استعراض للنظريات والمواقف
المقدمة في أسئلة بالغة الأهمية ـــــــ
لا يتحدّد العرفان والتصوف ـ بكلا قسميه: الإيجابي والسلبي ـ بدين خاص وثقافة معينة، فقد كانا ولا يزالان متأثرين بجوانب الإفراط والتفريط، فمن جهة يلتزم المسلمون بالكتاب والسنّة، ويتأثروا من جهة أخرى بالثقافة التي سبقت الإسلام، من هنا ظهرت تيارات انحرافية سياسية وأخلاقية دعت إلى فصل الدين عن السياسة في عصر الحكومات السابقة كالحكومة الأموية والعباسية، مما أوجد أرضية انحرافية خصبة تدعى «بالعرفان والتصوف» في المجتمع الإسلامي، فسّمى بعض المسلمي أنفسهم «بالزاهد والعارف»، واصطلحوا على أنفسهم تسمية المتصوفة، فقالوا بالحلول والاتحاد في العرفان النظري، وعزل الشريعة عن الطريقة في العرفان العملي، وبنوا لهم (خانقاهات) بدلاً من الذهاب إلى المساجد، وعزلوا أنفسهم عن صفوف المسلمين، وانقسموا إلى فرق وطوائف مختلفة، وقد شهد التاريخ الإسلامي وتاريخ الفلسفة والعرفان كل تلك التحولات والأحداث الفكرية والسياسية، من هنا فليس هدفنا في هذا البحث الدفاع والتصدي لكل ما هو أجنبي وغريب في العرفان والتصوف، بل الدفاع عن العرفان الأصيل النابع من الإسلام «أي الكتاب والسنّة والعترة الطاهرة».
لقد دخل العرفان والتصوف الإسلامي في إطار العلوم الإنسانية قديماً، كما أثبتت ذلك المؤشرات والأدلة التاريخية، وقد كان لكل منهما أتباع ومؤيدون، وخصوم رافضون، من المسلمين والمستشرقين.
ونستعرض في هذا البحث عدة محاور أساسية وأسئلة هي:
1 ـ هل يمكن اتصاف العرفان والتصوف بكونه إسلامياً أو غير إسلامي أم لا؟
وللإجابة عن هذا السؤال، هناك ثلاثة آراء هي:
الرأي الأول: وهو للعرفاء والمتصوفين الأوائل، فهم يرون أن أفكارهم تنطبق على الإسلام الأصيل، وأنها نابعة من الإسلام دون أيّ انحراف، ويبرّئون أنفسهم عن كل سلوك خاطئ أو التقاط.
الرأي الثاني: وهو رأي أهل الحديث وبعض المستشرقين، فهم يعتقدون أن هناك هجمة ثقافية أجنبية لمواجهة الإسلام، هدفها إبعاد الإسلام عن مبادئه الأصلية، وهي ثقافة مستوردة جاءت من ثقافات الدول المجاورة وغيرها مثل: اليونان، وإيران، والهند، والصين، والزنادقة والخارجين عن الثقافة الإسلامية بعد عصر الترجمة. وقد استند القائلون بهذا الرأي إلى الأحاديث والروايات الصحيحة في هذا الباب، واعترفوا بأن هذه الهجمة دخلت الإسلام من الخارج، مما دعا المسلمين إلى تفسيقهم وتكفيرهم، بل وجوب قتلهم وإراقة دمائهم. وتابع أهل الحديث الأوائل في رأيهم هذا بعض الباحثين والمفكرين والمستشرقين.
الرأي الثالث: وهو لبعض المعتدلين في نظرتهم واتجاههم حول العرفان والتصوف، كالإمام الخميني والشهيد المطهري والعلامة الطباطبائي، مبتعدين عن الإفراط والتفريط، ومعتقدين أن العرفان الأصيل هو المعبّر عن الكتاب والسنّة والأدعية، ومناجات الأئمة المعصومين، كدعاء كميل ودعاء الإمام الحسين في عرفة، والصحيفة السجادية، والمناجاة الشعبانية، ودعاء أبي حمزة الثمالي، وسنقدّم في هذا البحث نقداً موضوعياً وتحليلاً علمياً لكل من تلك الآراء الثلاثة حول التصوف والعرفان.
هل يمكن اتصاف العرفان والفلسفة بالمفهوم الإسلامي وغير الإسلامي؟ ونطرح السؤال بصيغة أخرى: هل تعبير الفلسفة والعرفان الإسلامي صحيح أم لا؟ وينبع هذا السؤال من صميم سؤال آخر هو: هل يمكن تسمية العلوم والفلسفة والعرفان بالإسلامية أم لا؟! فالوصف الإسلامي إما ينشأ من هذه الجهة، أو من جهة الفلاسفة والعرفاء، أو من جهة فحوى مفاهيم ومواضيع كل منهما وانطباقها على المفاهيم الإسلامية الأصيلة.
وعلى كل حال، فإن كلا النسبتين لا تستلزم أن كل ما يحتويه العلم هو مختصّ بالمسلمين، وكذا فحواه ومفهومه، فإن قيل به فمعناه أن كل فلسفة وعرفان وما فيهما من مفاهيم ومعارف ستكون إسلامية؟! أو أن كافة العرفاء هم مسلمون؟! لكن بناء على هذا سوف لا يكون لدينا فلسفة وعرفان إسلامي، بل سنفقد أيضاً الفلسفة والعرفان المسيحي والأوروبي، فلا يصح نسبة أي علم أو فلسفة وعرفان لأي أمة من الأمم أو مذهب من المذاهب وطائفة من الطوائف([1]).
وعلى هذا الأساس، لو قيل: إن المراد بالعرفان الإسلامي هو أن أكثر العرفاء هم مسلمون، أو أن أكثر مواضيعه نابعة من الكتاب والسنّة، فالنسبة صحيحة، وهو كلام مقبول، رغم وجود بعض المفاهيم التي لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، ولا تتناسب مع العقيدة الإسلامية، ورغم وجود بعض العرفاء والفلاسفة غير المسلمين من اليهود أو المسيحيين.
وعلى كل حال، فلا ندّعي أن كل ما هو موجود في العرفان الحالي هو وليد الكتاب والسنة، بل هي مفاهيم وعناوين استعانت بالوحي، وقد خلد العرفاء والمفكرون الكبار الإسلاميون تراثاً عظيماً يدعى بالعرفان في فترات تاريخية صعبة، وذلك من خلال اعتمادهم على مناهج وأساليب إسلامية أصيلة، فأضفوا على الثقافة التي سبقت الإسلام منهجاً وأسلوباً علمياً، كان عاملاً في تطور العرفان وانتشاره.
هل العرفان الموجود حاليّاً ذو ماهية إسلامية؟
العرفان لغة بمعنى العلم، واصطلاحاً بمعنى معرفة الله سبحانه وتعالى([2])، ولا شكّ أن العرفاء الأوائل لم يكن لهم اصطلاح خاصّ للعرفان، لعدم معرفتهم بأساليب التعاريف، فهو فنّ عصري جديد، قال السهروردي: زادت أقوال المشايخ قدس الله أسرارهم في التصوف عن أكثر من ألف قول، وذكرها كلّها أمر صعب، ولكن هذا الاختلاف إنما هو في اللفظ لا في المعنى طبعاً([3]). فلم يكن لفظ الصوفي والعارف مستعملاً في القرن الأول، ولم تكن تطلق هذه التسمية على كل فئة أو طائفة([4]) بل بدأ استعمال لفظ (الصوفي) في منتصف القرن الثاني الهجري([5]). ويشير تقرير سراج الطوسي في شرح حال سفيان الثوري (161هـ) إلى أن لفظ العارف كان قد استعمل في القرن الثاني الهجري([6])، ثمّ شاع استعماله وكثر في القرن الثالث الهجري، فأبدل أبو يزد لفظ الصوفي فقال: كمال العارف هو أن يضحي بنفسه لأجل الحق، فالعارف هو الذي يرى المعروف، ويجالس العالِمَ للعالَم([7])، وذكر السقطي مثله([8]).
وعليه فتسمية العارف والصوفي لم تكن متداولة في القرن الأول الهجري، بل شاع استعمالهما في القرن الثالث والرابع وما بعدهما.
لقد كان العرفان طريقاً للمعرفة لدى كافة الشعوب والأمم، فهل كان العرفان الإسلامي كالفقه والأصول والتفسير والحديث؟ بمعنى كونه من العلوم التي أخذ المسلمون عناصرها ومكوناتها الأساسية من الإسلام وحده، فوضعوا لها ثوابت وقواعد وأصول في تهذيبها وصياغتها، أم أن العرفان كالطب والرياضيات بمعنى أنه أجنبي ومستورد من الخارج، ثم تكامل العرفان بعد ذلك من قبل المسلمين في أوساط الحضارة والثقافة الإسلامية، أم أن هناك قسماً ثالثاً؟
أ. نظرية التماهي بين العرفان والتصوف وبين الإسلام الأصيل ـــــــ
اعتقد كثير من العرفاء والمتصوفين أن العرفان والتصوف يمثلان الإسلام الواقعي المحض، حيث اتضحت فيه كثير من الحقائق الإسلامية والمعارف الإلهية أكثر من غيرهما من العلوم الأخرى. وأن المسلم الواقعي هو الذي يعتقد بهما ويسلكهما نهجاً لـه في حياته ويطبق تعاليمهما. لقد اعتمد التصوف والعرفان في جانبهما العملي والنظري على الكتاب والسنّة وسيرة الأئمة وكبار الصحابة.
يقول هؤلاء أيضاً: إن الاعتقاد بالحياة الأخروية في الإسلام جعل النظرة الواقعية إلى الحياة الدنيا واللذائد والشهوات المادية نظرةً هامشية وسطحية على أنها لهو ولعب، كما قال الله تعالى: }اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ..{ (الحديد: 20)، وحياة النبي1 هي الأسوة الحسنة، كما قال تعالى: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ{ (الأحزاب: 21)، فهي المثل الأكمل والأنموذج الأعلى في الزهد والبساطة وعدم التكلّف في الحياة الدنيا، فرغم انشغاله1 بالعبادات كان مأنوساً بالمناجاة والأدعية، وكان يختار لها أماكن خاصة في العزلة والانزواء، أو الاعتكاف في المسجد.
قراءة تقويمية لنظرية التماهي ـــــــ
إنّ القول بأنّ العرفان هو الإسلام المحض.. مجرد دعوى لا دليل عليها، ولا شواهد تاريخية تثبت صحتها ولا يمكن الدفاع عنها أيضاً([9]). فقد أثبتت المؤشرات والشواهد التاريخية والدراسات العلمية الحديثة أن ظهور التصوف والعرفان كان في بداية القرن الثاني والثالث الهجري، ثم شاع استعمالهما واتسع نطاقهما في تلك العصور؛ وأما أن بعض المسائل العرفانية أو أكثرها له جذور إسلامية، فهو كلام آخر سوف نذكره في الرأي الثالث.
ب . نظرية اقتباس العرفان والتصوف من الثقافات الأجنبية ـــــــ
تقول هذه النظرية: ثمّة اعتقاد بأن العرفان والتصوف كانا خاضعين بدءاً للثقافة الأجنبية، بسبب ارتباط المسلمين برهبان النصارى وقساوستهم وبعرفاء الهند وفلاسفة اليونان، ومن أنصار هذا الرأي أهل الحديث في التراث الإسلامي حيث استدلّوا بروايات إسلامية على أن أئمة أهل البيتG كانوا رفضوا عمل المتصوفة وأساليبهم اللامشروعة، بل إن بعض الأخبار عنهمG جاء فيها ذمّ المتصوفة ولعنهم، ومنها ذمّ الإمام السجاد للحسن البصري على الموعظة في منى، فقد روي أن الإمام زين العابدينA مرّ بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى، فوقف عليه، ثم قال: أمسك، أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم؟ أترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله إذا نزل بك غداً([10])، فما رأي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس([11]).
وقد نفى المستشرق ماسينيون أيّ صلة للتصوف بالإسلام، استناداً إلى هذه الرواية([12])، وهو فهم غير صحيح منه لها، وذلك:
أولاً: إن النهي كان متوجهاً لشخص الحسن البصري، يدلّ عليه ما ذكر في آخر الرواية: فما رأي الحسن البصري بعد ذلك يعظ.
ثانياً: عدم اشتهار العرفان والتصوف في ذلك العصر كي يصحّ الإثبات أو النفي، لكن خبراً آخر مرويّاً عن الإمام الصادقA جاء فيه: أن أبا هاشم الكوفي هو الذي ابتدع مذهباً يقال له: التصوف، وجعله مقراً لعقيدته الخبيثة([13])، وهناك رواية مثلها مروية عن الإمام الرضاA ([14]).
لقد كانت المؤشرات والشواهد التاريخية تشير إلى أن ذم المتصوفة كان قد بدأ في عصر الإمام الصادق وبعده، وقد جمع العلامة المجلسي كثيراً من تلك الروايات والأخبار في ذمّ المتصوفة في كتابه سفينة البحار([15]) ، وحدائق الشيعة المنسوب إلى المقدس الأردبيلي (993هـ) وهو من علماء الشيعة([16])، وتلبيس إبليس لابن الجوزي وهو من علماء السنّة([17])، وقد أثبتت الشواهد التاريخية صحّة هذه الدعوى، وأنه لا علاقة للتصوّف بالعصر النبوي أو العصر العلوي لإثبات هذا الأمر أو نفيه.
وأغلب المتصوفة المشهورين هم من أهل السنّة، كالجنيد وأبي يزيد البسطامي والبغدادي والعطار وغيرهم.. ومحاولة بعض الصوفيين ربط أمجادهم وتواريخهم بعصر النبي1 وبداية مجيء الإسلام الأول، واتخاذهم الخرقة ونسبتها لعلي اقتداءً به، وادعائهم أنّ سلمان وأبا ذر والمقداد هم من مشايخهم، هي محاولات فاشلة ويائسة، وهو مجرد ادعاء محض لا شاهد عليه؛ سوى رواية منقولة عن العوالي يثبت فيها اتصال التصوف بالعصر العلوي، جاء فيها: أن (الصاد) علامة الصدق والصفاء، و(الواو) على المحبة والوفاء، (والفاء) على الفقر والفناء.
ويمكن الإشكال على هذه الرواية بأنّ كتاب عوالي اللئالي لابن جمهور ليس من الكتب العلمية المعتبرة، وأنّ مؤلّفه متّهم بالخلط بين الروايات الضعيفة والصحيحة.
قراءة في نظرية الاقتباس ـــــــ
أثبتت الأدلة والشواهد التاريخية التي لا يمكن إنكارها أن التصوف والعرفان كان قد نشأ بعد مرور قرنين من الزمن بعد ظهور الإسلام، وكان الهدف منهما منع الناس من الذهاب إلى دور أئمة أهل البيت وبيوتهم، وكان أغلب دعاة التصوف آنذاك هم من أهل السنّة، وقد فتح لكلّ من التصوف والعرفان جانبان في مسيرتهما التاريخية هما: الجانب النظري والعملي، فاتسع نطاق العرفان بكلا جانبيه، لكن التصوف أخذ يعاني من حالات التفريط التي أصابته، وبقي يرشف في قيوده وأغلاله، حتى دعا هذا الأمر المسلمين إلى تكفير المتصوفة، كما ذكر ذلك الملا صدرا في كتابه: كسر أصنام الجاهلية بقوله: إنهم تركوا العلم جانباً، وابتدعوا لهم شرائع كاذبة مخالفة للكتاب والسنّة، فكان كشفهم وكراماتهم وخوارق عاداتهم شعبذة..([18])، وهاجمهم وانتقدهم بشدة في اعتقاداتهم، وكان تلميذه الفيض الكاشاني قد ذكر مثله([19])، من هنا لا تخلو القراءة المتشابهة المتساوية لكل من العرفان والتصوف من إشكال.
موقف الاستشراق والدراسات المعاصرة من التصوّف والعرفان ـــــــ
يرى بعض الباحثين والمستشرقين أن هناك تشابهاً بين العرفان والتصوف وبين الثقافات السابقة على الإسلام، بل هما وليدا تلك الثقافات المتأثران بها، ومن هذه الثقافات:
1 ـ العرفان والتردّد البوذي في بلاد المشرق ـــــــ
الباعث على هذا التشابه بين المذهب البوذي والعرفان والتصوف هو وجود التقارب الإقليمي والتاريخي، فأغلب العرفاء ينتمون إلى شرق إيران والصحراء الوسطى القديمة أو خراسان، وهي أقرب منطقة مجاورة إلى البوذيين([20]). ومن الشواهد المهمة على تأثر العرفان الإسلامي بالمذهب البوذي وجود شخصية إبراهيم بن أدهم البلخي (762 ـ أو ـ 761هـ)، فأسطورته مستوحاة من أسطورة بوذا، وهي تقول: إن إبراهيم بن أدهم البلخي كان أميراً، فخرج يوماً إلى الصيد، فسمع هاتفاً يقول: إننا لم نخلقك لصيد الغزلان والثعالب؛ فاتعظ بهذا الكلام، فخلع عنه الملابس الفاخرة وثياب الإمرة، واتخذ سبيل الدراويش، وأخذ يجوب البلدان، إلى أن وصل إلى عالم الكشف والشهود([21]).
إلا أنّ مجرد وجود مشابهة ليس دليلاً لإثبات الادّعاء المذكور، وذلك:
أولاً: لأن ظهور التصوف كان في البصرة وبغداد، ونقله إلى شرق إيران مما لا شاهد عليه. يقول الدكتور زرين كوب: ومع ذلك كلّه، فنسبة التصوف والعرفان بأكمله وخضوعه وتأثره بالفكر البوذي هي نسبة واهية لا يمكن الاعتماد عليها، ولا أساس لها أبداً.
ثانياً: أثبتت الدلائل التاريخية والشواهد العديدة صحة وجود إبراهيم بن أدهم، وأنه لم يكن شخصية خرافية أو أسطورية، ممّا هو ادّعاء لا شاهد عليه، هذا من جهة، كما أنّ شخصية بوذا ـ من جهة أخرى ـ ليس لها وجود أو أثر في العرفان والثقافة الإسلامية([22]).
2 ـ علاقة النشأة بين العرفان والديانة المسيحيّة ـــــــ
يعتقد بعض المستشرقين أن انتشار الإسلام في بعض البلدان الإسلامية مثل سوريا والعراق، وارتباط المسلمين بالمسيحيين ورهبان الكوفة ودمشق ونجران، وشيوع المسيحية وانتشارها بين القبائل العربية قبل الإسلام، كانت عوامل وأسباب في وجود الشبه بين التصوف والعرفان وبعض معتقدات الدين المسيحي([23]).
لقد قام المستشرق والباحث الأنجليزي (كوليوث) بموازنة بين ما ذكره المحاسبي ـ وهو أول شخصية كتبت في التصوف الإسلامي ـ وبين إنجيل متى في الباب الخامس منه([24])، ورأى «نيكلسون» أن الميل نحو الزهد والتصوف هو تقليد واقتباس من قساوسة ورهبان النصارى([25])؛ وقد أثبتت الأدلة والشواهد التاريخية أن بناء الصومعة والخانقاه كان تقليداً لرهبان النصارى، بل إن أول خانقاه بنيت للمتصوّفة كانت في (رملة الشام) وهي من ديار النصارى، على يد أحد الأمراء والقادة المسيحيين([26])، وهناك شواهد عديدة تثبت صحّة التشابه المذكور، منها الكلمات الخفية ورموز الأسرار([27])، والمكاشفات الروحية([28])، وإسقاط التكاليف([29])، ودرجات المقامات السبعة في الوصول إلى مقام الاتحاد والوحدة([30])، ووجود التقسيم الثلاثي للخواجه عبدالله الأنصاري إلى ثلاث رتب، وكل رتبة إلى ثلاثة أركان، حيث اعترف بذلك أيضاً عبدالرزاق الكاشاني في شرحه منازل السائرين([31])، ورأى بعضٌ أنّ التثليث في الواقع كان لابن عربي، وهو دليل الاقتباس.
ونحن لا ننكر تأثير الدين المسيحي ـ وخاصة المدرسة الإسكندرية والأنطاكية ـ على التصوف والعرفان، لكن هذا ليس دليلاً على وجود جذور له في العرفان الإسلامي، فمفهوم العشق والحب مثلاً له جذور قرآنية ولا علاقة له بالمذهب المسيحي، كقولـه تعالى: >قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..< (آل عمران: 31)، وقولـه: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..< (المائدة: 54)، وقولـه: >وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُباً لله..< (البقرة: 165)، كما أنّ له جذوراً روائية أيضاً، كحديث التقرّب بالنوافل، وقد أكّد الإسلام عليها كسائر الأديان السماوية، وليس هناك أي تشابه بين التصوف والرهبانية المسيحية إطلاقاً؛ لأن أغلب المتصوفة متزوّجون ولديهم عوائل وأسر وأبناء، مضافاً إلى أن الرهبانية المسيحية عدّت بدعة في الاعتقاد القرآني، كما قال تعالى: >وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ..< (الحديد: 27).
والأمر الهام في هذا الموضوع أن الرهبانية اقتحمت الأديان كافة، وأثرت عليها تأثيراً إفراطياً وسلوكياً، ولا اختصاص لها بالدين الإسلامي، كما أنّ العرفان لا يتحدّد بمذهب أو دين معين، بل هو موجود في سائر الطوائف والأديان.
3 ـ التصوّف الإسلامي والمنطلق اليهودي ـــــــ
يرى بعض المستشرقين أمثال: كيجر، كافمن، مركسي، فان سنك، هرتسفلد، جولدزيهر وغيرهم أن العرفان والتصوف كانا قد تأثرا بالمذهب اليهودي([32])، وأن التعاليم العرفانية الإسلامية تشبه تعاليم تلمود اليهود تماماً([33])، بل تشبهها حتى في الألفاظ والمصطلحات أمثال: الناسوت، الرحموت، الرهبوت، الجبروت، والوحدانية.
لكنّ ما ذكر من وجود الشبه في بعض المفاهيم ليس دليلاً على التأثير والاقتباس، فعلى المستشرقين المذكورين السعي لإثبات العرفان لدى اليهود ابتداء، ولو أن الدين اليهودي لا يخلو أيضاً من عناصر العرفان، لكنها ليست بكثرة فيه بحيث تؤثر تأثيراً مباشراً وجاداً على مبادئ العرفان، فالتوراة المحرفة ليس لها قابلية إيجاد هذا التأثير، والباحثون أنفسهم أيضاً يعلمون أنّ التعاليم اليهودية لا تتلائم مع مبادئ العرفان والتصوف([34]).
4 ـ العرفان الإسلامي والعرفان الهندي، العلاقة والاستيراد ـــــــ
اعتقد الباحث والمستشرق وليام جونز أن العرفان الإسلامي جاء متأثراً بالعرفان الهندي، وقارن بين وحدة الوجود والمذهب العرفاني المسمى «وندانتا»؛ ووصل بين أشعار مثنوي لمولانا وحافظ و «جيتاجاونداي»، ووافقه الرأي من بعده جماعة من المستشرقين أمثال: فولك، وآلفرد كريمر، وروزن، وجولدزيهر، وماكس هوركن، ومورينو([35]). أما في الشرق الإسلامي، فقد كان أبو ريحان البيروني أول من عرض هذه الفكرة، وقارن بين التصوف الإسلامي والعرفان الهندي، وذكر أنواعاً كثيرة للشبه بين فكر أبي يزيد البسطامي والحلاج والشبلي ومبادئ كتاب «غيتا»، ونقل آراء المتصوفة؛ ووازن بينها وبين العرفان الهندي([36])؛ وكان أكثر الشبه في مجالات: الرياضة، اجتناب الشهوات، العلاقات الجنسية، القناعة، قوانين التحكم بالأجسام «يوغا»([37])، وحدة الوجود([38])، الوصول والفناء([39])، الشهود والمعرفة الباطنيين([40])، المحبة والعشق([41])، الرموز والأسرار([42]).
يقول الدكتور غني: إن انتشار الإسلام ووصوله إلى حدود الصين، وظهور حركة التبادل التجاري، وترجمة الآثار البوذية والهندية إلى اللغة العربية، ودخول السواح الأجانب في جماعات رهبان الزنادقة، كان قد أثر أثراً كبيراً على التصوف الإسلامي([43]).
ويرى المستشرق جولدزيهر أن تأثير العرفان الهندي على التصوف الإسلامي يعود لعدة أسباب، هي:
أ ـ انتشار الإسلام في الشرق ووصوله إلى حدود الهند والصين.
ب ـ ظهور حركة ترجمة الكتب الهندية إلى اللغة العربية في القرن الثاني الهجري.
ج ـ ازدهار المحافل العلمية وندوات المناظرة من خلال وجود حكماء الهند المعروفين باسم «سمينة».
د ـ اتساع مظاهر السياحة والاصطياف في البلاد الإسلامية لا سيما سوريا والشام، وقد سمّى الجاحظ أولئك السواح بالرهبان الزنادقة([44]).
صحيح أن هناك شبهاً بين المفاهيم العرفانية والأناشيد الدينية الهندية المعروفة باسم «أوبانيشاد»، لكن مجرد هذا الشبه ليس دليلاً على الاقتباس، ولا شواهد تاريخية تثبت ذلك.
ولم يقصد البيروني في بيان وجه الشبه، اقتباس أحدهما من الآخر، فهذا لا يفهم من كلامه، ولا شواهد تاريخية تثبت صحة ذلك، فمجرد وجود تبادل تجاري لا يستلزم وجود تبادل ثقافي أيضاً([45]). يضاف إلى ذلك أن نفس التفاوت والاختلاف الأساسي والأصولي الموجود بين العرفان الهندي والإسلامي هو دليل على عدم صحة تلك النظرية، وذلك:
أولاً: اشتمال المذاهب الهندية على مسائل إلحادية كثيرة لا تتلائم مع مفاهيم ومبادئ التوحيد في العرفان الإسلامي([46]).
ثانياً: إن الهدف في العرفان الهندي هو تصفية النفوس والباطن؛ لكن الهدف في العرفان الإسلامي هو «لقاء الله»، وكذا الهدف في العرفان الهندي هو التخلص والتحرر من الفقر والحرمان، فيما الهدف في العرفان الإسلامي هو الوصول إلى الكمال.
ثالثاً: الهدف الغائي والأخير في العرفان الهندي هو الفناء، أما في العرفان الإسلامي فهو الفناء للبقاء «بقاء الله».
رابعاً: تتناول المذاهب الهندية مفاهيم الحب والعشق، عدا مذهب «باكتي»، فإنه لا يشتمل على الحب، أما العرفان الإسلامي فأساسه العشق والحب([47]).
5 ـ مقولة التأثير الإيراني في ظهور العرفان الإسلامي ـــــــ
يرى بعض المستشرقين أمثال: غوبينو، وفرديك دلتش، ورينان، وبل لاجارد، أن العنصر السامي عاجز عن الوصول إلى معرفة العلوم ودرك الحقائق لأنه: أولاً: يمتلك قوة تخيلية ضعيفة. ثانياً: لكونه غير قادر على فهم دقائق الأمور العقلية والمعنوية الظريفة. فالتصوف في الأديان السامية وانعكاس الانتماء اللغوي والقومي الآري مغلوب للانتماء السامي، وبما أن الذين ينتمون إلى الأصل الآري هم الأفضل، فقد تفوقوا في المجالات العلمية والحضارية كافّة، وأثبتوا جدارتهم وكفاءتهم العالية في مجال الثقافة والفكر والعقائد والتاريخ، وأنّ معرفة التصوف الإسلامي وارتباطه بالفكر الآري يتم من خلال معرفة هذه المجموعة، فقد قارن هنري كوربان بين التصوف الإسلامي للسهروردي المقتول والعرفان الزرادشتي لإيجاد علاقة وارتباط فيما بينهما([48]). وأكد الدكتور زرين كوب من خلال دراسته أهمية عوامل التأثير على ميراث زرادشت كعهد «ألست» والولاية و…([49]).
ولا يمكن إنكار الدور العلمي والحضاري الإيراني الفاعل، والتاريخ العريق للمراكز العلمية مثل جندي سابور، وتأثيره في تطوير ونشر الثقافة الإسلامية؛ فإن كثيراً من العرفاء هم من أصل إيراني، وكتاب الشهيد المطهري «العلاقات المتبادلة بين الإسلام وإيران» أهم وثيقة وشاهد على هذا الإدعاء، لكن يمكن القول هنا:
أولاً: أثبتت الأدلة والشواهد التاريخية المعتبرة أن التصوف كان قد ظهر في المدينة والبصرة، وأن المتصوّفة الأوائل كانوا من العرب الساميين، أمثال: الحسن البصري ورابعة العدوية وهما من البصرة، وأبي هاشم الكوفي من الكوفة، ومعروف الكرخي وسري السقطي والجنيد البغدادي من بغداد.
ثانياً: إنّ الكلام عن العنصر الأفضل والقومية الأحسن وقياسه بالفكر والعقيدة ليس منطقياً، بل هو مرفوض؛ لأن الفكر والعقيدة ربما يكون لهما منشأ ومولد لكن ليس لهما وطن محدد. والأهم من ذلك أن الثقافة العالية للفلاسفة والعرفاء الإيرانيين والتفوّق والجدارة التي أبدوها في المجالات كافة، إنما تعود في الواقع إلى انتمائهم للحضارة الإسلامية ودولة القرآن؛ لا للقومية والانتماء العرقي؛ فإن أغلب هؤلاء الفلاسفة والعرفاء كانوا قد نهلوا من علوم مأدبة الكتاب والسنّة، ولم يروا أنفسهم بعيدين أو مستقلين عن تلك المأدبة الإيمانية أبداً.
ثالثاً: يمكن الإجابة عما ذكره الدكتور زرين كوب، من أننا لو أغمضنا عن كون الشبه ليس دليلاً على الاقتباس؛ فلو كان الدين الزرادشتي المحرّف يمتلك تلك القابلية والاستعداد لمثل هذا العرفان، فلماذا لم يكن لـه ذكر قبل الإسلام؟ بينما كان للعرفان الإسلامي آفاق واسعة وتطور ونموّ في آفاق الكتاب والسنّة النبوية الشريفة والعترة الطاهرة؟! وبعد نقل العرفان إلى إيران من البلاد العربية لم يعد لتلك البلاد العربية مرّة أخرى واستقر في إيران، باحثاً له عن آفاق ومحاور إيرانية واسعة ([50]).
6 ـ العنصر الصيني ودوره في تكوّن التصوّف الإسلامي ـــــــ
اعتقد الباحث الياباني توشيهيكو ايزوستو وعمر فاروق أن للمذاهب الصينية تأثيراً على التصوف الإسلامي، وأنّها كانت عاملاً مهماً في ظهوره([51])، فمثلاً مذهب «تاتويزم» المأخوذ من «لائوتسه 604 ـ 531 ـ ق. م» كان متأثراً بكتاب يعتمد فصلين: «تائوته كيسنك»، وهو يشتمل على مفاهيم ومبادئ غامضة وسريّة عرفانية، وهو كتاب في حجم صغير أكثر غموضاً من الكتب العرفانية الأخرى، يشرح فيه الهدف الواقعي للإنسان وهو الوصول إلى (تاتو) أي الحقيقة، ولا يتم الوصول إلى الوطن الأصلي إلاّ من خلال ترك الدنيا والمكاشفة؟ والوحدة في هذا المذهب هي سرّ الأسرار.
لكنّنا ذكرنا سابقاً أن وجود الشبه ليس دليلاً على الاقتباس، لكن لا يمكن إنكار التأثير الجزئي لبداية العرفان الأول في العرفان الإسلامي، وليس هذا التأثير بمعنى الولادة المقبولة.
7 ـ المذاهب اليونانية وتأثر العرفان الإسلامي بها ـــــــ
النظرية الأخيرة التي ذكرها الباحثون حول تأثر التصوف الإسلامي هي نظرية التأثير اليوناني وخصوصاً «التأثير الهلني» يعني اليونان عام 331 ق. م، فبعد فتوحات الإسكندر في الشرق والتي استمرت إلى القرن السادس بعد الميلاد، دخلت ثقافات جديدة في مجالات ميتافيزيقية وأفلاطونية في جوانب سحرية وكيميائية، فتولد منها ثقافة تدعى «الصلاح والفلاح اليوناني»، وقد أطلق عليه ماسينيون «الصلاح والفلاح الشرقي»([52])، ومن أمثلها: كتاب الأثولوجيا، ونظرية الفيض، والواحد لا يصدر إلا من الواحد، وهذه من نظريات السهروردي وابن عربي، حيث تأثرا وأتباعهما الشرقيين بمنهج «هرمس» وتاسوعات فلوطين، وذكرا ذلك في كلماتهما.
ونحن لا ننكر تأثير الفلسفة والعرفان اليوناني، خصوصاً الفلسفة الأفلاطونية الجديدة في المدرسة الأسكندرية وأنطاكية، وذلك بعد عصر الترجمة، واشتهارها بين المسلمين، لكن هنا أمور ينبغي ذكرها:
أولاً: إن وجود الشبه لا يدل على الاقتباس.
ثانياً: خرجت الفلسفة والعرفان الإسلامي بعد عصر الترجمة من حالة السبات والتقليد، وبنيتا لهما أساساً باعتمادهما على الكتاب والسنّة، فنتج من ذلك عرفان جديد لا يمكن مقارنته بالعرفان في فتراته الأولى.
ج ـ النظرية المعتدلة في ولادة العرفان الإسلامي ـــــــ
تقوم هذه النظرية على القول بأن العرفان والتصوف اعتمدا أسلوبهما العملي والنظري في الإسلام، ومن القائلين بها:
انتبه بعض المستشرقين إلى تصحيح أخطائهم في أقوالهم السابقة بأن العرفان الإسلامي اقتباس من الثقافات التي سبقت الإسلام، ثم أعلنوا ندمهم على آرائهم السابقة بعد عام 1920م؛ فمن بين المستشرقين الذين تغيّرت فكرتهم حول التصوف والعرفان، نيكلسون، فقد قال في عام 1906م: إن العرفان الإسلامي اقتباس من الثقافات الأجنبية المستوردة، لكنه غيّر رأيه عام 1921م، وقال: بدلاً من إضاعة الوقت في البحث للعثور على جذور التصوف؛ هناك عوامل عديدة أثرت في بناء التصوف ينبغي علينا معرفتها ودراستها، وتلك هي العوامل الأساسية الأصلية النابعة من الصميم الإسلامي وذاته وعقائده، والعوامل الخارجية. ومن جملة العوامل أيضاً الظروف السياسية والاجتماعية والعقلية والداخلية في العالم الإسلامي([53]).
ويقول ماسينيون: لقد زرع القرآن البذرة الواقعية والحقيقية للتصوف، وهذه البذور التي نشرها الإسلام كافية ووافية نستغني بها عن الجلوس على طاولة الأجنبي.. فلا يختصّ التصوف بطائفة أو فئة معينة أو لغة محدّدة أو شعب معين، بل هو ظاهرة روحية لا تتعين في إطار حدود مادية أو فئوية([54]).
يرى الشهيد المطهري أن عناصر العرفان الأولية في جوانبه النظرية والعملية نابعة من الإسلام، وقد كان لتلك العناصر قواعد وضوابط أصولية وتأثير أيضاً بعوالم خارجية كالأفكار الفلسفية والكلامية خاصة أفكار الفلسفة الإشراقية، لكن مقدار تلك القواعد والضوابط الأصولية التي وضعها العرفاء لتلك العناصر الأولية الإسلامية، وهل نجحوا في عملهم كما نجح الفقهاء في بيان مدى التأثير والتأثر أم لا؟.. هذا بحث آخر. والأمر المسلّم أن نشأة العرفان الإسلامي كانت هي الإسلام ولا غير([55])، فمن هذه الجهة، ليس هنا تشابهاً بين العرفان والفقه والحديث، فلا نقول: إنه نابع بنسبة 100% من المصادر الإسلامية!! وهو أيضاً ليس كالرياضيات والطب في كونه مستورداً تماماً من خارج الإسلام، بل العرفان حدٌ وسط بين هذين الأمرين.
ثم يعرض المطهري نماذج عديدة عرفانية مستوحاة من القرآن ونهج البلاغة، فالأدعية الإسلامية ـ ومنها الأدعية الشيعية ـ كنوز العلوم والمعارف العرفانية، كدعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي والمناجاة الشعبانية وأدعية الصحيفة السجادية، فهي غنيّة بالمفاهيم والأفكار المعنوية ذات المضامين العالية، وتشتمل على حالات عرفانية، ومع هذا كلّه، هل تبقى لنا حاجة في البحث عن مصادر أجنبية مستوردة؟!([56])
يقول الإمام الخميني في كلامه حول أهل المعرفة: من الأمور التي ينبغي الانتباه لها وأن يهتم بها الإخوة المؤمنون وخاصة أهل العلم أنهم إذا شاهدوا شيئاً أو سمعوا كلاماً من أهل المعرفة، فلا يرموهم بالفساد والبطلان بلا دليل شرعي، أو يصغوا بآذانهم إليهم، ولا يجوز لهم أن يحقّروهم، فإنني أقسم بالله أن كلامهم هو شرح للقرآن والحديث([57]). وقال في موضع آخر: إنّ ما يقوله العرفاء والفلاسفة هو شيء واحد، فلا يجوز إبعاد الأمة عن هذه الخيرات، فلو أطال الله تعالى في عمرنا، لذكرنا كلاماً مثل كلامهم، ووضعنا احتمالاً واحداً لها؛ فلا تقولوا: أعدتم كلامكم في هذا المجال، كلا، بل ينبغي تكراره وإعادته ثانياً([58]).
ويبعث الإمام الخميني برسالتين إلى زوجة ابنه السيد أحمد قائلاً لها: ابنتي! إن لم تقدري أن تكوني أو تصيري أهلاً، فلا تنكري مقامات العارفين والصالحين، فكثير مما قال أولئك قد ورد في القرآن الكريم، وفي الأدعية ومناجاة أهل العصمة([59]).
4 ـ العلامة محمد حسين الطباطبائي:
يقول المفسر العلامة الطباطبائي: نعم ها هنا حقيقة قرآنية لا مجال لإنكارها وهي أن دخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهية، وتقرّبه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتح له باباً إلى ملكوت السماوات والأرض، يشاهد منه ما خفي على غيره من آيات الله الكبرى، وأنوار جبروته التي لا تطفأ، قال الصادقA: «لولا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض». وفيما رواه الجمهور عن النبي، قال: «لولا تكثير في كلامكم، وتمريج في قلوبكم، لرأيتم ما أرى، ولسمعتم ما أسمع». فإن هذا طريق غير فكري، وموهبة إلهية يختص بها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
ويستنتج العلامة الطباطبائي في بحثه قائلاً: وبالجملة؛ فهذه طرق ثلاثة في البحث والكشف عنها: الظواهر الدينية، وطريق البحث العقلي، وطريق تصفية النفس، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين، على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع والتدافع، وجمعهم في ذلك كزوايا المثلث، كلما زدت في مقدار واحدة منها، نقصت من الأخريين وبالعكس([60]).
يقول العلامة الآملي: المجتمع بلا عرفان كالجسد بلا روح، والعلم والعرفان هما اللذان يبنيان الإنسان، فإن حقيقة عروج النفس بمنزلة معرفة الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر العرفان الأصلي في منطق الوحي والروايات الواردة عن أئمة أهل بيت العصمة والطهارةG([61]).
النظرية المختارة في تفسير قيامة العرفان الإسلامي ـــــــ
المراد بالعرفان الإسلامي ليس أن تكون كافة أبحاثه ومعارفه مستوحاة من الكتاب والسنّة (الرأي الأول)، بل إن أكثر العرفاء هم من المسلمين أو أكثر مفاهيمه مستمدة من الكتاب والسنّة (الرأي الثالث). ويبدو أن هذا أمر منطقي، يتلائم وطبيعة الشواهد والأدلة التاريخية والعلمية، وبناء عليه يفترض التركيز على العوامل الباطنية للعرفان الإسلامي التي استوحاها من الكتاب والسنّة، وعلى دور بعض الثقافات التي سبقت الإسلام، والتي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها.
الأمر الآخر المهم هنا أن التصوف والعرفان الإسلامي كانا قد مرّا بمراحل وتحولات واسعة أدت إلى تطور كل منهما ونموّه إيجاباً أو سلباً، فالمتصوفة لم يلتزموا بالطريقة والشريعة، وتبرؤا من ظواهر الدين، فأوجدوا لهم مناسك وأعمالاً خاصة تختلف عن أعمال المسلمين، وبنوا لهم خانقاهات بدلاً من الذهاب إلى المساجد، ونفوا أساساً أن يلتزموا بمبدأ أو يقيدوا أنفسهم بدين خاص، وتصوروا أن الأديان كلها في رتبة متساوية، فعرّضوا أنفسهم لانتقادات الأئمة والفقهاء والمتكلّمين، بسبب شناعة أفعالهم التي لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، كما عرّضوا أنفسهم لصنوف العذاب، وكفّرهم المسلمون، بل وصل بهم الأمر إلى الملاحقة والتشريد والقتل، وقد عرف هؤلاء بالمتصوفة.
من جهة أخرى، وفي مواجهة هذا المسلك، نشأ العرفان بثوبه الإسلامي الأصيل، واشتهر منه رجال حكماء وعرفاء، كالملا صدرا والسيد حيدر الآملي، ومن المعاصرين: الإمام الخميني والعلامة الطباطبائي والشهيد المطهري وحسن زاده الآملي وجوادي الآملي والسيد جلال الدين الآشتياني وغيرهم.. فكل هؤلاء اعتقدوا أن الوصول إلى مرحلة الكشف والشهود، والانتفاع باللذائد العرفانية، لا يحصل إلا من خلال التقيّد والالتزام بقوانين الشريعة واتّباعها، والعمل بالكتاب والسنّة، ولا يجوز الانحراف عنها أو مخالفتها وتجاوز حدودها، وهناك بون بعيد بين الطائفتين؛ فلا يحكم عليهما بالتساوي أو ترميان بعصا واحدة، فإن هذا بعيد عن الإنصاف والمنطق السليم.
وقد نشأت كثير من الخلافات والنزاعات بسبب عدم معرفة حدود كل منهما؛ لذا يمكن الدفاع عن العرفان، أما ما سواه فليس إلا الحيرة والضياع، ولا ثمرة أخرى لـه أبداً، فهو انحراف عن الإسلام الأصيل والتقاط لأفكار غريبة ومستوردة ولا شيء آخر.. وأخيراً لا يمكن إنكار وجود تلك الأرضية للعرفان الإسلامي أو النظر له بمنظار قرآني أو روائي.. وإليك نماذج على ذلك:
الأصول الإسلامية للعرفان، نماذج وشواهد، نماذج من الكتاب والسنّة ـــــــ
أ ـ التوحيد: العلاقة بين الله وما سواه في النظرة القرآنية ليست كعلاقة البناء والبنّاء، ولا صانع الساعة والساعة، ولا علاقة العلّة والمعلول؛ فبعد أن بيّن سبحانه وتعالى أنه خالق الكون قال: }وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{ (الحديد: 4)، وقال: }فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ…{ (البقرة: 150)، وقال: }وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ…{ (الواقعة: 85)، وقال: }وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ…{ (ق: 16)، وقال: }هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ…{ (الأنفال: 24)، وقال: }اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…{ (النور: 35)؛ وهناك عشرات الآيات التي تثبت سموّ الأفكار التوحيدية عن مستوى البشر.
ب ـ السير والسلوك: يقول المطهري: علينا إمعان النظر والتدقيق في الآيات التي تتناول (لقاء الله) و(رضوان الله) وآيات الوحي والإلهام، وكلام الملائكة مع غير الأنبياء من البشر، ككلام الوحي مع مريم، وملاحظة خصوص آيات معراج النبي وذلك في أثناء السير والسلوك، وطيّ مراحل القرب الإلهي إلى آخر المنازل([62]).. فمن أمثلتها: قوله تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ (العنكبوت: 69)، وقوله: }قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{ (الشمس: 9 ـ 10)، وقوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً…{ (التحريم: 8)، وقوله: }يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ{ (الانشقاق: 6)، وقوله: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ (النازعات: 40 ـ 41).
وكذا الآيات التي تتحدث عن النفس الأمّارة، كقولـه تعالى: }إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي..{ (يوسف: 53)، وعن النفس اللوامة، كقولـه تعالى: }وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ…{ (القيامة: 2)، وكقولـه تعالى: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{ (الشمس: 7 ـ 8)، وعن النفس السوية والملهمة، كقوله تعالى: }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{ (الفجر: 27).
ج ـ آيات الزهد: وهي نماذج عديدة؛ كآيات ترجيح الدنيا على الآخرة، أو ذم الدنيا ووصفها باللهو واللعب، كقولـه تعالى: }وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ{ (آل عمران: 185)، }قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى..{ (النساء: 77)، }وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ..{ (الأنعام: 32)، }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..{ (الكهف: 46)، }فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ..{ (التوبة: 38)، }يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار..ِ{ (غافر: 39).
د ـ التضاد بين الدنيا والآخرة: وهي آيات كثيرة، منها قولـه: }مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ{ (الشورى: 20)، وفي آية أخرى مخاطباً الكفار: }وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا..{ (الأحقاف: 20)، وشأن نزول هذه الآية هو أن بعض الصحابة كانوا يجتمعون في بيت عثمان بن مظعون، ويعزفون عن الدنيا، فلما علم النبي1 بهم، نهاهم عن الرهبانية والعزوف عن الدنيا، معترضاً عليهم أشدّ الاعتراض، قائلاً لعثمان بن مظعون: يا عثمان! إنّ الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهابنية أمتي الجهاد([63]). وقال تعالى أيضاً: }مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ..{ (الأحزاب: 4).
أما الأخبار والروايات التي وردت حول التضادّ بين الدنيا والآخرة فكثيرة؛ منها: قال: الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا([64]). وقال علي×: إن الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها؛ وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وماشي بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر([65]).
وهناك أخبار وروايات تذكر أن الجمع بين الدنيا والآخرة هو من الحيل والخدع، كقولـه×: طلب الجمع بين الدنيا والآخرة من خداع النفس([66])، وقوله×: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب المؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد([67]).
إن تناول هذه الأحاديث للزهد ليس معناه ترك الدنيا والعزوف عنها والرهبانية؛ لأن الإسلام دين الحياة والمجتمع، وهو يتنافى مع حالات العزلة والانزواء والرهبانية، بل هذه الأحاديث بصدد بيان ذم الدنيا والتعلّق بها غاية التعلّق، كما ورد عنه’ قوله: «حب الدنيا رأس كل خطيئة»، فمن الفوارق المهمة بين التصوف والعرفان أن الشريعة لا تنفصل عن الطريقة، بل هما أمر واحد؛ فإذا أرادت البشرية أن تصل إلى تعاليم السماء وتطبّقها؛ فما عليها سوى اتباع أوامر الأنبياء والأوصياء واجتناب نواهيهم، والمضيّ على نهجهم؛ وإن النبي هو أفضل أسوة في هذا الاقتداء، وكذا الأئمة المعصومين، فهم السالكون في طريق الحق والمرشدون لسلوكه.
هـ ـ حياة الخواصّ من الصحابة والتابعين: تعبّر ترجمة صحابة الصدر الأول في الإسلام عن الإرادة الراسخة الإيمانية والمشاعر الجياشة والعناصر الروحية القوية والوضوح في الرؤية القلبية، وتحمّل المتاعب والصعاب، والعشق الإلهي المعنوي، وإليك أنموذجاً رائعاً لتلك الحالات لبعض الصحابة؛ فقد روي في الكافي: أن رسول الله’ صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله’: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فعجب رسول الله’ من قولـه وقال: إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أرّقني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم؛ وكأني أنظر أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، وعلى الأرائك متكؤون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي، فقال رسول الله’ لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثم قال’ له: الزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا لـه رسول الله’، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي’ فاستشهد([68]).
نتائج وخلاصات ـــــــ
وتظهر عدة نتائج من هذه الدراسة، من أهمها:
أ ـ يمكن أن تتصف الفلسفة والعرفان بالصفة الإسلامية، فيما إذا كان أكثر محتواهما يعبّر عن الإسلام، أو كان أكثر العرفاء من المسلمين.
ب ـ العرفان كالفلسفة لا يختصّ بشعب أو مبدأ ودين معيّن، والعرفان لم يتأثر تماماً بثقافة أجنبية سبقت الإسلام، كالثقافة اليونانية مثلاً أو الإيرانية أو الهندية أو المذاهب والأديان السابقة كاليهودية والمسيحية والزرادشتية، فالعرفان الإسلامي لم يكن مقتبساً، كما لاحظنا في نقد النظريتين الأوليين.
ج ـ لم يكن العرفان والتصوف بعد ظهورهما في القرن الثاني والثالث في جهة واحدة ومسير معين، بل اتجه كل منهما سلباً وإيجاباً لإيجاد دوره الفاعل في مسيرته الحضارية، فالتصوف مثلاً أصيب بالانحراف وابتلي أصحابه بالبدعة، فأوجدوا لهم الخانقاه بدل المسجد وابتدعوا أساليب وطرق للعبادة لا تمتّ إلى الشريعة بصلة، وفصلوا بين الشريعة والطريقة، وتكلّم المتصوفة بكلام عرفاني إلحادي كان متداولاً قبل الإسلام، فذمهم الأئمةG والعلماء والفقهاء، وطعنوا فيهم، بل كفّرهم بعض العلماء، وأوجبوا قتلهم وإراقة دمائهم، فالدفاع عن العرفان ليس دفاعاً عن هؤلاء.
هـ ـ اهتم بعض الباحثين والعلماء المسلمين بالجوانب العرفانية وبيان أسرار الآيات والروايات المرتبطة بها، وذلك من خلال التعمق في مفاهيم الآيات القرآنية والسنّة، والتي دعت إلى مواجهة التيار الانحرافي الصوفي الإفراطي بشدة، لكنها عرضت العرفان النظري في صورته الحقيقية، معتمدةً على المعارف والعلوم الإسلامية الأصلية، وقدّمت العرفان العملي بوصفه نهج الأئمة المعصومين وسيرهم وسلوكهم في هذه المرحلة، وأكّد العلماء والباحثون على عدم فصل الشريعة عن الطريقة، بل هما وجهان لعملة واحدة في ضرورة المحافظة عليهما. وهم في الوقت نفسه لا ينكرون تأثير أو تأثر الفلسفة والعرفان.
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلمية بجامعة طهران، برديس قم.
([1]) مصباح اليزدي، سلسلة أبحاث الفلسفة الإسلامية، العدد2: 27، قم، مؤسسة في طريق الحق؛ والآراء الفلسفية، جامعة طهران، برديس قم، رقم3، 1384ش/2005م، ومقالة ماهية الفلسفة الإسلامية: 84، لكاتب هذا البحث.
([2]) انظر: قاموس دهخدا، دار نشر جامعة طهران، 1341ش، مادة عرفان.
([3]) السهروردي، عوارف المعارف، آخر باب الترجمة، والعرفان النظري لعبد المؤمن الإصفهاني نقلاً عن يحيى يثربي: 27، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية بقم، الطبعة الثانية.
([4]) مرتضى مطهري، العلاقات المتبادلة بين الإسلام وإيران: 575، مكتب النشر الإسلامي بقم، 1362ش/1983م.
([5]) مقدمة ابن خلدون، ترجمة محمّد بروين الكنابادي، دار الترجمة ونشر الكتاب 1337ش، وانظر: العلاقات المتبادلة بين الإسلام وإيران: 575.
([7]) فريد الدين العطار النيسابوري، تذكرة الأولياء: 192، تصحيح محمّد الاستعلامي، دار نشر الزوار، 1364ش/1985م.
([9]) محمد رضا الكاشفي، أسئلة وأجوبة، العرفان والتصوف: 27، مكتب نشر المعارف، 1385ش/2006م؛ والشيرواني، معرفة العلوم الإسلامية: 27، والدين العرفاني والعرفان الديني: 34، انتشارات دار الفكر، قم، 1377ش/1998م.
([10]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 43، النجف، مطبعة النعمان، 1386هـ.
([12]) عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: 186، ترجمة افتخارزاده، قم، دفتر نشر المعارف، 1375ش/1996م.
([13]) سفينة البحار 2: 57، دار نشر العابدي.
([15]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار ج1 و15 و17، وسفينة البحار 2: 57، وما بعدها.
([16]) أحمد بن محمد الأردبيلي، حديقة الشيعة: 564 ـ 606، مكتبة شمس.
([17]) انظر: الآغا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 6: 385 ـ 386، بيروت، دار الأضواء، 1403هـ.
([18]) السيد إسحاق الحسيني الكوهساري، تاريخ الفلسفة الإسلامية: 230، طهران، انتشارات أمير كبير.
([20]) عبد الحسين زرين كوب، البحث في تصوّف إيران: 4 ـ 6، طهران، انتشارات أمير كبير، 1376ش/1997م.
([21]) الدين والعرفان: 42 ـ 43.
([23]) بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: 54.
([24]) الدكتور قاسم غني، تاريخ التصوف في الإسلام: 68 ـ 70، زوار، طهران، 1369ش/1990م.
([25]) يثربي، العرفان النظري: 74، نقلاً عن الإسلام والتصوف: 13.
([26]) تاريخ التصوف: 75؛ وانظر الجامعي، نغمات الأنس: 31، انتشارات المحمودي.
([27]) رسالة بولس الثانية إلى كوزنتيان، الفصل: 12، 15.
([28]) رسالة بولس الأولى، الفصل: 2، 10، 9.
([29]) رسالة بولس إلى غلاطيان، الفصل الخامس: 18.
([30]) خليل الجر وحنا الفاخوري، تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي: 253، ترجمة عبدالمحمد آيتي، طهران، دار النشر العلمية والثقافية، 1373ش/1994م.
([31]) الأنصاري، منازل السائرين: 251.
([33]) التلمود في العبرية معناه التعاليم، وهي مجموعة من السنن الكونية والإلهية وأصول الدين التي جاء بها موسى.
([36]) المصدر نفسه، نقلاً عن تحقيق ما للهند لأبي ريحان البيروني: 43، دار نشر إدوارد سخاو ـ لا يبزيك ـ 1925م.
([37]) الأديان والمذاهب الفلسفية الهندية: 668، 675.
([39]) المصدر نفسه: 22، وانظر العرفان النظري: 68.
([41]) المصدر نفسه: 337 ـ 342.
([43]) تاريخ التصوف: 157 ـ 155، وانظر الزهد والتصوف: 73 ـ 74؛ والعرفان النظري: 91 ـ 93.
([44]) الزهد والتصوف في الإسلام: 74 ـ 68؛ والعرفان النظري: 93 ـ 94.
([45]) ابن النديم، الفهرست 2: 246.
([46]) د. فعالي، الدين والعرفان: 55.
([47]) تاريخ التصوف: 63؛ والعرفان النظري: 94 ـ 96.
([49]) عبد الحسين زرين كوب، البحث في التصوف الإيراني: 22 ـ 27.
([50]) فعالي، الدين والعرفان: 64 ـ 66.
([51]) المصدر نفسه: 55 ـ 56؛ وعمر فاروق، التصوف والعرفان: 143.
([52]) البحث في التصوف: 1 ـ 29؛ وتاريخ التصوف: 26 ـ 64.
([54]) روح الله الخميني، معراج السالكين وصلاة العارفين: 38، نقلاً عن التعاليم العرفانية: 29؛ وله: تفسير سورة الحمد: 193، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، 1378ش/1999م؛ ومعرفة العلوم الإسلامية: 91؛ والشيرواني، العرفان الديني والدين العرفاني: 43 ـ 44.
([55]) معرفة العلوم الإسلامية: 84 ـ 85.
([57]) معراج السالكين وصلاة العارفين: 38، نقلاً عن التعاليم العرفانية: 29.
([59]) التعاليم العرفانية: 30.
([60]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 270، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1394هـ.
([61]) حسن زاده آملي، ألف كلمة 2: 387، الكلمة: 283.
([62]) معرفة العلوم الإسلامية، العرفان: 87.
([63]) بحار الأنوار 70: 115، و82: 114؛ مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403هـ.
([64]) الجامع الصغير 2: 16؛ والعرفان النظري: 117.
([65]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، الحكمة: 103، مؤسسة أمير المؤمنين للتحقيق، قم، 1376ش/1997م.