الواضحة: 512.
([21]) الشيخ المفيد، جوابات أهل الموصل: 799؛ والشريف المرتضى، الانتصار: 34؛ والشيخ الطوسي، الخلاف 2: 180؛ وابن زهرة، غنية النـزوع: 247؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 6: 137؛ وأبو جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية 3: 141؛ وعلي الطباطبائي، رياض المسائل 5: 416؛ وابن فهد الحلي، المهذب البارع 2: 57.
([22]) تذكرة الفقهاء 6: 137.
([23]) وسائل الشيعة 10: 297، ح2.
([24]) انظر: الصدوق، الخصال 1: 298، باب الخمس، ذيل ح67.
([25]) المجلسي، بحار الأنوار 56: 299.
([26]) المصدر نفسه 55: 291.
([27]) مشارق الشموس 2: 470.
([28]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 483.
([29]) وسائل الشيعة 17: 141.
([30]) بحار الأنوار 55: 249.
([31]) وسائل الشيعة 10: 297.
([32]) الکرکي، جامع المقاصد 4: 31 ـ 32.
([33]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 6: 388، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
([34]) الحسيني، مفتاح الکرامة 12: 273.
([35]) المجلسي، بحار الأنوار 55: 310.
([36]) الشهيد الأول، ذکرى الشيعة في أحکام الشريعة 3: 162، مؤسسة آل البيت، قم 1314هـ.
([37]) البهائي، الحبل المتين: 193، بصيرتي، قم.
([38]) المصدر نفسه: 93 ـ 95.
([39]) محمد حسن النجفي، جواهر الکلام 7: 347، دار الکتب الإسلامية، طهران، 1986م.
([40]) المستند في شرح العروة 5: 660، محاضرات الإمام الخوئي، لطفي، 1985.
([41]) جامع المسائل: 631.
([42]) صحيفة إيران، ع2021، 6/10/1999م، نقلاً عن رضا مختاري من مقدمة رؤية الهلال 1: 73.
([43]) وسائل الشيعة، مصدر سابق، باب8، ح3.
([44]) المصدر نفسه، باب 12، ح1.
([45]) المصدر نفسه، باب15، ح1.