دراسة نقدية تحليلية لنظرية الإلزام
السيد محمد علي أيازي(*)
تمهيد
لا ريب أنّ المذاهب الإسلامية برمّتها متفقة على أنّ الحجاب من الفرائض الإسلامية التي ألزم بها الإسلام المرأة. ومن هنا كان لزاماً على الحكومة الإسلامية، وامتثالاً لهذه الفريضة، القيام بتوعية المجتمع وتثقيفه؛ ليستقبل الناس هذه الفريضة عن عقيدة وإيمان، ويتحوّل الالتزام بها بالنسبة لهم التزاماً بقيمة اجتماعية، وتركها إهمالاً لتلك القيمة.
والسؤال المطروح هنا هو: هل يجب على الحكومة الإسلامية إلزام النساء بالحجاب؟ وهل تعد مكلّفة ـ من ناحية شرعية، وطبقاً للأدلّة الفقهية ـ بالتصدّي لظاهرة السفور، ومكافحتها، والتعزير عليها؟
هناك ثلاث نظريات مطروحة في هذا الاطار، أشهرها تنطلق من السيرة العقلائية، التي تقضي بالتصدي لكل ما من شأنه الإخلال بالنظام واستيفاء المصالح. وهذه السيرة مشفوعة بالأدلة الفردية والاجتماعية التي تُجمِع على ضرورة تكريس مبدأ الحجاب.
أمّا المصادر الدينية بشكل عام فهي تشير إلى ضرورة النهي عن المنكر، الذي يعد السفور أحد مظاهره.
يضاف إلى ذلك بعض المواقف التي سجّلتها سيرة أمير المؤمنين علي×، والتي عكست لنا قيامه× بتعزير بعض الأشخاص؛ لتركهم الواجبات وإتيانهم المحرّمات.
وعليه يمكن توسعة دائرة هذه الموارد، وسحبها على غيرها من الأحكام الشرعية، كما يمكن اللجوء إلى إطلاق أدلّة التعزيرات، فهناك أصل يتمسك به أغلب الفقهاء، وهو «كل من خالف الشرع فعليه التعزير».
إذاً يتضح أنّ إلزام المرأة بالحجاب يدخل في إطار الواجبات، بينما سن قانون لتعزير المتخلّفين يدخل في إطار المباحات.
وفي مقابل ذلك تقف نظرية أخرى رافضة لسائر الأدلّة السابقة، وتفندها على النحو التالي: أمّا السيرة فأخصّ من المدّعى؛ وأمّا الأحكام الفردية فغير شاملة لجميع الواجبات؛ وأمّا أدلة النهي عن المنكر فلا تشمل أحكاماً كالحجاب.
وأمّا التعزيرات التي حصلت في سيرة أمير المؤمنين علي× فهي ناظرة إلى الأحكام والقوانين الاجتماعية الخاصة بذلك المجتمع، ولا يمكن اقتناصها وتحويلها إلى قاعدة عامّة لتطبيقها في هذا المضمار.
وأمّا التعليل الوارد في أدلّة التعزير فهو غير مطلق أيضاً.
وأمّا صلاحية الولي الفقيه فهي محدودة، وغير شاملة لكافة الأحكام المجتمعية.
وأمّا قاعدة «كل من خالف الشرع فعليه التعزير» فهي قاصرة عن شمول حكم الحجاب.
ومن هنا فالدراسة الحالية تقوم بنقد الأدلة التي تبنتها النظرية الأولى، وتصل في النهاية إلى عدم نهوض الدليل لإثبات حكم الإلزام بالحجاب.
الإلزام بالحجاب والمشهد التاريخي
لا شك أنّ المذاهب الإسلامية برمّتها متفقة على وجوب الحجاب، ولا يوجد من العلماء والفقهاء مِن ذوي الخبرة مَن ينكر وجوب ستر المرأة عن الناظر الأجنبي. وقد كان تنصيص القرآن الكريم على هذا الحكم سبباً لدخوله ضمن الأحكام الثابتة الأبدية، التي لا تخضع لعوامل الزمان والمكان.
ومن جهة أخرى كان لزاماً على كل نظام إسلامي أن يقوم بالترويج لهذا الواجب الديني، وتثقيف المجتمع عليه، وخلق الأجواء المناسبة لتقبّله، ولكي يبقى المجتمع مُصاناً إزاء الهجمات الفكرية والتحديات التي تستهدف إرادة الأمّة، وخاضعاً لمنهج متكامل يحفظ له مبادئه وأخلاقه ومعنوياته، سواء على الصعيد الأسري أو الاجتماعي برمّته.
وبشكل عام، وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع، تواجهنا بعض التساؤلات، ومن بينها: هل هناك ما يدلّ على ضرورة الإلزام ـ سواء على نطاق ضيّق أو واسع ـ بهذا الواجب الشرعي أم لا؟ وهل نمتلك سنداً تأريخياً أو فقهياً يلزمنا بمحاسبة المتخلّفين عن هذه الفريضة؟ وهل شهدت سيرة النبي والأئمة، التي لم تخل من وجود أقليّات دينية ومن الإماء، إلزاماً حكومياً بمبدأ الحجاب؟ ثمّ ما هو الدليل الذي تمسّك به من ذهب إلى وجوب الإلزام في الحجاب؟ هل هو السيرة العقلائية، أم روايات التعزير، أم إطلاقات أدلّة الأحكام الفردية والاجتماعية، أم أدلّة النهي عن المنكر؟ وهل تمسّك القائل بوجوب الإلزام بواحدة من هذه الأدلّة أم بها جميعاً؟ فإنْ كان الجميع فهل تدلّ جميعها على هذا المبنى؟
وقبل كل شيء لابدّ من التنويه إلى أنّ المصادر والكتب التي اشتمل عليها تراثنا الفقهي لم تفرد بحثاً خاصّاً يتناول مسألة (الإلزام بالحجاب)([1])، بل إنّها لم تتناول ضرورة الحجاب، ووجوب «غضّ البصر»، ضمن أحكام الستر والنظر التي عادةً ما تُبحث في باب النكاح.
وقد استمرّ تجاهل الموضوع من قبل الفقهاء إلى قبل ما يقارب الثمانية عقود، وذلك إثر بدء تردّد الإيرانيين على العالم الغربي، وتأثّر البعض منهم بالثقافة الغربية، وخصوصاً بعد قرار خلع الحجاب الذي أصدره رضا خان عام (1314هـ ش)، وهو ما دفع العلماء والفقهاء لتدوين الرسائل والمقالات التي تؤكّد ضرورة ارتداء الحجاب، والمفاسد المترتبة على تركه، والرد على القائلين بعدم وجوبه([2]). لكن مع كل ذلك لم تشِرْ أيٌّ من تلك الرسائل والمقالات، ولو بإيجاز، إلى موضوع (الإلزام بالحجاب).
وبحسب المعطيات التأريخية لم تشهد السيرة النبوية، ولا حتى سيرة الأئمة الهداة، بما في ذلك من زامنهم من الخلفاء والحكّام المسلمين، قراراً حكومياً يُلزم المرأة بارتداء الحجاب، أو يعاقب على تركه، سوى ما ورد في بعض الأخبار التي تخيّر الأمَة بين تغطية رأسها في الصلاة وعدمه، وتحكي عن حالات من الضرب كانت الإماء تتعرض لها في ظل بعض الحكومات الإسلامية إذا ما غطَّين رؤوسهن؛ وذلك لتشبُّههنّ بالحرائر([3]). كما لم تكن بعض نساء أهل الذمّة وأهل الأعراب والبادية وبعض مناطق العراق على عهد أئمّة أهل البيت^ تلتزم بارتداء الحجاب.
أمّا حكم النظر إلى هذا النمط من النساء، وخصوصاً أنّنا نعلم أنّ القرآن الكريم قد حرّم النظر ـ في الآية 34 من سورة النور ـ قبل إيجابه الحجاب، وكأنّما يريد بذلك أنْ ينوّه إلى أنّ المجتمع لا يصل إلى درجة من الوقاية الأخلاقية إلاّ بعد تجاوزه مسألة (غضّ البصر)، التي تعد مسألة أخلاقية وتربوية. وقد ورد في الأخبار جواز النظر إلى بعض أنماط النساء ممّن لا يلتزمن بالحجاب؛ (لأنهنّ إذا نهين لا ينتهين)([4])، كالأعراب، وأهل البوادي، وأهل الذمّة. فبعض النساء تنتمي إلى شريعة لا تُلزم المرأة بارتداء الحجاب، والبعض الآخر اعتدن العيش ضمن أُطر ثقافية واجتماعية لا تلزم بذلك أيضاً([5])، وقسم ثالث يعيش ضمن بيئة معيّنة، كالقرى والأرياف والبادية، لم يَجْرِ العرف فيها على الالتزام بالحجاب بهيئته المعهودة، وبالتالي كان الرجل في مثل هذا الظرف يجد صعوبة بالغة في كبح ناظرَيْه و (غضّ البصر).
إذاً ما هو تكليف الناظر إزاء هذا الواقع؟
لقد أجاز الفقهاء (النظر) في مثل هذه الحالات، بشرط أنْ لا يكون مقروناً بالشهوة واللذة. وهذا الأمر يشير إلى أنّ الحجاب لم يكن في تلك الأيام إلزامياً. ومع وجود هذا الحجم من الأخبار والروايات لم يتطرّق الفقهاء إلى أمر الإلزام بالحجاب.
النظريات الفقهية في الحجاب
ومهما يكن فهناك ثلاث نظريات مطروحة في هذا الإطار:
الأولى: ترى الحجاب؛ باعتباره واجباً شرعياً، لازماً، شأنه في ذلك شأن سائر التكاليف الواجبة الأخرى، فردية كانت أم اجتماعية. ولذلك عُد التخلّف عنه حراماً شرعياً، يجب اجتنابه ومكافحته، عبر سنّ القوانين التي تلزم المرأة به. وقد ورد في المادة 638 من القانون الجزائي للجمهورية الإسلامية الإيرانية والملحق الخاصّ به ما يلي: تعد المرأة المتخلية عن الحجاب، والمتجاهرة بذلك في الطرق والمعابر العامّة، بحيث تكون عرضة للمشاهد العام، متجاوزةً على القانون والشريعة، ولابدّ من محاسبتها.
وقد أُسند الحكم الشرعي الذي تضمنته المادة أعلاه بجملة من الأدلّة.
الثانية: ترى بأنّ الحجاب ليس واجباً إلزامياً، ولو كان كذلك فهو لا يخرج عن دائرة التكليف الفردي، وبالتالي لا يجوز الإلزام به. وترى هذه النظرية أنّه كما لا يجوز إلزام المرأة وإكراهها على خلع الحجاب كذلك لا يجوز إلزامها بارتداء الحجاب. ولهم كلام طويل في هذا المضمار لا يستوعبه هذا البحث.
الثالثة: تعتقد بأنّ أصل الحجاب واجبٌ شرعيٌّ، يتطلّب جهداً ثقافياً وإعلامياً مكثفاً لإيقاف الناس على أبعاده وحيثيّاته. أمّا التخلّف عن ارتداء الحجاب فلا يستتبع عقوبة جزائية، ولا يمكن عدّه جرماً يحاسب الشخص على تركه، كما لا يمكن تشريع قانون يلزم به.
وتبقى صورة واحدة يمكن أنْ يكون الحجاب فيها لازماً، وهي ما إذا كان تركه مخلاًّ بالقوانين والأعراف الاجتماعية، أو أدّى إلى الهتك أو الاستهتار (بالعفاف العام)، أو أثبتت الدراسات العلمية أنّه ـ أي الإخلال بالحجاب ـ يستتبع عواقب وخيمة، كالتفكك الأسري، والفساد الأخلاقي، وتردّي الواقع الاجتماعي.
ولا يخفى أنّ التعاطي مع هذا الموضوع من هذه الزاوية يعد خارجاً عن دائرة (الحجاب الشرعي)، وداخلاً ضمن دائرة البحوث القانونية والاجتماعية، وبالتالي فهو خارج عن نطاق بحثنا.
وقد ذكروا للنظرية الأولى سبعة أدلّة([6])، قد لا يختلف بعضها من حيث المضمون، لكنّها ذُكرت بصورة منفردة ومجزَّأة، وهذا ما دفعنا لتناول كل دليل منها على حدة.
ولأنّنا لا نتفق سوى مع النظرية الثالثة، ونرى أنّ الأدلّة التي سيقت لتدعيم النظرية الأولى قاصرة عن إثباتها، سنحاول في ما يلي سرد هذه الأدلّة، وتعريضها للنقد والتمحيص، لنصل في النهاية إلى أنّ الحجاب بصورته وهيئته الشرعية يعبّر عن تكليف فردي، ولا دليل على الإلزام به.
أدلّة نظرية الإلزام الحكومي بالحجاب
خلاصة الدعوى التي يتمسك بها أصحاب النظرية الأولى هي أنّ ترك الحجاب، الذي يعد واجباً شرعياً، ارتكاب للفعل المحرّم، والظهور في الأماكن العامّة من دون حجاب تجاهر بالحرام، ولذلك استوجب تارك الحجاب، إضافة للعذاب الأخروي، جزاءً دنيوياً.
ولإثبات هذه النظرية، التي بموجبها يتسنّى للنظام الحاكم إلزام النسوة بالحجاب، لجأ القائلون بها إلى سبعة أدلّة؛ لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب([7]). وسنحاول في البدء استعراض كل واحد من هذه الأدلّة، ومن ثمّ نتحوّل إلى نقدها وتمحيصها.
1ـ السيرة العقلائية، ضبط النظام وتوفير المصلحة
قالوا: إنّ من جملة ما يدلّ على (الإلزام بالحجاب) سيرة العقلاء، فالعقلاء يجدون في الحجاب أداة مهمّة تقي من الإخلال بالنظام أولاً، واستيفاء المصالح ثانياً.
ولإلقاء الضوء على هذا الدليل يمكننا القول: إنّ التخلّي عن الحجاب يمثل سلوكاً اجتماعياً ناشزاً؛ إذ يساهم في تحفيز الغريزة الجنسية لدى البالغين، ممّا يؤدّي إلى التفكك الأسري، وتفشي الفساد الأخلاقي.
وعندما يجد العقلاء سلوكاً أو فعلاً ما مخلاً بالنظام الاجتماعي يحاولون التصدّي له، فيضمنون الحقّ الاجتماعي، ويستوفون المصالح.
ولابدّ لكل مجتمع أراد الحفاظ على النظام، وتحقيق أهدافه وغاياته، وضع عقوبات وقوانين جزائية يلاحق بها المتجاوزين. فالتجاوزات التي حدّدت الشريعة عقوبتها لا تتطلّب قانوناً جزائياً وضعياً جديداً، لكن التجاوزات التي لم تبتّ بها الشريعة تحال أحكامها إلى السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع.
وقفة نقدية مع دليل السيرة
ويمكن مناقشة الدليل السابق من عدة جهات:
أولاً: نتساءل: أيُّ حدٍّ من (السفور) يعد نشوزاً اجتماعياً؟ وهل هناك فرق في السفور بين ظهور جزء يسير من شعر المرأة وبين الكشف عن رأسها أو صدرها أو ساقيها بأكملها، أم أن الجميع يعد سفوراً على حدّ سواء؟
لا شكّ أنّ الجميع ينضوي تحت حدّ السفور، ولا فرق في ذلك بين إظهار قليل الشعر أو كثيره وإظهار جزء من الصدر وجزء من القدمين.
ولا يخفى أنّ أخذ بعض القيود في صدق مفهوم السفور، كتحفيز الشهوة الجنسية، والفساد الأخلاقي، والتفكك الأسري، غير وارد؛ إذ الرجوع للدليل الشرعي يكشف أنّ السفور محرّم حتى لو لم يؤدِّ إلى تحفيز الشهوة، أو الفساد، أو التفكك الأسري، والسيرة العقلائية غير ناظرة إلى هذا المقدار القليل؛ وذلك أنّ الحد الأدنى للسفور ـ كإظهار جزء من الشعر ـ لا يتسبّب في التفكك الأسري في البلدان الأخرى، بل وحتى في البلدان الإسلامية. لذلك كان دليلهم ـ من السيرة العقلائية ـ أخصّ من المدَّعى؛ إذ يشمل بعض حالات السفور دون بعضها الآخر، في حين لا يقيّد الدليل الشرعي السفور بنمط خاص منه كالذي يؤدي إلى تحفيز الشهوة أو الفساد.
ثانياً: لا يلجأ العقلاء غالباً إلى الإلزام والإكراه إلاّ بعد نفاد كافة السبل الأخرى. فعلى سبيل المثال: يتطلّب وضع الخطط والاستراتيجيات من الدول إعداد الموازنات المالية، واستيفاء الضرائب من الشعب، ومع ذلك لا نجد الدول تلجأ إلى طرق الاستيفاء المباشرة، بل تنتهج سبلاً أخرى غير مباشرة تمكّنها من الوصول إلى غايتها. وعندما تستيقن الدول إخفاق جميع السبل تلجأ إلى الجبر والإكراه، مراعيةً بذلك التسلسل التصاعدي، أي تبدأ بدرجة دنيا من الإلزام، ثم تصعّد بحسب اقتضاء الحالة.
ومن هنا إنْ تسبَّبت المخالفة ـ كالسفور مثلاً ـ في التجاوز على القانون، أو الإخلال بالنظام، ولم يكن هناك من سبيل للتصدّي لها سوى العقوبة، كان ذلك جائزاً بحسب العقلاء. لكن إنْ لم تكن المخالفة مخلّة بالنظام فالعقلاء لا يجيزون التصدّي لها بالعقوبة. فعلى سبيل المثال: الكذب جرم صريح، لكنّه غير مخلٍّ بالنظام في العادة، ولا يوجد قانون عقوبات يلاحق الكذّابين، لكنْ لو فرضنا أنّ كذبة ما قد تسبَّبت بالهلع العام، أو نجم عنها خسائر وأضرار فادحة لحقت بالمجتمع، فالسيرة العقلائية تقر بضرورة معاقبة الكذّاب في مثل هذه الحالة.
ثالثاً: عندما تتخذ بعض الأنماط السلوكية طابعاً عقلائياً، ويكون العقل مصدراً للإلزام بها، لابدّ أنْ يكون الأمر كذلك بالنسبة للعقلاء. فالعقلاء من حيث إنّهم عقلاء لا يعدّون سلوكاً كالسفور مخلاًّ بالنظام، وهذا ما تشهد به العديد من الأمم والشعوب والمجتمعات. فخذ مثالاً على ذلك النساء في المناطق والمجتمعات القروية والعشائرية في إيران، حيث لا تجد المرأة ضيراً في إظهار أجزاء من شعرها، أو الكشف عن ذراعيها أو جزء من ساقيها، وهذا الأمر لا يتسبّب على الإطلاق بالتفكُّك الأسري، أو الفساد الأخلاقي، أو الإخلال بالنظام السائد في هذا النمط من المجتمعات القبلية. كما أنّ العقلاء لا يلجأون إلى الإكراه والإلزام، ولا يجدون ذلك حلاًّ مثالياً للقضاء على هذه الظاهرة.
رابعاً: لم تشهد سيرة المتشرعة، منذ عهد الرسول الكريم وحتى يومنا هذا، مواجهة كل معصية بعقوبة جزائية لمرتكبها، أو مكافحة كافّة المنكرات بالتعزير.
وليس هناك دليلٌ واحدٌ يشير إلى أن الرسول الكريم أو الأئمة قد عزّروا امرأةً بسبب تخلّيها عن الحجاب، كي يصح القول: إنّ ردعهم هذا يشكّل حجّة أو دليلاً أو سنّة أو إمضاء للسيرة، بل مثل هذه السيرة لم تكن موجودة في أي وقت من الأوقات.
خامساً: لابدّ للمستدل بالسيرة العقلائية إثبات أنّ سيرة العقلاء قد جرت على محاسبة المتخلِّيات عن الحجاب، والحال أنّ العقلاء لا يجدون في هذا السلوك ما يشكّل خطراً على النظام، أو زعزعة للبيئة الاجتماعية. كما أنّ التاريخ لا يتحدّث عن ممارسة الأنظمة الإسلامية إكراهاً أو عنفاً لمكافحة السفور، ولا إقرار قوانين جزائية تُلاحَق بها السافرات.
2ـ إطلاقات أدلة الأحكام الفردية والاجتماعية
من الأدلّة الأخرى التي تساق لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب إطلاقات أدلّة الأحكام الفردية والاجتماعية، التي تنطوي على أهداف ومقاصد واضحة وجليّة بالنسبة للمجتمع الديني، وهو ما يحتّم علينا تطبيق كافة بنود الشريعة وقراراتها الفردية والاجتماعية. ولا يخفى أنّ تطبيق البنود والقرارات الشرعية، وبلوغ أهدافها وغاياتها، لا يتسنّى إلاّ عبر سن منظومة من القوانين الجزائية. أمّا منظومة القوانين الجزائية التي تشتمل عليها الحدود والتعزيرات فلا يمكنها تغطية الحجم الهائل من المخالفات والتجاوزات. وكما يظهر من الأخبار فإنّ للحاكم صلاحية تحديد نمط العقوبة وشكلها بما يتلاءم وحجم المخالفة أو التجاوز.
وبعبارة أخرى: عندما نجد الشارع قد وضع حدوداً لجملة من التجاوزات على ساحة الشريعة، وأغفل البعض الآخر؛ لأنّه كان في مقام البيان، نفهم أنّه يمكننا من خلال الإطلاق المقامي إنشاء منظومة من الحدود والتعزيرات لتغطية ما أغفله الشارع. وسيرة العقلاء تبيح لنا في الموارد الأخرى إنشاء مثل تلك المنظومة.
مناقشة وردّ
1ـ لا شك أنّ الله سبحانه قد أراد من خلال إرسال الأنبياء وإقرار الشرائع تحقيق جملة من الأهداف والمقاصد، وهذا ما يعكس فلسفة الثواب والعقاب، الذي أُريد به حمل الإنسان على الطاعة، رجاءً للثواب أو خوفاً من العقاب.
وأمّا الإرادة وحق الاختيار التي ميّز الله بها البشر عن سواه من الكائنات فمردّها إلى الامتحان والبلاء الذي لابدّ أن يخضع له الانسان، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك: 2).
وقد جعل الله سبحانه البلاء والامتحان حافزاً لحث البشر على التنافس في الطاعة والإحسان، قال تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7).
كما أنّ مشيئة الباري تعالى لم تقتضِ تحقيق أهدافه ومقاصده عن طريق الجبر والإكراه، قال تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ} (الكهف: 29).
ومن هنا نوّه سبحانه في كتابه إلى أنّ مردّ إحسان المرء أو إساءته إلى ذاته، فقال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7). وأوحى إلى نبيّه أنّ كل مَن في السماوات والأرض ـ سوى البشر ـ منصاع لأمره، شاء أم أبى، فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} (آل عمران: 83).
أمّا بالنسبة للإنسان فالتعبير القرآني مختلف؛ إذ أوحى تعالى إلى نبيّه عدم إكراه الناس على الإيمان؛ لأنّ مشيئة الله بالنسبة للإنسان لا تقتضي الإكراه، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
وبناءً على ذلك فكما لا يرضى الله سبحانه لعباده الكفر، حيث قال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} (الزمر: 7)، كذلك لم تقتضِ مشيئته إكراههم على الإيمان، ولا استخدام القوانين الجزائية لإيصالهم إلى الأهداف التي أرادها من وراء التكاليف والمعتقدات؛ لأنّه لو أراد التعاطي مع البشر بهذه الطريقة لكانت نشأته للإنسان نشأة مختلفة، ولخلقه منقاداً خاضعاً غير مختار، وقد قال تعالى: {إِن نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء: 4).
ومن هنا وضع سبحانه مجموعة من الحدود تنطوي على أبعاد اجتماعية تضمن حقوق الآخرين، واعتبر تجاوزها ظلماً، فقال: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} (البقرة: 229).
كما أنّ أدلّة الأحكام الفردية والإجتماعية لا تتضمّن مثل هذا الإطلاق، فالإطلاق إنّما يكون في حال كانت مقدمات الحكمة تامّة، وكان الدليل في مقام بيان الحكم، وأحرزنا أن الشارع يريد حمل المجتمع على الامتثال للتكاليف مهما كلّف الأمر، حتى لو تطلّب الأمر إعمالاً للقوّة، وفرض عقوبات على المتخلّفين، كما في حالة السرقة. فهنا لا علاقة بين إطلاق الحكم وتطبيقه، بمعنى أننّا لا نستفيد من إطلاق الحكم الإطلاق في تطبيقه أيضاً.
2ـ ما هو دليلهم على جواز استخدام القوّة والإكراه لحمل المكلّف على الامتثال للتكاليف ـ فردية كانت أم اجتماعية ـ؟!
إنّ الامتثال للأوامر والنواهي الدينية لابدّ أن يتفق مع الموقف الشرعي. ومثل هذا الإطلاق، الذي يقضي باستخدام القوة والإكراه، أو أية وسيلة أخرى، حتى لو كانت عنفاً أو مكراً أو خديعةً أو رياءً أو كذباً، لغرض الإتيان بالتكاليف، لا نجد له أثراً في مجمل الأدلّة الشرعية.
فعندما بيّن الشارع المقدّس تفاصيل دعوته بيّن إلى جانب ذلك أدوات الدعوة وآلياتها وكيفية القيام بها، فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
وبما أنّ الدين أمر مقدّس فوسائل وآليات تطبيق الدين لابدّ أن تكون هي الأخرى مقدّسة. كما أنّ أهداف الدين وغاياته يجب أن تكون معقولة ومتلائمة مع طبيعة الدين نفسه.
3ـ أمّا ما ذكروه من أنّ دائرة الحدود والتعزيرات الشرعية غير قادرة على تغطية كافة أشكال التخلّفات والجرائم فهو غير تام. فإنْ كانت الجرائم والتخلّفات التي ترتكب ـ بالرغم من تـنوّعها ـ تدخل ضمن أحد العناوين التي بيّنها الشارع، ووضع لها حدوداً وتعزيراً، كالقتل، والجرح، والتجاوز، والسرقة، والفساد، والإخلال بالأمن، و…إلخ، فبإمكان الحاكم الشرعي ضبط الجرائم ـ مهما اختلفت ـ بإدراجها تحت أحد هذه العناوين، ومن ثمّ وضع حدٍّ أو تعزيرٍ لها، يلائم المصلحة، ولا يتجاوز العنوان الشرعي؛ أمّا أنماط التخلّف التي لا تدخل ضمن أيٍّ من هذه العناوين فلا يجوز شمولها بالحد والتعزير. وإطلاقات الأدلة الشرعية لا تدلّ على ذلك. فالإطلاق المقامي إنّما يَثبت فيما لو كان هناك أصل محرز، أي أننا أحرزنا أنّ الشارع كان في مقام البيان. ففي عهد النبي والأئمّة كانت ظاهرة السفور شائعة بين العديد من الفئات النسوية، كالإماء ـ مسلمات وغير مسلمات ـ، حيث لم يكنّ يغطّينَ رؤوسهن، والذميّات، والبدو، وبعض الفئات المشمولة بحديث: «إذا نهين لا ينتهين»، فكل هذه الفئات لم تكن تراعي الحجاب، وقد كان بمقدور الشارع المقدّس أنْ يضع حدّاً أو تعزيراً لمواجهة هذا الواقع، لكنّه لم يفعل. إذاً فالمسألة ليست حديثة، كي يقال: إنّها لم تكن في ذلك العصر، وبالتالي لم يتم تشريع عقوبة إزاءها.
3ـ أدلة النهي عن المنكر
من جملة أدلّة الإلزام بالحجاب دليل النهي عن المنكر. وقد ذكروا أنّ ما يدلّ عليه هذا الدليل هو وجوب التصدّي لكل مظاهر المنكر، سواءٌ أكانت فردية أم اجتماعية. ولا يخفى أنّ النهي عن المنكرات، بكافة مراتبه، يعتبر جائزاً بالنسبة للحكومة الإسلامية، والفقيه الجامع للشرائط. ولا فرق بين أن تكون هذه المنكرات قد حُرّمت بالعنوان الأولي، أو بالعنوان الثانوي، وبالتالي فإنّ قيام الحكومة أو الفقيه بفرض عقوبات للحد من مظاهر المنكر سيكون جائزاً. وقد أشاروا؛ انطلاقاً من دليل النهي عن المنكر، إلى ضرورة أن تكون هناك محاولات إرشادية أولاً، ومن ثمّ يصار إلى مراتب النهي عن المنكر، مع مراعاة الأولوية في هذه المراتب.
أمّا العقوبة التي تُفرض في هذا الإطار فلابدّ أن لا تتعدّى حدود «تقويم السلوك»، و«الحد من تكراره»، والسبب في ذلك أنّ تجاوز أي حكم من الأحكام الإلهية يعد هتكاً لحرمة هذه الأحكام على الصعيد الاجتماعي بأسره، وبالتالي يمكن تصنيف هذه المسألة ضمن القضايا الاجتماعية.
ومن هنا تستطيع الحكومة الإسلامية تشريع قانون يلزم المرأة بالحجاب؛ انطلاقاً من مبدأ النهي عن المنكر، وبالتالي تحاسب المتجاوزين على هذا القانون، الذي يستمد فحواه من الشرع؛ أو تقوم الحكومة؛ انطلاقاً من الحكم الشرعي، بتنظيم لائحة قانونية تحاسب بموجبها المتخلفين عن ارتداء الحجاب.
تعقيب على دليل النهي عن المنكر
أولاً: إنّ استخدام «دليل النهي عن المنكر» لغرض النهي عن كل المحرّمات الشرعية قد يبدو غريباً وموضع تأمّل. فما جاء في عنوان الدليل هو «السلوك» فيما لو كان معروفاً أو منكراً، بمعنى أنّ النهي الوارد في الدليل إنّما استهدف السلوك الذي اتصف بجملة من الأوصاف، وهي: ما اشتدّ وصعب، واستوحشت منه النفوس([8]). والقرآن الكريم يعرض نماذج لهذا النمط من السلوك، كاللواط([9])، وقول الزور([10])، والاعتداء([11])، والفحشاء([12])، وبذلك يجعل أفق فهمنا لهذا الموضوع رحباً بما يسمح لنا أنْ نعي بأنّ السلوك المنكر هو ذلك السلوك الذي تقرّ باستهجانه كافة المجتمعات، ويشكل تجاوزاً على الحق الاجتماعي.
فإذا كان المنكر كذلك يتضح أن المحرّمات ليست بأجمعها منكرات، وكذلك الواجبات ليست بأجمعها معروفاً. فالمعروف أو المنكر ما اتفق عليه اجتماعياً، بمعنى أنّ المجتمع متفق على كونه سلوكاً مرغوباً أو مستهجناً.
وبعبارة أخرى: إنّ تقييم سلوك ما، وعدّه مقبولاً أو مرفوضاً اجتماعياً، مردّه إلى فهم الاتجاه الاجتماعي، ولا يتبلور ذلك القبول أو الرفض الاجتماعي للسلوك إلاّ بعد أن يكون هناك اتفاق عقلائي واتفاق في الوعي الاجتماعي عليه.
إذاً لا يمكن حصر كافة أنماط السلوك بالواجب والمحرّم الشرعي، فهناك أنماط سلوكية لا تدخل ضمن هذا التصنيف، ولذلك استخدم القرآن الكريم مصطلحي المعروف والمنكر، بدلاً عن الواجب والمحرّم، وعبّر عنهما بالأمر والنهي.
أمّا بالنسبة للأحكام الفردية أو الاجتماعية، التي ليس لها أثر سلبي على الآخرين، فليس هناك نص واحد يشير حيالها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل مطلق، ويبقى هذا التعبير محصوراً في إطار مواضيع كالقتل والظلم والفساد والإجحاف بالحق الاجتماعي([13]).
ثانياً: إنّ ظاهر لفظ «الأمر والنهي» الوارد في الآيات والأخبار يشير إلى أن المقصود به هو الأمر والنهي باللسان، أي بالقول، ولذلك نجد كثيراً من الآيات قرنت بين «الأمر والنهي» وبين «الدعوة»، كما في قوله تعالى: {وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} (آل عمران: 104). فالأمر بالمعروف عُطف على الدعوة عطفاً تفسيرياً. وهناك آيات عديدة أخرى ذكرت الأمر والنهي في سياق البيان والقول، ومقتضى ظاهر لفظ الأمر والنهي هو هذا المعنى، والنصوص الواردة في تفسير قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ} (التحريم: 6) تشير إلى هذا المعنى أيضاً. فعلى سبيل المثال: ما ورد في خبر عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله الصادق× قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي، كلفت أهلي، فقال رسول الله‘: حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك([14]).
وجاء في خبر أبي بصير: قلت: كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عمّا نهاهم الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك([15]).
وهناك أخبار عديدة أخرى وردت بهذا المضمون أيضاً، وحدّدت بوضوح كيفيّة وأطر القيام بالأمر والنهي.
أمّا من لا يرى ذلك، بل يجد أن المراد من «الأمر»، هو الإتيان بالمعروف، والنهي هو «الامتناع» عن المنكر، والتصدّي له بكافة السبل، غير مكتفٍ بالكلام، فلابدّ له ـ مع ذلك ـ أن يراعي التدرّج، على ما يذهب إليه صاحب الجواهر، حيث يقول: «الأيسر فالأيسر»([16]).
ويرى المقدّس الأردبيلي أنّ دلالة دليل الأمر والنهي لا تتجاوز اللسان واللفظ، ذلك أنّ الجرح أو القتل أو الحبس لا تدخل ضمن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([17]).
ثالثاً: ذكروا في النهي عن المنكر أنّ المرتكب للمنكر لابدّ أن يكون عارفاً بقبح الفعل، عامداً قاصداً إليه. وقد كتب صاحب الجواهر بهذا الصدد: «إنّ المعروف ـ على ما في المنتهى ومحكي التحرير والتذكرة ـ هو كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه، إذا عرف فاعله ذلك أو دلّ عليه، والمنكر كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه»([18]).
إذاً، لو جهل المرء قبح الفعل، وحجم الضرر المترتِّب عليه، لن يمكن نهيه عن ذلك الفعل المنكر، وهو لا يرى فيه أيَّ وجه للمنكر. من هنا قلنا: إن دليل «النهي عن المنكر» لا يشمل سائر أنماط السلوك. ولذلك لا يمكن الانطلاق من هذا الدليل لمكافحة ظاهرة السفور في مجتمع لا يجد معظم أفراده في التخلّي عن الحجاب منكراً، بل قد يرون فيه سلوكاً غريزياً وطبيعياً لإبراز الزينة.
ومن هنا كان تطبيق قانون «الإلزام بالحجاب» بحاجة إلى استنفار ثقافي يستوعب الحالة الاجتماعية، ويخلق بيئة واعية ومتفهّمة ومدركة لمخاطر التبرّج والسفور. وعليه لا يمكن ممارسة الإلزام بالحجاب وتقنينه دون طي هذه المراحل.
رابعاً: لم يعدّ الفقهاء التبرّج سلوكاً محرّماً فحسب، بل اعتبروه فعلاً قبيحاً ومنكراً، وبالتالي يجب التصدّي له؛ انطلاقاً من دليل النهي عن المنكر. لكن التساؤل المطروح هنا هو: عندما عدّ الفقهاء التبرّج فعلاً منكراً فعلى أي شيء استندوا في ذلك؟ وما هو المعيار الذي اعتمدوه لإدخال التبرّج ضمن دائرة المنكرات؟ هل هو الحفاظ على شأن المرأة وصيانة كرامتها الإنسانية، من خلال صونها عن النظر المصحوب بالشهوة الحيوانية، وجعل الآخرين ينظرون إلى شخصها، وإلى الجانب الإنساني فيها دون النظر الشهواني إلى مفاتنها، أم أنّ المعيار هو التصدّي لمظاهر الفساد والإفساد؟
فإذا كان المعيار هو صيانة كرامتها الإنسانية فما هي حدود هذه الكرامة؟ وإنْ كان الشخص يريد أن يهدر كرامته بيده فهل يجب على الآخرين حمله وإكراهه على حفظ هذه الكرامة؟! والحال أننا نشاهد الكثير من أنماط السلوك المشينة التي تهدر فيها كرامة المرء دون أن يتصدّى لها أحد، أو يكون هناك قانون يحاسب عليها.
أمّا إن كان المعيار هو الثاني، أي التصدّي لمظاهر الفساد والإفساد، فهذا الملاك لا يتم إلا إذا تحقق أمران:
الأول: أنْ يثبت علمياً، ومن خلال البحوث الاجتماعية، كون التبرّج سلوكاً مفسداً، وأنّ الغاية منه استقطاب الأنظار وتحفيز الشهوة، وليس سلوكاً فطرياً وغريزياً يأتي نتيجة لحب التظاهر بالزينة والجمال، سواءٌ لدى المرأة أو الرجل.
الثاني: أن يحرز قصد الإفساد لدى المتبرّج؛ إذ لو فرضنا أنّ المتبرّج ـ أو المتبرّجة ـ تجهل بأمر الحجاب جهلاً تامّاً فكيف نستطيع أن نحرز قصدها في الإفساد، ثمّ نبني على ذلك، ونقوم بنهيها عن المنكر، وهي لا تجد فيه سلوكاً منكراً قط، غاية ما في الأمر أنّها تتظاهر بالجمال والزينة، وهو ـ بطبيعة الحال ـ أمرٌ غريزيٌّ وفطريٌّ لدى البشر بصورة عامة.
إن التبرّج ـ وكما تقدّم ـ لا يأتي عن قصد سيّئ في جميع الحالات، بل إنّ أغلب حالاته سببها دافع فطري يحمل المرء على التزيّن والظهور بأجمل هيئة؛ بغية اجتذاب الطرف المقابل.
إنّ وجود غريزة التزيّن لدى المرأة أمرٌ أقرته الديانات جميعاً، بل إنها سعت ـ ضمن تعاليم خاصّة ـ لتهذيبه وتوجيهه بالوجهة الصحيحة([19]).
إذاً لا يمكن لدليل «النهي عن المنكر» أنْ يكون كافياً لإلزام المرأة بالحجاب.
خامساً: صنَّف القائلون بتعدد مراتب النهي عن المنكر تلك المراتب على النحو التالي: الإنكار بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد. ولا يحين دور اليد إلاّ بعد أن تثبت المرتبتان الأوليتان إخفاقهما. والمراد بـ«اليد» القيام بعمل هادف ومشروع يفضي إلى اجتثاث مظاهر المنكر. وليس المراد بـ«اليد» اللجوء إلى القوّة والعنف، أو الاصطدام بالطرف المقابل. فعلى سبيل المثال: يقول الشيخ الطوسي (460هـ) في هذا الصدد: «والأمر بالمعروف يكون باليد واللسان، فأما باليد فهو أن يفعل المعروف ويجتنب المنكر على وجه يتأسى به الناس»([20]).
إذاً يتجسّد النهي «باليد» بواسطة ابتعاد الشخص أو المجتمع أو النظام أو السلطة الحاكمة عن المنكر؛ لتغدو قدوة يحتذي بها الناس، وبالتالي تختفي مظاهر المنكر. وهذا ما أشار إليه الحديث النبوي الشريف: «كونوا دعاة بغير ألسنتكم»([21]).
ويرى صاحب الجواهر أنّ من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلاها، وأتقنها وأشدها تأثيراً، خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء الدين، أن يلبس رداء المعروف، واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر، محرمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، وينـزِّهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تامٌّ لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر، وحينئذٍ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف([22]).
ويذكر صاحب الجواهر مراحل أخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقرونة بجملة من الشروط، ويتطلّب ذكرها بحثاً مستقلاً لا يستوعبه هذا المقال.
وبناءً على ذلك ليس لدليل «النهي عن المنكر» إثبات الإلزام بالحجاب، ما لم يترتّب على ترك الحجاب فعلٌ منكرٌ يؤدي إلى الفساد الاجتماعي الظاهر. ولا يخفى أنّ النهي هنا يتمثّل بالسلوك العملي، وليس اللفظي فقط، وبشرط أن لا يكون مصحوباً بسلوكٍ مضادٍّ من قبل السلطة.
سادساً: من خلال إطلالة فاحصة على الروايات التي ساقها بعض الفقهاء للتدليل على كون الضرب والجرح يجسدان المرتبة العملية ـ التي اصطلحنا عليها مرتبة اليد ـ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتضح ما يلي:
أـ لا تحمل هذه الروايات دلالة صريحة على إباحة الجرح والضرب كأداة للنهي عن المنكر، ولا تفيد أنّ النهي عن المنكر يشمل ترك سائر التكاليف الدينية. فعلى سبيل المثال: لا تفيد هذه الروايات الإلزام بالعبادات، كالصلاة، والصوم، والحج، أو المحاسبة على تركها؛ ذلك أنّ العبادات يشترط فيها قصد القربة، والإكراه عليها أو إتيانها تحت وطأة الخوف لا يحقق هذا الشرط.
إنّ العمل العبادي المأتّي بداعي الإكراه والخوف يكون في الغالب فارغاً من كل قيمة معنوية وإرشادية، ولا يترتب عليه أي أثر اجتماعي، سوى النفاق والتنفُّر والرياء. إنّ الرغبة بالعبادة والإقبال عليها لا تحصل إلاّ من خلال الوعي والإرشاد والترغيب. أما الأحكام غير العبادية فالآيات القرآنية لا تدلّ على الإلزام بها أيضاً، بل غاية ما تدلّ عليه هو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والمجادلة بالتي هي أحسن([23]).
ب ـ لو تتبعنا الآيات التي تنهى عن الإكراه في العقائد والأحكام، كقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، أو قوله سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99)، لوجدنا أنّ ما تدلّ عليه من النهي عن الإكراه والإلزام إنّما يجري في إطار الأحكام الفردية، لا الأحكام الاجتماعية التي تتطلّب الإلزام.
ومن هنا كانت الروايات الدالة على ضرورة الإلزام في الأحكام، وضرورة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، مقيّدةً بإطار الأحكام الاجتماعية، لا الفردية، كوجوب التصدّي للظلم، والإجحاف، والفساد، والفحشاء، والسرقة، والاحتيال، وكل ما من شأنه تهديد أمن واستقرار المجتمع.
ج ـ الحقيقة أنّ كافة روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواردة في إطار الأحكام الشرعية الفردية لا تشمل مرحلة «اليد»، ولذلك لا يمكن استفادة الإكراه منها. وهذا ما تبناه صاحب «الوسائل» عندما أفرد ثلاثة أبواب من كتابه لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذهب في الباب الثالث إلى أنّ المرحلة الثالثة منه لا تشمل الأحكام الفردية، وإنّما تستهدف الأحكام الاجتماعية، مستدلاً على ذلك بالرواية الأولى التي نقلها عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن الإمام الباقر×، حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم…، فإن اتعظوا، وإلى الحق رجعوا، فلا سبيل عليهم؛ إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق»([24]).
ومن الواضح أنّ هذا الخبر لا يفيد الإلزام في الأحكام الفردية، بل لا صلة له بذلك. وإذا كان الشيخ الحر العاملي قد أطلق على هذا الباب: «باب وجوب الأمر والنهي بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد، وحكم القتال على ذلك»، ولم يورد فيه غير هذا الخبر، فإنّ ذلك لا يعني أنّ هذا الخبر يحملنا على التصدّي لكل أنماط ترك المعروف وفعل المنكر، بل غاية ما يدلّ عليه الوقوف والتصدّي لحكام الجور.
ومن المعلوم أنّ من المبادئ الأساسية للدين الإسلامي الحنيف الدعوة لبسط العدل ومكافحة الظلم، وهذه المسألة تعد من المسائل الاجتماعية المهمّة. وعليه لا يمكن توظيف هذه الرواية لإثبات وجوب الإلزام بالحجاب.
د ـ الخبر الآخر ما أرسله الشيخ الطوسي في كتابه «التهذيب»([25]): «قال أمير المؤمنين: من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميت بين الأحياء». وقد ورد في بعض النسخ كلمة: «ويدهُ»، لكنّ النسخة المصحَّحة خلت منها. ولو صحّ ورودها لوجب إنكار المنكر باليد أيضاً.
ومشكلة هذا الخبر أولاً: كونه مرسل، وثانياً: عدم دلالته على الوجوب، بل غاية ما يدل عليه هو البعث والتشويق على الإتيان بالفعل، وربما تكون عبارة «فهو ميت بين الأحياء» هي أقوى فقرة وردت فيه.
ويضاف إلى ذلك أنّ ورود لفظة «ويده» متخللة وسط الخبر ـ بقلبه ويده ولسانه ـ لا يكشف عن الإكراه والإلزام باليد؛ لأنّه يفقد الخبر إفادة الترتيب في مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هـ ـ رواية تحف العقول المنقولة عن أبي عبد الله الحسين×، وهي رواية مطلقة ناظرة إلى وجوب التصدّي للظلمة ومكافحة الظلم والفساد، وهي غير دالة على إلزام المكلّف بالإتيان بالتكاليف الفردية، أو الانتهاء عن المنهيات. والرواية هي: «وإنّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبةً في ما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممّا يحذرون»([26]).
إذاً نكتشف أنّ دلالة الروايات على النهي عن المنكر «باليد» ليست مطلقة، أي إنّ النهي باليد لا يشمل سائر حالات المنكر؛ لأنّ بعض النهي يستلزم منه التدخّل في شؤون الآخرين، وربما مصادرة حريّتهم، وهو خلاف الأصل؛ إذ مقتضى الأصل: «لا ولاية لشخص على شخص آخر»، إلاّ ما خرج بالدليل. وعليه لا مجال للتمسك بهذه الإطلاقات؛ لكونها إطلاقات غير محرزة.
وكما أسلفنا فالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف يتجه إلى المسائل الاجتماعية الهامّة، لا إلى التكاليف الفردية. والروايات التي أوجبت التدخّل في شؤون الآخرين (النهي العملي) إنّما قيّدت ذلك باستشراء حالات الظلم والفساد الاجتماعي، بعدما لم تنفع معها المراحل الأولى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي مرحلتي «القلب واللسان».
والأخبار الدالة على ذلك كثيرة، ومنها: قول أمير المؤمنين× في النهي عن العدوان والمنكر: «من أنكره بالسيف؛ لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق»([27]).
أمّا الروايات التي لم تنصّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنّها تحدّثت عن ضرورة العمل السياسي، ووجوب التصدّي للظلم والطغيان بقوّة السيف والجهاد، فمن الواضح أنّها لا تستهدف دائرة الأحكام التكليفية الفردية. ولذلك لا يمكن الاستفادة منها للتدليل على وجوب الإلزام بالحجاب بالنسبة للحكومة الإسلامية.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن صاحب «الوسائل» قد أفرد باباً آخر تحت عنوان: «باب وجوب هجر فاعل المنكر والتوصل إلى إزالته بكل وجه ممكن»([28])، وعلى الرغم من ظاهر هذا العنوان، الذي يبدو مطلقاً، ويحث على التصدّي للمنكر بكافة أشكاله وبشتّى السبل، إلاّ أنّ الروايات التي ساقها العامليّ في هذا الباب لم تتجاوز إطار المنكرات الاجتماعية. فمثلاً: «نقل عن محمد بن الحسن، قال: قال الصادق× لقوم من أصحابه: قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك، وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه، ولا تهجرونه، ولا تؤذوه، حتى يترك»([29]).
إنّ هذه الأخبار، مضافاً إلى كونها أخباراً مرسلة، لا صلة لها بالأحكام الفردية، إنّما تستهدف الأفعال الشنيعة والمنكرات الاجتماعية التي تطال أفراد المجتمع، فهنا يباح الإلزام والإكراه لتطويق هذا النمط من المنكرات. إذاً لا يمكن تعميم أخبار هذا الباب على مطلق الأحكام، فرديّها واجتماعيّها.
4 ـ قاعدة الحدود ويد الحاكم في نظام العقوبات
ذكروا أنّ طائفة كبيرة من الأخبار تتحدّث عن تصدّي أمير المؤمنين× لإقامة الحدود بشأن الكثير من المنكرات التي وقعت في زمانه، فردية كانت أم اجتماعية. وهكذا الحال بالنسبة لباقي المعصومين^. الأمر الذي يمكّننا من تأسيس قاعدة فقهية على ضوئها تكون الحكومة قادرة على إلزام المكلّفين بالأحكام الشرعية، التي من جملتها الحجاب.
أمّا موارد المنكر التي ورد التعزير عليها في الأخبار المذكورة فشملت وطء الزوجة أثناء الحيض، ووطأها في الصوم الواجب، وأكل الميتة والدم والخنزير، والتعاطي بالربا، وأكل مال اليتيم أو غصبه، وخيانة الأمانة، والتسوّل، والاستمناء، ووطء البهائم، وقذف المحارم والذميين، وصيد المحرم، والصيد في الحرم، والاختلاس، وسرقة الثمار، وإسقاط الجنين، ونبش القبور، وسرقة المال العام، وما شابه ذلك.
ولو دققنا في هذه الموارد لاكتشفنا عدم وجود ميزة خاصة تميّزها عن سائر الأحكام الشرعية الأخرى، لذلك جاز القول: إنّ التعزير يجري في كل مخالفة شرعية، وبما أنّ الحجاب أحد الأحكام الشرعية إذاً صحّ أن ينضم إلى قائمة الأحكام التي يجوز للحكومة، أو بالأحرى يجب عليها، تشريع قانون يلزم به، ويحاسب المتخلّفين عنه، على ضوء الروايات المتقدّمة.
نقد مقولة صلاحية الحاكم في العقوبات
لا يخفى أنّ تأسيس قاعدة عامّة تبيح إقامة الحد على فعل كل محرّم أو الإخلال بكل واجب أمرٌ غير تام؛ إذ نحن لا نملك ما يدلّ على إباحة استخدام العنف والإجبار بشكل مطلق، أي في كافة المسائل والأحكام الشرعية. هذا مضافاً إلى أنّ دليلهم الذي استعرضناه قبل قليل مردود من عدّة جهات:
أولها: إنّ استنباط حكم كلّي من مواضيع جزئية يقتضي وجود ملاك أو علّة محرزة ليمكن تعميمها، لكن مع فقدان الملاك ومخالفة الأصل المطروح هنا، وهو «أصالة تحديد المصير»، التي تفيد أنّ كل إنسان يحدد مصيره بيده، ولا ولاية لأحد على أحد، فلابُدّ من الاكتفاء بالقدر المتيقّن المنصوص عليه في الروايات.
ثانيها: إنّ الإلزام والإكراه والتعزير في الأحكام العبادية التي تتوقّف على قصد القربة لا قيمة له كما هو واضح. فإقامة الحد على تارك الصلاة، وحمله على الإتيان بها، لا يمكن أن يكون وسيلة لإيجاد نية التقرّب إلى الله في قلبه.
أمّا ما ورد حول تعزير مَن أفطر عامداً في شهر رمضان فالعقوبة هنا لا تتجه إلى ترك العبادة، بل إلى التجاهر بالإفطار في أوساط المسلمين.
هذا مضافاً إلى مخالفة ذلك صريح قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وقوله سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99)، وغيرها من الآيات.
أمّا القول بتخصيص هذه الآيات فمردود؛ إذ لا يمكن تخصيص هذا النمط من الآيات؛ وذلك أنّها جمل خبرية لا إنشائية، فلا تخصص بخبر الواحد. أمّا بالنسبة للأخبار فإن كانت دلالتها مطلقة فإنّها تسقط بمجرد عرضها على كتاب الله؛ لمخالفتها له([30]).
ثالثها: أمّا الأحكام غير العبادية فالأخبار فيها على قسمين: قسم منها يتمحور حول الحقوق الاجتماعية وثبوت التعزير بشأنها. وهذا واضح بالنسبة لخيانة الأمانة([31])، وأكل مال اليتم أو غصبه([32])، وسرقة الصبي([33])، وقذف الذمي([34])، والسباب والهجاء([35])، والاختلاس([36])، وقذف المملوك([37])، ونبش القبور([38])، وسرقة الفيء أو المال العام([39]).
وهذا النمط من المنكرات ـ لو فرضنا عدم ورود الأخبار بشأنها ـ فإن كل نظام صالح سيجد نفسه ملزماً بتشريع قوانين تحد من هذه المظاهر؛ وذلك بغية صيانة الحقوق العامة والحفاظ على استقرار البلاد واستتباب وضعها الأمني.
ومن ذلك على سبيل المثال: شهادة الزور، التي غالباً ما تتسبب بهدر الحقوق والتضليل والاستهزاء بالجهاز القضائي([40]). وقد ورد في الأخبار أنّ عقوبة شهود الزور تتمثل في التشهير بهم: «… يطاف بهم حتى يعرفوا فلا يعودوا»([41]).
وهناك نمط من الأخبار يتمحور حول الحقوق الاجتماعية أيضاً، لكن لا يستشف من ظاهره ذلك، إنّما يبدو أنّه يتحدّث عن الحقوق الفردية، كما في نبش قبر المؤمن، وسرقة كفن الميت، والزنا بالميتة، الذي يعد من الناحية الاجتماعية ذا كرامة وحقوق تضاهي كرامة وحقوق الأحياء: «إنّ حرمة الميت كحرمة الحي»([42])، بل ربما تفوقها في بعض الأحيان، ويكون الانتهاك بشأنه أشد: «وزره أعظم من ذلك الذي يأتيها وهي حية»([43]).
فهذه الموارد لا يتم تناولها على أنّها تنضوي تحت دائرة الحقوق الاجتماعية، والحال أنّها كذلك، كما هو واضح.
أمّا بالنسبة للمعاصي الفردية غير العبادية فقد ورد في بعضها التعزير أيضاً، وهي على أقسام: فقسم منها ـ على الرغم ممّا يبدو عليه في الظاهر سلوكاً فردياً لا يشكل تجاوزاً على الحق العام ـ هو في حقيقة الأمر انتهاكٌ لحقوق الآخرين، كما في وطء الزوجة أثناء الحيض([44])، فهو يبدو سلوكاً فردياً، لكنّه في الواقع ليس كذلك؛ إذ لا يخفى أنّ قيام الرجل بإكراه المرأة على وطئها وهي في حالة الطمث، رغماً عنها ومع معارضتها الشديدة، قد يفضي إلى افتضاح الأمر وخروج الخبر عن محيط البيت وعن نطاق الزوجين، وإلاّ كيف علم الحاكم الشرعي بما جرى لولا أن أفضت به المرأة إليه أو إلى الآخرين؟! الأمر الذي يخرجه من الدائرة الفردية إلى الدائرة الاجتماعية.
وهكذا بالنسبة لوطء الزوجة أثناء الصيام.
إذاً فالتعزير هنا سببه انتهاك الحق الاجتماعي لا الحق الفردي.
أمّا الخبرين اللذين ينقلهما الكليني فضعيفين؛ لوجود أبي حبيب([45]) وصالح بن سعيد([46]) في سلسلة الرواة. ولا يمكن الاستناد للخبر الضعيف، وتشييد قاعدة عامّة على ضوءه، كما هو معلوم.
ومن الأمثلة الأخرى للروايات التي تضمّنت حكماً عاماً بالتعزير: ما لو استمنى الرجل في جمع من الناس. فقد روي عن زرارة أنّه قال: سألت أبا جعفر× عن رجل يعبث بيديه حتى ينـزل؟ قال: لا بأس به، ولم يبلغ به ذاك شيئاً»([47]).
لكن ورد في خبرين آخرين «أنّ أمير المؤمنين× أُتي برجل عبث بذكره، فضرب يده حتى احمرت، ثم زوَّجه من بيت المال»([48]).
فلو تجاوزنا التعارض الجلي بين الخبرين فإنّه ما من دلالة مطلقة للخبر الأخير تمكننا من استصدار حكم كلي؛ إذ توجد عدّة احتمالات مطروحة في المقام:
أولها: قد يكون الخبر صدر في واقعة ما، وكان موضوعه خاصاً في إطار تلك الواقعة؛ ذلك أنّ راوي الخبر هو زرارة، وقد نقله عن الإمام أبي جعفر الباقر×، عن أمير المؤمنين×، وواضح أنّه قال: «لا بأس به»، فمن المحتمل أنّ يكون الموضوع هنا ذا خصوصية معينة لم ترد في نص الخبر، أو قد تكون الظروف والبيئة المتعلّقة بكل من الخبرين قد اختلفت، أو ربما يكون الخبران متفقين.
ثانيها: يحتمل أنْ لا يكون التعزير قد تعلّق بنفس الفعل، وإنّما لصدوره، أي صدور الفعل، في موضع عام وفي محضر من الناس، أو ربما لسبب آخر؛ إذ من الواضح أنّ مجرد العبث بالعورة لا يقتضي التزويج ـ الذي ورد في ذيل الخبر ـ، فربما يكون سبب العبث حك الجلد أو أمراً آخر.
كل هذه الأمور تدلّ على أنّ موضوع الرواية موضوع خاص، وبالتالي لا يمكن استنباط حكم كلي يبيح التعزير في فعل كل محرّم أو الإخلال بكل واجب.
ثالثها: ليس هناك فقيه يحرّم العبث بالعورة، بل غاية ما يذهب إليه الفقهاء هو الكراهية، أمّا الاستمناء المحرّم فهو غير مقصود بالخبر.
رابعها: يمكن القول من ناحية أخرى: إنّ أمير المؤمنين×، بالرغم من كونه قد ضرب العابث حتّى احمرت يداه، إلاّ أنّه قد منحه مبلغاً معتداً به يسمح له بالزواج، ممّا قد يبدو للبعض أنّه بمثابة جائزة. ولو أردنا العمل بهذه الرواية للزمنا ضرب كل من يعبث بعورته، ثم منحه مبلغاً من بيت المال يغطي نفقة زواجه. إنّ هذا قد يبدو جائزة أكثر ممّا هو عقوبة، والحال أنّه ما من فقيه يفتي بمثل ذلك.
إذاً نستنتج أنّ هذا الخبر صدر في مورد محدد، ولا يمكن استخلاص قاعدة عامّة منه تبيح الإلزام بالواجبات أو العقوبة على تركها، ومن ذلك الإلزام بالحجاب.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد أيضاً إلى ما ورد في باب نكاح البهائم، حيث يعزّر ناكح البهيمة بربع حدّ الزاني، أي خمسة وعشرين سوطاً.
وقد نقل الطوسي هذا الخبر عن الأئمة الصادق والكاظم والرضا^، عملاً بسنّة رسول الله‘. والذي يبدو لنا من ظاهر الخبر أنّ التعزير هنا تعزيرٌ حكوميٌ ذو بعد اجتماعي؛ وذلك لقوله× عندما سُئِلَ: «وما ذنب البهيمة؟ فقال: لا ذنب لها، ولكن رسول الله‘ فعل هذا، وأمر به؛ لكي لا يجترئ الناس بالبهائم، وينقطع النسل»([49]).
والذي يدفعنا للاعتقاد بأنّ التعزير هنا يستهدف صيانة الحقوق الاجتماعية والحفاظ على المصلحة العامة، ما ورد في الأخبار الأخرى في الباب نفسه، حيث تعدّدت العقوبة واختلفت؛ فتارة ورد: «أن يجلد حداً غير الحد، ثم ينفى من بلاده إلى غيرها»([50])؛ وتارة ورد: «لا رجم عليه ولا حد، ولكن يعاقب عقوبة موجعة»([51])؛ وفي خبر آخر: «ليس عليه حد ولكن تعزير»، دون أن تحدّد الرواية نمط التعزير([52]). وقد بلغ اختلاف الروايات التي وردت في هذا الصدد حداً كبيراً، حتى أنّ البعض حدّد العقوبة بـ «القتل»، ممّا دفع الشيخ الطوسي لحملها على التقية([53]).
ومن خلال مجموع الروايات يتضح أنّ موضوع «نكاح البهائم» يصنّف ضمن المنكرات الاجتماعية التي تطال الكيان الأخلاقي للمجتمع برمّته، والاختلاف في نمط العقوبة يكشف عن تأثير العنصر الزمكاني فيه، وعن الفلسفة التي يشتمل عليها الحكم، والتي تتمثل بتفشي الانحرافات الخلقية، وتطويق عملية الزواج الشرعي الذي يترتّب عليه انقطاع النسل. من هنا نفهم سبب تضخيم عقوبة «اللواط».
لكن مع كل ذلك لا يمكن اعتماد هذه العقوبات كأساس لاستصدار قانون عام يحاسب على فعل كل محرّم، بمعنى أننا غير قادرين على توسعة الحكم إلى دائرة الأفعال التي تخالف الأصل، ولابدّ فيها من الاكتفاء بالقدر المتيقّن.
وتجدر الإشارة هنا إلى الباب الذي أفرده صاحب الوسائل لمن أكل لحم الخنزير أو شواه وحمله، والملفت أنّه ذيّل العنوان بقوله: «عالماً بالتحريم أو جاهلاً»، مُورِداً عدداً من الأخبار، ومن جملتها قول الإمام لنصراني أعدّ لحم الخنزير، لكن قبض عليه قبل الأكل: «لو أنّك أكلته لأقمت عليك الحد، ولكني سأضربك ضرباً فلا تعد»([54]).
ويرد على هذا الباب والأخبار الواردة فيه إشكالات عديدة، ومن جملتها:
أولاً: ما من فقيه يذهب إلى تحريم أفعال الجاهل.
ثانياً: ورد في الخبر: أنّه لو أكل لحم الخنزير لاستوجب الحد، لكنّ عزمه على الأكل دون أن يأكل أسقط عنه الحد، وأوجب عليه الضرب. والملفت هنا أنّه لم يرد في باب الحدود ما ورد في هذا الخبر، كما أنّه ما من فقيه أفتى على ضوئه ـ أي منطلقاً ممّا ورد في هذا الخبر ـ .
ثالثاً: الخبر مروي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحجال، عن النوفلي، عن السكوني. وبالتالي هو ضعيف؛ لأنّ في سلسلته «الحجال»، وهو مشرك، وهو غير عبد الله بن محمد الأسدي الحجّال الثقة المعروف. كما أن في سلسلته كل من «النوفلي» و«السكوني»، وعلى فرض وثاقتهما فإنّ كثيراً من الرجاليين لا يعملون بما ينفردان به.
إذاً لا يمكن اعتماد هذه الأخبار أيضاً للتدليل على جواز التعزير في الأحكام الفردية، التي منها: إلزام المرأة بالحجاب، أو استصدار قاعدة فقهية تبيح للحكومة القيام بذلك.
5ـ إطلاق قاعدة: التعزير لكل معصية لا حدّ فيها
وممّا استدلوا به على ضرورة قيام الحكومة بإلزام المرأة بالحجاب الإطلاق الذي ورد في بعض أخبار التعزير. فقد جاء في بعضها: «أما رجل كانت منه زلّة فإنّي معزِّره، وأما آخر يدمن فإني كنت منهكه عقوبة؛ لأنّه يستحل الحرمات كلها، ولو ترك الناس وذلك لفسدوا». وهذا الإطلاق يكشف عن أمرين:
الأول: الإطلاق في الفقرة الأولى من الحديث، أي قوله×: «أما رجل كانت منه زلة فإنّي معزره»([55])، كاشف عن إباحة التعزير لفعل كل محرّم وترك كل واجب.
الثاني: الجزء الثاني من الحديث، أي قوله×: «ولو ترك الناس وذلك لفسدوا»، كاشف عن أنّ الهدف من التعزير تطويق المعصية والحد من استشرائها.
وبما أنّ التخلّي عن الحجاب يعتبر إحدى المعاصي التي لو تركت دون حساب لأخذت بالاستشراء إذاً يمكن التعزير عليها للحدّ منها، أو تشريع قانون يلزم بها ويحاسب المتخلفين عنها.
ويمكن القول: إنّ ما تقدّم يشكل خلاصة الدليل المستوحى من إطلاق التعليل الوارد في الخبر لإثبات «ضرورة قيام الحكومة بإلزام المرأة بارتداء الحجاب».
وأمّا على الصعيد السندي فالخبر لا غبار عليه من حيث الصحّة. ولا يخفى أنّه بالرغم ممّا ورد فيه من الإضمار في قوله: «سألته» إلاّ أنّ محمد بن مسلم قد نقل هذا الخبر، إلى جانب جملة من الأخبار الأخرى، عن الإمام أبي عبد الله الصادق×، ولذلك لا يواجه الخبر أية مشكلة من حيث السند.
إبطال قاعدة التعزير لكل معصية
أولاً: إنّ ما ذهبوا إليه من كون الخبر مطلقاً تجاه أية معصية غير تام. والدليل على ذلك التقسيم الوارد في الإجابة عن السؤال عن مورد محدّد، وهو الخمر: «عن محمد بن مسلم، قال: سألته عن الشارب؟ فقال×: أما رجل كانت منه زلّة فإني معزره، وأما الآخر يدمن فإني كنت منهكه عقوبة». فالإمام صنّف شارب الخمر إلى صنفين: الأول: من زلّ في الشرب، والثاني؛ من أدمن عليه. وهذا يكشف عن استهداف الخبر لنمط محدّد من المنكرات، وليس كل منكر.
ومن ناحية أخرى فإنّ قوله×: «لأنّه يستحل الحرمات كلّها»، بالرغم من كشفه عن العلّة، إلاّ أنّه كاشف عن علّة خاصة بهذا المورد. فمن أدمن الخمر أو تعاطاه ولو قليلاً واستحلّ حرام الله فجزاؤه التعزير، وهذا مورد خاص كما هو واضح. ولا يمكن استخدام هذا النص لاستصدار قاعدة عامّة تبيح التعزير في كلّ معصية، كأن نعزّر الكاذب، أو الذي اعتاد تفويت الفريضة، أو اعتاد خلف الميعاد. فالتناسب بين الحكم والموضوع يقتضي التقييد، والرواية ليست بصدد التعزير على فعل كل معصية أو الإخلال بكل واجب.
ثانياً: لقد وصف الشيخ الطوسي الخبر المتقدّم بأنّه: «خبر شاذ نادر، ولا يجوز العمل عليه؛ لمنافاته للأخبار كلها»، وأضاف: «ويحتمل أن يكون هذا الحكم مختصاً بمن شرب بعض الأشربة المحرّمة وإن لم يكن مسكراً».
وبهذا يتضح أنّ القدر المتيقّن من الخبر عدم شموله للمعاصي كافّة، بل للمشروبات المحرّمة فحسب.
ثالثاً: كما أسلفنا فإنّ الرواية ليست بصدد إصدار حكم التعزير على فعل كل معصية، فهي دون شك لا تحمل مثل هذا الإطلاق، وبالتالي هي لا تصطدم مع الآيات الناهية عن الإكراه في الدين، والتي تخاطب النبي‘: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
أمّا الحقوق الاجتماعية فصيانتها قضية إنسانية قبل أن تكون تشريعية. فالعقلاء في شتى أرجاء العالم متفقون على ضرورة محاسبة المعتدي على حقوق الناس. أمّا القضايا الدينية ـ والتي منها قضية الحجاب ـ فهي تعد خارجة عن نطاق هذه الرواية.
رابعاً: إنّ الخطورة في «شرب الخمر» لا تكمن في مجرّد الشرب، إنّما تنشأ من التجاهر بالمنكر وتناوله في الملأ العام، وما يترتّب على ذلك من تبعات اجتماعية خطيرة. ومن هنا ورد عن الصادقين’ في إباحة شرب الخمر لليهودي والنصراني: «ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم»([56]).
إذاً ليست المسألة مسألة «شرب» بقدر ما هي مسألة تجاهر وهتك وتجاوز على الأمن الاجتماعي.
وعليه يعد «شرب الخمر» على الفرض الكلي تجاوزاً لحق المولى([57])، وبما أن مقتضى الأصل الأولي عدم التعميم فلا يمكن تسرية حكم الشرب إلى حكم «ترك الحجاب». هذا مضافاً لما لموضوع «الخمر» من خصوصيات اتضحت من خلال تعزير شارب الخمر بواسطة السنّة، وليس الفريضة.
6 ـ صلاحيات الولي الفقيه في تنفيذ أحكام الحدود
من جملة الأدلة الأخرى التي سيقت لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب أدلّة ولاية الفقيه. ويمكن تلخيص الدليل على النحو التالي: إنّ من جملة مسؤوليات الأنظمة الحاكمة إرساء الأمن والاستقرار في البلد، ومن الواضح أن إرساء الأمن يتطلّب وجود أنظمة وقوانين لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، وملاحقة كل من يتسبب في تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار.
ولا يخفى أنّ ولاية الفقيه، التي تمتاز بكونها امتداداً لولاية النبي والأئمة المعصومين^، تضطلع بهذه المسؤولية.
وبما أنّ الفقيه مسؤول عن تطبيق الشريعة وأحكامها، والتي من جملتها الحجاب، لزمه وضع قانون يلزم المرأة بارتداء الحجاب، ويحاسب على تركه.
ولا داعي للقول بأنّ من الصلاحيات الطبيعية لولي الفقيه تشريع القوانين، وتنفيذها، وذلك من أجل ضمان تطبيق الشريعة، التي يعد الحجاب أحد معالمها وأحكامها.
وقفة نقدية
أولاً: مع تسليمنا بالصلاحيات المذكورة للولي الفقيه، وخصوصاً دوره في تعزيز الأمن والاستقرار وضمان تطبيق أحكام الشريعة، نتسائل: أيّ نمط من الأحكام والواجبات الشرعية يدخل ضمن دائرة صلاحيات الولي الفقيه؟ هل المراد بذلك الأحكام العبادية التي يشترط في صحّتها قصد القربة، أو الأحكام غير العبادية التي يرغب الشارع في امتثالها، كالزواج والطلاق والإرث وأحكام الأطعمة والأشربة؟
ثمّ هل بوسع الحكومة حمل سائر الناس وإكراههم على الامتثال لجميع أحكام الشارع والكف عن جميع المحرّمات، عبادية وغير عبادية، أو أنّ صلاحيتها محدودة في إطار معيّن، وبالتالي تكون صلاحيات الولي الفقيه مقيّدة لا مطلقة؟
إن الأصل الأولي ـ من الزواية الفقهية ـ عدم ثبوت ولاية أحد من الناس على غيره؛ لتساويهم في المخلوقية والمرتبة، ما لم يدل دليل على ثبوت الولاية([58]).
وبعبارة أخرى: ليس لمخلوق ولاية على مخلوق آخر، بل الولاية منحصرة بالله تعالى. فبما أنّه سبحانه ولي الفيض ومفيض الوجود فأمره مُطاع، وليس لأحد سواه أية ولاية على أحد آخر، إلاّ من شاء أن يولّي على نفسه أحداً يتكفّل شؤونه.
وبناءً على ذلك علينا أولاً أنْ نلاحظ هل أن الله تبارك وتعالى خوّل الأنبياء والأئمّة، وبدرجة أدنى الولي الفقيه، وأناط بهم كافة أمور الخلق، ومن ضمنها الشؤون الخاصة والأحكام الشرعية الفردية، التي عادةً ما تكون بين المرء وربّه، أم حدّد ولايتهم في دائرة معيّنة وفي منهج محدّد؟
لا شك أنّ الحكومة الدينية بوصفها «دينية» تتحمّل مسؤولية أخرى تضاف إلى مسؤولياتها الطبيعية التي يقرّها لها كافة عقلاء العالم، من تولّي أمور البلاد وإدارتها وتدبير شؤون الناس وضمان حقوقهم وتعزيز الأمن والاستقرار والثبات والدفاع عنهم، وتتمثّل هذه المسؤولية في إيجاد البيئة السليمة للمجتمع، وتوفير سبل الهداية لأفراده، وتطهيرها لهم من الموانع والعقبات.
إنّنا نقر بأنّ للحكومة الدينية وللولي الفقيه مهاماً خطيرة على صعيد التخطيط والإدارة، والناس تؤيّد وتدعم كافة الخطوات التي يخطوها باتجاه إقصاء الموانع التي تقع في طريق الهداية، وتعطيه الحق في مساعيه الرامية لمكافحة مظاهر الفساد والانحراف، كالفقر والظلم والتبعيض، وهدر الكرامة الإنسانية، ومصادرة الحريات، أو الرامية إلى خلق بيئة يسود فيها العدل والخير والإحسان. لكن ذلك لا يعني اللجوء إلى أدوات الجبر والإكراه لحمل الناس على امتثال الواجبات وترك المحرمات([59]).
وبعبارة أخرى: إنّ الله تعالى لم يمنح أية حكومة ولايةً تخوّلها ملاحقة المكلّفين وحملهم على أداء التكاليف بالقوّة، ومعاقبة المتخلّفين؛ استناداً لقوانين وضعت من أجل ذلك، كإكراه المتخاذل عن الصلاة على أدائها، أو المفطر على الصيام، أو الأعزب على الزواج، أو تحديد نمط خاص من المأكل أو المسكن أو الملبس للناس. إنّ الولاية ليست مطلقة لتشمل كل هذه التفاصيل. يقول أمير المؤمنين علي×، الذي تسنّى له خوض التجربة السياسية، إضافة لما له من مقام الإمامة والمرجعية الدينية، يقول بصدد مهام الحكومة وصلاحياتها: «لابدّ للأمة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم وينهاهم، ويقيم فيهم الحدود، ويجاهد العدو، ويقسم الغنائم، ويفرض الفرائض، ويعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم، ويحذرهم ما فيه مضارهم؛ إذ كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق»([60]).
ومن الواضح في هذا النص أنّ أمير المؤمنين×، بعد بيانه أهميّة الحكومة وضرورة وجود إمام للأمّة يقوم بأمرهم ويأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود و..إلخ، يشير إلى دور الإمام بالنسبة للأحكام الفردية، فيقول: «ويعرّفهم أبواب ما فيه صلاحهم، ويحذّرهم ما فيه مضارهم»، دون إكراه منه أو إجبار على ذلك. ويقول في موضع آخر: «فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى، فأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة مجهولة»([61]).
ثانياً: أمّا أدلّة «ولاية النبي» ـ بغض النظر عن كونه مخبراً عن الوحي ومفسِّراً ومبيّناً للأحكام ـ والتي أشير لها في الآية الكريمة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6) فهي غير شامل لكافة الأولويات، بل الإطلاق في الآية مقيّد بمقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع، وبحسب ما للنبي من مقام ومسؤولية تجعل ولايته مقدّمة على ولاية الآخرين. إنّ مثل هذه الولاية لم تمنح لأي أحد. ومع الشك في ذلك نتمسّك بأصالة عدم الولاية. وأمّا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) فهو لا يعني سلب الاختيار من المكلّفين في كل شيء، بل المراد من القضاء هنا ما يتصل بأمور الحكم والمصالح العامة للأمّة؛ ذلك أنّ قضاء الله ورسوله إنّما يجري في الأمور التي حدّدها الله سبحانه، وأحالها إلى قضاء الله ورسوله، كالقضايا التي يتم فيها التجاوز على حقوق الآخرين، أو مصادرتها، فيأتي دور النبي ليتصدّى لذلك؛ إذ لا يخفى أنّ النبي‘ لا يقدم على فعل يكون مخالفاً لمشيئة الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً} (يونس: 99)، فإنْ آمن الناس بواسطة الإرشاد والهداية فهذا مقتضى المشيئة الإلهية، أمّا إكراههم على ذلك فهو خلافها. ومثل ذلك قوله سبحانه: {أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59). فعلى ضوء المناسبة بين الحكم والموضوع تتحدّد صلاحية أولي الأمر بالشؤون الاجتماعية والسياسية والقضائية، وهي الشؤون التي تقتضي الإلزام والإجبار في معظم الأحيان، وليس في شأن الحجاب، الذي لم يشهد قانوناً ملزماً إزاءه، لا في عهد النبي‘ ولا في العهود التي تلته، بالرغم من تفشي ظاهرة السفور آنذاك.
ثالثاً: أمّا بالنسبة لأدلة ولاية الفقيه ـ على فرض إقرارها من قبل جميع الفقهاء ـ فلاشك أنّها لن تفوق ولاية النبي والأئمّة سعةً واعتباراً. كما أنّ دليلها ليس أمراً تعبدياً، بل عقليٌّ مستوحى من السبر الإجمالي للأخبار([62])، ولذلك فنطاقها لا يتسع لأكثر ممّا حدّده العقلاء لها، كضرورة حفظ النظام والأمن والاستقرار والتنمية بشقيها المادي والمعنوي وغير ذلك ممّا يتصل بالشؤون الاجتماعية.
أمّا الشؤون الفردية الشخصية، وبعض الشؤون الاجتماعية أيضاً، فلا تشملها صلاحيات الحاكم أو الولي الفقيه. كما نوّه إلى ذلك أمير المؤمنين× في حديثه عن أهمية الحاكم وصلاحياته: «وأنّه لابدّ للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر»([63]).
فمن خلال النص السابق يتضح أنّ الحكومة ليست مسؤولة عن أسلمة الحياة، بل عليها أن تتعاطى مع واقع يضم المسلم والكافر معاً، ومسؤولياتها تتحدّد في هذا الإطار.
ولا نشاهد في النص ما يدلّ على وجوب تخيير الكفّار بين الإسلام وبين التضييق عليهم أو إبادتهم، بل النص دالّ على أنّ القوّة والعنف والإكراه لابدّ أن تتجه وتتركّز على استئصال الظلمة والطغاة الذين يستخدمون نفوذهم لاستغلال الضعفاء وامتهانهم، فلابدّ للحكومة أن تتصدّى لهؤلاء وتقسو عليهم، سواء أكانوا مسلمين أم كفاراً.
7ـ قاعدة: من خالف الشرع فعليه حد أو تعزير
من الأدلّة الأخرى التي سيقت لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب ومكافحة السفور، الأخبار التي تفيد بأنّ «كل من خالف الشرع فعليه حد أو تعزير».
فقد ورد عن داوود بن فرقد قال: «سمعت أبا عبد الله× يقول: إنّ أصحاب رسول الله‘ قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول الله‘ فقال: ماذا يا سعد؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد، فكيف بالأربعة الشهود؟ فقال: يا رسول الله‘، بعد رأي عيني وعلم الله أن قد فعل؟ قال: إي والله، بعد رأي عينك وعلم الله أن قد فعل، إن الله قد جعل لكل شيء حداً، وجعل لمن تعدى ذلك الحدّ حدّاً»([64]).
وقد تضمنت معظم المصادر الروائية نصاً مماثلاً وبأسانيد مختلفة. وقد أسس الحر العاملي على ضوء الخبر المذكور قاعدة عامة، وأفرد باباً أطلق عليه: «باب أن كل من خالف الشرع فعليه حد أو تعزير».
وقد يصح القول: إن النص المتقدّم هو أبرز وأهم الأدلة الستة المتقدّمة، فالكثير من الفقهاء اعتمدوه في بحوثهم، واستندوا عليه في العديد من فتاواهم. لذلك وجدنا من الجدير تسليط شيء من الضوء عليه.
لقد ذكروا بأنّ الفقرة الأولى من الخبر اختصّت بمسألة الإدانة قبل إثبات الجرم، لكنّ الفقرة الثانية تعرّضت للحدود بشكل عام، وذكرت «أنّ الله جعل لكل شيء حداً، ولمن تعدّى ذلك الحد حدّاً»، وفي بعض النسخ: «على من تعدّى حدّاً».
وبما أنّ الجملة الثانية جملة تعليلية مطلقة إذاً تكون شاملة لجميع المعاصي دون استثناء، فلكل معصية عقوبة.
يقول الشيخ محمد حسن النجفي (1266هـ) في هذا الصدد: «لا خلاف ولا إشكال نصاً وفتوى في أن (كل من فعل محرماً أو ترك واجباً) وكان من الكبائر (فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد وتقديره إلى الإمام)»([65]).
وفي كشف اللثام للفاضل الهندي (1137هـ) أن وجوب التعزير على ذلك إن لم ينته بالنهي والتوبيخ ونحوهما، وأمّا إذا انتهى بدون الضرب فلا دليل عليه، إلاّ في مواضع مخصوصة ورد النص فيها بالتأديب والتعزير. ويمكن تعميم التعزير في كلامه ـ أي في كلام الفاضل الهندي ـ وكلام غيره لما دون الضرب من مراتب الإنكار.
قلتُ: قد يستفاد التعميم مما دلّ على «أنّ لكلّ شيء حدّاً، ولمن تجاوز الحدّ حدّ» بناء على أن المراد من الحد فيه التعزير الفعلي([66]).
وقد استدل السيد الخوئي أيضاً (1431هـ) بهذا الخبر وبأدلّة أخرى على وجوب تعزير كل من فعل محرماً أو ترك واجباً إلهياً عامداً عالماً، موافقاً في ذلك صاحب الشرائع.
وأدلّته الأخرى على وجوب التعزير هي:
أولاً: إنّ أمير المؤمنين فعل ذلك في موارد مختلفة، كما يظهر من عدّة روايات في أبواب متفرقة.
ثانياً: إنّ الإسلام قد اهتم بحفظ النظام المادي والمعنوي، وإجراء الأحكام على مجاريها. ومن الطبيعي أن هذا يقتضي أن يعزر الحاكم كل من خالف النظام.
ثالثاً: النصوص الخاصة الواردة في موارد مخصوصة الدالة على أن للحاكم التعزير والتأديب حتى في الصبي والمملوك.
رابعاً: الخبر المتقدّم ـ إنّ لكل شيء حداً… ـ.
ثمّ يعقب السيد الخوئي بقوله: فللحاكم التعزير بمقدار ما يراه من المصلحة، على أن لا يبلغ الحد([67]).
ويرد على كلامه:
أولاً: عدم ثبوت الإجماع والشهرة التي ادعاها صاحب الجواهر؛ ذلك أنّ العديد من الفقهاء لم يتناولوا الموضوع، ومنهم من تناوله في إطار حديثه عن حدّ الزنا، ولم يجد الخبر مطلقاً يشمل التعزير للإخلال بكل واجب أو الإتيان بكل معصية.
وعلى ما يبدو فإنّ أول من تعرّض لهذه المسألة هو أبو صلاح الحلبي (447هـ) في «الكافي في الفقه»، حيث قال: «إنّ التعزير تأديب تعبداً لله تعالى به لردع المعزر وغيره من المكلّفين، وهو مستحق للإخلال بكل واجب وإيثار كل قبيح، فمن ذلك أنْ يُخِلّ ببعض الواجبات العقلية، كردّ الوديعة وقضاء الدين، أو الفرائض الشرعية، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، إلى غير ذلك من الواجبات والفرائض المبتدأة والمسببة والمشترطة»([68]).
كما ذهب إلى ذلك كل من المحقق الحلي (676هـ) والشهيد الأول (786هـ)، وغيرهما من شرّاح اللمعة والشرائع. وادعى صاحب الجواهر الإجماع والشهرة عليه([69]). في حين أنّ الكثير من الفقهاء لم يتعرّضوا للمسألة، أو ربما أنكروها.
ثانياً: رغم أنّ القائلين بهذه المسألة أغفلوا الاستدلال على جواز التعزير للإخلال بكل واجب وإيثار كل قبيح، إلاّ أنّ الذين ادعوا الإجماع تمسكوا بجملة من الأدلّة، بعضها عقلي، وبعضها نقلي، كالخبر المتقدّم.
أمّا بالنسبة للأدلّة العقلية فقد سبق أن تعرّضنا لها، وكشفنا قصور الدليل عن إثبات المدّعى.
أمّا الأدلّة النقلية، والتي من جملتها الخبر الذي نحن بصدده، أي قوله×: «لكل شيء حداً..»، فسنثبت في ما سيأتي قصوره هو الآخر عن إثبات الإطلاق.
ومن هنا يتضح أنّ الإجماع المُدّعى سيكون إجماعاً مدركياً لا مستند خاصّاً له، ولا يمكن اعتماده كدليل مستقل، وبالتالي سيكون الخبر مقيّداً لا مطلقاً.
ثالثاً: فسّر المتأخرون من الفقهاء التعزير بالجلد، أمّا المتقدمون فذكروا إضافة لذلك: ما دون الضرب من مراتب الإنكار. وبهذا الصدد كتب المحقق الطباطبائي (1231هـ) في «رياض المسائل»، لدى شرحه على الشرائع: «ويمكن تعميم التعزير في العبارة ونحوها لما دون الضرب أيضاً من مراتب الإنكار»([70]). وعليه الفاضل الهندي وصاحب الجواهر أيضاً([71]).
رابعاً: غالباً ما يتناول الفقهاء التعزير في ذيل بحثهم للزنا، ويقيِّدونه بما دون الحد، كما لو وُجِد الرجل والمرأة من غير المحارم في دار مغلقة على نحو مشكوك.
فمن وسّع هذا العنوان ليشمل كل مَن فعل محرماً أو أخلّ بواجب فهو قد عمل بخلاف سياق أخبار التعزير التي تستهدف الحق الاجتماعي، لا الحق الفردي. لذلك قيّد بعض الفقهاء التعزير بما يناسب الحد دون أن يبلغه، فذكروا: «إنّه في ما ناسب الزنا يجب أن لا يبلغ حدّه، وفي ما ناسب القذف أو الشرب يجب أن لا يبلغ حدّه»([72]).
ومن هنا يتضح أنّ التعزير لا يشمل كل فعل محرم أو إخلال بواجب، كي يقال بوجوب التعزير على الإخلال بالحجاب. ومن نُسِب إليه هذا القول، وهو المحقق الحلي، لا يدعي مثل ذلك أيضاً، فقد ذكر «أنّ كل من فعل محرماً أو ترك واجباً بما دون الحد»، فكلامه مقيّد «بما دون الحد»، ولا يشمل كل فعل محرّم أو ترك واجب. لذلك عقّب الشهيد الثاني (965هـ) على كلام المحقق بقوله: «ويدخل فيه كل ما لم يوجب الحد في ما سبق من أنواع القذف والسب وغيرها، حتى قذف الوالد ولده، والاستمتاع بغير الجماع من الأجنبية»([73]).
وهذا يعكس فهم الشهيد الثاني من كلام المحقق، وهو عدم الإطلاق، بل التقييد بالمحرّمات التي لا تستوجب حدّاً، لكنّها دون الحد.
خامساً: أمّا بالنسبة لدليل السيد الخوئي على وجوب تعزير كل من فعل محرّماً أو أخلّ بواجب فهو قبل أن يستدلّ بالخبر المتقدّم ذكر «أنّ الإسلام قد اهتم بحفظ النظام المادي والمعنوي وإجراء الأحكام على مجاريها. ومن الطبيعي أن هذا يقتضي أن يعزر الحاكم كل من خالف النظام».
والملفت هنا أنّ السيد الخوئي قد ساق هذا البحث في إطار حديثه عن أحكام الحدود وحدّ الزنا، ولم يعمّمه على كافة الواجبات أو المحرّمات، حتى أنّه لم يقيّد المعاصي التي تستوجب التعزير بـ «الكبائر»، كما فعل صاحب الجواهر، ليُعلَم ما إذا كانت الصغائر تندرج تحتها أم لا؟!
ولذلك لا يمكن سحب دليله هذا وتطبيقه على «الحجاب»، ذلك أنّ حفظ النظام أو الإخلال به يتعلّق بالأحكام الاجتماعية التي يؤدّي التخلّف عنها إلى الإخلال بالأمن وزعزعة النظام، ولا يتعلّق بالأحكام الفردية.
فأيّ حكم لا يؤدّي إلى الإخلال بالنظام سيكون خارجاً عن إطار هذا الدليل.
سادساً: قد تُناقش دلالة الخبر على الإطلاق ـ أي قوله: إن الله قد جعل لكل شيء حداً وجعل لمن تعدى ذلك الحدّ حدّاً ـ من عدّة جهات:
الأولى: يدور الخبر حول رجل سُئِل عمّا إذا وجد على بطن امرأته رجل، فأجاب: أضربه بالسيف، فقال له رسول الله‘: «فكيف بالأربعة الشهود؟.. إنّ الله قد جعل لكل شيء حداً، وجعل لمن تعدى ذلك الحدّ حدّاً»، أي إنّ هناك حدوداً وضوابط لا يمكن تجاوزها، فما لم يثبت الزنا بالشهود الأربعة لا يمكن إقامة الحد. كما أنّ حدّ الزنا ليس القتل.
وعليه، بناءً على المناسبة بين الحكم والموضوع يتضح لنا فحوى الخبر، وهو تحذير المخاطب من مغبّة الإدانة قبل ثبوت التهمة.
ومن هنا لا يمكن اعتماد هذا الخبر لتأسيس قاعدة عامة؛ لأنّه ليس بصدد إثبات التعزير، وإنّما هو بصدد الكشف عن حقيقة مفادها: أنّ لكلّ شيء حساباً وكتاباً وحدوداً وضوابط، وهناك سبل وآليات صحيحة لإثبات التهم لا يمكن القفز عليها. فمجرّد رؤية الشخص نائماً على بطن الزوجة لا يعد كافياً لثبوت الزنا، ولا مبرراً للإجهاز عليه بالسيف.
الثانية: تقدّم أنّ المحقق الحلي وغيره ممّن شرحوا كلامه فهموا أنّ الخبر يستهدف جملة من المعاصي هي دون الحد، أي قريبة من المعاصي التي تستوجب حدّاً، لكن لم يعيّن لها حد، كالاشتباه بالزنا، والاشتباه بالسرقة، والاشتباه بالقذف، والاشتباه بشرب الخمر في الملأ العام.
أمّا بالنسبة «للتخلّي عن الحجاب» ـ وخصوصاً إن كان بمقدار الكشف عن جزء من الشعر أو اليد أو الصدر ـ فلا يمكن زجّه ضمن هذه الأحكام، كما أنّه غير مشمول بسياق الخبر، ولا بما ورد في الفقرة الأخيرة منه.
الثالثة: إنّ المراد من قوله: «لكلّ شيء حداً» يبقى مبهماً، فهل المراد به الحد بمعنى الضابط، أم الحد بمعنى الحد الشرعي؟ ثم ما الفرق بين «الحد» الأول والثاني؟
ومن هنا نجد بعض الفقهاء المعاصرين، كالسيد الگلبايكاني، أعرضوا عن الخبر، وأوردوا عليه جملة من الإشكالات؛ منها: كون الخبر مجملاً، فلا يعلم كون المراد منه كل الأشياء حقيقة بلا استثناء أو أنّه أشياء خاصة؛ ومنها: أنّه لا يعلم ما هو المراد من حد كل شيء؛ ومنها: عدم العلم بالمراد من الحد الذي جعله على من تجاوز الحد؛ ومنها: الترديد في المراد من الحد الثاني ما يشمل التعزير، لأنّ الكلام في استفادة ذلك([74]).
وفسّر السيد الأردبيلي الحد في الخبر بمعنى الحكم، وقال: إنّ مجراه في العقوبة من باب تطبيق الكلي على مصداقه([75]).
وعليه يتضح أنّ غاية ما يدلّ عليه الخبر أنّ الله تعالى قد جعل لكلّ شيء حداً، وتجاوز ذلك الحد يستلزم عقاباً وتعزيراً، على غرار ما ورد في القرآن الكريم: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}([76]). فالحد هنا بمعنى الضابطة، وليس بمعنى الجلد أو التعزير. ولا يخفى أنّ فحوى الخبر موافق لفحوى الآية. والدليل على ذلك قوله‘: «وجعل ما دون الأربعة الشهداء»، الذي يكشف عن أنّ الحديث عن «الحد» يتمحور حول نمط معيّن من الحدود، وهي الحدود الشرعية والمعاصي التي تستتبع حدوداً، ولا يشمل الأحكام التي لم تحدّد لها حدود، كالتخلّي عن الحجاب الذي نحن بصدده.
استخلاص واستنتاج
تركّزت الدراسة حول استعراض ومناقشة الأدلة الفقهية المساقة لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب. وقد كان بالإمكان مناقشة الموضوع من زاوية إيجابية، أي إظهار منافع الالتزام بالحجاب وآثاره، لكن وجدنا أنّ ذلك بحاجة إلى دراسة مستقلّة لا يمكن إقحامها ضمن بحثنا الحاضر. وعليه فقد ارتأينا أن نركّز على أهم الأدلّة التي سيقت أو التي يمكن أن تساق لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب.
وقد بدأنا بتقرير الأدلّة، وحاولنا استيعاب كل ما من شأنه أن يساهم في تدعيمها، ثم تحوّلنا إلى مناقشتها، والرد عليها، وإبداء قصورها عن إثبات المدّعى.
وقد اتضح لنا من خلال البحث أن أبرز الأدلّة عبارة عن: السيرة العقلائية، وإطلاقات أدلة الأحكام، وأدلة النهي عن المنكر، وروايات الحدود والتعزير، والأصل الفقهي القائل: «إنّ كل من خالف الشرع فعليه حدّ أو تعزير».
وبعد أن تعرضنا لكل واحد من هذه الأدلّة ومناقشتها اتضح أنّ الجميع لا يفي ولا يصلح دليلاً لإثبات ضرورة الإلزام بالحجاب. كما لا يفيد أيٌّ منها وجوب التعزير على تركه.
وتأسيساً على ذلك لابدّ للنظام الإسلامي، إذا ما أراد الترويج لثقافة الحجاب وتأصيله اجتماعياً واستحالته إلى معيار اجتماعي، من اعتماد السبل التربوية غير المباشرة، وفق خطط وبرامج علمية تخصصية، مع مراعاة كل ما من شأنه التأثير على ذلك، كالجانب النفسي وغيره من الجوانب الأخرى.
الهوامش
(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وأحد أبرز الباحثين القرآنيين. لديه أكثر من ثلاثين كتاباً في الدراسات القرآنية وغيرها. كانت له مساهمات جادة في موضوعات قرآنية إشكالية. من رموز الفكر التجديدي في إيران.
([1]) يشار إلى أنّ المصنّفات التي تناولت فقه الدولة لدى أهل السنّة تطرّقت إلى بعض المسائل العامّة التي تتضمّن الجانب التطبيقي للأحكام (الأحكام السلطانية للماوردي: 15)، لكنّ موضوع (الإلزام بالحجاب) بقي بعيداً عن متناولها، سوى ما ذكره أبو يعلى الفراء (458هـ)، في أحكامه السلطانية: 304، بقوله: «ويأخذ أهل الذمة بما شرط في ذمتهم من لبس الغيار، والمخالفة في الهيئة، وترك المجاهرة بقولهم في عزير ابن الله». طبعاً مراده من ترك اللباس هنا ترك ما يثير الريبة والشهوة، لا ترك جميع اللباس والحجاب، خلافاً للشرط الحاكم. ومن هنا يتضح أنّ موضوع الحجاب لم يتم تناوله بشكل مستقل من قبل المسلمين.
([2]) تصدّى لجمع هذه الرسائل والمقالات السيد رسول جعفريان، ضمن كتاب في مجلدين، أطلق عليه: «الرسائل الحجابية»، وقد نشر في دار دليلنا للنشر، عام 1380هـ ش.
([3]) نقل في الوسائل 4: 412، في باب عدم وجوب تغطية الأمة رأسها في الصلاة، عن أبي خالد القماط، قال: سألت أبا عبد الله×، عن الأمة أيقنع رأسها؟ قال: إن شاءت فعلت، وإن شاءت لم تفعل، سمعت أبي يقول: كن يضربن فيقال لهن: لا تشبهن بالحرائر.
([5]) تميّز الواقع الإسلامي بالاختلاف من بيئة جغرافية إلى أخرى. فعلى سبيل المثال: كانت النساء في مناطق كالشامات والعراق وغيرها من المناطق التي تضم فئات دينية أخرى، كالمسيحيين وغيرهم، يتمتعن بحرية الخروج والحركة والنشاط على كافة الأصعدة، اجتماعياً واقتصادياً و..إلخ، أكثر ممّا هو الحال في المناطق الأخرى، الأمر الذي انعكس على واقع الحجاب فيها أيضاً. انظر بهذا الصدد: برتولد اشبولر، تاريخ إيران في القرون الأولى 2: 182 ـ 188، ترجمة: مريم مير أحمدي، طهران، مؤسسة علمي فرهنگى للنشر، 1373هـ ش.
([6]) لم أعثر على هذه الأدلّة بشكل مستقل في كتاب أو مقال أو غيره، إنّما حاولت اقتناصها من الخطب والمحاضرات والدراسات المتفرقة، ومن خلال أحد الحوارات التي جرت حول هذا الموضوع. وقد حاولت تقريرها وتهذيبها لتبدو بشكل دليل متكامل ومستقل.
([7]) عُقدت في النصف الثاني من العام 1384هـ ش ندوات متعددة بإشراف مركز الدراسات النسوية التابع لمديرية الحوزة العلمية. وقد شهدت الندوات اتجاهين متعاكسين: الأول: يحاول التدليل على ضرورة الإلزام بالحجاب، والثاني: يرد على تلك الأدلّة. وقد كتبت كتاباً قبل سنوات تناولت فيه النظام الديني وآفاق تطبيق الشريعة، وتعرّضت فيه لهذه الأدلّة، وناقشتها هناك، وحاولت الرد عليها.
([8]) انظر: معجم ألفاظ القرآن 2: 727.
([13]) يقول العلامة الطباطبائي في هذا الصدد: «المعروف هو الأمر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه» (الميزان في تفسير القرآن 4: 255)، ويقول في موضع آخر: «المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم» ( المصدر نفسه 2: 232).
([14]) وسائل الشيعة 16: 148، الباب 9 من أبواب الأمر والنهي، ح1.
([15]) المصدر نفسه 2: 148؛ تفسير البرهان 8: 55، ح 3 و4.
([16]) جواهر الكلام 21: 380 و381.
([17]) مجمع الفائدة والبرهان 7: 542.
([23]) انظر: آل عمران: 104، الأعراف: 157، العنكبوت: 29 و45، النحل: 9.
([24]) وسائل الشيعة 16: 131، الباب 3، ح1.
([26]) تحف العقول: 237؛ وسائل الشيعة 16: 130.
([27]) المصدر نفسه 16: 133، ح8؛ نهج البلاغة، الكلمات القصار، العدد 373.
([28]) انظر: وسائل الشيعة 16: 144، باب وجوب هجر فاعل المنكر والتوصل إلى إزالته بكل وجه ممكن.
([30]) المقصود من كون صيغة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} صيغة خبرية أنّ الله تبارك وتعالى يريد أن يخبر بأنّ العقائد والأحكام الإلهية مشروطة باليقين القلبي، والأمور القلبية لا يمكن التحكّم بها بالعنف والإكراه، كما أنّها غير قابلة للتخصيص أو التقييد.
([33]) المصدر نفسه 4: 294، الباب 28.
([38]) المصدر نفسه: 117؛ وسائل الشيعة 28: 281.
([44]) وسائل الشيعة 28: 377، الباب 12 و13 من أبواب بقية الحدود.
([45]) معجم رجال الحديث 22: 112.
([49]) وسائل الشيعة 28: 357، الباب 1 من أبواب نكاح البهائم.
([53]) المصدر نفسه: 360 و361؛ الاستبصار 4: 224، ح840؛ التهذيب 10: 61.
([54]) وسائل الشيعة 28: 370، الباب 7 من أبواب بقية الحدود.
([55]) تهذيب الأحكام 10: 96، باب الحد في السكر.
([58]) مير عبد الفتاح المراغي، العناوين 2: 557؛ حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 8: 28.
([59]) لمزيد من التفاصيل حول دور الحاكم الإسلامي ومهامه وصلاحياته انظر: السيد محمد علي الأيازي، دراسة تحت عنوان: «الحكومة الدينية، معالمها وتحدياتها»، ص55 ـ 96، ألقيت في مؤتمر «الإمام الخميني وأطروحة الحكومة الإسلامية».
([61]) نهج البلاغة، الخطبة 164.
([62]) كما ذهب إلى ذلك جمع من الفقهاء المعاصرين. انظر على سبيل المثال: روح الله الخميني، ولاية الفقيه: 17 ـ 28؛ حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 161؛ محمد حسين النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة: 73.
([63]) نهج البلاغة، الخطبة 40.
([64]) وسائل الشيعة 28: 14، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود.
([66]) قبل تناوله من قبل الفقهاء الشيعة كان موضوع العقوبة في الفقه الإسلامي مطروحاً على طاولة الفقهاء السنة، وقد ذكروا بأنّ لولي الأمر أو القاضي التعزير بما دون الحد في المواضع التي لم يعيّن لها حد أو تعزير. وقد صنفوا هذه المسألة ضمن أقسام. انظر: أحمد فتحي، العقوبة في الفقه الإسلامي: 134 ـ 135.
([67]) مباني تكملة المنهاج 1: 337 ـ 338.
([68]) سلسلة الينابيع الفقهية 23: 74 ـ 75، كتاب الحدود.
([71]) جواهر الكلام 41: 448، وقوّى السيد الكلبايكاني هذا الاحتمال (انظر: تقريرات الحدود والتعزيرات 1: 297 ـ 298).
([73]) انظر: مسالك الأفهام 14: 457.