مدخل لتفكيك مفهوم البحث
لا شك أن الله تعالى هو المقنن الحقيقي في نظر الأديان التوحيدية لاسيما الإسلام، لأنه خالق الإنسان والكون، والعالم بمصالح ومفاسد العباد، ولا شك أن الحاجة ملحة إلى القانون لإدارة المجتمعات والحياة الفردية للبشر، وأن مصدر هذه القوانين وتقنينها كان ـ وما يزال ـ محطّ اهتمام المعنيين، حيث ذهب بعضٌ إلى اختصاص حقّ التشريع بالذات الإلهية دون أن يشاطرها أحد حتى النبي، وجنح آخرون إلى تفويض حقّ التشريع إلى النبي الأعظم، ومنه إلى أئمة أهل البيت(ع) استناداً إلى روايات بهذا الشأن، وهذا البحث كفيل بالإجابة عن الإشكاليّات التالية: هل فوّض الله إلى النبيحقّ التشريع وتقنين الأحكام الشرعية؟ وما هو مقدار وحدود ذلك الحق؟ وهل يملك النبي هذا الحقّ على نحو الاستقلال؟ وهل له حقّ التفويض للأئمة من أهل البيت؟ وإلى أي مقدار وما هو حدوده؟ وهل لهم حقّ تقنين الأحكام الشمولية العامة؟ وإذا لم يُفوّض إليه حقّ التشريع، فهل للرسول الأكرم وأئمة أهل البيت حقّ التقنين في موارد خاصة وتحت عنوان الأحكام الولائية والحكومية؟ وهل لهم هذا الحق في الأمور التنفيذية وسيادة النظام في المجتمع؟ وهل يحظى الإمام المهدي بهذا الحق مع ما له من المنزلة الرفيعة؟ وهل يثبت هذا الحق للفقهاء في عصر الغيبة أيضاً؟..
اتفق فقهاء الشيعة ومتكلّموهم على أن النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) لا يملكون حقّ التقنين على نحو مستقلّ وفي عرض حقّ الله تعالى؛ ومن الواضح بمكان أن ما يبينه الفقهاء في عصر الغيبة سواء أكان في إطار الفتوى أم الحكم لإدارة المجتمع، لا يندرج تحت إطار التشريع أبداً؛ ذلك أن صدور الفتوى أو الحكم الحكومي ـ كما يأتي ـ يفتقد خصوصيات التشريع. وما يستشفّ من الأخبار والأحاديث أنّ الحكومة العالمية للمهدي لا تختلف كثيراً عن حكومة النبي وأمير المؤمنين سوى في سعة امتدادها الجغرافي وبسط نفوذها على معظم أرجاء المعمورة، كما يستشف منها أن النبي(ص) والإمام(ع) قد أصدرا قوانين مقطعية في نطاق حكومتهما، وهي لا تندرج تحت مقولة التشريع التي نتحدّث عنها.
ويبقى من التساؤلات السالفة سؤالان: 1 ـ هل للنبي حق التشريع؟ 2 ـ هل أعطي هذا الحق للأئمة؟
تأثيرات نظرية الحق التشريعي على المنظومة القانونية الدينية
من الواضح أنه من خلال إثبات اختصاص حقّ التشريع بالله تعالى، يمكن استنتاج أن الدين منظومة متكاملة ومطلقة لا يحدّها زمان ومكان، وقد انصبّت جهود الأنبياء والأئمّة والفقهاء على بيان هذه المنظومة، أما إذا ثبت أنّ حقّ التشريع فوّض إلى النبي وأهل بيته، فمن المعقول والمنطقي التكهّن بوضع قوانين لا سابق لها تنضوي تحت الدين في عصر المهدي المنتظر، بل يمكن تجاوز هذا الحد وادّعاء تعليق أحكام وإحلال أحكام أخرى محلّها، من جهة أخرى يعتقد بعضهم أنّ للفقهاء في عصر الغيبة كافّة مزايا النبي وأهل البيت، ولعله يمكن سريان حقّ التشريع إليهم من هذا الباب أيضاً، وتبعات هذه النظرية سوف لا تصمد أمام كمال الدين.
1 ـ نظرية انحصار التشريع بالله تعالى
المراد من الشارع في الفقه والأصول والكلام هو الله باعتباره مشرعاً وشارعاً حقيقياً، ولإثبات ذلك نشير إلى الأدلة التالية:
المستند القرآني لمشرّعية الله سبحانه
نستند في إثبات هذا الموضوع إلى آيات من الذكر الحكيم:
1 ـ {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام: 56).
2 ـ {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 40).
3 ـ {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (يوسف: 67).
4 ـ {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} (الكهف: 44). ويفهم من مضمون الآية أن الولاية خاصة بالله والتشريع بيد قدرته تعالى.
5 ـ {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (الأنعام: 62). وتدلّ على أن ملك هذا العالم وعالم الآخرة بيد الله؛ ولهذا يمتلك حقّ محاسبة البشر ومساءلتهم من خلال تشريع القوانين.
6 ـ {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 70)، فقد وردت في هذه الآية أربع صفات ربوبية: الخالقية وكونه مختاراً، والأخرى أنه مصدر جميع النعم سواء أكان في هذا العالم أم عالم الآخرة، وهذا يقتضي خالقيته المطلقة، وفي النهاية بيّن أنّ الحكم مختصّ به تعالى مما يدل على أنه حينما يكون خالقاً ومختاراً فسيكون زمام الحكم التكويني والتشريعي بيده تعالى.
يقول العلامة الطباطبائي: ونظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، وإن كان الانتساب مختلفاً باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة، كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشية والرزق والحسن إلى غير ذلك، وبالجملة لما كان التأثير له تعالى كالحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، وقد أيّد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: 57) وقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} (الأنعام: 62)، وقوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ} (القصص: 70) وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: 41)، ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه ويعارض مشيته، وقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (المؤمن: 12) إلى غير ذلك، فهذه الآيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى، ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (يوسف: 40)، فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه ما مرّ من الآيات، غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم وخاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (المائدة: 95) وقوله لداود: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص: 26) وقوله للنبي’: {أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ} (المائدة: 49) وقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} (المائدة: 44) إلى غير ذلك من الآيات، وضمها إلى القبيل الأول يفيد أن الحكم الحقّ لله سبحانه بالأصالة وأولاً، لا يستقل به أحد غيره ويوجد لغيره بإذنه وثانياً، ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم لما أنه لازم الأصالة والاستقلال والأولية، فقال {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (التين: 8) وقال: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (الأعراف: 87)([1]) .
مستند السنّة لمشرّعية الله
تحدّثت الكثير من الروايات عن الحرية ومساواة البشر في الحقوق، فعلى سبيل المثال جاء في رواية صحيحة عن الإمام علي(ع) يقول فيها: «الناس كلهم أحرار»([2])، كما قال في كتاب بعثه لابنه الحسن(ع): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»([3])، والمراد من هذه الروايات أنّ الله خلق البشر أحراراً، وشرط الحرية أن يفكّوا عن رقابهم أغلال طاعة الآخرين.
ونستخلص من الآيات والروايات الآنفة الذكر أنه لا يحقّ لأحد إصدار الأمر والحكم على الآخرين، ولا ينفذ أيّ قانون غير إلهي في حقّ البشر، بل هذا الحقّ خاص بالله تعالى فهو الذي يضع القوانين للبشر.
المستند العقلاني لمشرّعية الله تعالى
أدنى تأمل لطبيعة القوانين وكيفية وضعها وخصوصيات المقنّن، يؤكّد أنّ التشريع منحصر بالله تعالى، أما لمن يرغب بمزيد من الأدلة في هذا المجال فنعرض مجموعة أخرى منها طرحها بعض العلماء:
1 ـ كمال الله ونقص البشر: يجب على المقنّن أن يتمتع بخصوصيات تؤهل العقل لفعل تلك الأوامر، منها:
أ ـ علم مطلق بمصالح الأشياء ومفاسدها، لكي يتيسر للبشر ـ في ضوء ذلك العلم ـ الانتفاع بالآثار المفيدة لها والاحتراز عن مضارّها.
ب ـ علم مطلق بحاجات البشر لكي يتيسّر للمقنن ـ في ظل التعقيد في خلق الإنسان وحاجاته ومتطلباته المتنوعة ـ وضع قوانين تنسجم مع تلك الحاجات والأبعاد الوجودية.
ج ـ القدرة على الانتفاع من تلك القوانين والآليات اللازمة لذلك، أي القدرة على الاتصال بالبشر من خلال الوحي وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
هـ ـ القدرة على إثابة المطيعين ومعاقبة المجرمين، من خلال القيامة والجنّة والنار.
ومع أخذ تلك النقاط بنظر الاعتبار، ليس في قدرة أحد حيازة الخصوصيات الآنفة الذكر، وليس في قدرته أن يكون مقنّناً حقيقياً ذلك أنه إضافة إلى غياب الخصوصيات السابقة، نجد غير الله: 1 ـ لا يحظى بعلم مطلق بل علمه محدود. 2 ـ لم يصل عقل البشر إلى نهاية كماله. 3 ـ إنّ المقنن البشري لا يراعي حقّ الآخرين حين التقنين. 4 ـ سلطته التنفيذية محدودة. 5 ـ يتهرب الأقوياء من إجراء القانون لاسيما إذا كان في ضررهم. 6 ـ ليس ثمة دليل عقلي على تطبيق القوانين البشرية. 7 ـ ضرورة رعاية القانون في المجتمعات الإنسانية بدافع الحدّ من الإخلال بالنظم السائدة لا أكثر.
2 ـ أصل عدم الولاية: يقول الشيخ الأنصاري: مقتضى الأصل عدم ثبوت الولاية لأحد بشيء من الوجوه، خرجنا عن هذا الأصل في خصوص النبي والأئمّة([4])؛ واستناداً إلى هذا الأصل لا يحقّ لأحد التدخل في عمل شخص آخر وليس باستطاعته نهيه عنه أو إجباره عليه، أو تقرير بديل له عنه، أو التصرّف في ملكه دون رضاً منه أو إذن، فكل إنسان حرّ ومستقل في أداء أعماله.
ويقول الإمام الخميني: لا إشكال في أنّ الأصل عدم نفوذ حكم أحد على غيره قضاءً كان أو غيره، نبياً كان الحاكم أو وصي نبي أو غيره، ومجرد النبوة والرسالة والوصاية والعلم ـ بأيّ درجة كان ـ وسائر الفضائل لا يوجب أن يكون حكم صاحبها نافذاً وقضاؤه فاصلاً، فما يحكم به العقل هو نفوذ حكم الله تعالى شأنه في خلقه لكونه مالكهم وخالقهم، والتصرف فيهم بأيّ نحو من التصرف يكون تصرّفاً في ملكه وسلطانه، وهو تعالى شأنه سلطان على كل الخلائق بالاستحقاق الذاتي، وسلطنة غيره ونفوذ حكمه وقضائه يحتاج إلى جعله، وقد نُصب النبي للخلافة والحكومة مطلقاً قضاءً كانت أو غيرها، فهو’ سلطان من قبل الله تعالى على العباد بجعله، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ…} ثم بعد النبي كان الأئمّة واحداً بعد واحد سلطاناً وحاكماً على العباد ونافذاً حكمهم من قبل نصب الله تعالى ونصب النبي بمقتضى الآية المتقدمة والروايات المتواترة بين الفريقين عن النبي(ص) وأصول المذهب، وهذا مما لا إشكال فيه([5]).
وكتب صاحب العناوين يقول: لا ريب أن الأصل الأولي عدم ثبوت ولاية أحد من الناس على غيره لتساويهم في المخلوقية والمرتبة ما لم يدلّ دليل على ثبوت الولاية، ولأن الولاية تقتضي أحكاماً توقيفية لا ريب في أن الأصل عدمها إلا بالدليل([6])، وقد أثبت صاحب العناوين حقّ الولاية لله ولرسوله وللأئمة.
كما استدل بعضٌ بأنّه لا يحقّ لأحد الولاية على الآخرين؛ لأن الإطاعة رهن من أفاض الوجود، وبما أنه لا أحد وهب الوجود لآخر لا بقاءً ولا استمراراً، لذا لم يكن واجب الاتّباع، وعدم لزوم الاتّباع أصل أولي في الولاية، ولا غرو فإنّ الله مفيض الوجود، والإنسان مكلّف بطاعة أوامره([7]).
وحصيلة البحث أن الشارع الحقيقي هو الله تعالى وله حقّ التقنين، وبما أنّ الدين ورد من الله العليم الحكيم، وأحكامه ومقرراته صدرت عن حكمة وعلى أساس المصالح والمفاسد، فلم يصدر الأمر والنهي والحرام والحلال اعتباطاً ـ فهو وحده القادر على وضع قوانين تحقّق المصالح وتوفر السعادة للإنسان، وانطلاقاً من ذلك فحقّ التشريع مختصّ به تعالى فحسب، هذا إلى جانب الآيات الدالة على أنّ الحكم لله وأنه الحاكم المطلق.
إشكاليات حول حقّ التشريع الإلهي
بعد أن أثبتنا ـ بدلائل مختلفة ـ أن المقنن الحقيقي هو الله، نشير هنا إلى عدد من الإشكاليّات المثارة حول ذلك:
1 ـ إحدى صفات الله الإرادة، التي تطرح عادة مع الطلب في الكتب الأصولية ([8]) والكلامية، فسواء أكانا مختلفين([9]) أم متحدين([10])؛ فلا مناص من الإذعان بتعلق إرادته بأمر باعتباره مشرعاً، ثم تجري إرادته في قالب الطلب، عندها يطرح هذا السؤال: كيف يمكن الإذعان بأنّ الله إذا تعلّقت إرادته ورغبته بأمرٍ طلبه، بينما هذه الأوصاف تليق بعباده ويتنزه عنها الله سبحانه؟
2 ـ إن تحقق الطلب عند البشر رهنٌ بالشوق نحو أمر إلى حدّ تتعلّق به إرادة لفعله أو الكراهة لتركه، أما كيف يمكن تصوّر شوق الله لبعض مخلوقاته كالشاة وإرادة حلّيتها وكراهته لبعضٍ آخر كالخنزير وإرادة حرمته، مما يستلزم تفويض الله مهمة التشريع إلى آخرين بهدف تقنين الأحكام وفق الإرادة والكراهة؟
3 ـ إذا كان من الممكن صدور أوامر ونواهي من قبل الله، فلابد أن تصل تلك الأحكام إلى يد البشر، وهذا يستتبع بطبيعة الحال كلاماً ونطقاً بألفاظ، أو ما يعبر عنه بصفة المتكلم، فكيف تثبت هذه الصفة الحادثة العرضية للذات الإلهية القديمة؟ وهل يمكن للكلام النفسي ـ في ضوء تفسير القدماء له ـ أن يدحض هذه الشبهة؟
4 ـ وتبتني هذه الشبهة على أن الإرادة الإلهية لو تعلّقت بفعل أو بترك، فكيف يتيسّر للبشر مخالفة ذلك، أي يجب الإقرار مسبقاً أنه لم تتعلق إرادة جدية وطلب حقيقي بذلك الأمر لكي لا نسقط في دوّامة الجبر، من جهة أخرى لو أردنا التخلّص من الجبر والذهاب إلى أن الله فوّض أمر التشريع إلى البشر حينها يطلّ علينا التفويض برأسه.
وللإجابة عن هذه الإشكاليّات يمكن القول: الإرادة ـ لغةً ـ بمعنى العزم على الفعل أو الترك، وهذا ينشأ من حالة نفسية تستند إلى وعي بالشيء وقدرة على تحقيقه، والطلب لغةً بمعنى الشوق والرغبة، وهي حالة باطنية، ومفهومي الطلب والإرادة عند البشر بهذا النحو، وعليه يمكن القول: إن كلام الآخوند الخراساني في الكفاية على جانب كبير من الصواب، ذلك أنه يراهما مترادفين.
من جهة أخرى، يمكن وضع الفروق بينهما وادعاء أنهما حقيقتان؛ إذ من الواضح أن الإرادة الإلهية يمكن قبولها بهذا المعنى، أما الطلب في حقّ الله بالمعنى الحقيقي فسيكون عبثاً وبعيداً عن الصواب؛ لأن وجود الطلب في حقّ الله يدل على عجزه، نعم يصح الطلب الإنشائي في حقه سبحانه الذي يتجلى في إطار القوانين، فهذه الصفات تستعمل في حق الله بصورة مغايرة لاستعمالها في حق الإنسان، أي أنّ لله إرادة، وهي من صفات الذات القديمة وهي تعبير آخر عن العلم والقدرة.
وللإجابة عن الإشكاليّة الثانية نقول: من المؤكد أنّ الله خالق للكون وكل الظواهر مخلوقة له؛ فلا يمكن التبعيض بينها في الحب والكراهة، أما منشأ التبعيض بينها في مجال التشريع فيعود إلى ثلاثة محاور لها دور هام في وضع القوانين: 1 ـ المقنن والمراد به الله. 2 ـ ممتثل القانون وهم البشر. 3 ـ نصّ القانون؛ وبناءً على عقيدة الشيعة والعدلية فإن أوامر الله ونواهيه صادرة عن مصالح ومفاسد للبشر، أي إذا نهى الله عن لحم الخنزير فقد أخذ ـ في الواقع ـ مصالح البشر بنظر الاعتبار، وإذا أمر بأكل لحم الشاة فقد أخذ منافع البشر بنظر الاعتبار، وإلا فالشاة والخنزير مخلوقان له، ومن ثم فالأمر والنهي لم يصدرا عن الله بداعي الحب والبغض لكي تثار تلك الشبهة.
وقد أثيرت منذ القدم مساجلات وردود كثيرة لا طائل تحتها بين الأشاعرة والمعتزلة بغية الإجابة عن الإشكاليّة الثالثة، والتي مازالت مستعصية على الحل، ومما زاد الطين بلةً طرح نظرية الكلام النفسي هنا، ونكتفي بالإشارة إلى أنّ صفات الله على نحوين: صفات الذات وصفات الأفعال، والمراد من صفات الذات الصفات التي تتحقّق في حق الله تعالى دائماً كالعلم والقدرة، أما صفات الأفعال فهي الصفات التي تستعمل لمخلوقات الله كالرازق والخالق.
وفي شأن التشريع والقوانين الصادرة من الله تعالى نقول: إن القابلية على التكلم والقدرة على إيجاد الأصوات من قبل الله تعود لصفات القدرة التي هي أزلية، والقوانين التي نزلت في مقطع زمني خاص على أحد الأنبياء ـ كالقرآن النازل على رسول الله ـ ترجع في الواقع إلى صفات الأفعال.
وللإجابة عن الإشكاليّة الرابعة نقول: إن إرادة الله اقتضت أن يكون التشريع ووضع القوانين عاملاً مساعداً لتكامل البشر، وفي الوقت ذاته يمتلك البشر الإرادة والقدرة على الفعل أو الترك، وعليه لا يمكن تبرير نظرية الجبر في ضوء وضع القوانين من قبل الله، من جانب آخر التفويض أمرٌ لا يمكن قبوله، نعم إذا كان التشريع الصادر من الله خلاف العقل عندها يتجه القول به، إلا أن التفويض بهذا المعنى يخالف العقل، ولإتمام فائدة البحث ننقل كلاماً قيماً للعلامة الطباطبائي يقول فيه: فطائفة المفوضة أثبتوا مصالح ومفاسد نفس أمرية، وحسناً وقبحاً واقعيين هي ثابتة ثبوتاً أزلياً أبدياً غير متغير ولا متبدل، وهي حاكمة على الله سبحانه بالإيجاب والتحريم مؤثرة في أفعاله تكويناً وتشريعاً بالحظر والترخيص، فأخرجوه تعالى عن سلطانه وأبطلوا إطلاق ملكه. وطائفة وهم المجبّرة نفت ذلك كلّه وأصرت على أن الحُسن في الشيء إنما هو تعلّق الأمر به والقُبح تعلّق النهي به ولا غرض ولا غاية في تكوين ولا تشريع، وأن الإنسان لا يملك من فعله شيئاً ولا قدرة قبل الفعل عليه، كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أنّ الفعل مخلوق للإنسان وأن الله سبحانه لا يملك من فعل الإنسان شيئاً ولا تتعلّق به قدرته، والقولان ـ كما ترى ـ إفراط وتفريط؛ فلا هذا ولا ذاك، بل حقيقة الأمر أنّ هذه ونظائرها أمور اعتبارية وضعية لها أصل حقيقي([11]).
2 ـ نظرية تفويض حق التشريع إلى النبي(ص) والأئمّة(ع)
لا شك أن معرفة مناصب النبي تساعد إلى حدّ كبير على استيعاب موضوع البحث، و هنا لابد من الإجابة عن التساؤل التالي: ما هي المسؤوليات الملقاة على عاتق النبي إبان نبوته؟ وما هي حدودها وصلاحياتها؟
يقول الشهيد الأول في هذا الصدد: تصرّف النبي(ص) تارة بالتبليغ وهو الفتوى، وتارة بالإمامة كالجهاد والتصرف في بيت المال، وتارة بالقضاء كفصل الخصومة بين المتداعيين([12])، وإليه مال الفاضل المقداد([13])، وقال المحقق النائيني: للولاية مراتب ثلاث: إحداها ـ وهي المرتبة العليا ـ مختصّة بالنبي(ص) وأوصيائه الطاهرين، وغير قابلة للتفويض إلى أحد، واثنتان منها قابلتان للتفويض، أما غير القابلة فهي كونهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم بمقتضى الآية الشريفة: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}،وأما القابلة للتفويض فقسم يرجع إلى الأمور السياسية التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام العباد وسدّ الثغور… وقسم يرجع إلى الإفتاء والقضاء([14]).
ويذكر الإمام الخميني أن للنبي ثلاثة مناصب:
1 ـ مقام النبوة والرسالة، أي تبليغ الأحكام الإلهية من الأحكام الوضعية والتكليفية حتى أرش الخدش.
2 ـ مقام السلطنة والرئاسة والسياسة؛ لأنه سلطان من قبل الله تعالى، والأمة رعيته وهو سائس البلاد ورئيس العباد.
3 ـ مقام القضاء والحكومة الشرعية، وفصل الخصومة والقضاء بين الناس([15]).
وعدّ في كتاب الإمامة والولاية ومن خلال الاستعانة بالآيات القرآنية منصبين للنبي: 1 ـ منصب إبلاغ الشريعة الوارد في الآية: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44). 2 ـ منصب الإمامة والقضاء الذي ورد ذكره في الآية: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ} (النساء: 105).
ومن مجموع ما تقدم من كلمات الفقهاء والمحقّقين بشأن مناصب وتصرفات النبي، يمكن أن نستخلص النتائج التالية:
الأولى: لا خلاف في أصل المناصب بالرغم من وقوع الخلاف في عددها.
الثانية: مع أن محور البحث حول مناصب النبي، لكن واستناداً للروايات فإن كل ما ثبت للنبي من مقام ومنصب ثبت أيضاً للأئمة ما خلا مقام النبوة.
الثالثة: لم ترد أية إشارة إلى عبارة «منصب التشريع»، نعم ورد في كلمات بعض المحقّقين عبارة: «إبلاغ التشريع» والمراد منها بيان الأحكام.
ومهما يكن من أمر، فقد بذلت محاولات بغية إثبات أنّ حق التشريع من مناصب ومقامات النبي والأئمّة،معتمدة على الأدلة التالية:
أدلة نظرية ثبوت حقّ التشريع للنبي(ص)والأئمّة(ع)
استند أتباع هذه النظرية إلى آيات من الذكر الحكيم وبعض الروايات.
ا ـ 2ـ حق التشريع من منظار القرآن الكريم
وردت آيات كثيرة في هذا الموضوع باختلاف فيما بينها في التعبير، ويمكن تصنيفها إلى مجموعات:
المجموعة الأولى: وهي ما دلّ على أن الله الذي له حقّ الحكم قد أعطى هذا الحق لبعض الأنبياء: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 22)، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} (مريم: 12، وانظر: الأنبياء: 74)؛ فهذه الآيات ونظائرها التي يعجّ بها القرآن الكريم تدل على أن الله أسبغ على بعض أنبيائه ـ كيوسف ولوط ويحيى ـ نعمة الحكم وأحد مصاديقها حقّ التشريع، وهذا يعني أنه سبحانه وهب للأنبياء حقّ التشريع في الجملة، ومع ضمّ هذه المقدمة ـ وهي أن كافة المقامات والدرجات المعنوية التي وهبت للأنبياء قد وهبت أيضاً ـ وفقاً للأخبار ـ إلى خاتم الأنبياء والأئمّة سوى مقام النبوة ـ نستنتج أن للنبي وأئمة أهل البيت حقّ التشريع.
وهذا الاستدلال لا يصمد أمام النقد؛ فأولاً: إن الاستدلال بهذه المجموعة من الآيات إنما يكون مجدياً إذا كان الحكم بمعنى التشريع مصطلحاً من قبل البشر، إلا أنه بالإمعان فيها قليلاً يتضح أن هذه المفردة استعملت في الآيات بمعان أخرى، حيث كتب العلامة الطباطبائي في ذلك يقول: قوله: (آتيناه حكما) الحكم هو القول الفصل وإزالة الشك والريب من الأمور القابلة للاختلاف على ما يتحصّل من اللغة، ولازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدأ والمعاد والأخلاق النفسانية والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع البشري([16])؛ فقد ذهب العلامة إلى أن الحكم هنا بمعنى القول الفصل في المسائل الخلافية، كما في الآية الكريمة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا} وهذه الآية خير مؤيد لاستعمال الحكم بمعنى القضاء، ومع وجود هذا الاحتمال يبطل الاستدلال بالآية.
ثانياً: هذه الآيات تعارض الآيات الدالّة صراحة على اختصاص التشريع بالله تعالى.
إذن؛ فالحكم في هذه الآيات لا يعني حقّ التشريع، ولا يمكن الاستدلال بهذه الآيات على إثبات ذلك الحق.
المجموعة الثانية: تناولت بعض الآيات مسألة الولاية وإمامة النبي والأئمّة، مثل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} (المائدة: 55)، {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} (الأحزاب: 6)، والطاعة من مستلزمات الولاية، وقد ذكرت الآيات ولاية النبي والأئمّة إلى جانب ولاية الله؛ لذا فطاعة وليّ الله واجبة كطاعة الله، ويعتقد بعض المفسرين أن ولاية النبي والأئمّة في طول ولاية الله؛ فكافة الأحكام الإلهية التي هي من لوازم ولاية الله تنتقل إليهم، ويقول الطباطبائي عند تفسيره الآية الأولى: فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية لنفسه في كلامه، ويرجع محصلها إلى ولاية التكوين وولاية التشريع، وإن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية والولاية الاعتبارية، وقد ذكر الله سبحانه لنبيه’ من الولاية التي تخصّه الولايةَ التشريعية، وهي القيام بالتشريع والدعوة وتربية الأمة والحكم فيهم والقضاء في أمرهم، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}(الأحزاب: 6)([17]).
ويرد عليه، أولاً: لا يمكن الاستدلال بهذه الآيات على إثبات حقّ التشريع في المؤقتات، ولعلنا نستطيع أن نفهم من خلال الروايات حقّ التشريع الثابت في الأحكام المؤقتة في باب المعاملات لا في الأحكام الدائمية في باب العبادات.
ثانياً: مع التسليم بولاية النبي والأئمّة في قيادة المجتمع البشري، إلا أن الاستفادة من الآيات المذكورة لإثبات المدعى يعتمد إلى حدّ كبير على: 1 ـ أن ثبوت ولاية النبي والأئمّة بالفعل لكل البشر إلى يوم القيامة. 2 ـ أن ولاية النبي والأئمّة تترشح من ولاية الله على البشر، وتشمل الولاية التشريعية أيضاً، وهذا يعني أن النبي والأئمّة لهم الحق في وضع قوانين في إطار أحكام الدين لكل البشر إلى يوم القيامة، وهذا التفسير بالرغم من عدم استبعاده إلا أنه لم يشاهد في سيرة الأئمّة أنهم شرعوا أحكاماً خارج نطاق القرآن والسنّة.
ثالثاً: إن قبول حق التشريع يخالف إكمال الدين الوارد في آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3)، ذلك أن افتراض وضع قوانين لم تكن معهودة فيما سبق من قبل المهدي المنتظر يوحي بنقص الإسلام وأنه لم يكتمل بعد.
رابعاً: مع قبول هذا الافتراض لا يمكن الاستناد إلى القرآن الكريم كمصدر لتشريع الأحكام الإلهية.
خامساً: إن الأئمّة^ ـ كما هو معروف ـ كانوا مبيّنين للأحكام الإلهية، ولو قبلنا هذا الافتراض سيكونون مصدراً مستقلاً للتشريع في عرض كتاب الله تعالى.
المجموعة الثالثة: توجد آيات في القرآن تدل على وجوب طاعة الله ورسوله والأئمّة، مثل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)؛ فهذه الآيات ـ نظير آيات المجموعة الثانية ـ تثبت حقّ التشريع التزاماً، فطاعة النبي’ والأئمّة^ واجبة وإطلاق ذلك يعمّ كافة الأوامر الصادرة عنهم، سواء أكانت الأحكام التي نزلت من جانب الله أم شُرّعت من قبلهم.
ويناقش أولاً: إن الاستدلال بهذه الآيات إنما يتم إذا ارتضينا أن ثمة ملازمة بين وجوب الطاعة وإطلاق حقهم في تشريع الأحكام إلى كافة الأبعاد، في حين أن هكذا ملازمة لا يمكن إثباتها البتة. وبعبارة أخرى: لو قال لنا أحد: أطع أبويك، فهذا لا يثبت سعة صدور أوامرهما وثبوت حق التشريع لهما.
ثانياً: ثمة احتمال آخر وهو أنها ناظرة إلى صدور أحكام تتعلّق بإدارة المجتمع والحكومة الإسلامية، لا أنها تعمّ كل حكم.
ثالثاً: إذا كانت طاعة النبي والأئمّة في الأحكام التشريعية تستند إلى هذه الآيات، فهذا يعود إلى طاعة أحكام الله، ومن ضمنها الأمر بطاعة النبي والأئمّة، فأوامرهم لا تعدّ تشريعاً مستقلاً.
ومن خلال ملاحظة هذه المجموعات الثلاث من الآيات يتبين أنّ الاستدلال على حقّ التشريع للنبي والأئمّة مخدوش.
2 ـ 2ـ حق التشريع في السنّة الشريفة
الدليل الآخر الذي أقيم على حقّ تشريع النبي والأئمّة هو الروايات التي يمكن تقسيمها إلى عدة مجموعات:
المجموعة الأولى: وهي روايات وأخبار أدرجت تحت عنوان أخبار التفويض، ووردت في كتاب الكافي تحت عنوان: باب التفويض إلى رسول الله(ص) وإلى الأئمّة(ع) في أمر الدين، حيث ذكر فيه عشر روايات، واليك نصّ بعضها:
1 ـ صحيحة فضيل بن يسار: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: >إنّ الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب، قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وإن رسول الله(ص) كان مسدّداً موفقاً مؤيداً بروح القدس لا يزلّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق فتأدّب بآداب الله، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله(ص) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر؛ فأجاز الله له ذلك كلّه فصارت الفريضة سبعة عشر ركعة، ثم سنّ رسول الله(ص) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عز وجل له ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسنّ رسول الله(ص) صوم شعبان وثلاث أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز الله عزّ وجل له ذلك وحرّم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله(ص) المسكر من كل شراب، فأجاز الله له ذلك كله»([18]).
2 ـ رواية زرارة عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: >..عشر ركعات: ركعتان من الظهر وركعتان من العصر، وركعتا الصبح، وركعتا المغرب، وركعتا العشاء الآخرة لا يجوز الوهم فيهنّ، من وهم في شيء منهنّ استقبل استقبالاً، وهي الصلاة التي فرضها الله عز وجل على المؤمنين في القرآن وفوّض إلى محمد(ص) فزاد النبي في الصلاة سبع ركعات، هي ستة ليس فيهنّ قراءة إنما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء، والوهم إنما يكون فيهنّ فزاد رسول الله(ص) في صلاة المقيم غير المسافر ركعتين في الظهر والعصر والعشاء الآخرة وركعة في المغرب للمقيم والمسافر<([19]).
3 ـ رواية أبي ربيع الشامي، قال: قال أبو عبد الله(ع): >إن الله حرّم الخمر بعينها فقليلها وكثيرها حرام، كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحرّم رسول الله(ص) الشراب عن كل مسكر، وما حرمه رسول الله(ص)فقد حرّمه الله عز وجل<([20]).
وتفيد هذه الروايات أن النبي(ص) بعد طيّ المراحل والوصول إلى أعلى درجات الكمال، تصرّف ببعض العبادات وقام بتغيير محتواها، عبر زيادة ركعات الصلاة الواجبة وتشريع النوافل اليومية والصيام المستحب، ووضع هذه الأحكام للأمة إلى يوم القيامة، وهذا هو معنى التشريع، فهذه الروايات تامّة سنداً ودلالة خاصة وأنها وردت في الكتب الروائية المعتبرة، نظير الكافي ووسائل الشيعة. ومع صحتها لا يبقى مجال للشك أو الترديد.
المجموعة الثانية: ثمة روايات قسّمت الفروض إلى فرض الله وفرض رسوله، منها الحديث المعروف: «لا تعاد»؛ فعن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: >لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود، ثم قال: القراءة سنّة والتشهد سنة والتكبير سنة ولا تنقض السنّة الفريضة<([21])، وقد سأل الأعمش الإمام الصادق(ع) ـ في حديث مطوّل ـ عن الحج، حيث بيّن فيه الإمام أن بعض أعمال الحج فريضة من قبيل الطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة، وبعضها الآخر سنّة من قبيل الوقوف بعرفات والحلق ورمي الجمرات. فهذه الروايات تقسّم الأحكام إلى فرض وسنّة، ويستخلص منها أن للنبيتشريعات عبّر عنها بفرض النبي.
المجموعة الثالثة: وردت روايات في أبواب مختلفة، أشارت إلى حقّ التشريع للنبي والأئمّة، منها:
1 ـ رواية محمد بن الحسن الميثمي، عن أبي عبد الله(ع) ،قال: سمعته يقول: >إن الله عز وجل أدّب رسوله حتى قوّمه على ما أراد، ثم فوض إليه، فقال عز وجل: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، فما فوض الله إلى رسوله(ص) فقد فوّضه إلينا<([22])؛ فهذه الرواية تدلّ على أنّ حق التفويض قد خُوّل إلى رسول الله(ص) وهو بدوره قد خوّله إلى الأئمّة،رغم أنهم لم يمارسوا هذا الحقّ على الصعيد العملي.
2 ـ رواية موسى بن أشيم، قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل فأخبره بها، ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول، فدخلني من ذلك ما شاء الله.. ثم التفت إليّ فقال: >يا ابن أشيم! إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود، فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وفوّض إلى نبيه(ص)،فقال: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؛ فما فوض إلى رسول الله(ص) فقد فوّضه إلينا<([23]).
3 ـ خبر محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني(ع)، فأجريت اختلاف الشيعة،فقال: >يا محمد! إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم، فهم يحلّوا ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى<([24]).
وبما أن عمدة أدلة إثبات حقّ التشريع للنبي والأئمّة هي هذه الروايات، فلابد أن نلقي عليها المزيد من الأضواء، ومن الأحرى أن نعرّج على معنى التفويض واستعمالاته، لكي يتضح المعنى المراد من التفويض في الروايات، ثم نشير إلى الإجابة التفصيلية عن كل مجموعة منها.
التفويض، المعنى والاستعمالات الحديثية
ذكرت معاني متنوّعة للتفويض، أنهاها المجلسي في بحار الأنوار إلى سبعة معاني، وهي: 1 ـ التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء. 2 ـ التفويض في أمر الدين، كزيادة عدد ركعات الصلاة الواجبة وتعيين الصلاة والصوم المستحب. 3ـ تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتعليمهم. 4 ـ تفويض بيان العلوم والأحكام بما رأوا المصلحة فيه. 5 ـ التفويض في العطاء فإن الله خلق لهم الأرض وما فيها وجعل لهم الأنفال والخمس. 6ـ التفويض بمعنى الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما يلهمهم الله من الواقع. 7 ـ التفويض في بيان الحقائق والأسرار([25]).
وقد ورد التفويض بمعان مختلفة في روايات الأئمّة ، ويعدّ بعضها من أقسام الغلو والشرك وهي باطلة؛ لذا فأخذ التفويض أو ردّه مطلقاً دون أخذ المعنى المراد بعيدٌ عن الصواب ونوع من المغالطة، فالتفويض سواء أكان في التكوين أم التشريع، إذا كان يهب استقلاليةً للنبي أو الإمام في عرض الخالقية والربوبية التكوينية والتشريعية لله سبحانه فهو شرك وباطل، كما أن من اعتقد أن للأئمة شأن تشريعي مستقلّ عن كتاب الله وسنّة نبيّه مستوحاة من الوحي أو الإلهام الإلهي فهو اعتقاد باطل؛ لأنه ينافي أصل الخاتمية، أما إذا لم يكن بالمعاني المذكورة كأن يعتقد أنّ الله خلق العالم للإنسان الكامل المتمثل في رسول الله وأئمة أهل البيت وببركة وجودهم يهب الرزق للمخلوقات، وتصدر عنهم المعجزات بإذن الله ومشيّته، فكل هذه الموارد ليست من أقسام الغلو والشرك والكفر، ولا غرو أن إثبات كل ذلك بحاجة إلى دليل عقلي أو شرعي معتبر؛ لئلا ينطوي تحت الكذب والافتراء في الدين.
قال الإمام الرضا(ع) في ردّ التفويض الباطل: «من زعم أنّ الله عز وجل فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، والقائل بالتفويض مشرك»([26]).
وثمة معاني أخرى للتفويض لا تحيد عن جادة الصواب، وهي:
1 ـ تفويض الأمور إلى الله سبحانه دون أن يأخذ بنظر الاعتبار نظام الأسباب والمسبّبات.
2 ـ التفويض هو تحقّق بعض الحوادث عن طريق الدعاء والطلب من الأنبياء والأئمّة والصالحين، ويعدّ التوسل والشفاعة من هذا الباب.
3 ـ التفويض بمعنى أنّ إرادة النبي(ص) تعدّ تمهيداً للتشريع الإلهي لكنّ مصدر التشريع الحقيقي هو إرادة الله، مثلاً حينما أراد النبي تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، تعلّقت إرادة الله بالإجابة وسنّ حكماً على ضوئها، ومن هذا القبيل ما ورد تحت عنوان «فرض النبي» في الروايات.
4 ـ تفويض أمر الهداية والإمامة والتعليم والتربية إلى مصلحة وتدبير النبي والإمام؛ لأنهم أدرى بمصالح ومفاسد العباد، وهم أحرص على رضا الله ومصلحة العباد.
5 ـ التفويض إحالة بيان المعارف والأحكام إلى النبي والإمام؛ لأنهم أدرى بالقابليات ومقتضيات الزمان والمكان.
6 ـ التفويض كيفية إعطاء الأنفال والخمس والأموال المتعلقة بالنبي والإمام للأشخاص انطلاقاً من مصلحة المجتمع والعباد.
ولا يخفى أن للتفويض معاني غير صائبة، هي:
1 ـ تفويض الأعمال الاختيارية للإنسان، بمعنى أنّ هذا النوع من الأفعال لا يتعلّق بالقضاء والقدر الإلهيين، ولا دور للإرادة الإلهية في تحقّقها، بل تستند إلى إرادة الإنسان وقدرته، كما ذهبت إليه القدرية والمعتزلة.
2 ـ تفويض الحلال والحرام من الأفعال إلى إرادة أفراد البشر.
3 ـ تفويض الحلال والحرام إلى النبي أو الإمام دون الاستناد إلى الوحي أو الإلهام.
4 ـ تفويض أمر الخلقة والتدبير الكلّي أو الجزئي للعالم إلى النبي أو الإمام أو أيّ موجود آخر([27]).
وللمزيد من الإبانة، نعطف نظر القارئ الكريم إلى الحديث التالي: أتى الحسن البصري أبا جعفر(ع) فقال: جئتك لأسألك عن أشياء من كتاب الله، فقال أبو جعفر: >ألست فقيه أهل البصرة؟< قال: قد يقال ذلك، فقال له أبو جعفر(ع): >هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟< قال: لا، قال: >فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟< قال: نعم، فقال أبو جعفر: >سبحان الله لقد تقلّد عظيماً من الأمر، بلغني عنك أمر فما أدري أكذلك أنت أم يكذب عليك؟< قال: ما هو؟ قال: >زعموا أنك تقول: إن الله خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم<، قال: فسكت الحسن، فقال: >رأيت من قال الله له في كتابه: (إنك آمن) هل عليه خوف بعد هذا القول منه؟< فقال الحسن: لا، فقال أبو جعفر(ع): >إني أعرض عليك آية وأنهي إليك خطاباً، ولا أحسبك إلا وقد فسّرته على غير وجهه، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت<، فقال له: ما هو؟ قال: >أرأيت حيث يقول: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}؟ يا حسن! بلغني أنك أفتيت الناس فقلت: هي مكة، فقال أبو جعفر(ع): فهل يقطع على من حجّ مكة؟ وهل يخاف أهل مكة؟ وهل تذهب أموالهم؟ قال: بلى، قال: فمتى يكونون آمنين؟ بل فينا ضرب الله الأمثال في القرآن، فنحن القرى التي بارك الله فيها، وذلك قول الله عز وجل فمن أقرّ بفضلنا حيث أمرهم بأن يأتونا فقال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا، وقوله تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} فالسير مثل للعلم سير به ليالي وأياماً مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيام عنّا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والأحكام، آمنين فيها إذا أخذوا منه آمنين من الشك والضلال والنقلة من الحرام إلى الحلال؛ لأنهم أخذوا العلم ممن وجب لهم أخذهم إياه عنهم بالمعرفة؛ لأنهم أهل ميزان العلم من آدم إلى حيث انتهوا، ذرية مصطفاة بعضها من بعض، فلم ينته الاصطفاء إليكم بل إلينا انتهى، ونحن تلك الذرية المصطفاة لا أنت ولا أشباهك يا حسن، فلو قلت لك حين دعيت ما ليس لك، وليس إليك يا جاهل أهل البصرة، لم أقل فيك إلا ما علمته منك وظهر لي عنك وإياك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عز وجل لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً<([28]).
مع أخذ المعاني الصائبة وغير الصائبة للتفويض بنظر الاعتبار، يمكن البت بروايات التفويض والخروج برأي صائب، ذلك أنّ الروايات التي عدّت التفويض شركاً والمفوضة مشركين ناظرة إلى المعاني غير الصائبة للتفويض، أما الروايات التي أثبتت التفويض للنبي أو الإمام فهي ناظرة إلى المعنى الصحيح للتفويض.
مطالعة نقدية لروايات المجموعة الأولى والثانية
لا يمكن لهذه الروايات إثبات حق التشريع رغم أن أسانيدها لا تدع مجالاً للشك والترديد فيها؛ وذلك:
أولاً: إن عمل النبي(ص) ـ في الرواية الأولى ـ يمكن أن يكون اقتراحاً ليس إلا، ويكتسب حكماً إلهياً من خلال إمضاء الله له، وهذا ما نستوحيه من عبارة «فأجاز الله» التي وردت مكرّراً.
ثانياً: لعلّ النبي أدرك أمراً بنحو الإلهام، ومن ثم بيّنه عن الله من خلال الحديث القدسي.
ثالثاً: وقوع التعارض بين هذه الروايات و آيات الذكر الحكيم، منها: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 ـ 4)، وطبقاً لمفاد هذه الآية فإن كل ما نطق به النبي فهو حقّ من جانب الله.
وقفة نقدية مع روايات المجموعة الثالثة
وحول الروايات التي تطرّقت إلى الفرض والسنّة، ينبغي أن نأخذ عدة نقاط بنظر الاعتبار:
1 ـ إن أغلب الروايات تخلو من مصطلح (فرض النبي) الذي طرحه علماء الحديث وفقاً لاستنباطهم من الروايات، فقد قال صاحب مستدرك سفينة البحار: «جملة من موارد التفويض إلى الرسول(ص) المستفادة من روايات الكافي والبصائر وغيرهما، منها عدد ركعات الصلاة عشر منها فرض الله تعالى وسبع فرض النبي(ص) والفرق بين الفرضين سقوط ست ركعات من فرض النبي في السفر دون فرض الله»([29]).
2 ـ ومع احتمال وجود هذه العبارة في متن الروايات لا يمكن الاستدلال من خلاله على إثبات حقّ التشريع للنبي والأئمّة؛ لأن كل تقسيم يكتسب أهميته وفقاً للأحكام المترتبة عليه، وبعبارة أخرى: حينما يتم الحديث عن ترتب الآثار والأحكام على أجزاء مجموعة، يلتجأ إلى بيان أقسامها توخياً للسهولة، مثلا: لما يقال: إن زيادة أركان الصلاة ونقصانها تؤدي إلى بطلانها، فهنا استعمال الأركان في مقابل واجبات الصلاة يدل على خصوصية الأحكام المترتبة عليها.
3 ـ حتى لو قلنا بوضع النبي(ص) أجزاء من العبادة، لكن من أين يُعلم انه قد وضعها من لدن نفسه؟ بل لعله من باب الإلهام ثم أبلغها للناس.
4 ـ من وجهة نظر فقهاء الشيعة، لا يكاد يعثر على موضوع إلا قد بيّن الله تعالى حكمه، ومن ثمّ يفقد الفراغ القانوني معناه في مذهب أهل البيت،ولا يبقى معه مجال للتشريع، ويمكن أن يستدل على ذلك بآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}.
حصيلة الآيات والروايات
اتضح مما سبق أن الآيات تخلو من أية دلالة علىتشريع النبي والأئمّة للأحكام الشرعية بنحو مستقل. أما الروايات فبالرغم من صحة أسانيدها إلا أنها تفتقد الدلالة على حقّ التشريع؛ ذلك أنه ـ إلى جانب ما ذكر من النقود ـ يمكن القول:
1 ـ إن مضمون هذه الروايات يعارض الآيات والروايات التي تصرح بأنه لا يكاد يظفر بموضوع إلا ولله فيه حكم، منها رواية عمر بن قيس عن الإمام الباقر(ع) أنه قال:«إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله وجعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدّى الحد حداً»([30]).
2 ـ قد تكرّر على لسان الأئمّة أن أحاديثهم تستند إلى آبائهم ومن ثم إلى النبي(ص)، ومن الواضح بمكان أن تلك الروايات لو صدرت من لدنهم لأثار ذلك ردود فعل عنيفة من قبل خصومهم الذين كانوا يتربّصون بهم الدوائر، بينما لم نر قط أنهم اتهموا بالتحريف ووضع الحديث.
3 ـ إن عمدة الانتقادات التي وجّهها أهل البيت إلى فقهاء المذاهب الأخرى هي أنهم لم يفهموا حكم الله، ويدلون بأحكام من لدنهم، مثلاً: الانتقاد الذي وجّهه الأئمّة للقياس ولمن عمل به كان يقوم على أنه كيف يمكن بيان الأحكام الفقهية استناداً إليه ودون الرجوع إلى القرآن والسنّة؟!
4 ـ إن سيرة الأئمّة تشهد على أنهم لم يصدر عنهم قط حكم كلي إلهي يدل على تبني التفويض بمعنى الجعل وتشريع الأحكام.
5 ـ مع وجود القرائن في الروايات يمكن استيعاب مرادهم من بيان الموضوعات وفقاً للقواعد دون حاجة إلى حمل الروايات على معاني غير صائبة.
6 ـ من الواضح أنّ الأحكام الحكومية للنبي وأمير المؤمنين والفقهاء ينصب على قيادة المجتمع، كما أن فتاوى الفقهاء والأحكام الصادرة عنهم لا يمكن اعتبارها تشريعاً البتة.
7 ـ كثيراً ما يتداول مصطلح «الشارع» في الكتب الفقهية والأصولية، ويراد به الله سبحانه دون النبي والأئمّة.
الهوامش
(*) أستاذ مساعد في الفقه والحقوق بجامعة قم، من إيران.
([1]) الميزان 7: 116.
([2]) الكافي 6: 195، ح5.
([3]) نهج البلاغة: 401، بتحقيق صبحي الصالح.
([4]) المكاسب: 153.
([5]) رسالة الاجتهاد والتقليد: 144.
([6]) مير عبد الفتاح المراغي، العناوين 2: 557.
([7]) جوادي آملي، ولاية الفقيه والقيادة في الإسلام: 20.
([8]) أصول فقه الشيعة، تقريرات الشيخ فاضل اللنكراني.
([9]) نهاية الأصول 1: 93.
([10]) كفاية الأصول 1: 90.
([11]) الميزان 7: 120.
([12]) القواعد والفوائد 1: 214.
([13]) نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية: 158.
([14]) منية الطالب 2: 232.
([15]) الرسائل: 50.
([16]) الميزان 19: 111.
([17]) المصدر نفسه 6: 13.
([18]) أصول الكافي 1: 266، ح4.
([19]) وسائل الشيعة 3: 34، ح12.
([20]) المصدر نفسه 17: 259، ح4.
([21]) المصدر نفسه 4: 683، ح14.
([22]) الكافي : 268، ح9.
([23]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 1: 8.
([24]) الكافي 1: 441، ح5; وبحار الأنوار 25: 340.
([25]) انظر: بحار الأنوار 25: 349.
([26]) المصدر نفسه 5: 12، ح18.
([27]) المصدر نفسه 8: 25 ـ 35.
([28]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 63.
([29]) علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، ج8.
([30]) وسائل الشيعة 18: 311، ح5.