محاولات لتأسيس الرؤية التوحيدية
يحيي الميرزائي
إنَّ الدراسة الاستقرائية لحالات الانهيار الحضاري طوال القرون الماضية توجب اطمئنانا بل يقينا بأن اقصاء التجاوب والتعامل في عمليات التنظير العلمي والممارسات وتجارب الادارة بين مساحات الدين والعقل والعلم هو من الاسباب الاساسية للفشل في تحقيق الاهداف الكبيرة على مستوى الحياة والانسان.
وفي حين جاءت الرسالات السماوية ونصوص الوحي الالهي لأجل توجيه حركة علاقة الانسان بالانسان والغيب والطبيعة التكوينية، نلاحظ ان عرى العلاقة بين عملية الفهم والتفسير الديني بالواقع الموضوعي قد انفصمت في اكثر من حقبة تاريخية، ما ادى بالعالم الديني الشارع بامكان الوصول الى مرادات وملاكات احكام الشرع، بعيدا عن البنى المقاصدية الفلسفية للدين والاسباب الموضوعية لصدوره ضمن نصوص مثلا.
وكانت النتيجة نظريات واحكاما دينية تشريعية لا يعرف اغلب من يقوم بترديدها او اعادة عرضها خيوط الصلة بينها وبين واقع الحركة التكوينية للمجتمع وللانسان المخاطب. وافضى هذا الانفصام بين الظروف الموضوعية وقواعد انتاج المعرفة الدينية التشريعية الى تخلف شديد لكثير من النظريات الدينية عن مواكبة ركب الحركة الحضارية للانسان والمجتمع على صعد كثيرة. كما ان تجارب ايجابية كمشروع "اسلامية المعرفة" ومثالها، مع تأكيدنا على اهميتها ما زالت دون مستوى المطلوب للوصول الى تكوين نخب دينية تحاول فهم الاوامر والنواهي الشرعية من داخل الوعي الموضوعي وادراك الاسباب الواقعية والفلسفة التشريعية للدين والآليات الممثلة له.
هذا في ما يتعلق بالتقاعس الديني في مجال ترشيد التنظير الاسلامي لخوض بناء الحضارة الانسانية، وزيادة اسهم المفاهيم الاحيائية للشريعة في اسسها.
غير ان الانبهار العلماني خلف التجارب الوضعية والفلسفات البشرية للتنمية، وخصوصا تلك التي تمثل الاساس في حضارة المال والجنس الغربية، ادى بالتيارات الليبرالية غير الاخلاقية والخالية من التبرير الانساني والعادل لطروحاتها، الى نسيان ان الحضارة التي تتحكم باطرافها اطماع الشركات المتعددة الجنسيات او رغبات الادارات السياسية لن تقود الحياة الانسانية الى السعادة. ويبدو لي ان بعض العلمانيين، تحت ضغط المعاناة من بعض التيارات الدينية وانشغالهم بها قد عقمت عقولهم عن ادراك فداحة استمرار الحضارات اللااخلاقية التي يقودها انسان غارق في التيه ومنهار من الداخل بسبب فقدان الرؤية الكونية السلمية والشخصية شبه الاباحية الفاقدة لدافعية الحياة!
وخلاصة القول ان الطبخة الحضارية الراهنة التي اقتربت من "حضارة وحش" يفترس فيها القوي الضعيف وتسهّل وتشرعن تلك الانظمة الرسمية الدولية، ناتجة عن انطواء مؤسسات صناعة الخطاب التنظيري الديني على انزلاقات ونقاط ضعف هائلة في تنشيط فهم شمولي جديد للدين من ناحية، وانطواء مؤسسات صياغة الخطاب العلماني على قصور العقل عن ادراك لااخلاقية الحياة والحضارة. والحمد لله، فانه بالامكان رؤية ارهاصات تكوين نخب من هؤلاء واولئك يصرون على التوجيه الديني الاخلاقي العادل ضمن مقاييس عقلانية انسانية للانسان في كل مكان. ويسعون الى اعادة رسم المرجعيات المعرفية واعادة ترتيب المصادر الاجتهادية لكي لا تقع الانظمة الفكرية الدينية ضحية العمليات الذهنية الفرضية تارة، والتجارب التطبيقية المتصلة بالظروف التاريخية طورا".
العلم والدين: اعادة رسم العلاقة
ان وضوح اطر المفاهيم ورسم حدود الدلالة للمصطلحات يساهم بقوة في صياغة النقاشات حول القضايا الحقيقية، ويجنبها ضياع الطاقة والجهد في تسخين نقاشي نتيجة لغموض المفاهيم او ابهام دلالة المصطلحات، حيث يخوض عادة كل من اطراف الحوار العملي في عمق التساؤلات وصلب الطروحات انطلاقا من تفسيره الخاص به في اطار المصطلح او المبادئ المنهجية دون المحاولة الجادة لتوحيد المنطلقات او المباني. وقد لا يلتفت الى هذه المتاهة والانزلاقة الكبيرة في منهاجية البحث العلمي، الا انها اشكالية حقيقية تصرف دوما القدرات العلمية والتعددية الفكرية عن ان تمضي بالاتجاه الصحيح، وفي المقابل تدفعها نحو سوء التفاهم بين الاطراف والانجرار نحو اعاقة الحوار وعقمه عن ان ينتج او يسمح بفرصة للكشف عن الحقائق كما هي.
إن حاجة مهمة كتأطير دقيق للمصطلح النشط والفاعل في الحوار ستأخذ طابعا الحاحيا اشد عندما يكون الحديث بحجم ودقة وخطورة قضايا الدين والعلم ورسم الخارطة العلمية التي يتموضع كل منهما عليها وهذا في حال التأكد من امكان تقديم الحدود الدلالية لهما؛ بحيث يمتنع تصور المفهوم الشمولي للدين بعيدا عن التموضع الداخلي الديني للعلم والعقل، وحينئذ ستكون طبيعة العلاقة بينهما بنمط آخر يغير منحى الحديث عنهما باتجاه النقاش حول كل واحد وتوجهاته او سماته الداخلية.
ومن الطبيعي ايضا ان يكون الحسم في قضية دقيقة كهذه رهن تجنب الخوض في ثنايا التفاصيل قبل وضع النقاط على الحروف في ما يتصل بالتعريفات ورسم الحدود للمصطلحات. ولا نشك في ان انجاز مهمة منهجية كهذه ستضع العلاقة الدينية العلمية بين العناصر الداخلية لها او الخارجية منها على المسار الصحيح. غير اننا نرى من الضرروي لفت الانتباه الى عقم النقاشات المنطقية الارسطية بحثا عن رسم الحدود وتحديد التعريفات، وانما الصحيح هو السعي العلمي للوصول الى تعريفات دقيقة للدين مثلا، انطلاقا من الموضوعية النصية واخذ الشمولية في الرؤية الدينية بالاعتبار حين القيام بعملية التحديد والتعريف ابعادا لتصور القارئ من اننا حينما ندعو الى اعادة التحديد لدلالات المصطلح وتحديث رسم العلاقات انما نقصد احياء السجالات التقليدية الفلسفية غير الموضوعية للبحث عن تلك الاطر والحدود.
واغلب الظن ان منطلقا استقرائيا سيكون صالحا في تحقيق الهدف؛ لان "نظرية الاستقراء" سوف تجنب النقاشات العلمية من الوقوع في المتاهات الفلسفية الذهنية من جهة وتربط مسارات الحوار بالظروف الموضوعية والدلالات النصية التي تمثل بدورها مؤشرا موضوعيا وصالحا لفهم حقيقة الاطار الديني من جهة اخرى.
وضعت الدراسات الفلسفية الدينية التي تبحث بجدية وكفاءة منهجية قضايا الدين من خارج الاخبار المتفرقة، وبناء على فهم شمولي شجاع للدين، والسعي غير الناضج من البعض لاعتبار النص الديني محور الاكتشافات العلمية التكوينية! ان هذا الضعف قد اسفر عن ضياع الحدود الدلالية والاطر المفهومية لـ"الدين" بين طرفي الافراط والتفريط، الا ان توظيف الوعي الشمولي في اماطة اللثام عن هذه القضية الفلسفية الدينية لن يبقي شكا عندنا في ان النظام الديني بشموليته وكليانيته وديناميته – وكل ذلك بسبب منشأه الالهي – يعمل كالبوصلة في ضبط الخطوط الاساسية لحركة الانسان في فكره وعقله وسلوكه دون استثناء اي مجال من مجالات الحياة.
القراءة العلمية والسننية للدين
في تقديرنا ان فشل تحقيق القراءة العلمية والسننية للدين هو اكبر معيق للتوجيه الديني للحياة والانسان، ومعه ستظل المفارقات والتناقضات في رسم الحدود وتعيين الوظائف حاضرة وقائمة. وايضاحا لصورة المسألة، واثباتا لنمط خاص من ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا المعرفة الدينية لاحظوا ضآلة الدراسات المنهجية الخاصة بتفسير مقاصد وفلسفة او اسباب وحكم تشريع القضايا والاحكام الدينية واعتبارها مسائل لا يسع السعي البشري فهم العلل الاساسية في وضعها وسنها ومن ثم الالحاح على كفاءة المعرفة الدينية لتكون الاسس النظرية في ادارة الحياة وابعادها كافة. ومن الصعوبة بمكان أن يدرك المرء كيفية الجمع بين القول بصلاحية الفكر الديني في توجيه الحياة وكل حركات الانسان والمجتمع من جهة، والقول بضرورة حظر الخوض في فهم اسرار واسباب تشريع البرامج والاحكام الدينية من جهة اخرى، رغم ان الانسان وما يصدر منه سائر ضمن شبكة علاقات متداخلة بينه وبين بيئته الكونية، وان الفصل بين نوعية السنية الدينية والروح القانونية السائدة على الشريعة السماوية والسننية الطبيعية التي تسير ومعها الانسان سوف يفضي الى ازدواجية خطيرة تضعف امكان تعامل وتفاعل الديني مع الموضوعي او تصالح الروحي مع الزمني، وان كان الثنائي الاخير اقل دقة.
ومن الغريب جدا القول بفصل النمطين من السننية المذكورين والعجز عن ايجاد فهم بديل يمنحنا القدرة على اعتبارهما مجالا واحدا لتبلور تجاوب السنة الالهية مع القانونية السائدة على خلقه – سبحانه وتعالى – ما يوجب على قارئهما اكتشاف حقيقة ان الله اراد ان من خلال دينه الخاضع للقانونية والسننية ان يتحول الانسان الى كائن مسالم وخاضع لقوانين تسود خلقه وان لا يتعدى حدوده ولا يطغى عليه بل يؤمن به وبكتب وملائكة ورسل قد حوت وجوداتها تفسير استراتيجيات واساسيات علاقة جدلية بين الانسان وربه والطبيعة، علاقة دقيقة فيها مساحات للغيب ومساحات للشهود قد يغيب عن بال الانسان اشياء من هذا واشياء من ذلك، الا ان المحتوم هو استحالة تصور احدهما دون الاخر؛ لان الغيب والشهود هما اثنان منفصلان باعتبار الوعي الانساني في مراحل منه، غير ان الكون ومساره الرباني كله خاضع لحقائق من الغيب وسنن من الشهود العلمي وبينهما تجاوب وتفاعل كامل. بل يستحيل ان يصدر صالح في خلقه تعالى من دون وجود توجيه ديني له وايضا لا حكم دينيا دون وجود علاقة متينة له بالحالة القانونية المهيمنة على كل العالم.
ان الرفض الانساني للشريعة الالهية المتمثلة في الجوهر المعنوي والاخلاقي وكذلك الاسس والبنى التحتية للرسالات الالهية الموجهة للانسان بعقله وفكره وسلوكه واحاسيسه، سيحتم اصطدامه بطبيعة الحياة ونواميسها وقوانينها العلمية، وسيؤول به الى حطام واشلاء نتيجة لهذا الصدام العفن. ولا يخفى علينا ان صلاحية الرؤية الشمولية الكونية للدين وحدها يمكنها ضبط هذه الشبكة الثلاثية من العلاقات بين الله والانسان والطبيعة، او بين الانسان والغيب والشهود. والتاريخ خير شاهد على فشل تجارب كثيرة وفقا للتوجهات المادية الطبيعية في القيام بذلك،وكذلك العقلانية غير المدعومة وغير المسددة من الوحي.
وهنا دفعا للشبهة نقول: ان المدعى ليس قائما على ظهور تجارب معرفية طوال التاريخ الاسلامي بصفة شمولية استيعابية كالتي اسلفنا ذكرها. واكثر من ذلك؛ علينا الاعتراف بأن الذي عشناه في تاريخنا الطويل الماضي من الفكر الديني قد اخذ منحى خاطئا في فهم طبيعة العلاقة بين النص الديني من جهة والفضاء العلمي اوالعقلي من جهة ثانية. ورغم ان صداما فاضحا بينهما كالذي شهدته الفترة القروسطية في الغرب لم تشهده الساحة الاسلامية، الا ان اسبابا جمة ابعدت الحركة الدينية عن المسار الطبيعي، واخلت بمصادرها المعرفية؛ ومن ثم بالمنهجية الكفيلة بوضع ضوابط اساسية لصياغة حدود الديني وتخريج الحكم الشرعي. اذاً، فالقراءة العلمية للدين تفضي الى اثبات حقيقة سامية، هي ان الدين بكل قضاياه وتوجيهاته واحكامه الشاملة صيغ في بنيانه الداخلي صياغة الهية يستحيل ان يصطدم شيء منه بالطبيعة العلمية الكونية او العقل الانساني، بل هو الاساس في توعية الكائن الانساني الى ان العالم بكل اجزائه هو من خلق الله وان علينا ادراك قوانينه، وتكوين معرفة جيدة عن انفسنا والآفاق التكوينية قد توصلنا الى "الحق" كما ان حديث اكثر من 750 آية من القرآن الكريم عن الآيات الالهية في الكون الطبيعي والقوانين العلمية السائدة عليه، وكذلك حث الانسان فيها على معرفتها واكتشاف اعماقها والتدبر والتفكر حولها نعم دليل على المنحى الحقيقي للدين.
بيد ان نزعات مدمرة بسبب او آخر قد دخلت على الخط المعرفي، فأبعدت المنحى الطبيعي للدرس الديني عن هذا المسار، واخذت مجرى ذهنيا او تاريخيا او سياسيا اقترب الفكر الديني معه من اداة الاستغلال وتسلية فلسفية لعباقرة روضوا قدراتهم على التخيل والافتراض وغيرها من اسباب تقليص فاعلية المعرفية الدينية في التأثير في واقع الحياة، حيث اكتفى كل بنافذة ضيقة حاول الاطلالة على الدين من خلالها، فضاعت الرسالة وتراكم عليها غبار كثفته الايام. ثم في ما بعد تمت منهجة هذه الازمات والزلات واخذت طابعا قانونيا سعى مالك بن نبي والسيد جمال الدين الافغاني الاسد آبادي والامام روح الله الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، ومرتضى مطهري وعلي شريعتي، وطه عبد الرحمن ومحمد الغزالي وجمال الدين عطية وغيرهم لتكسير بعض الجليد المتحجر، وهم نجحوا حينا واخفقوا حينا آخر. وهنا ينبغي التركيز على خطاب احد هؤلاء المجددين المنطوي على ترديد نداءات مدوية الى المرجعيات المعنية بضرورة اعادة الفهم وتجديد المنهج والسعي لصياغة الخطاب الديني صياغة حضارية شاملة، وضرورة نبذ عوامل الاعاقة واسباب الفشل (مثل النزعة الذهنية والنزعة التجزيئية والنزعة التاريخية) من امام تقدم حركة الاجتهاد والمعرفة والخطاب الدينيين وهو المفكر المجدد الامام علي الخامنئي الذي قدم اكثر من انجاز احيائي لترشيد المؤسسة الدينية وصولا الى المواكبة الحضارية، محاولا اخراجها من الحالة العاجزة لها في المساهمة الاكثر قوة ونشاطا في البناء الحضاري.
التأصيل الاسلامي في المعرفة الانسانية
قد يكون الحديث عن طبيعة علاقة الوحي الالهي بالعلم باعتبارات ثلاثة على قدر من الاختلاف والتنوع:
· العلم باعتباره مجموعة قوانين تحكم جانبا من الطبيعة والتكوين، لا نصر على وصفه بالديني وان كانت الانظمة التكوينية والسنن الحاكمة عليها هي من وحي الله ومن وضع فاطر السموات والارض، ولا سنّة الا نتيجة فعله وارادته ومشيئته. بيد ان الوحي الديني والرسالة الدينية كوظيفة اولية، غير معنية بتفسير هذه الظواهر والسنن الطبيعية، الا لأجل فتح نوافذ للاطلالة منها على عظمة الخالق، وبقدر ما يخدم بشكل مباشر عملية "الهداية" التي هي المهمة الاولى للدين. اذاً، ان تصنيف اكثر من 750 آية تكوينية في القرآن الكريم مثلا هو غير التصنيف العلمي البحت بغض النظر عن دورها في بناء الانسان عقلا وتفكيرا وروحا ورؤية.
ان الدور الديني القرآني في استعراض هذه الآيات يكمن في حث الانسان على قراءة التكوين والسنن الالهية التي تخضعها لله. وعلى عكس ما توهمه الكثيرون ليس الهدف الرئيس منه هو دعوة الانسان الى كشف القوانين العلمية التكوينية من خلال تفسير آيات الكتاب. انما هي تثير القارىء لخوض التفكر في آياته الانفسية والآفاقية التي ملأت الكون. وفي ضوء ذلك، فان الدين هو الداعي الى تفعيل العقل والفكر الانساني لخوض السلوك العلمي بحثا عن آياته والاستزادة الايمانية بمعرفته هذه. هكذا يتبين الدور الديني في ما يخص العملية الاستكشافية في العلم التكويني وسنن الله في خلقه.
· ان العلم باعتباره حصيلة رحلة "الانسان" العلمية وسعيا منه لأجل الاكتشاف، شديد التأثر بنوعية ما يحكم القارىء والمكتشف من توجهات وقناعات عامة ورؤى عن الله والغيب والانسان والطبيعة والعلاقة الجدلية بين هذه الاصول. وقد يبدو لدى البعض عند الوهلة الاولى ان الطبيعة والسائد عليها من علاقات وقوانين وسنن غير متصلة برؤية القارىء ها وغير متفاعلة مع الجانب العقدي للانسان، الا ان الثابت اليوم هو ان الرؤية الدينية بصفتها اكثر التوجهات والعقائد شمولية وسعة تضع الانسان العالم على قمة عالية تسمح له بالاطلالة على قوانين الحياة (في العلوم التكوينية الطبيعية والمعرفة الانسانية عن النفس والتاريخ والمجتمع مثلا) وقد ينحسر معه احتمال خطأ الرؤية الى اقل حد ممكن، شرط ان يحظى الانسان العالم برؤية كهذه، والا فالنتيجة قد تكون عكسية تماما.
وفي هذا المضمار علينا القول ان النظرة الدينية الى قوانين الحياة في أبعادها ونواحيها كافة ودون استثناء هي نظرة توحيدية تفسر العالم باجزائه من منطلق واحد، وتبين ما يحكمه من قوانين تبيينا توحيديا ترتبط فيه الكائنات والسنن بعضها ببعض وانها تدعو الى قراءة هذه الابعاد بنمط خطابي وفي نسق مركب متكامل مترابط.
وان اقصاء الرؤية الدينية عن حياة الحضارة الغربية، وعند مطالعة سنن التكوين في فروع المعرفة التطبيقية والمعرفة الانسانية قد تسبب بسيادة قراءة تفكيكية ضاعت معها فرص فهم صلة الطبيعي بالانساني، والغيبي بالشهودي، والزمني بالروحي، والثابت بالمتغير، والديني بالعلمي. كما ان ازمة معرفية كهذه أخلّت بمبادئ المنهجية المعرفية، فأصبح في ضوئها كل توجه او فرع علمي يمضي في طريق مستقل مقطوع الصلة بغيره، وكل مختص يحاول الالمام باطاره الخاص، ويسعى فيفشل في تقديم حلول وعلاجات لترشيد حركة الانسان في ذلك الحقل. ورغم ان العالم وعلى اثر الهزائم المعرفية وغير المعرفية والانهيارات الحضارية في مرحلة الحداثة وبعدها ادرك جزءا من المشكلة، غير ان الاوساط العلمية لم تحسم امرها في ضرورة العودة الى ترشيد الرؤى الفلسفية الكونية والاهتداء الى وعي الكون من منظار ديني الهي، وتفسير قوانين الحياة في ضوء ذلك؛ لان الرسالة الروحانية تقود وتوجه الانسان وتفكيره من مرتفعات شاهقة؛ حيث يعجز غيرها عن الوصول اليها ولا يخفى عن الانسان خاف من ذلك المستوى الرفيع.
ونحن الآن لا ندعو الجميع الى اعتبار النص الوحياني قائدا لحركتهم الانتاجية المعرفية، الا اننا على ثقة كاملة بان توجيها دينيا كهذا لو اخذ بالاعتبار في المعرفة، فان الانسان سوف يستفيق فيه من سبات اهدر قرونا من عمره في البحث عن الحل داخل نزعات فرعية ومدارس ومذاهب علمية متفرقة تحولت الى شبه "ارباب متفرقة" قادت الانسان ومعه الحياة الى الدمار والهلاك.
· ان العلم باعتبار التوظيف والتحريك في واقع الحياة، قد يكون اكثر المجالات واوضحها في بيان اهمية دور الدين والرؤية الاخلاقية والالهية في علاقة العلم والدين. ولا اظن ان احدا يتردد في الاختلاف الهائل في توظيف العلم والانجازات المعرفية نتيجة اختلاف الناس او الجهات المتعاملة معها في الاعتبارات الدينية؛ حيث ان المؤمن بنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي يقوم على الاعتقاد الديني لن يصوغ التوظيف وآلياته كما يفعل من يتبنى الليبرالية والمادية والوضعية أو يعمل على بناء مجتمع علموي فارغ من الاخلاق والقيم.