د. عبد الكريم سروش(*)
ترجمة: مشتاق الحلو
تنشر (نصوص معاصرة) نصّ هذه المحاضرة التي ألقاها د. عبد الكريم سروش، في حفل أقامه طلاب جامعة إصفهان بمناسبة يوم وحدة الحوزات والجامعات (يدعى اليوم السابع من ديسمبر من كل عام، يوم وحدة الحوزة والجامعة في إيران)، وقد أثارت المحاضرة جدلاً في الساحة الإيرانية، كما تعقب المجلّة ذلك بنشر دراسة للشيخ محسن غرويان تمثل نقداً لأهم أفكار سروش حول الحوزات والجامعات (التحرير).
سمّي هذا اليوم، بيوم وحدة المدارس الدينية والجامعات بناءً على أمنية مقدّسة؛ فمنذ حدوث الثورة الثقافية في إيران، بل ومنذ انطلاق الثورة الإسلامية فيها، انعقد أمل في قلوب جميع محبّي الثورة، في أن تتمّ هذه الوحدة بين هاتين المؤسّستين المباركتين، وتنتهي القطيعة بينهما ـ سواء كانت تلك القطيعة بفعل العدو أم نتيجة تاريخية طبيعية ـ كي يتسنّى لهاتين المؤسّستين العلميتين المهمتين، حلّ العقد العلمية والفكرية والدينية التي تعترض طريق أبناء هذا البلد، وتقديم أكبر قدر ممكن من الخدمات لهم، عبر تآزرهما واجتماع طاقاتهما.
المراد من الوحدة بين الحوزة والجامعة ـــ
كثيراً ما دار الحديث عن كيفية هذه الوحدة وسبل تحقّقها. واليوم، وبعد مضي ثلاثة وعشرين عاماً على الثورة، ما زالت بعض الأسئلة قائمة لكثير من الجامعيين وأفراد المؤسّسة الدينية، منها: هل تحققت الوحدة أم لا؟ هل من الممكن تحقّقها أم لا؟ ما هو الهدف الذي يصبو إليه الذين تقدّموا بهذه الأطروحة؟ وكيف تكون وحدتهما إذا ما قدّر لها أن تتحقّق؟ وقد أقيمت العديد من المؤتمرات حول هذا الموضوع، ونوقش كثيراً في الأمر، لكن لا الوحدة تحقّقت، ولا الأسئلة المطروحة حصلت على إجابة.
ومن منطلق الحبّ وطلب الخير والإحساس بالمسؤولية، ألفت الانتباه إلى بعض النقاط حول هذا الموضوع، كما أودّ الحديث عن مواصفات هاتين المؤسّستين، وتشريح أسباب القطيعة بينهما، وتقديم بعض المقترحات؛ بهدف بلوغ مرحلة الوحدة بينهما.
ميزات الجامعة والحوزة ـــــــ
يمكننا النظر لهاتين المؤسّستين من جهات عدّة، لكنني أهتم هنا بأبرز ما يتصفان به، وهو الجانب التعليمي فيهما؛ فالجامعة ـ في حقيقتها ـ مدرسة، وكذلك الحال بالنسبة للمؤسّسة الدينية في قم والنجف أو مشهد، إذ أول ما يقومان به هو التعليم. وأهم العناصر فيهما: الطالب والمعلم والنصوص الدراسية. ولكلّ منهما تاريخ وتراث عريق، وللمدرسة الدينية في مجتمعنا تاريخ يعود إلى قرون من الزمن، فيما لا يزيد تاريخ الجامعة ـ بحلّتها الجديدة في مجتمعنا ـ عن قرن. وقد تكون لها بعض الجذور في العصر القاجاري، لكن لا وجود لشيء يماثلها قبل ذلك، إذ نشأت وتطوّرت في مكان آخر، ثمّ استوردناها وجلسنا نتفيّؤ ظلّها الهني.
فوارق الجامعة عن الحوزة في مجال التعليم ـــــــ
1ـ لا يمكن نقد أسس العلوم الحوزوية بينما العلوم الجامعية تقبل النقد ـــــــ
صحيح أنّ الاهتمام بالتعليم يجمع بين هاتين المؤسّستين، لكن ظاهر المدرسة شيء وباطنها شيء آخر. أي إنّ العلوم التي تدرّس في الجامعة تختلف اختلافاً جوهرياً عمّا يدرّس في المدارس الدينية. بعبارة أدق يكون التدريس في المدارس الدينية على أساس نظرة خاصة لا نراها في التدريس الجامعي. وهذا الفارق هو الذي يشكّل جوهر التمايز بين المؤسّستين. من هنا ينشأ الاختلاف بينهما، ولو أردنا تحقق الوحدة بينهما فينبغي أن تكون في هذا المجال.
إنّ العلوم التي تدرّس في الحوزات ترتبط بالدين، سواء كانت تفسيراً للنصوص الدينية كتفسير القرآن والفقه أم مقدّمات لتلك النصوص أم علوماً جانبية كالفلسفة والكلام؛ فجميع هذه العلوم غير تجريبي، ويختلف محتواه عن محتوى العلوم التي تدرّس في الجامعات، فهي غالباً ما تكون تجريبية، سواءً العلوم الطبيعية التجريبية أم العلوم الإنسانية التجريبية، وهذا فارق أساس بينهما.
لا يكمن اختلافهما في أنّ أحدهما تجريبي وغربي والآخر ديني وغير تجريبي ولا غربي، بل ما يفرّقهما أهمّ من ذلك وأبعد؛ فالعلوم التي تدرّس في المدارس الدينية مسبوقة بالإيمان، أي لا يمكن نقد أصولها والاعتراض عليها، بينما لا نجد العلوم الجامعية كذلك، وهذا ما يؤدي إلى الاختلاف بين طلاب المدرستين ومناهجهما الدراسية والمناخ العلمي المهيمن على كل منهما؛ حيث يصبح التقريب بينهما في غاية الصعوبة.
وأودّ الالتفات إلى هذه النقطة جيداً، لا أدّعي أن ليس هناك نقد أو نقاش علمي في الحوزات، أو أنّ الجامعات غارقة في البحث والنقاش العلمي، ولا يوجد فيها تقليد ولا تبعية، بل أعني بما قلته أمراً آخر؛ إنّ الدروس في المدارس الدينية تمتاز بكثرة النقاش والأخذ والردّ على خلاف جامعاتنا اليوم التي تعاني من هذه الناحية؛ فغالباً ما يستمع الطلاب إلى أساتذتهم ويقرأون ملازمهم ويقدّمون امتحاناتهم، ويحصلون على درجة النجاح دون أن يكون لهم دور فعال في الأمر، ولا ينبغي أن تكون الجامعة المثالية على هذه الحال، لكن هذا هو الواقع. ما أريد قوله هنا لا يرتبط بهذا الموضوع.
ما أريد قوله هو أنّ في الحوزات التزام من قبل الطرفين بالنصوص الدينية، بحيث لا يحقّ لأيّ منهما مناقشة الأصول الأساسية والنصوص المقدّسة ونقدها؛ فقد يناقش طالبٌ أستاذَه في الفقه مثلاً ويرفض رأيه، لكن إذا كان هذا الرأي مراداً قطعياً من رواية قطعية، ينتهي النقاش ويغلق الموضوع.
والمقصود في ما يقال عن إغلاق باب الاجتهاد في فقه أهل السنّة، أنّهم لا ينقدون آراء أئمة مذاهبهم ويتوقف بحثهم عندها، والشيعة كذلك يتوقفون عند الأقوال المقطوع نسبتها إلى أئمتهم؛ إذاً <التوقف> موجود لدى الاثنين، لكنّ نقطة التوقّف تختلف؛ فأحدهما يتوقف عند قول غير المعصوم، والآخر يتوقف عند رأي المعصوم، ولكلّ منهما أدلّته. وما أشرت إليه من عدم وجود نقد في العلوم الدينية أعني به نقد الأسس والنصوص المقدسة؛ إذ بالإمكان الحركة والنقد في دائرة ما لكن لا يجوز تجاوزها، وتسمّى هذه العلوم بالعلوم التفسيرية والتأويلية.
يعتمد تفسير النصوص المقدّسة على افتراض هام، وهو أننا نقرأها حتى نفهمها لا لننقدها أو نكتشف نواقصها ونقاط ضعفها أو نبحث عن بديل أفضل منها؛ إذ لا نقبل بوجود نقص فيها من الأساس، وصحّتها وقداستها ثابتة لدينا، وهي أسمى من أن تتعرّض لمساءلتنا؛ فمحاكمتنا للنصوص تبدأ من نصوص دون مستوى النصوص المقدّسة، ففي هذه النصوص يكون كل شيء مجازاً لنا، لكن إذا دخلنا المنطقة المقدّسة، فليس لنا سوى التسليم والاستيعاب. والأهم من ذلك أنّ الإيمان هو السبيل للإدراك والاستنباط الأفضل، في حين يسلبنا الكفر والعناد والطغيان هذا التوفيق. ويحكم هذا الافتراض على الدروس والعلوم الدينية ويوقف عملية النقد عند حدّ معيّن، ولسنا هنا في مقام التقويم، ولا نريد الآن الحكم على هذه النصوص، كل ما نقوم به هو مجرّد عملية توصيفية.
أما بالنسبة للعلوم الجامعية، فباب النقد مفتوح وإن لم يكن الطلاب حين تلقّي نظريات الفيزياء أو الكيمياء أو الفلسفة مؤهلين ـ من الناحية العلمية ـ لمناقشة مبادئها وأسسها، وإبداع نظريات بديلة في مستوى العلماء الكبار ـ مع أنّ ذلك ليس محالاً عقلاً، كل ما في الأمر أنّه يندر أن يطوي طفل طريق مائة عام في ليلة ويقوم بما يقوم به أساطين الفنّ ـ فليس لدينا في العلوم التجريبية أيّ خطّ أحمر، ولا يعتبر لا الطالب ولا الأستاذ أيّ نظرية مقدسة أو لا يجوز المساس بها أو أنّها صادرة من أطراف لا يجوز التعرّض لهم؛ فالجامعة المثالية تُعلّم الأستاذ والطالب أنّ لهما حقّ التنقيب والبحث ما استطاعا؛ لعلّهما يكتشفان أموراً جديدة، شرط أن يمتلكا المؤهلات اللازمة، وليس لأحد أن يسلبهم هذا الحق.
هذا هو المناخ الجامعي، سواء التفت إليه الطالب أم غفل عنه؛ لهذا يحقّ لي القول بأنّ جوّ الجامعة هو جوّ عدم استسلام ولا يعرف حدوداً للنقد، فيما الجوّ الحوزوي له حدود صارمة في هذا المضمار، علماً أنّ هذا الاستسلام أو عدم الاستسلام مطروح بالنسبة للمبادئ الأساسية، لا بالنسبة لكلّ ما يقال أو يطرح.
ويتمتع هذان المنهجان المختلفان بأهمية بالغة؛ إذ ما لم يتمّ فهمهما بصورة صحيحة ولم يأخذ كلّ منهما حيّزه الخاص فسوف يسبّبان فتقاً بين المؤسّستين، لا يمكن رتقه بأية طريقة، أي سوف تتهم كل منهما الأخرى؛ فيتّهم هذا ذاك بالجمود والخنوع والتقوقع والرجعية، وذاك يتهم هذا بالنسبية واللادينية وتبعية الغرب وأمثالها، وهذا القصف والتراشق كنّا نسمعه إبان الثورة الإيرانية وقبلها؛ فلا الجامعيون كانت لديهم نظرة صائبة عن الحوزات، ولا العكس. لقد تمتعت بعض التصوّرات بقدر من الصواب، لكن نتج بعضها عن جهلٍ بالآخر، وفي تصوّري إنّ جذورها تعود لما تمّ تفسيره الآن؛ إذ لا يتحمّل كلّ منهما نمط تفكير الآخر، ولهما الحقّ في ذلك، أي لم ينتج هذا الموقف من عداء أو جهل؛ فنمط من التفكير يتناسب مع صنف من العلوم فيما يتناسب نمط آخر مع صنف آخر منها، وكلّ منهما جيّد في محلّه، لكن إذا أرادا أن يحلا محل بعضهما أو أن يلتصقا ببعضهما ويتّحدا دون أيّ تمهيد أو وضع أسس لذلك، فهو من المستحيل.
وعلى الرغم من أنّ عمل كليهما هو نُشدان العلم، لكن تختلف حقيقة هذا الطلب؛ فأحدهما مسبوق بالإيمان وملتزم بالفهم، والآخر غير مسبوق بالإيمان بل ملتزم بالنقد. ولو قبلنا هذا المبدأ لوصلنا إلى نتائج تتكفّل بتوضيح توقعات الجامعيين من الحوزويين، لكن قبل الخوض في هذا الموضوع، نبيّن ما تبقى من الميزات التعليمية للمؤسّسة الدينية.
2ـ استيلاء الحوزة على السلطة ـــــــ
المسألة الأخرى التي تمتاز بها الحوزة وتفتقدها الجامعة، هي امتلاك الحوزة للسلطة، وهو أمر بالغ الأهمية؛ إذ استلمت المؤسسة الدينية إدارة البلاد بعد انتصار الثورة، وما تزال نظرية ولاية الفقيه حاكمة على هذا البلد، وهي التي تقضي بوجوب كون الحاكم الأول في البلد فقيهاً من خرّيجي الحوزة، أي المؤسّسة التي تخرّج رجال الدين والفقهاء. وعلى هذا فعلاقة المؤسّسة الدينية بالسلطة علاقة عضوية وثيقة، كما يتسنى للحوزة قول الكلمة الفصل في شؤون الدولة؛ لأنّ الحكومة دينية، ولو لم تكن الحكومة دينية لما انصهر رجال الدين بالسلطة بهذه الطريقة، إذ تقتضي الحكومة الدينية اقتدار رجال الدين، وهذه نتيجة طبيعية لا جدال فيها؛ فالعلوم الدينية اليوم تجلب السلطة لحاملها؛ فيصبح قاضياً أو مسؤولاً حكومياً أو ممثلاً للولي الفقيه، وتصبح له سلطة على الناس، وله من القداسة والمكانة ما لا يتمتع به غيره فيصبح كلامه نافذاً؛ وقد يطال النقد والرسوم الكاريكاتورية الجميع إلا رجل الدين؛ فأهم مجلة فكاهية في إيران لا يمكنها تناوله.
ليس اقتراب رجال الدين والفقهاء منهم بشكل خاص من السلطة بأمر حديث بل له تاريخ لدينا، ولم تكن دوافع بعض الفلاسفة والعرفاء والشعراء في اصطدامهم بالفقهاء محض علمية، وإن كان منشأ بعض الخلافات اختلاف في الرؤى والأفكار؛ لكنّ بعضها كان بدافع دنيوي؛ فقد تربّع الفقهاء بالفعل على عرش السلطة الدينية، فإدارة المجتمع المتدين تقوم بالقوانين الدينية، ومن الطبيعي أن توكل هذه المناصب لمن يضطلع بهذه القوانين ويصبح مرجعاً للناس فيها؛ فلم يتمتع المتكلمون والفلاسفة والمؤرخون بالامتيازات التي تمتع بها الفقهاء، ومنها المنزلة الاجتماعية، كما شكّل فقر تلك الطوائف ـ مقارنةً بهذه الطائفة ـ أحد ملفّات أدبياتنا النقدية؛ إذ ذُمّ الفقهاء لتمتعهم بالدنيا وتسلّمهم القضاء واقترابهم من السلطة، وأحد هؤلاء الناقدين كان الشاعر حافظ الشيرازي الذي هجا الفقهاء والمتصوفة الذين كانوا محلّ اهتمام أرباب السلطة، واتهمهم في لقمتهم التي يستجدونها من السلطة، ويعدّد عمّال السلطة فيراهم: المفتي والمدرّس والمحتسب والفقيه، ويخرج نفسه من دائرتهم. وقد لام الفيض الكاشاني ـ وهو فقيه ومحدّث وعارف ـ الفقهاء والكهنة بالدرجة نفسها، واعتبر أن لا إخلاص لديهم وإنّما الحسد متمكّن منهم، ويقول الشاعر العربي:
إنّ قاضينا لأعمى أو تراه يتعامى سرق العيد كأنّ العيد أموال اليتامى
هذه الكلمات الواردة فيمن يقترب من السلطة تنبّهنا إلى الأخطار المحدقة بالمؤسّسات العلمية الدينية منها وغير الدينية، والانحرافات التي تعترض طريقها إذا ما اقتربت من السلطة؛ ولم تتعرّض الحوزات العلمية قبل الثورة إلى هذا الخطر، لكنّ الأمر اليوم مختلف. علماً بأني لا أقصد أنّ خريجي الجامعات لا يحصلون على أيّ منصب، لكنّ وضعهم مختلف كلياً عن رجال الدين الذين أوكلت إدارة البلد نظرياً لهم، ويتسنّى لهم التأثير عملياً أينما شاؤوا؛ فالمفاصل الأساسية جميعها في قبضتهم وبإمكان إمام جمعةٍ في مدينة ما أو رجل دين في جامعة ما، لعب دور أساسي، وقد ظهر رجال الدين دوماً في إطار حزب منسجم وصل هذه المرة إلى السلطة مقصياً الفرقاء الآخرين.
3ـ مخاطبة عامة الناس ـــــــ
الأمر الآخر الذي تمتاز به المؤسّسة الدينية وتفتقر إليه الجامعة، هو التعامل مع عامة الناس، أي منتجات الحوزة ليست لاستهلاك النخب وحسب، بل تتعامل الحوزة مع عامة الناس وتتولّى أمر هدايتهم وتربيتهم، ولمخاطبة العوام متطلّبات خاصة كما لمخاطبة الخواص، وأحد أهم مسؤوليات المؤسّسة الدينية تخريج خطباء متمكّنين من مخاطبة الناس بلغة يفهمونها وتولّي أمر هدايتهم، فيقدّمون المواعظ الأخلاقية والمعارف الدينية والأصول العقائدية للناس بسرد القصص والأمثال والشعر والكلام العذب.
وعلى الرغم من افتقار المؤسّسة الدينية اليوم إلى مدارس مختصّة بهذا الأمر، لكن كل من يجد في نفسه القابلية يقوم به. ويا ليتهم درّسوا هذا الفنّ إلى جانب المواضيع الأخرى وربّوا أفراداً لائقين لهذه المهنة، ولا أريد التوصية بتربية الخطباء، لكن ما أودّ التركيز عليه هنا أنّ المؤسّسة العلمية التي تضع مهارة الخطابة كأحد أهدافها (والخطابة: كلام إقناعي عام وغير استدلالي؛ للتأثير على مشاعر الناس وإقناعهم بأمر، بأي وجه ممكن)، قد تسبّب لنفسها التورّط في بعض الآفات والمآزق، وقد يجرها ذلك إلى ما لا تحمد عقباه.
لا تتمتع الجامعات بهذه الميزة؛ فهي لا تطمح إلى تربية الخطباء وخطف قلوب الناس أو القيام في بعض الأحيان بعمليات استعراضية؛ لأنّ هداية الناس وتقوية إيمانهم ليست من اهتماماتها؛ فعليها تربية المختصّين وحلّ العقد العلمية؛ لهذا لا تواجه علومها خطر الانصياع للعوام.
هذه ثلاث ميزات تتمتع بها الحوزة، وفي الوقت نفسه تمتاز بها عن الجامعات، وذلك مقتضى ماهيتهما، ولم تحمّل عليهما من الخارج.
الآفات والمآزق التـي تواجه المؤسّسة الدينية ـــــــ
نتناول الآن الآفات والمشكلات التي تنتج عن هذه الميزات في المؤسّسة التعليمية الحوزوية، فهي المهمة في معالجة الأمور.
1ـ تعميم القداسة ـــــــ
أمّا الميزة الأولى، وهي قداسة القرآن والروايات وعدم جواز نقدهما، فهي إذا لم تضبط قد تنسحب على جميع العلوم الحوزوية، وحتى على اللغة العربية، وهو خطأ فادح؛ فإذا سرت القداسة إلى رأي هذا الفقيه أو ذاك الفيلسوف، ستصبح الأمور التي لا تستحقّ القداسة مقدّسةً لا يمكن نقدها أو القدح بها. وهذا ما نجده أحياناً في الحوزات العلمية على الرغم من الادعاء بأنّ باب المناقشة مفتوح، لكنّه موصد عملياً في كثير من الأحيان، ولم يجرؤ ـ أحياناً ـ أفراد من داخل المؤسّسة الدينية على مناقشة رأي سائد، فما بالك بمن هو خارج الحوزة. ويتذكر جميعنا الأزمة التي افتعلوها على كتاب <الشهيد الخالد>([1])، وكيف قمعوا الكتاب وكاتبه، لأنّه طرح رأياً يخالف الرأي السائد (والذي تمتع بالقداسة دون مبرّر)، بحيث أصبح عبرةً لكلّ من تخالجه نفسه كسر القداسة الزائفة، كما منع السيد محمد حسين الطباطبائي من كتابة تعليقاته على بحار الأنوار؛ لقداسة آراء المجلسي. وأقل ما ينتج عن هذه القداسة الزائفة ركود الآراء والأفكار العلمية وعدم تمحيصها بالنقد والمناقشة؛ إذ لا يجرؤ أحد على المساس بها. وكلما كانت هذه الآراء الموروثة أقدم ازدادت قداستها وأصبح همّ العلماء الذبّ عنها، وهذا هو الانحطاط العلمي والخسران المبين بعينه، وهو نهجٌ ينتهي بالمؤسسة العلمية إلى فقدان مكانتها عند الآخرين.
أرى أنّ الكثير من الآراء الكلامية السائدة في المؤسّسة الدينية من هذا النوع، وإذا أرادت المؤسّسة الدينية إنعاش نفسها، سترى أنّ كثيراً من هذه الآراء قابل للنقاش وحتى الاستبدال، وهو أمر لا يتحقق إلا في جوّ منفتح ومتحرّر من القداسات الزائفة. القداسة التي تسرّت من موقعها الخاص إلى الأفكار البشرية وأصبحت عقبة أمام النموّ والتكامل، ومسخت تلك المعرفة البشرية حيث لم يبق بعدها لا معارف بشرية ولا إلهية.
أحد أهم أسباب مواجهة نظرية القبض والبسط، ادعاءها أنّ المعرفة الدينية معرفة بشرية، ومن هذه الناحية لا تختلف عن أيّ معرفة أخرى؛ وعلى هذا تكون العلوم الحوزوية قابلة للنقاش كسائر العلوم، وتتمتع بالدرجة عينها من حيث العلمية. فعلى الرغم من قيام هذا الكلام على أسس علمية رصينة وعدم حاجته ـ في رأيي ـ إلى استدلال، لكنّه خلق ضجّة عجيبة لا تتناسب وحجمه. كان واضحاً أنّ لهذه الضجة المفتعلة أسباباً غير الدوافع العلمية، فقد سلبت هذه النظرية القداسة من آراء اكتسبتها دون استحقاق وتعاملت مع جميع الآراء بأسلوب واحد.
إنّ وحدة الحوزة والجامعة لا تتحقق إلا بعد إقرار المؤسّسة الدينية بأنّ المعرفة التي تقدّمها لطلبتها معرفة بشرية غير مقدّسة، وأن تتعامل مع الآراء البشرية بما يناسبها، ولا تجعلها فوق النقد لا نظرياً ولا عملياً. فإذا أردتم اتحاد مؤسّستين تقدمان علوماً مختلفة جوهرياً، فلا يكون هذا الاتحاد إلا صورياً، ولا يمكنه أن يتجذّر؛ فمن أهم شروط تحقق هذه الوحدة وقبولها أن تكونا مؤسّستين تعليميتين بشريتين قابلتين للنقد بنفس الدرجة، إذ لا يجلس في المؤسّسة الدينية الله والنبي والأئمة، بل الفقهاء والعلماء والمتكلّمون وهم بشرٌ غير معصومين، وكل ما ينتجونه بشريّ غير مقدس، ولا يتسرى من قداسة القرآن والروايات شيء إلى علومهم ومعارفهم.
كيف يتّحد أمران مختلفان كلّ الاختلاف؛ أحدهما على الثرى والآخر في الثريا؟! أبسط شرط للتقارب أن يكونا في المستوى نفسه وفي متناول الآخر، كما قال أرباب الحكمة: إنّ الصداقة بين السيّد والعبد مستحيلة؛ إذ لا يمكن للسيد مصادقة عبده، نعم قد يعطف عليه لكنّ المودة شيء آخر تختفي فيها جميع الفوارق؛ فدور العشق والمودة رفع الفوارق ووضع الأفراد في مرتبة واحدة، كما يقول الشاعر: في حلقة الأحباب يصبح السائل كفؤ الملك.
يصدق الأمر على موضوعنا أيضاً؛ فلو قدّمت مؤسّسةٌ علوماً مقدسة ولم تعترف ببشريتها بل تغفل هذه الصبغة فيها، وتسرّي قداسة كلام الباري عليها، وقدّمت مؤسّسة أخرى علوماً بشرية غير مقدسة، لما أمكن الانسجام بينهما ولبات التباعد والقطيعة مهيمناً على علاقتهما؛ فما تتوقعه الجامعة من الحوزة هو أن تعتبر علومها بشرية كسائر العلوم، ولا تطرح نفسها وكأنّ لها اتصالاً مباشراً بالله ورسوله، وكلّ ما يخطر ببال القائمين عليها وحي منزل، ولهم من المنزلة ما للنبي والأئمة.
إذا تصوّرنا وجوب اعتبار المعرفة الدينية مقدّسة وغير بشرية، ومن ناحية أخرى ركّزنا على الخطابة لهداية عوام الناس، سنحصل على تركيبة عجيبة، ترسم صورةً مشوّهة عن الدين تؤدي إلى اشمئزاز الناس منه؛ إذ تأخذ الخطابة لإرضاء عوام الناس صبغة القداسة الدينية، في حين لا يجوز اعتبار الكلام الاستدلالي مقدساً، فما بالك بالكلام الخطابي؟
أحياناً ينفرد صنف من العلوم التي تدرّس في المؤسّسة الدينية بالقداسة دون غيره؛ فنرى الشيخ المطهري ينتقد إقبال اللاهوري بأنه لم يدرس الفلسفة الإسلامية وكانت فلسفته غربية. أنا أيضاً أقرّ بأنّ معلومات إقبال عن الفلسفة الإسلامية كانت بسيطة؛ فهو خريج جامعات الدول الغربية، درس في بريطانيا وناقش أطروحة الدكتوراه في ألمانيا، لكن ما يدرّس في المؤسّسة الدينية تحت عنوان الفلسفة الإسلامية ـ وإن سمّي إسلامياً واعتبر مقدساً ـ لكنّه فلسفة يونانية ليس إلا، وهي فلسفة من عشرات الفلسفات، وليست الفلسفة الوحيدة الممكنة، ولا هي أفضل فلسفة ممكنة، فهي علم بشري محترم وبالطبع غير مقدّس، وهي أول فلسفة وصلت المسلمين فتعاملوا معها. إضافة لذلك، فلسفة مَن تلك التي نعتبرها فلسفةً إسلامية؟ فلسفة الفارابي أم الفخر الرازي أم شيخ الإشراق أم الملا رجب علي التبريزي؟ إذ يختلف هؤلاء فيما بينهم. وكذلك الحال بالنسبة للفلسفة الغربية، فخلافاً لتصوّرنا عن وحدتها، هناك آراء تختلف كل الاختلاف لديكارت وهيغل وبرغسون وراسل، وجميعهم فلاسفة غربيون.
أوّل ضرر لحق بنا من قداسة <الفلسفة الإسلامية> عدم الاعتناء بسائر الفلسفات، فساد تصوّر تأسيس سائر الفلسفات على الكفر وترويجها له، وأنّ الفلسفة الإسلامية تربّي أناساً مسلمين. في حين نجد داخل منظومتنا الإسلامية من العلماء من يخالف ما يسمى بالفلسفة الإسلامية ويعتبرها كفراً.
لا علاقة لنا الآن بهذه الأحكام، كلّ ما أريد قوله هو: ما الذي يدعو إلى كلّ هذا التعصّب على نتاجات بشرية؟ الفلسفة هي فلسفة، ولا علاقة لها بالإيمان والكفر؛ فلو كان المقصود الكلام الإسلامي فذلك غير الفلسفة، وللأسف لا يشغل اليوم حيزاً يذكر في الحوزات الدينية. بل الفلسفة أيضاً عملت على حذف مخالفيها، ونعتتهم بـ <الشياطين>، فقد سمّى الملا صدرا الإجابة عن تساؤل ابن كمونة بـ <رجم الشياطين>، وكأنّ الفلسفة شيء غير النقاش والجدل، فالمستشكل يتكلم عن الفلسفة بقدر من يجيب، فما الداعي لاعتبار أحدهما شيطاناً والآخر ملكاً؟ ولهذا يسمّون السؤال شبهة، وهي من السلبيات الأخرى.
2ـ قمع روح الاستفهام، بنعت السؤال <شبهة> ـــــــ
لا يوجد معادل لمفهوم <الشبهة> في القاموس الجامعي؛ فالشبهة سؤال يخطر لطالب أو باحث شاب، يتعارض ـ حسب الظاهر ـ مع الأسس الدينية الرائجة، وحين يطلق اسم شبهة على سؤال ما يفقده خاصيّته كسؤال، فأهم ما يمتاز به السؤال هو الحث على البحث واكتشاف الحقيقة، لكن حينما يسمّى بالشبهة ويصدر عليه حكماً قيمياً يصبح أمراً شيطانياً يجب القضاء عليه. فيما السؤال ليس كذلك، بل هو أمر نشجّع عليه وندعو له؛ فالمجتمع الذي لا يسأل فاقدٌ للحياة، لا علم ينمو بلا سؤال، فلو وضعت مؤسّسة علمية حدوداً للسؤال واعتبرته شبهة عند تخطّيه تلك الحدود، ونعتت السائل بالمغرض، سيؤول مصيرها إلى الخسران والإفلاس. وينبغي أن يكون الأمر على عكس ذلك تماماً، أي من يطرح الأسئلة يجب أن يقدّم على غيره ويكون محلّ ترحيب وتشجيع في المؤسّسات العلمية؛ فهو الذي يخدم تطوّر تلك المؤسّسة وتمحيص علومها، لا من يكرّر ما يسمع ويحفظه. وإذا كان طرح السؤال مخيفاً فذلك خسران للسائل وللآخرين أيضاً.
إحدى الآفات ـ وبالطبع هناك آفات أخرى ـ التي تعصف بالمؤسّسات التعليمية، وأريد هنا التأكيد عليها، هي تسمية السؤال شبهة، لأنها ستُفقد المؤسّسة التعليمية خواصّها؛ فمعيار نجاح المؤسّسة التعليمية هو ما تخلقه من أسئلة لدى طلبتها، كما ينبغي أن يتلازم البحث والتقليد، لا أن يطغى التقليد على البحث. فالسؤال ـ من قبيل الرؤيا ـ أمرٌ غير إرادي ولا يمكن نعته بالحلال والحرام، بل هو كالضيف يجب الترحيب به لا طرده، فهو ضيف على الذهن وعلى المجتمع العلمي، نعم يتسنى التقارب بين الحوزة والجامعة إذا ما تعاملا مع الأسئلة بذات الطريقة.
3ـ التأليف باللغة العربية ـــــــ
ينبغي تعديل الموقع الرفيع الذي احتلّته اللغة العربية في الحوزة، فما يراه الطالب الجامعي اليوم من كتب الحوزة، إمّا رسائل عملية مدوّنة بلغة فقهية معقّدة لا تعكس مدى العناء الذي بُذل لإعدادها، وإمّا كتب خطابية وغير استدلالية؛ لأنّ أهم الآثار مكتوبة بالعربية. ناهيك عن أنّ عربية حوزة إيران ليست العربية المعاصرة ولا وقع لكتبنا العربية بين العرب، كما أنّ الحوزويين لا يدرسون الكتب الفارسية ويفضّلون النصوص العربية، فمثلاً لم يدرّس كتاب المنهج الواقعي للسيد محمد حسين الطباطبائي في الحوزة، وبداية الحكمة هو النصّ البديل له، على الرغم من أنّ الأول أعمق من الثاني دون شك، لكنّه باللغة الفارسية، والثاني بالعربية، فهل لحق الشيخ المطهري أيّ ضرر من كتابته بالفارسية؟ هل تأليف الجامعيين كتبهم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية يزيد من العمق العلمي لها؟ وهل يسهّل من أمر التبادل الثقافي مع الحوزة؟
لقد شاعت الكتابة بالفارسية اليوم في مجال الفلسفة والكلام أكثر من ذي قبل، مقارنةً بالفقه والأصول، وهما الأهم حوزوياً، فكون قرّاء الكتب الفقهية الاستدلالية فقهاء أو معرفة من يقرأ الفقه بالعربية وأنّ المصادر الفقهية مدونة بالعربية، لا يبرر اليوم لزوم كتابة الفقه والأصول باللغة العربية. وكما أنّ دروسنا باللغة الفارسية ينبغي أن تكون كتبنا فارسيةً أيضاً. تمرّ اليوم اللغة الفارسية باختبار تمكّنها من حمل العلوم الحديثة، وعلينا تفعيلها لحمل العلوم الحوزوية أيضاً ـ سواء الفقه والأصول والفلسفة والتفسير و.. ـ ولو نجح كتاب ما باللغة الفارسية، سيترجم إلى اللغات الأخرى، وعلينا بذل اهتمام أكبر بأبناء جلدتنا.
4 ـ آفات امتزاج العلم بالسلطة ـــــــ
هناك ثلاث آفات نتجت عن امتزاج العلم بالسلطة: 1 ـ تتكلم المؤسّسة الدينية بلغة السلطة لا بلغة المنطق. 2 ـ كلما ضعفت حجّة الحوزة قوّت موقفها بالسلطة. 3 ـ أصبحت المؤسّسة الدينية منظّرة للسلطة ومبرّرة لأفعالها؛ فبدل انتقاد السلطة وترشيدها بنظرياتها الحكومية، تفتي بما يروق السلطة أو تغلق باب النقاش في بعض المسائل النظرية.
فحين نجد أنّ مسألة ولاية الفقيه لا تناقش بشكل حرّ في الحوزة، ولا تطرح الآراء الموافقة والمخالفة لها، فهذا يدلّ على وجود حالة مرضية تجب معالجتها، ولا يمكن الاحتجاج بأنّ السلطة اليوم بأيدي حكّام صالحين ـ وهو كذلك ولا أشكّ في وطنيتهم ـ لكنّهم رغم ذلك بشر، ويحتاج البشر دائماً إلى النقد والنصيحة والإرشاد؛ فالسلطة التي ترى إلى جانبها جهازاً فكرياً وعلمياً يدعم ما يروقها ولا يقوّم أخطاءها الفكرية والعلمية، تكون أكثر عرضةً للخطأ من غيرها.
تحضرني قصتان حول هذا الموضوع؛ إحداهما لطيفة، والأخرى مرّة. أمّا القصة الأولى، فقد تعرّض بعض النواب للنقد بعد انتخابات مجلس الخبراء؛ لانحيازهم إلى تيارات معينة، فجاء الردّ بأنّهم عدول؛ والعادل لا ينحاز. هذا استدلال غريب؛ فالعادل لا يعصي لكنّه قد يخطئ. والعادل يبقى إنساناً عادلاً لا ملاكاً عادلاً، وبما أنّه إنسان فهو معرّض لكثير من الأخطاء. وهذا الرد شكل من أشكال تبرير السلطة دون وجود مبرّر حقيقي.
أمّا القصة الثانية، فقد رأيت في أحد أعداد مجلة <نور العلم> مقالاً مفصّلاً، ينتقد فيه الشيخ أحمد آذري القمي ـ وهو من علماء الحوزة ـ سياسات البنك المركزي ويعتبرها مخالفة للإسلام ويدعو رئيس البنك لاتّباع النهج الإسلامي الصحيح، معتبراً كادره عاجزاً عن حلّ المشاكل الاقتصادية للبلد الإسلامي. ولا علاقة لنا الآن بمحتوى هذا النزاع، لكن صدور نقد كهذا من أحد علماء حوزة قم أمر إيجابي ومهم، ويا ليته تكرّر؛ ليكشف عدم تبعية المؤسّسة الدينية وخضوعها للسلطة، بل يجعل المؤسّسة الدينية ناقدة للسلطة ومقوّمة لها، ولا تبيع علمها لمصالح عابرة([2]).
5 ـ آفة تربية الخطباء ـــــــ
لهذه الآفة بعدان: علمي وأخلاقي؛ أمّا الأخلاقي فهو الاهتمام بالمظهر وشيوع العناوين والألقاب؛ إذ يعود كلّ ما نرى من طعن في الواعظ غير المتعظ والعالم غير العامل، إلى مكانة الخطباء لدى الناس، إذ يشكّل أقلّ اختلاف بين كلام هؤلاء وعملهم صدمةً للناس جعل رجال الدين أنفسهم كالشمس في رابعة النهار؛ فإذا قاموا في الخفاء بسلوك يتعارض وما يتظاهرون به على المنبر، عليهم أن لا يتوقّعوا ثقة الناس بهم.
أمّا البُعد العلمي، فهو اتّباع هوى عامة الناس، وهي المعضلة التي يعتبرها الشيخ المطهري أخطر من السيل ومن لدغة العقرب؛ إذ تجعل هذه الآفة المؤسّسة الدينية ورجال الدين أتباعاً للناس بدل أن يكونوا روّادهم، ولا تسمح لهم بطرق كلّ باب، كما تصوّر كلّ فكرة جديدة على أنّها بدعة وشبهة، وتحرم الجميع ـ سواء رجال الدين أم عامة الناس ـ من التطوّر والتكامل، نعم فخرٌ للإنسان أن يكون إلى جانب عامة الناس، لكن ما الفخر في تبعيّتهم؟
أعلم أنّ هذا الكلام سيكون مدعاةً لغضب الكثيرين، لكنني أقول <الحق المرّ> محبةً بهم، ولا أريد إلا الإصلاح، ولا أطلب سوى رضا الله؛ فلم لا تتخذ المؤسّسة الدينية موقفاً تجاه كلّ هذه التفاهات والتهاترات والخرافات التي تتردّد على المنابر وترد في الكتب، ولا ثمرة لها سوى ترويج التديّن الخرافي؟ في حين نجد كلّ هذا الانفعال تجاه القلّة التي تريد تنقيح الدين من الخرافات! ما الذي فعلته المؤسّسة الدينية لتنقيح الكتب الروائية؟ لو جمعنا بعض الروايات ونشرناها في كتاب سيكون أكثر الكتب عداءً للدين والثوريّة؛ فلم لا ينقد علماء المؤسّسة الدينية هذه الروايات؟ لا أقصد التصرّف بها دون إذن من مؤلّفها، فمهما كانت قيمتها التاريخية وكشفت للناس العقل الديني في فترة من الفترات، يجب أن تبقى على ما هي عليه، فقد اعتقد الناس بها وأحياناً عملوا بها، لكن إذا لم تكن المؤسّسة الدينية مؤمنة بها اليوم فلم لا تنقدها وتنقّحها؟ وأيّ عمل أهم من ذلك، يشغلها عنه؟ لقد أدّى القدماء ما عليهم، فلم لا يؤدّي أهل هذا العصر ما عليهم؟ هل الاهتمام بالخطابة والتعامل مع عامة الناس سلبهم قدرة القيام بذلك؟
راجعوا ـ مثلاً ـ كتاب <مفاتيح الجنان>، هل من عالم واحد اليوم في المؤسّسة الدينية يعتقد بأنّ سبب ألم الأسنان وجود حشرة فيها، ويجب الدعاء لخروج تلك الحشرة لتسكين الألم؟! في حين أنّ في هذا الكتاب دعاء بهذه الألفاظ([3]). وهناك الكثير من نظيراتها في كتبنا الروائية، ويتوقع الجامعيون موقفاً علمياً من ذلك من الحوزويين. هل يقبل الحوزويون هذا الكلام أم يرفضونه؟ وإذا رفضوه، ما السبب في رفضهم؟ لم لا يحدّدون موقفهم بصراحة من العلم الحديث والأخلاق الحديثة والعالم الحديث؟ لم يعيدون طبع أمثال هذه الروايات ويقرؤونها أحياناً على المنابر، وحين تعرّضهم للانتقاد يقولون بأن لا سند لها وأنّها مجعولة؟ هل يكفي تنقيح الروايات الفقهية؟ ألسنا بحاجة إلى تنقيح الروايات الأخلاقية والعقائدية و..؟ فلم لا يسبق الحوزويون غيرهم فيتولّون أمر تنقيحها؟ لم يتركون نقدها لغيرهم حتى يصبح الدفاع عنها صعباً والقبول بذلك النقد أصعب؟
كنت أتحدّث يوماً إلى جمع من طلبة المؤسّسة الدينية في قم، أوائل الثورة. وقلت: جميعنا يقرّ بأنّ الكتب الموجودة في المؤسّسة الدينية ليست منقّحة، وفيها كثير من الإشكالات؛ فإذا لم تقوموا بتنقيحها تولّى الأمر غيركم، وستقفون على مفترق طريق: إن قبلتم بنقدهم وتنقيحهم سيقولون: لم لا تنقحوها بأنفسكم؟ وإن لم تقبلوا، فلن يتسنّى لكم الدفاع عنها. لقد ضربت لهم مثلاً، كتاب الأسفار الأربعة للملا صدرا ـ وهو بالمعنى الأخص للكلمة لا يعدّ كتاباً دينياً ـ وقلت: الملا صدرا تكلّم كلاماً غير لائق عن النساء، وأيّده الملا هادي السبزواري في تعليقه على كلامه؛ فقال بأنّ النساء من الحيوانات؛ لأنّ ذاتهنّ من جنس الحيوانات وصورتهنّ بشرية فحسب، لكي لا يشمئز منهنّ الرجال، ويرغبون في نكاحهن([4]).
أحترم هذا الحكيم، لكن لا أحترم رأيه هذا؛ فهذا الكتاب يدرّس في حوزاتنا، وقد قلت للطلبة: في حال لم تنقدوه سينقده آخرون، فلا علاقة لهذا الكلام بالدين والإسلام وليس بآية أو رواية، بل هو غير إنساني وتافه. هل ندع الإهمال يصل إلى درجة تصبح هذه الخرافات فيها مقدّسة أيضاً، ولا يسع أحد الكلام خلافها؟ الكتب الحوزوية كالعلوم الحوزوية، ليس فيها مقدس وينبغي تهذيبها. لقد شرعوا اليوم في تصحيح الكتب القديمة لكن دون تهذيبها أو تنقيحها أو نقدها، والتصحيح لوحده يقدّم لنا مادة غير نقية، فحفاظاً للدين من تحوّله إلى أثر تاريخي ومتحفي ينبغي تهذيب هذه الكتب ونقدها وفصل الغث منها عن السمين، وحذف ما لا ينفع منها بالنقد.
في حين، لا وجود لأيّ كتاب جامعي مقدس، بل هناك كتب تاريخية لا تتمتع اليوم بقيمة علمية، ويعاد طبعها لقيمتها التاريخية فحسب، لكن لا وجود لكتاب محشوّ بالأخطاء يعاد طبعه ويدعى لمطالعته ويدرّس مع كلّ ما فيه من أخطاء.
أهم أوجه الوحدة بين المؤسّسة الدينية والجامعة، هو وحدة المنهج النقدي التي تستتبع الاتحاد في المجالات الأخرى أيضاً؛ فلو تعاملت هاتان المؤسّستان مع الأسئلة والعلوم بطريقة واحدة، لتمكّنتا من إكمال بعضهما البعض. ولا تتحقق الوحدة بين الحوزة والجامعة بدخول عدد من طلبة الجامعة إلى المؤسّسة الدينية ـ وإن كان جيداً ـ أو العكس ـ وهو جيد أيضاً ـ أو أن تدرّس العلوم الحوزوية في الجامعة أو العكس، فلا تتعدّى كلّ هذه الأمور صورة المسألة، ولا تتحقق الوحدة الحقيقية إلا من خلال وحدة المنهج.
أذكر مثالاً آخر: يوم أمس كان يوم المرأة، وكثيراً ما يدور فيه الحديث في الإعلام وعلى المنابر عن مكانة المرأة وحقوقها واهتمام الإسلام بها، وكلّنا يعلم بأنّ كثيراً من هذا الحديث خطابي لا يستند إلى أساس؛ فعلى المؤسّسة الدينية تحديد موقفها بوضوح حيال الروايات المختلفة التي وردت حول المرأة وتناقلها المحدّثون، وعليها إيضاح موقفها من الروايات التي لا يجرؤ أحد على قراءة واحدة منها على المنبر.
لا يجوز أن تبحث المؤسسة العلمية عن طرق لتخدير الألم وتسكينه، بل ينبغي أن تبحث عن علاج له. لعلّ هذه الطرق تنفع في السياسة لكنّها غير نافعة في العلم، فحين تمتزج المؤسسة العلمية بالخطابة تسلك طريق الاحتياط خشية قول شيء يتسبّب في خروج الناس من الدين. يجب أن أقولها صراحة: الحوزة ليست مسؤولة عن إيمان الناس، بل مسؤولة عن تعليم الدين، ومن آفات الفكر الخطابي والمنبري أنّه يجنح إلى الاستعراض؛ فلو سافرتم إلى أيّ بلد ودرستم أيّ دين، لوجدتم الوضعية نفسها قائمة؛ فقد ذهبت العام الماضي إلى إحدى كنائس نيويورك واستمعت إلى مواعظ القسّ؛ فوجدته يتحدّث عن أمور لو حذفنا منها بضع عبارات، كـ <يسوع ربنا>، لأمكننا إلقاءها في إيران أيضاً. كان كلامه بعيداً كلّ البعد عن تعاليم المسيحية الأصيلة وعن الأصولية المسيحية، وكان طرحه بصيغة تروق لعامة الناس اليوم، لكن لا يؤيد الخواص طريقة الطرح هذه، فجمال الدين ذاتي ولا يحتاج إلى رتوش.
أتت هيئة كوبية في الأيام الأولى من انتصار الثورة، والتقت السيد محمود الطالقاني، ثمّ جاء في الإعلام ـ نقلاً عن الناطق باسم المنافقين ـ أنّه عرض عليهم الإسلام، فقال الكوبيون: إذا كان هذا هو الإسلام فجميعنا مسلمون. قد يتصوّر الإنسان في الوهلة الأولى بأنّه عمل رائع ويحتاج إلى مهارة عالية، ليتمكّن الإنسان من عرض الإسلام بهذه الصورة، لكنني أجده خطابياً وتنميقاً لا يليق ذلك بالعالم وإن كانت نيته صادقة، علماً بأنّي لم أصدّق هذه القصة، وذكرتها للمثال فقط، وعلى حد تعبير الشاعر: إن لم يصدر هذا الكلام من جالينوس فردّي ليس عليه.
النقطة الأخيرة التي أودّ التنويه إليها أنّ التقوى والصلاح المتوقع من رجال الدين ـ بما هم رجال دين ـ ليس مرجوّاً من غيرهم، لا أن يدعوا الناس إلى العزوف عن الدنيا وينهمكون هم فيها. لا يتصوّر أحد أنّي أريد القدح بالحوزة، أو إثبات كمال للجامعة. أبداً، كل ما في الأمر، أنّي أريد الإصلاح والتقريب بين هاتين المؤسستين.
خاتمة المطاف ـــــــ
انطلقت في حديثي من أنّ الحوزة استولت على السلطة، وسلكت طريق التبشير والخطابة وقالت بقداسة علومها، بينما ابتعدت الجامعة عن جميع ذلك، فسواء كانت هذه الأمور إيجابية أم سلبية، لابدّ لتقاربهما من الانتباه جيداً إليها.
الخطوات العملية التي ينبغي للحوزة القيام بها، هي: ترك المجاملة والمداراة والمحاباة في المعرفة الدينية، وعدم اعتبار أيّ سؤال شبهة، وأن لا تعمل أو تتكلّم لصالح السلطة، ولا تسمّي المعرفة البشرية غير بشرية، وأن لا تحلّ الخطابة محلّ البرهان والاستدلال، ولا تتعامل مع الأمور الدينية بشكل انتقائي، وأن تطرح الدين بأسلوب علمي، لا أن تتبع ما يرغب به العوام، ولا تهتم بتنميق الدين، ولا تتكلّم بلسان السلطة، وأن تدعو إلى الصلاح والتقوى بعملها لا بلسانها. وإذا تحققت هذه الوحدة المنهجية بين الحوزة والجامعة فستنتهي بهما إلى الوحدة المباركة، ونحن بانتظار ذلك.
الهوامش
(*) مفكّر إيراني معروف، وأشهر منظري الإصلاح الديني في إيران، طرح سلسلة من النظريات المعرفية منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، منها نظرية القبض والبسط، وبسط التجربة النبوية، والتعدّدية الدينية و … أثارت نظرياته جدلاً واسعاً.
([1]) <شهيد جاويد> للراحل الشيخ صالحي نجف آبادي، الذي تناول فيه حركة الإمام الحسين×.
([2]) بالمناسبة، كلام رئيس البنك المركزي ـ حيث قال: <إنّ القوانين الاقتصادية لا علاقة لها بالأيديولوجيا> ـ كلام محكم وصحيح، وإن لم يقل ذلك في مقام الردّ على ذلك النقد، لكنّه احتوى الجواب كلّه، ويكشف جلياً جذور الفوارق بين العلم والأيديولوجيا، أي إنّ الأيديولوجيات لا تحدّد قوانين العالم الخارجي، والعالم لا يدار كما ترغب الأيديولوجيات، بل يتبع جريان الأمور في العالم الخارجي القوى الخارجية والواقعية.
([3]) روي أيضاً، أنّه يضع عوداً أو حديدة على السن ويرقيه من جانبه سبع مرات، ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم. العجب كلّ العجب دودة تكون في الفم، تأكل العظم وتنزل الدم. أنا الراقي والله الشافي والكافي، لا إله إلا الله والحمد لله ربّ العالمين، وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها… ـ إلى ـ لعلّكم تعقلون. انظر: الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان: 774، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1992م.
([4]) <ومنها تولد الحيوانات المختلفة… بعضها للأكل… وبعضها للركوب والزينة… وبعضها للحمل… وبعضها للتجمّل والراحة… وبعضها للنكاح… وبعضها للملابس والبيت والأثاث…>، الأسفار الأربعة 7: 136، فصل: 13، نشر مكتبة مصطفوي؛ وقد علّق الملا هادي السبزواري في نفس الصفحة بقوله: <في إدراجها في سلك الحيوانات إيماء لطيف إلى أنّ النساء لضعف عقولهنّ وجمودهن على إدراك الجزئيات، ورغبتهن إلى زخارف الدنيا، كدن أن يلتحقن بالحيوانات الصامتة حقاً وصدقاً، أغلبهن سيرتهنّ الدواب، ولكن كساهن الله صورة الإنسان، لئلا يشمئز عن صحبتهن، ويرغب في نكاحهن، ومن هنا غلب في شرعنا المطهر جانب الرجال، وسلّطهم عليهنّ في كثير من الأحكام، كالطلاق والنشوز وإدخال الضرر على الضرر..>.