جولة في علاقة اللغتين: العربية والفارسية
ترجمة: محمد حسن زراقط
مدخل ـــــــ
ليس ما تحتويه هذه المقالة إلا نفثة مصدور، وبحث عن سمير تبث لـه الشكوى فيستمع، وليس بحثاً وتحقيقاً وتتبّعاً([1])؛ فمن أهدافها التذكير بحقيقة أن اللغة العربية جزءٌ من طبيعتنا وجزء من مصيرنا، فهي لنا لغة الدين والأدب وهي مفتاح وسادن ثقافتنا عبر العصور، وحلال مشاكل لغتنا المعاصرة، بالرغم من اعتقاد بعض <المتنورين> أن العربية تضيف إلى مشاكل لغتنا مشاكل جديدة.
ومن الواضح أن الحروف العربية هي الحروف التي تكتب بها الفارسية، وإذا أراد بعضهم المناقشة في هذا الأمر فعلى الأقلّ الخط الفارسي والعربي خطّ واحد بغض النظر عن الأصل فيهما وأيهما أصلٌ للآخر. وأكثر أمهات كتبنا الدينية والفكرية والعلمية، إما عربية أو ممزوجة بالعربية؛ بحيث قلّما نجد مصطلحاً فارسياً خالصاً في أكثر العلوم من الكلام والفلسفة والفقه وأصولـه إلى المنطق وحتى الأدب. ومن دون المعرفة بالعربية والإحاطة بهذه المصطلحات سوف يبقى الباحث صفر اليدين.
والقرآن وكلّ ما ورد عن النبي والأئمة وأكثر ما تركه لنا الحكماء والعرفاء والفلاسفة والمتكلّمون مدوّن بالعربية، وكذلك الكثير مما كتب في عصرنا هذا، وغيره استثناء وشذوذ عن القاعدة والأصل؛ الأمر الذي يؤكّد صدق القاعدة. ومثال ذلك كتاب <دانشنامه> لابن سينا مهما كان القصد من وراء كتابته بالفارسية، وبعيداً عن التكلّف المتضمّن فيها، فإنّ هذا الكتاب بالقياس إلى سائر كتب ابن سينا العربية ما هو إلا استثناء وعلى خلاف القاعدة يثبت عدم إمكان الكتابة في موضوع الإلهيات والفلسفة الطبيعية بالفارسية، وضمن هذا المضمار يمكن تصنيف كتاب <زاد المسافرين> لناصر خسرو، و<درّة التاج> لقطب الدين الشيرازي، وهكذا نستطيع القول: لا أمل بالقراءة أو الفهم لكثير من مطالب الفلسفة والعرفان وما شابه من دون معرفة العربية للفارسي حتى لو كتبت بالفارسية. والشعر الفارسي ـ وهو من أكثر تراثنا فارسيةً ـ هو في الوقت عينه من أكثر ميادين الأدب الفارسي ولعاً بالعربية اجتذاباً وهضماً في مفرداته؛ كما في عروضه وأوزانه.
وها نحن نجد أنفسنا في معبر تاريخي حسّاس لا يمكننا العودة إلى ذواتنا إلا بالتأمل في تراثنا وما تركه لنا الأجداد من فكر وأدب، ولا غنى لنا بعد التأمل عن التمسّك به والعض عليه بالنواجذ لنخلص من أي إحساس بالذلة والانقطاع.
وتوجد طائفة من الناس لا ترى من الإسلام إلا القشور والظواهر، وهذه الفئة لا تميّز بين الفتح الإسلامي في القرن الهجري الأول الذي كان يحمل خشبة الخلاص لحضارتنا المحتضرة في ذلك الزمان وبين الغزو المغولي الذي لم يُبق ولم يذر، فهؤلاء يرون أن التبرّي من إيران الإسلامية يعني تولّي إيران ما قبل الإسلام. ولكن هيهات يصحّ ذلك! فكيف يمكن أن نحب إيران التي عمرها 2000 سنة ولا نحب تلك التي عمرها 1000 سنة؟ إنّ من الطبيعي أن يودّ الإنسان أباه أكثر من مودّته لجدّه!
ولكي لا يصبح البحث أكثر إملالاً يمكن تقسيمه إلى قسمين:
1 ـ أهمية اللغة العربية بوصفها مفتاحاً للثقافة الإسلامية والثقافة الإيرانية بعد الإسلام.
2 ـ أهمية اللغة العربية ودورها في اللغة الفارسية، وهو موضوع مقالتنا الأساس.
أزمة اللغة الفارسية ودور اللغة العربية في نموّها ـــــــ
ربما يعلم أهل البحث وأرباب صناعة الأدب والفكر؛ ما هي مشكلات النشر الفارسي وأيّ أزمة يمرّ بها، وما أراه هو ضعف اللغة أيضاً؛ فإنّ النشر الفارسي ينوء بترجمة فلاسفة مثل كانط وهيغل، وليست المشكلة مشكلة لغوية صرفة، بل هي مشكلة تتجلّى في عجز اللغة عن بيان مكنونات النفوس والعقول حتى في مجال القصّة والمقالة أحياناً، وربما كانت المشكلة في أهل اللغة وعجزهم هم، وفي الحالين الأمران وجهان لمشكلة واحدة. وإنني أعتقد أن أحد أهم الأسباب لهذه الأزمة عظم الفرق بين إمكانات اللغة الفارسية سابقاً وبينها في هذا العصر.
يعتقد بعض أهل اللغة ومحبّوها أو فقل: المتفنّنون، أن مشكلة اللغة تكمن في فسح المجال أمام المفردات والتراكيب الوافدة؛ الأمر الذي هدّد الفارسية الجميلة في ماضيها وحاضرها. وأحسب أن هذا الكلام صحيح ومقبول طالما كان الحديث عن أمثلة محدودة؛ وأما إذا اعتبر قاعدةً وقانوناً لتفسير ضعف اللغة الفارسية، فلا يمكن الموافقة عليه، بل عكسه هو الصحيح؛ فإنّ اللغة الفارسية ما كانت لتصل إلى الغنى الذي وصلت إليه لولا العربية وما قدّمته، ولكنّ استخدام المفردات أو التراكيب العربية يجب أن يخضع لذوق سليم وسليقة مبنية على معرفة آثار الفصحاء والبلغاء، وربما لا يتسنّى لأحد أن يعطي قاعدةً عامة تصلح في كل الموارد؛ وكما يقول سعدي الشيرازي:
لن أقول لك ما هو السماع أيها الأخ حـتـــى أعـرف المستمع أولاً.
وبالمقارنة بين النماذج من تاريخ الأدب الفارسي نجد أن استخدام كل من حافظ وسعدي في الشعر والنثر فصيحٌ بل معلّم للفصاحة، بينما نجد كتابي: تاريخ وصاف، والدرة النادرة، فضيحةً ومدعاة للخجل، ولست أريد الدفاع عن سقطات النثر الفارسي كما في الكتابين المشار إليهما وغيرهما من نظائرهما مثل: مرزبان نامه، وحبيب السير، فتاريخ وصاف ليس كتاباً فارسياً ولا عربياً وإن اشتمل على مفردات اللغتين معاً، فهو أشبه ما يكون إلى لغة الأردو، من هنا قام الأستاذ عبد المحمد آيتي بترجمته إلى الفارسية!
ومن الأدلّة على عدم صحّة الدعوى القائلة بأن استخدام المفردات العربية في النثر الفارسي سبّب ضعفه، هو أن أصحاب هذه الدعوى يستخدمون نماذج متطرّفة لإثبات ما يدعون ويشيرون ـ مضافاً إلى الأمثلة التي ذكرت قبل قليل ـ إلى نثر محمد قزويني لا إلى نثر محمد علي فروغي مثلاً، مع أنّ هذا الأخير يشبه قدوته سعدي الشيرازي في وفرة العربية في نصوصه.
وواقع الحال أنّ بعض من لا يعرف الفارسية حقّ المعرفة من القدماء انتهكوا حريم الفارسية وأنهكوها باستخدامهم السيئ للعربية ومفرداتها، والآن يأتي بعض المعاصرين ليفعلوا العكس تماماً، فيجانبون أو يحاولون مجانبة العربية إلى حدّ الهوس والوسوسة. بل إنني أدّعي أنّ أكثر هؤلاء تعصّباً لا يستطيع بيان مراده والدفاع عن مدّعاه ما لم تُسعفه العربية ببعض مفرداتها، إلا إذا بلغ الغاية في التكلّف، كما فعل بعضهم من أمثال: يغماي جندقي، وأفشار قزويني، وبعض محاولات كسروي في غير كتابه <تاريخ مشروطة>، وأخيراً بعض محاولات الأستاذ برتو أعظم، وكلّ هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع وجانبت الذوق والطبع الفارسي السليم.
إن للكتابة باللغة الفارسية مشاكل عدّة؛ أولها حداثة هذا الفنّ وقصر عمر النثر الفارسي بالقياس إلى الشعر، ذلك أننا إذا تأملنا في ما أنتجه الكتَّاب الإيرانيون نجد أن أكثره شعرٌ فارسي أو نثر عربي، إلى درجة تسمح بالقول: إن 95 في المائة من كتبنا الأساسية في التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والعلوم العقلية والشرعية بالعربية، وبالنسبة للأدب فإن 90 في المائة من الأدب الفارسي هو شعر، حتى تجلّت كل جمالات الفارسية في الشعر. أما النثر الأدبي الفارسي فإنه يحاول دائماً الظهور بمظهر الشعر والحذو حذوه والسير على دربه، وشاهد هذا المدّعى كثرة السجع في هذا النثر تقليداً لقافية الشعر، وما مجالس سعدي الشيرازي بالقياس إلى كلستانه إلا مثالاً نادراً؛ من هنا فإنّ أكثر ما كتب من نثر فارسي يصدق فيه المثل المعروف حول الغراب الذي أراد تقليد الحجل، فلا هو أتقن مشية الحجل ولا حافظ على مشيته([2]).
رهاب اللغة العربية عند بعض الكتّاب الإيرانيين ـــــــ
ويمكن القول ـ ولو بشيء من الاستطراد ـ : إنّ بعض الكتَّاب المعاصرين يكتبون على أساس أنموذج مسبق، فلا يكتبون ببالٍ فارغ وخاطر مطمئن، وبالتالي كأنهم يكتبون بأقلامهم ولا يكشفون عما يختلج في صدورهم ولا يسطرون على القرطاس تلك الكلمات التي تجول في أذهانهم، وهذا كلّه يشتت الذهن، أو هو نتيجةٌ لتشتته، ويؤدّي إلى تمرد القلم على صاحبه. وإذا أضفنا إلى هذه الأزمة وسواس الكتابة بلغة فارسية أصيلة صافية من العربية فإن الأمر يزيد وخامةً.
يوصي فروغي في رسالة: <بيام من به فرهنكستان/رسالتي إلى مجمع اللغة> بأنه كلما خطرت إلى الذهن كلمة عربية فليسأل الكاتب نفسه قبل استخدامها هل هناك كلمة فارسية سهلة ومتداولة كي يستخدمها في محلّها؟ وهذه التوصية ربما تكون مفيدةً في بعض الأحيان، لكنها في أكثر الأوقات تخلو من الفائدة، بل مضرّة ومكبلة لحركة الكاتب؛ ذلك لأنه إذا كان لها بديلٌ فارسي فلماذا لا يخطر هذا البديل إلى الذهن قبل المفردة العربية؟! والضرر الأبرز لهذه التوصية هي أنها تقطع تسلسل الكلام وترابط الأفكار، وأخيراً لماذا نُلزم الكاتب أن يمارس فعل الترجمة أثناء الكتابة؟
يضاف إلى ذلك كلّه ـ وهو الأقرب إلى مورد بحثنا ـ أنّ بعض الكتَّاب يعيشون رهاب المفردة العربية فيتكلّفون لتجنّبها في كتاباتهم؛ فيتورطون مضافاً إلى مجانبة الطبع والذوق السليم في خطأين هما: تحويل الكتابة إلى ما يشبه الطعام الخالي من الملح والتوابل، والثاني ـ وهو الأخطر ـ أنهم يضطرّون إلى استخدام كلمات ومفردات <شخصية> لا يفهم معناها سواهم، وينتج عن هذين الخطأين نثر فقير متهالك متكلّف. وإنّ وضع الحدود الضيقة أمام استخدام المفردات إن لم يكن ناتجاً عن ضيق الأفق فهو سينتهي إليه لا محالة. ولا أودّ المبالغة في الحرص على الغنى في المفردات بل كل ما أدعيه، هو أنّ غنى المفردات لازم من لوازم عمق الفكر والكتابة الدقيقة.
ومن جملة مشكلات الكتابة الفارسية المعاصرة، عدم الأنس بكتابات الفصحاء القديمة؛ ذلك أن من أهم طرائق تطوير الكتابة الفارسية المعاصرة الاطلاع على كتابات القدماء للتعرّف على أساليبهم في التخلّص من ضيق اللغة، ولا أشك في أنّ من بذل الجهد وأخلص النية في الاطلاع على آثار القدماء وخبر طرائقهم ناجحها وفاشلها، سوف يتوصل إلى بناء ملكة التعبير السلس البعيد عن التكلّف والصنعة. ومن البديهي أنني لا أدعي وجود تلازم بين كثرة المفردات العربية وبين جودة النص، بل كلّ ما أدعو إليه وأدّعيه أن لا يعيش الكاتب هاجس الترجمة والتكلّف والحرص على فرسنة النص أو تعريبه، وأن تترك الفكرة في زجاجة الفك أربعين صباحاً حتى تنقّى ويستقرّ في القعر الزغل ويفيض ما يلائم الطبع زلالاً صافياً، وعلى الكاتب بعد ذلك أن يستخدم الكلمة ـ عربيةً كانت أم فارسية ـ بل عليه أن يشغلها بل يتركها تعمل، ويعلّمها ويربيها لتخضرّ في وقتها ومحلّها المناسب، فما لم نفكّر في خلوات قلوبنا بالكلمة لن تندمج بروحنا ولن تفيض من ضميرنا وألسنتنا.
وعلى هذا الأساس، ينحلّ التناقض المحسوس في بيت حافظ الشيرازي؛ حيث يقول:
رغم أن عرض الفن أمام الصديق مخلّ بالأدب
اللسان أبكم والفم مليء بالعربية
ويريد حافظ أن يقول: إنه وبالرغم من معرفته وأنسه بالعربية وآدابها، لكنه يأبى عن النطق بها ما لم يصهرها بذوقه الأدبي فتخرج موافقةً للطبع والذوق السليم، وهذا ما عبّر عنه بالبكم الذي يصيب اللسان، فهو أبكم عن النطق بكلّ ما يعرف، فما تعلّمه من فصحاء العرب ليس هو الكلام فحسب، بل تعلّم منهم وزن الكلام قبل النطق به أيضاً.
أضف إلى ما تقدم كلّه، أن من ألف كلام فصحاء العجم ـ وليس بالضرورة العرب ـ وأنس به سوف يستدرج المفردات العربية أو تستدرجه للاستفادة من الكلمات الحيّة منها، فتكون حاضرةً في خدمته، وبين هذا الأسلوب وبين التكلّف بون شاسع، فشتان بين من يتكلّف نثر الكلمات من هنا وهناك دون أن يكون بينها وبينه اتحاد؛ بحيث يستوردها على مضض دون أن تمازج روحه أو تنمو في رحم فكره فيكرهها على السير قبل أن تدرج وفق الطبيعة، وهذا الأسلوب الأخير ما هو إلا استعراض خالٍ من الروح ورياء ممجوج.
وعلى أيّ حال، إن الكتابة المغلقة المعقدة ناشئة عن الفكر المغلق ولا ذنب للمفردات عربيةً كانت أم فارسية، فغنى المفردات الحية بنت الساعة، من لوازم الفصاحة وفي خدمة دقة الكتابة والكتابة الدقيقة وكل الأدعية لأجل هذه الـ <آمين>؛ وليس من العدل ولا من الإنصاف أن نحرم أقلامنا من الغطس في هذا المنبع الثرّ، بحجة أن بعض دعاة الأدب أفرطوا في اللجوء إلى العربية، ونكون بذلك كمن يتجنّب السقوط عن السطح فيفرط في الحذر حتى يؤدي به ذلك إلى السقوط من الطرف الآخر.
وأعاود التأكيد متمنّياً أن لا يُفهم من كلامي تجويز الاستفادة من كل مفردة عربية أو تركيب عربي في كل مورد دون مراعاة مناسبة أو انسجام ذلك الاستعمال مع اللغة الفارسية، بل ما أرمي إليه هو أن نستخدم الكلمات العربية أو الفارسية بحيث تبدو وكأنها خُلقت لهذا المحلّ دون غيره، فتستقرّ الكلمة في مكانها ولا يزحزحها شيء حتى كان ذلك توصية فروغي المشار إليها أعلاه. والقاعدة في هذا المجال ـ رغم أنها لا تبدو قاعدةً منطقية ـ هي الذوق السليم، وأقصد بالذوق السليم ذوق الكاتب والقرّاء شرط أن يكونوا جميعاً ممّن له أنس بكلام الفصحاء، وإلا فإنّ كلّ شاعر يرى ـ بحكم ذوقه الشخصي ـ أن شعره هو الأكمل كما ترى الأم وليدها هو الأجمل.
خطأ شعار «العربية الأقلّ أجمل» ـــــــ
إن شعار: <العربيّة الأقلّ أجمل> شعارٌ خادع بالرغم من كونه ظاهر الصلاح، وإنّ في الحرص على الالتزام به سيراً بالنثر الفارسي إلى الجمود والموت، وهو مع ذلك كلّه يعمّق الهوة بين الجيل الناشئ من الكتّاب والقراء وبين الأدب والتراث الفارسي الإسلامي؛ وذلك لأنه تلقين أجوف يدعو الناشئة إلى الدعة والراحة والاقتناع بعدم جدوى قراءة كليلة ودمنة أو كلستان سعدي أو تاريخ البيهقي أو غير ذلك مما ورثناه من أدب فارسي مطعّم بالكثير من العربية.
حجم حضور العربية في الفارسية ـــــــ
ويشار هنا إلى أنه لا شك في ضرورة تعلّم اللغة العربية بل كونها أهم من أيّ لغة أخرى من اللغات اللاتينية لمن أراد أن يتعرّف على التراث الفارسي الإسلامي. وعلى أي حال فالنقاش في هذه المقالة ليس في هذه المسألة بل في <العربية في الفارسية>. على أننا نعلم علم اليقين ونعاين ولو دون وعي أن الكلمات العربية تجري على ألسنتنا وفي محاوراتنا اليومية بأشكال مختلفة مفردة أو مثنى، فنحن نسمع ونتلفظ بهذه الأزواج العربية التالية:
أصل ونسب، أمر ونهي، تحويل وتحوّل، تفهيم وتفاهم، تهديد وتطميع، جاه وجلال، أو جاه ومقام، جذب ودفع، جرح وتعديل، حب وبغض، حك وإصلاح، حق وحقيقت، حقد وحسد، حلّ وحرمت، حلّ وعقد، حيص وبيص، حيف وميل، خوف ورجاء، دَخل وخَرج، رتق وفتق، شك وشبهة، شور ومشورت، صلاح ومصلحت، عجز والتماس، عزل ونصب، عيب وإيراد، علّت ومعلول، عيش وعشرت، غث وسمين، غلاظ شداد، غم وغصة، فسق وفجور، فقر وفاقت، فكر وخيال، فهم وشعور، قال ومقال، قاعده وقرار، قبض وبسط، قتل وغارت، قحط وغلاء، قطع ووصل، قول وقرار، قهر وغلبه، كرّ وفر، ليت ولعل، مال ومنال، مكر وحيله، ناسخ ومنسوخ، نظم ونثر، نفع وضرّ، نفي وإثبات، هبا وهدر، هوى وهوس، وما شابه ذلك من مثاني.
ومن هذا القبيل معنى الكلمات والمصطلحات القرآنية، التي راجت في السنوات الأخيرة بشكل محيّر، وقد باءت كل المحاولات للبحث عن معادل فارسي لها بالفشل مثل: طاغوت، مستضعف، مستكبر، مترف، ومفسد في الأرض.
وقد جرت محاولة لتقدير النسبة المئوية للمفردات العربية في الشعر أو النثر الفارسي، ومنها محاولة جرت قبل حوالي 12 سنة بإشراف الدكتور غلام حسين شكوهي في إحدى الدوائر التابعة لوزارة التربية والتعليم في العهد السابق، ولم أطّلع على النتائج النهائية التي توصّل إليها هذا الإحصاء، لكن بحدود ما عرفته واطّلعت عليه يمكنني أن أحدس بوجود ما نسبته 50 إلى 70 في المائة من الكلمات العربية أو المعرّبة في القرون العشرة الأخيرة بدءاً من شاهنامه أبو منصوري حتى صحف وجرائد ذلك الزمان، وفي عصرنا هذا أضمن أنّ النسبة تتراوح ما بين 55 إلى 60 في المائة، وأتمنى أن تكون قد نشرت نتائج ذلك الإحصاء، أو تنشر إن لم تكن قد نشرت؛ حتى لا نكون بحاجة إلى الحدس والتخمين. وعلى أي حال أكتفي بهذا المقدار من البحث حول المفردات.
وبعد المفردات، نيمّم شطر التراكيب الاصطلاحية، فماذا يمكن أن نفعل بها؟ وهل يمكن لنا العثور على معادل لها يساويها في درجة الأنس بها، هذا الأنس الحاصل من استخدامها لسنين طوال في النصوص الفارسية القديمة والمعاصرة؟! وهاك مسرداً ببعض هذه المصطلحات:
ابتدا به ساكن، احياء موات، اشتغال ذمّه، إصلاحات أرضي واجتماعي، إظهار فضل، إظهار لحية، إعاده حيثيت، إقامه شهود، تبديل به أحسن، تحصيل حاصل، ترفيع درجه، باقيات صالحات، برائت ذمّه، تصرف عدواني، تعليق به محال (على المحال) تنقيح مناط، حق تقديم، حق شفعه، خرق إجماع، خرق عادت، دفع فاسد به أفسد (بالأفسد)، سرعت انتقال، سلب صلاحيت، شهوت غلام، صرافت طبع، طابق النعل بالنعل، فك رهن، قياس به نفس (قياس على الذات، أي نفس المتكلّم)، متبلا به، معتنا به، مصادرة به مطلوب (على المطلوب)، نقض غرض، وقس على هذا، ومن الواضح أنّ بعض الاصطلاحات مأخوذٌ من المنطق أو الأصول أو الفقه، ولكن بكلمة عامة يمكن القول: إنّ العلوم الإسلامية التي لا شك في كثرة مصطلحاتها لا يكاد يعثر المتتبع على 1% من المصطلحات الفارسية فيها.
وإذا خرجنا من دائرة العلوم والمصطلحات العلمية إلى الدائرة الأوسع، فقلّما نجد إيرانياً لا يستخدم هذه المصطلحات التي سوف نوافيك بها بعد قليل، ولا يعدّها جزءاً من لغته، بل قد بلغ الأنس بها إلى حدّ أنه لو وجد لها معادل فارسي نجده لا يستخدم؛ لما لكثير منها من حمولة معنوية ناتجة عن كثرة الاستخدام ما لا نجده في المعادل الفارسي حتى لو وجد، وهذه المجموعة من المصطلحات العرفية هي:
آخر الأمر، آخر الزمان، الأهم فالأهم، ابن الوقت، ابن السبيل، أسفل السافلين، أم الخبائث، أم الفساد، أم الكتاب، أولو الأمر، أولو العزم، أوّل ما خلق الله، باطل السحر (التي تستخدم ظاهراً بمعنى مبطل السحر)، بريء الذمه، بقيّة السيف، بلا تشبيه، بلا عوض، بلا مقدمه، بيت المال، بين الملل أو المللي (دولي)، تجاهل العارف، تحت الحمايه، تحت الكفاله، جامع الأطراف، جامع الشرايط، جايز الخطأ، حتى الإمكان، حتى المقدور، حفظ الغيب، حقّ الامتياز، حق التأليف، حق السكوت، خارق العاده، خالي الذهن، خسر الدنيا والآخرة، دايرة المعارف، دفع الوقت، ذو معنيين، ذو وجهين، رأي العين، ربّ النوع، سهل الوصول، صعب العبور، ضرب الأجل، ضعيف النفس، طي الأرض، ظاهر الصلاح، عام المنفعة، على الأصول، على الإطلاق، فوق العاده، محك الرجال، قرض الحسنة، قلب الأسد، كأن لم يكن، كرام الكاتبين، كشف الآيات، كشف الأبيات، لا طائل، لا ينفك، لطايف الحيل، لم يزرع، لن تراني، ما جرى، ما دام، ما دام العمر، ما شاء الله، مانعة الجمع، ما يحتاج، مجهول المالك، مجهول الهوية، محبوب القلوب، مرضي الطرفين، معلوم الحال، ممنوع الخروج، ممنوع القلم، ممنوع الملاقات، (ويبدو أن هذه التراكيب الثلاثة الأخيرة نحتت في السنوات الأخيرة وربما لا تكون مصطلحات متداولة في العالم العربي)، نفس الأمر، نصف النهار، ونظائرها.
وقد حاولت ابتكار معادل فارسي لهذا النوع من التراكيب وبعد لأي استطعت العثور على عدد قليل من المفردات، فمثلاً بدل آخر الأمر: سرانجام، وبدل مجهول الهوية: ناشناس، وبدل صعب العبور: سختكذر، وبدل سهل الوصول: آسان ياب، وبدل ما يحتاج: نيازمندي.
وربما يقول أدعياء الحرص على الفارسية، على طريقة: <القابلة أعطف من الأم>، إذا كان البحث عن معادل لهذه المفردات وغيرها التي ربما تحتاج إلى مجلّد من معجم <معين>([3]) وإذا أضفنا إليها مصطلحات العلوم الإسلامية، فنحتاج إلى معجم معين بمجلّداته الستة، إذا كان الأمر كذلك وهو صعب فلابد من اختيار طريق آخر، وهو الكتابة بل والتفكير بحيث لا يضطرّ أحدنا لاستخدام هذه المصطلحات ولا يحتاج إلى انتخاب معادل لها.
لهؤلاء نقول: إنّ كل عاقل بالغ حرّ ومختار له الحقّ في الكتابة بأي طريقة يشاء، لكن لابد أن يعلم هذا <الفدائي> أنه سوف يكتب بمعجم لا تتجاوز عدد كلماته 500 كلمة، ومن ثمّ لن يرتقي مستوى كتابته عن مستوى طفل انطلق لسانه حديثاً.
حافظ الشيرازي، رمز الاعتدال في العلاقة مع اللغة العربية ـــــــ
أشرنا قبل قليل إلى أنّ المعيار في الكتابة واستخدام المفردات هو الذوق السليم، وإذا أردنا أنموذجاً لهذا الذوق الذهبي فلن نجد أفضل من حافظ الشيرازي في الأدب الفارسي الذي راعى الاعتدال فلا كان يعاني من رهاب العربية ولا الهيام بها. وفي إحصاء قمتُ به على مائة مقطوعة من ديوانه من 1 إلى 100 حصلت على النتائج الآتية:
1 ـ مقطوعة واحدة تحتوي على أقلّ من عشرة مفردات أو تراكيب عربية أو معربة أو مخلوطة بالعربية.
2 ـ 19 قطعة تحتوي ما بين عشرة إلى عشرين مفردة وتركيب.
3 ـ 46 قطعة تحتوي بين 20 إلى 30.
4 ـ 29 قطعة تحتوي بين 30 إلى 40.
5 ـ 4 قطع تحتوي بين 40 إلى 50.
6 ـ 1 قطعة واحدة تحتوي بين 50 إلى 65، ومطلع هذه القطعة هو: <روضة خلد برين خلوت درويشان است>.
ومن الملفت أن القصيدة التي مطلعها <دل مي رود زدستم صاحبدلان خدا را> يتحدّث فيها حافظ عن أهل الجمال من ذوي اللغة الفارسية، تحتوي على ما يزيد عن 40 مفردة وتركيب عربي. وعلى أي حال يمكن القول ببال مطمئن ودون حاجة إلى إحصاءات رياضية دقيقة: إن أغلب قصائد حافظ الشيرازي تشتمل على ما بين 25 إلى 40 مفردة أو تركيب عربي؛ وبناء على هذا، يسهل تصديق القول بأن لغتنا حتى عند أكثر المعتدلين والفصحاء ممزوجةً بالعربية. وهنا لو سئل عن المعدّل المعقول لدخول العربية في الفارسية يمكننا القول: فلتكن المفردات التي أدخلها حافظ الشيرازي والتي صارت مقبولةً في معجمنا اللغوي إلى حدّ كبير بحيث لم نعد نرى لها وقعاً غريباً على أسماعنا أو أذهاننا.
وفي الختام أكرّر: إنني لا أدافع عن الرياء وإظهار المعرفة بالعربية من خلال سيل المفردات العربية في النصوص الفارسية، لكن في المقابل لا أقبل بأن يتوقف هذا البحر الزخار من الأدب الفارسي أو يطرأ عليه الركود ويتوقف عن المدّ والجزر بعدما عرفه من زمن البيهقي والشاهنامه إلى ما كتب في العصر الحاضر عند فروزانفر وآل أحمد؛ كلّ ذلك بحجة الحرص على أصالة الفارسية وتحت وطأة رهاب العربية.
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، من أشهر مترجمي الفكر الديني من اللغة الإنجليزية، له ترجمة للقرآن الكريم، متخصّص في الأدب الفارسي.
([1]) لكن لابد من الإشارة إلى كتابين قليلي الحجم كبيري المحتوى والمضمون, هما: بيام من به فرهنكستان (رسالتي إلى مجمع اللغة الفارسية) للمرحوم محمد علي فروغي, كتبه سنة 1315ش/1936م. وطبع ثانيةً عام 1354ش/1975م, طهران, دار بيام (للنشر). والعمل الثاني هو: دو مقاله بيرامون نشر فارسي, وازه سازي, لداريوش آشوري, طهران, دار آكاه, 1357ش/1978م, وفي المقالتين يعالج الكاتب بذكاء أزمة اللغة الفارسية واضطرابها في الماضي والحاضر. وفي هذا المجال لا أنسى الإشارة إلى الفصل الأخير من كتاب المرحوم الشهيد المطهري: الخدمات المتبادلة بين إيران والإسلام.
([2]) يستشهد الكاتب بقول الشاعر الإيراني، وترجمته: إنّ هذا الكلام لا هو بالشعر ولا هو بالنثر، مثله مثل قطعة القماش الصغيرة التي توضع على ظهر الدابة، فلا هي سرج ولا هي جلّ.
([3]) معجم معين هو معجم فارسي ـ فارسي، مؤلفه الدكتور محمد معين، يقع في ستة مجلدات ضخمة، يصل عدد صفحات بعضها إلى 1475 صفحة (المعرّب).