الشيخ محمد إبراهيم جناتي(*)
مقدمة
الاجتهاد ـ وكما هو واضح من معناه اللغوي ـ يعني بذل الجهد، والسعي الحر والمستقلّ للمجتهدين الواعين، والمستوفين للشرائط، الذين يقومون من خلاله بإرجاع الفروع المستحدثة إلى أصولها، ويطبِّقون القوانين الكلية على المصاديق الخارجية. وباستخدام الاجتهاد في العناصر الأساسية للاستنباط يتمكَّن المجتهدون من إيجاد حالة التوافق والانسجام بين الأمور المستحدثة في الحياة والفقه. والاجتهاد يمثِّل الطاقة المحرِّكة للفقه؛ إذ لا يمكن بدون استخدامها الإجابة عن الأمور المستحدثة في المجتمع الجديد، ولا مجاراة تطوُّر المدنية والحضارة، والتحوُّلات المختلفة في العلاقات الإنسانية، وظهور العلوم الجديدة، كالكيمياء، والفيزياء، وغيرهما؛ إذ تُعَدُّ جميع هذه الأمور بمثابة المصنع الذي ينتج المواضيع. برزت هذه المشكلة الآن بشكل أكبر، وخاصة بعدما انبثقت تجربة الجمهورية الإسلامية، وبرزت إلى ساحة الأحداث. ولا يمكن الاضطلاع بمسؤولية الإيفاء بواجباتنا أمام هذه التحولات بالنصوص المحدودة للكتاب والسنّة.
إن عدم القدرة على الإجابة يخلق التصوُّر التالي في الأذهان، وهو أن الشريعة الإسلامية لا تمتلك إمكانية حل المشاكل، وملء الفراغ، وسد النواقص. ومن هنا تبرز أهمية وجوب استمرار الاجتهاد بشكل متوازٍ مع مرور الزمان، آخذاً بنظر الاعتبار العناصر الأساسية للاستنباط في جميع العصور. ولا يعرف الفقه الإسلامي أيَّ ركود أو توقف ـ على الإطلاق ـ أمام الأحداث والظواهر المستجدة، سواءٌ الفردية منها أم العبادية أم الحكومية والاجتماعية وغيرها، بل إنه يوصف بالأصالة والفاعلية والسموّ، بل بالتطور والحركية، انطلاقاً من هذا السبب. وما يثار اليوم أحياناً من قبل البعض من أن الفقه قاصِرٌ أمام المستجدات والوقائع لا أساس له من الصحة، بل هو مفارقة؛ وذلك أن هذا الوهم بالقصور ينطلق من سببين: أحدهما: حالة الضعف وقلّة الفاعلية الموجودة في أسس وقواعد بعض أبعاد الفقه، من قبيل: البعد الاقتصادي، والقانوني، والجزائي، والسياسي، والعلاقات الدولية، والقضايا الحكومية، وغيرها؛ والثاني: التغافل عن استخدام الطرق الاجتهادية المناسبة، والتي سنتطرق لها في هذه المقالة.
لو أردنا أن نلخص أسباب الضعف هذه فلابد أن نشير إلى تهميش دور الفقهاء الشيعة على مرّ التاريخ؛ لأنهم كانوا يمارسون الاجتهاد بعيداً عن ممارسة السلطة، وبدون الفهم الصحيح للضرورات، ممّا كان يؤدي بالتالي إلى أن نلاحظ الضعف وقلة الفاعليّة في اجتهادهم، ولكن اليوم، وبعد أن تأسست الحكومة الإسلامية، تهيأت أمامهم فرصة الإجابة عن التساؤلات. ولابد أن نرى ما الذي قدّموه من جهد في ميادين الاستنباط بعد التطور الكمّي والكيفي للاجتهاد. وحسب ما يراه أصحاب الرأي والفكر يقف الفقه الإسلامي اليوم في دائرة الاختبار في مجال المسائل والمواضيع المستحدثة، والحوادث الواقعة، وأمور الدولة والسلطة. ومن هنا يتوجب على المتصدّين وأصحاب القرار أن يبذلوا ما في وسعهم لإثبات مسايرة الفقه لقضايا المجتمع، وتطابقه معها، من أيّ شكل أو لون كانت؛ لكي يحول ذلك دون أن يتخذ الأعداء موقفاً مناوئاً للفقه الإسلامي.
ويكتسب هذا الجهد والمساعي المقدسة أهمية أكثر من أيّ وقت مضى عندما ندرك تماماً أن الإسلام هو الدين الباقي والخالد إلى يوم القيامة. تضاعف هذه العقيدة السليمة من مسؤوليتنا؛ لأنها تعني أننا أقررنا بأن الإسلام ليست فيه طرق مغلقة. وبناء على ذلك يتوجَّب على الفقهاء أن يبذلوا ما في وسعهم من أجل حلّ المعضلات، من خلال إيجاد الآليات الأكثر فاعلية.
رأي الفقهاء بشأن تطوير الاجتهاد
ليست حركة التغيير بالأمر المثار اليوم، وفي أجواء ما بعد انتصار الثورة الإسلامية فحسب، بل لقد أَوْلى فقهاء الإسلام الكبار، من السنّة والشيعة، هذا الأمر اهتماماً بالغاً منذ عدة قرون مضت، وصرحوا بذلك في مناسبة وأخرى.
أـ رأي فقهاء الإمامية
1ـ يقول العلاّمة الحلّي(726هـ): الأحكام الشرعية في الإسلام تتوقف على المصالح. والمصالح تتغيَّر بتغيُّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلَّفين. ومن هنا هناك إمكانية أن يكون لحكم معين مصلحة معينة لقوم ما في زمن خاص، ويؤمَر به، ولكن يمكن أن تكون له مفسدة لقوم آخرين، وينهى عنه([1]).
2ـ يقول الشهيد الأول(786هـ): يجوز تغيير الأحكام بتغيُّر العادات، كما في النقود المتعارفة، والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب؛ فإنها تتبع عادةً ذلك الزمان الذي وقعت فيه. وكذا تقدير العواري بالعوائد([2]).
3ـ قال المحقق الأردبيلي(993هـ): لا يمكن توضيح نظريةٍ ما في الشريعة بصورة كلّيّة على الإطلاق؛ لأن الأحكام تختلف باختلاف الخصائص، وأحوال الناس، والزمان، والمكان، والأشخاص. وهذا أمرٌ واضح. ويعدّ فرصةً خاصّةً للعلماء والفقهاء لفهم هذه الاختلافات والتغييرات، ويطبِّقون الأحكام على المصاديق والموضوعات التي يريدها الشارع المقدس([3]).
4ـ يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: تغيير الأحكام بتغيُّر الزمان أمرٌ مسلَّمٌ به… الأحكام الإلهية غير قابلة للتغيير إلا بتغيُّر الموضوعات، أو بتغيُّر الزمان، والمكان، والأشخاص([4]).
5ـ عندما يأتي صاحب الجواهر(1266هـ) على ذكر الشيء الذي يباع بالكيل، بدلاً من الوزن، يقول: الأقوى هو الاعتبار المتعارف في البيع، ويختلف أيضاً باختلاف الأزمنة، والأمكنة([5]).
6ـ يقول الإمام الخميني: لعنصر الزمان والمكان تأثير في تغيير الاجتهاد([6]).
ب ـ رأي فقهاء السنّة
كانت مسألة تغيير الاجتهاد، وتطوُّره، على أثر تغيير الزمان، والمكان، والأحوال، والعادات، مطروحةً بين فقهاء السنّة أيضاً، ومنهم:
1ـ ابن قيّم الجوزي(751هـ). وله فصلٌ مستقلّ في أعلام الموقعين بعنوان: «تغيير الفتاوى واختلافها بحسب تغيير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد»([7]).
2ـ يقول أبو إسحاق الشاطبي(790هـ): انطلاقاً من أن الشارع يأخذ مصالح العباد بنظر الاعتبار فالأحكام العادية تدور مدارها. ومن هنا فقد منع الشيء الذي لا توجد فيه مصلحة، وقال بجوازه متى ما كان فيه مصلحة([8]).
3ـ يقول الدكتور المحمصاني في «المجتهدون في القضاء»: الأحكام التي نتوصل إليها عن طريق الاجتهاد تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والأحوال([9]).
4ـ يقول محمد أمين أفندي (ابن عابدين): الكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ بسبب تغيير عرفها، أو بسبب حدوث ضرورة ما، أو فساد أهل ذلك الزمان؛ لأنه إذا بقي الحكم الأول سيؤدي إلى مشقة الناس وضررهم، وهذا يتناقض مع قواعد الشريعة القائمة على أساس التخفيف، واليسر، ودفع الضرر والفساد؛ للإبقاء على العالم الذي يعيشون فيه([10]).
5ـ يقول أحمد مصطفى زرقاء بهذا الشأن: تختلف الأحكام الشرعية باختلاف الزمان، الذي يبعث على تبُّدل الموضوعات([11]).
6ـ يقول الدكتور وهبة الزحيلي: تتغير الأحكام بسبب تغيير العرف، أو مصالح الناس، أو لمراعاة الضرورة، أو الفساد الأخلاقي، وضعف الموانع الدينية، أو بسبب تطور الزمان([12]).
تغيير أحكام الشريعة، آراء ومواقف
الرأي الأول: يقوم هذا الرأي على إخضاع هوية أحكام الشريعة وحقيقتها لتغيير الزمان وأحواله ومظاهره الجديدة، بحجة أن الأحكام الإلهية شرّعت طبقاً لمقتضيات الزمان والظروف والعرف وأحوال الناس وعاداتهم، وبتغيُّرها تتغير الأحكام أيضاً.
وقد نشأ هذا الرأي بين بعض أتباع الأديان، ومنهم: المسيحيون، ووجد له بعض الأتباع والمؤيدين منذ أن شاع في القرن التاسع عشر الميلادي. وقال المؤمنون بهذا الرأي: إن الأحكام الدينية يسيرة، وتقوم على أساس الصفح والعفو في جميع أبعاد الحياة الإنسانية، وتتسم بالمرونة تماماً، ويجب أن تتغيَّر أحكامها وتتبدَّل بتغيُّر الزمان ومظاهره الجديدة في جميع الأبعاد، الاجتماعية والفنية والثقافية وغيرها. كما يرون أيضاً وجوب أن يسود الذوق، والروح الحاكمة على الزمان، ومظاهره الجديدة، وأن تخضع لها الأحكام الإلهية. ويمثل هذا الأمر في الواقع توليفاً للدين مع ما هو ليس من الدين. وبعبارة أخرى: تهذيب الدين وتشذيبه من الطرق غير الأصولية.
وعلى أية حال فقد تخلّى أتباع هذا الرأي عن المفاهيم الأصيلة للحضارة والدين والشريعة، واعتنقوا الثقافة المبتذلة الفاسدة بشكل كامل، ودون أيّ قيد أو شرط. فهم يبرِّرون بعض الأمور المخالفة لموازين الشريعة، من قبيل: الربا، والسفور، واختلاط النساء بالرجال من دون مراعاة الموازين الدينية، معتبرين أن أحكام الدين تقود إلى التخلُّف والرجوع إلى الوراء. هذا في الوقت الذي تنسجم فيه القوانين الإلهية مع تطوُّر الحياة ومظاهره الجديدة بشكل كامل.
الرأي الثاني: وهو عبارة عن إخضاع الأحداث ومظاهر الحياة الجديدة، في البعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفني و… لكل زمان، لأحكام الشريعة، من خلال تطبيق الاجتهاد على مصادرها وأسسها، ولكن مع أخذ الخصائص الداخلية والخارجية للموضوعات التي تتغيَّر بتغيُّر الزمان بنظر الاعتبار؛ ذلك أنها تكتسب حكماً آخر على أساس أدلة أخرى نتيجة لهذا التغيير. وعلى أساس هذا الرأي فإن أحكام الشريعة لا تتغيَّر إطلاقاً بتغيُّر الزمان ومظاهره الجديدة؛ لأن الزمان بالنسبة لها يعدّ وعاءً، وليس علة، بل إن الموضوعات أو خصائصها الداخلية أو الخارجية هي التي تتغيَّر بتغيُّر الزمان. وفي هذه الحالة يجب أن تتغيَّر أحكامها أيضاً تبعاً لذلك. وتقوم هذه النظرية على أساس قانون تغيُّر الاجتهاد بتغيُّر الزمان، والأسس الشرعية الصحيحة.
إن النظرية الثانية هي الصحيحة، وفقاً لرأي الفقه الاجتهادي للإسلام؛ لأن تغيير الاجتهاد التطبيقي والتفريعي، الذي يتأثر بتطورات الزمان وأحواله، لا يعتبر تطوُّراً وتغييراً في الشريعة، بناءً على أساس ثوابت الشريعة وأدلتها المعتبرة؛ لأنه من المعروف في أسس الفقه الاجتهادي للإسلام ـ أي القرآن، وسنّة النبي الأكرم وأوصيائه ـ أن الأحكام الشرعية تقوم على أساس الموضوعات والملاكات، بقيود وشروط معينة، ولا يحصل أيُّ تغيير في أحكامها طالما لم يحصل أيُّ تغيير فيها؛ لأن الموضوع بمنزلة العلة للحكم. وكما أن انفكاك المعلول عن العلة غير ممكن فإن انفكاك الحكم عن موضوعه غير ممكن أيضاً، حتى لو حصل تغييرٌ ما في مظاهر الحياة.
وبناء على ذلك، فبالإضافة إلى إمكانية جعل الفقه ينسجم مع الأحداث المختلفة، باستخدام الأسلوب الأصولي المعتدل للاجتهاد، من الممكن أيضاً حلُّ مشكلة تطبيق الشريعة الثابتة مع متغيّر الزمان وأحواله عن طريق نظرية تغيير الاجتهاد. وهذا لا يعني تغيير الشريعة، بل يعني تغيُّر موضوعات الأحكام وملاكاتها، والذي ينجم عنه تغيير الأحكام على أساس أدلة أخرى.
الأحكام الجديدة، هويتها وسياقاتها
الملاحظة الأولى: ليس الحكم الجديد للموضوع المتغير حكماً ثانوياً. والأمر الذي ينبغي التذكير به هو أن الحكم الجديد، الذي حصلنا عليه عن طريق الاجتهاد على أساس الأدلة الشرعية للموضوع المتغير على أثر تغيُّر الزمان، لا يُعَدُّ حكماً ثانوياً له؛ لأن الحكم الثانوي يكون للموضوع الذي يمتلك حُكمين: أحدهما: بعنوان الحكم الأولي، وفي حالة الاختيار؛ والآخر: ثانوي، وفي حالة الاضطرار. ولكن الأمر هنا ليس كذلك؛ لأنه بعد تغيُّر الموضوع، أو خصائصه الداخلية أو الخارجية، يظهر الموضوع الجديد. إذاً هناك موضوعان: أحدهما: قبل تغيُّره؛ والثاني: بعد تغيُّره، بمعنى أن تغيُّر الزمان وأحواله يلعب دوراً في تغيير الموضوع، أو خصائصه. ومتى ما حصل تغيُّر الموضوع يتبعه تغيُّر الحكم، من طريق أساسي آخر؛ بسبب تغيُّر موضوعه. وعليه فإن الحكم الثاني، المتأتّي على أساس الدليل، إنما هو للموضوع الثاني، وليس للموضوع الأول. وبناء على ذلك فالحكمان هما لموضوعين، وليسا حكمين لموضوع واحد.
الملاحظة الثانية: لا يتعارض الحكم الجديد للموضوع مع الحديث المعروف بهذا الخصوص. والتغيير الحاصل في الحكم، على أثر التغيير في موضوعه، لا يتعارض مع «حلالُ محمدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة؛ وحرامُ محمدٍ حرامٌ إلى يوم القيامة»؛ لأن الموضوع بكل خصوصياته إذا كان يمتلك حكماً معيناً في زمن ما، وكان نفس الموضوع بكل تلك الخصائص موجوداً في الزمن اللاحق، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنه سيحصل على حكم آخر كحكم أوّلي؛ لأن هذا الأمر يتعارض مع قانون «حلالُ محمدٍ…»؛ ولكن إذا تغيَّر الموضوع، أو خصائصه الداخلية أو الخارجية، أو عنوان الحكم، أو ملاكه، فإن هذا التغيير سينجم عنه تغيير الحكم أيضاً. وفي هذه الحالة سوف لن يكون للحكم الثاني أي تعارض مع جملة «حلالُ محمدٍ»؛ لأن الحكم الجديد للموضوع الجديد جاء على أساس أدلة أخرى، وليس للموضوع الأول وعلى العكس من حكمه. إذاً هناك موضوعان بحكمين مستقلين في الواقع، وكل حكم من هذه الأحكام يعدّ حكماً أوّلياً بالنسبة لموضوعه.
التغيير الكمي والكيفي للاجتهاد
يحدث التغيير الحقيقي في الميدان الفقهي عندما تلاحظ أسبابه الكمية والكيفية إلى جانب بعضها البعض، وتتغير سويّةً. ومن هنا لابد لنا من القيام بدراسة لوازم التغيير، وموانعه، في كلا البعدين.
1ـ التغيير الكمّي
المراد بتغيير الاجتهاد من الناحية الكميّة ما يلي:
أولاً: أن يصار إلى استخدام الاجتهاد في جميع الميادين، بما في ذلك المصادر الفردية، والعبادية، والاقتصادية، والثقافية، والقانونية، والجزائية، والاجتماعية، والسياسية، ومسائل إدارة الدولة. وبنظرة عابرة للخصائص التاريخية للمرحلة المعاصرة، وتحولاتها المتنوعة، نجد أنفسنا اليوم أمام سيل من التساؤلات، التي هي بحاجة للإجابة عنها. ويتمكن الفقيه من الوصول إلى هذا الهدف عندما يجعل نفسه متواصلاً بشكل كامل مع الحياة الفردية، والعالم المعاصر، وتحديد ظواهره، وخصائصه، بعد دراستها بشكل كامل.
ثانياً: للإجابة عن التساؤلات، واستخراج الأحكام من المصادر، لابد من الاجتهاد في جميع مصادر الشريعة، من خلال فهم المجتمع، والوقوف على متطلَّباته واحتياجاته، على أساسٍ من الرؤية الكونية، وبرؤية لعمق القيود التاريخية، آخذين بنظر الاعتبار أبعاد النظام الإسلامي. وعند استخدامه لا يمكن الاكتفاء أبداً بالمباني والأسس المتعلِّقة بالمسائل الفردية والتعبُّدية فقط؛ لأنه لا يمكن في هذه الحالة حلُّ مشاكل المجتمع الإسلامي، وملء الفراغات، وإزالة النواقص.
ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي الأسباب التي أدَّت إلى عدم تطور الاجتهاد كمّاً؟ والجواب هو أنه لم يطرأ أيُّ تطور على الاجتهاد من الناحية الكميّة على مرّ التاريخ؛ بسبب فقدان المناخ التنفيذي والعملي للفقه الإسلامي في مختلف مجالات الحياة، والذي نجم بسبب استيلاء المستعمرين أو عملائهم على البلاد الإسلامية. وعلى أثر ذلك اقتصرت الاستفادة من الاجتهاد على الميادين الفردية والتعبدية فقط، ولم يفعّل في المجالات الأخرى. وأدى هذا الأمر بالمجتهدين إلى الاهتمام بالمسائل والمتطلِّبات الفردية للإنسان، في حين كان من المفروض بهم أن يهتمّوا بقضايا المجتمع ومتطلباته أكثر، ويكونوا مسؤولين أمام احتياجاته. ووصل بهم هذا الأمر تدريجاً إلى الحد الذي أصبحت فيه الذهنية القائلة بأن مسؤولية الشريعة تقتصر على نطاق المسائل الفردية والتعبدية فقط هي السائدة لدى البعض منهم، ولا شأن لها بالمسائل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وممارسة السلطة. ونتيجة لهذه الذهنية لم يواكب الفقه الاجتهادي وقوانين الشريعة تفاصيل الحياة، ممّا حدا بأعداء الإسلام إلى استغلال هذه الأوضاع أيَّما استغلال، والقيام بطرح آرائهم ونظرياتهم وقوانينهم الوضعية، الملائمة لأهوائهم، في المجتمعات الإسلامية، وفي مختلف أبعاد الحياة، كبديل عن قوانين الفقه الإسلامي وتطبيقاته.
وتجدر الإشارة إلى أنه رغم حصول بعض المشاريع والنشاطات الاجتهادية والاستنباطية المفيدة بعد انتصار الثورة الإسلامية، وتنفيذ بعض الخطوات البنّاءة في هذا المجال، مع كونها ذات نطاق محدود جدّاً، لم تلبِّ متطلّبات المجتمع واحتياجاته على كافّة الأصعدة.
وبناء على ذلك لابد أن يصار إلى توسيع دائرة الاستنباط في المراكز الفقهية والاستنباطية؛ لتتمكن من تلبية متطلبات المجتمع. كما يجب على المتصدّين للاستنباط اليوم، وفي ظل قيام الحكومة الإسلامية، أن يعرفوا جيداً رسالتهم التاريخية وواجباتهم أكثر من أيّ وقت مضى، وأن يكونوا بصدد الإحاطة باحتياجات المجتمع أكثر فأكثر. ويعد مثل هذا المستوى من المعرفة والتفهم أمراً ضرورياً في الرؤية الكونية للمجتهدين؛ لأنه بدون ذلك لا يمكننا التغلب على المشاكل التي تحيط بالبشرية اليوم، في مختلف أبعاد الحياة، عن طريق الاجتهاد بالأصول والقوانين الكلّيّة والمحدودة، وأن نلبي احتياجات المجتمع، ونسدّ مناطق الفراغ، ونقضي على عيوبه، ونقاط الضعف فيه. ونأمل أن تؤدي المسيرة التي بدأت في هذه السنوات إلى إزالة آثار القيود السابقة تدريجياً. ومما لا شك فيه أنه إذا لم يحصل أي تغيير في عملية الاجتهاد فإن الكثير من المسائل المستحدثة، وبخاصة في الجانب المتعلِّق بإدارة الدولة، ستبقى دون إجابة، وستصبح حياة الإنسان المتجددة في المجتمعات الإسلامية بعيدةً عن سلطة الإسلام، ومقرونةً بالمشاكل.
2ـ التغيير الكيفي (النوعي)
المراد بالتغيير النوعي للاجتهاد هو أن تحصل عملية الاجتهاد والاستنباط بأسلوب حديث، على أساس العناصر الأساسية للاستنباط، آخذةً بنظر الاعتبار تغيُّر الزمان، والمكان، والعرف، وأحوال الناس المؤثِّرة على الخصائص الخارجية والداخلية للموضوعات، والمؤدية إلى تغيير أحكامها على أساس الأدلة الشرعية، وليس بالأساليب السابقة للاجتهاد.
ومن المناسب هنا أن نتطرَّق إلى ذكر الأساليب التسعة للاجتهاد، المستخدمة طيلة الفترة السابقة، ومن ثم نتطرَّق إلى ذكر الأسلوب الجديد، وشروطه، وخصائصه.
أساليب الاجتهاد التسعة، عرض وتحليل
كنا نعتقد أن أساليب الاجتهاد لا تعدو ستّة طرق. ولكن أصبح معلوماً ـ بعد التفحُّص ـ أن للاجتهاد تسعة طرق، وهي:
1ـ الاجتهاد بناءً على أساس المباني المعتبرة بشكل علمي، لا عملي، وبدون إصدار الفتوى والتفريع؛ أي بدون إرجاع الفروع الجديدة إلى الأصول الأساسية، وبدون تطبيق القوانين الكلية على مصاديقها الخارجية. وهذا هو أسلوب ابن أبي عقيل العماني(329هـ) قبل تأليف كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول». وهو أول عالم من علماء الشيعة طرح موازين الاجتهاد وأصوله عند الاستنباط بشكل علمي. ومن جملة موازينه: مبحث الدلالات، والمفاهيم، والأمارات، وغيرها. وجاء بعده تلميذه ابن جنيد الإسكافي، الذي وضَّح أسلوب أستاذه لتلامذته، ومنهم: الشيخ المفيد، وقام بدوره بنشرها بشكل مختصر في كتاب «أصول الفقه». ثم قام بعده السيد المرتضى، تلميذ الشيخ المفيد، بتوضيحها وتدوينها في كتاب «الذريعة إلى علم الأصول» بشكل ملفت. ثم قام بعده تلميذه الشيخ الطوسي بتوضيحها، مع قليل من التغيير، في «عدة الأصول». وبعد ذلك تناولها علماء الأصول، وقدَّموها بمزيد من التغيير.
2ـ الاجتهاد بناءً على ظاهر النصوص بشكل عملي، ولكن بدون التفريع والتطبيق. وهذا الأسلوب ينسب للعلماء المعاصرين للأئمة. ولهذا السبب حذّرهم الإمام الصادق× من هذا الأسلوب، وأمرهم بأن يفرّعوا على أساس الأصول، وقال: علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا»([13]). كما قال الإمام الرضا×: «علينا بإلقاء الأصول، وعليكم التفريع»([14]). إن تأكيد الأئمة على التفريع يبين أن الاعتماد على ظاهر النصوص، بدون إرجاع الفروع الجديدة إلى أصول الأحكام الأساسية (التفريع)، وبدون مطابقة القوانين الكلية للأحكام على مصاديقها الخارجية (التطبيق)، لا يمكنه حلّ مشاكل حركة الاجتهاد. وقد برز هذا الأسلوب في القرنين الحادي والثاني عشر في إطار المذهب الأخباري.
3ـ الاجتهاد على أساس ظاهر النصوص مع التفريع، ولكن بالاعتماد على التفريع، وتقليل الاعتماد على ظاهر النصوص. وكان ذلك هو الأسلوب الذي اختاره ابن أبي عقيل العماني في السنوات الأخيرة من حياته.
4ـ الاجتهاد على أساس ظاهر النصوص مع التفريع، ولكن بالاعتماد الأكبر عليها، وتقليل الاعتماد على التفريع. وذلك هو أسلوب الشيخ المفيد. وكتابه الموسوم بـ «المقنعة» شاهد على هذا القول.
5ـ الاجتهاد على أساس ظاهر النصوص مع التفريع، ولكن بالاعتماد المتساوي على ظاهر النصوص والتفريع. وقد اتبع هذا الأسلوب كلٌّ من: السيد المرتضى؛ والشيخ المفيد. وكتبهم الفقهية والأصولية شاهدٌ على هذا القول.
6ـ الاجتهاد على أساس القواعد الصحيحة مع التفريع والتطبيق، ولكن نظرياً فقط، وليس في مقام العمل والفتوى. والمجتهد الذي يتبع هذا الأسلوب يُعَدُّ أصولياً من الناحية النظرية، وأخبارياً في مقام العمل والفتوى. وكان هذا الأسلوب متَّبعاً من قبل أكثر المجتهدين على مر العصور؛ لأنه كان ينسجم مع ظروف زمانهم.
7ـ الاجتهاد على أساس قواعد الشريعة مع التفريع والتطبيق، وفي مقام العمل والفتوى، ولكن بدون دراسة الخصائص الداخلية والخارجية لموضوعات وملاكات الأحكام، التي تتغير بمرور الزمان. وكان هذا ديدن بعض المجتهدين في القرن الأخير. ولكن بسبب بعض الملاحظات كانوا يعملون بأسلوب الأخباريين في بيان الأحكام، أي العمل بالاحتياط.
8ـ الاجتهاد على أساس مباني الشريعة مع التفريع والتطبيق، وفي مقام العمل والفتوى، ولكن بدون إجراء الدراسات الكافية بشأن ملاكات الأحكام وأوصاف الموضوعات، التي يكون لتشخيصها دور في أحكامها.
9ـ الاجتهاد على أساس الأدلة والعناصر المستخدمة في الاستنباط مع التفريع والتطبيق، وفي مقام العمل والفتوى، مع الدراسات التي يجب القيام بها عند الاستنباط.
مقدّمات الاجتهاد في المنهج الاجتهادي التاسع
عند استنباط الحكم الشرعي ينبغي القيام بدراسة الأمور التالية:
1ـ الدراسة الكاملة لدليل الحدث، ومدلوله، وموضوع الحكم.
2ـ دراسة حقيقة موضوع الحكم، وخصائصه الداخلية والخارجية، أي الخصائص التي يؤثِّر فيها تغيُّر الزمان وأحواله. وفي هذه الحالة يجب أن يكون لها حكم آخر؛ لأنها خرجت من نطاق إحدى القواعد الشرعية، وأصبحت ضمن نطاق قاعدة شرعية أخرى. وعلى سبيل المثال: كان من غير الجائز بيع وشراء الدم في الأزمنة السابقة، ولكنه أصبح جائزاً في هذا الزمان؛ لأنه لم تكن فيه فائدة في الأزمنة السابقة، ومن شروط صحّة البيع والشراء هي وجود المنفعة في المباع. ولكن اليوم؛ إذ تغيَّر الموضوع، وأصبح للدم فائدة، ويمكن بواسطته إنقاذ الإنسان من خطر الموت، فقد أصبح بيع وشراء الدم حلالاً ومباحاً.
3ـ دراسة ملاك الحكم: لا شكّ أن تغيُّر الزمان وأحواله يؤثِّر في تغيير البعض من ملاكات الأحكام، بنفس المستوى الذي يؤثِّر فيه تغيُّر الزمان في تغيير البعض من خصائص الموضوعات. وفي هذه الحالة يحصل تغيير في الحكم أحياناً. وعلى سبيل المثال: يختصّ حكم الاحتكار في الأحاديث بالحنطة والشعير والتمر والزبيب. والظاهر أنه لا يشمل موارد أخرى. ولكن من خلال دراسة أساس تشريع حكمه يتضح لنا أن هذه المواد كانت تدخل في حياة الناس آنذاك بشكل كامل، وكان احتكارها يتنافى مع المصالح العامة، ويجعل الناس يعيشون في ضائقة. ومن هنا فقد مُنع احتكار هذه المواد. وهذا الأمر واضحٌ في كلام الإمام علي×؛ حيث يقول في عهده لمالك الأشتر، ضمن ما يأمره به من منع الاحتكار: «وتلك باب مضرّة العامة، وعيب على الولاة»([15]). وبعد دراسة الملاك في حكم احتكار الحنطة، والشعير، وغيرهما، فإن كل شيء يرتبط بحياة الناس وحاجتهم يشمله حكم الاحتكار.
4ـ دراسة سبب الحكم وأوصافه: بإمكان المطلعين على الأسس والأدلة الحصول على مناط الموضوع، عن طريق دراسة سبب الحكم، وأوصافه، ومن ثم تعميم الحكم على الموارد الأخرى التي تحمل ذلك المناط والوصف؛ وذلك أن مناط الحكم واحد. ومناط الحكم هو ذلك الشيء الذي يتعلَّق به الحكم على الحدث والموضوع. وعند دراسة الأوصاف لابد من مراعاة مسألتين، وهما:
أولاً: يجب الأخذ بنظر الاعتبار جميع الأوصاف التي يُعتقد أنها أصبحت مناط الحكم لأصل الموضوع.
ثانياً: يجب أن يصار إلى مقارنة أي وصف من الأوصاف بالحكم المتعلق بأصل الموضوع؛ ليتضح لنا أيُّهما يمتلك الصلاحية اللازمة ليكون مناطاً، فيؤخذ الذي يمتلك الصلاحية، ويترك الذي لا يمتلك تلك الصلاحية. وبهذه الطريقة نحصل على مناط الحكم، ونعمِّمه على كل شيء يمتلك ذلك الوصف.
ويصطلح على هذه العملية بـ «تنقيح المناط».
وعلى سبيل المثال: ورد في الخبر: جاء رجل أعرابي إلى النبي‘، وقال له: هلكت، فقال‘: وما أهلكك؟ قال: واقعتُ زوجتي نهار رمضان، فقال له النبي: أعتق رقبة.
وفي هذا الخبر تلاحظ الخصوصيات التالية: السائل أعرابي، والمواقعة حصلت مع الزوجة، وفي نهار شهر رمضان. وبعد دراسة مناط الحكم يفهم الفقيه أن الكفارة التي أمر بها النبي‘ تتعلق بالمواقعة أثناء الصوم، وليس على بعض الخصوصيات، من قبيل: كون الرجل أعرابي، والمرأة زوجة، والشهر شهر رمضان. إذاً يسري هذا الحكم على كل من يصدر عنهم العمل المذكور، سواءٌ كانوا أعراباً أم لا، وسواء كانت المواقعة مع الزوجة أم مع غيرها، وسواء وقع هذا الأمر في شهر رمضان أم في غيره.
وتجدر الإشارة إلى أن العلماء يختلفون في هذا الأمر. ولكن إذا تمّ الحصول على مناط الحكم بشكل قطعي، عن طريق العقل، مع دراسة الأوصاف، فلا يختلفون فيه، ويأخذون به جميعاً، ويبقى الاختلاف فقط في الموضع الذي يكون فيه المناط المستحصَل ظنياً.
كما يجب هنا أخذ التباين بين مناط الحكم وعلته بنظر الاعتبار أيضاً. وتتعلَّق علة الحكم بمقام الثبوت والواقع، ولكن مناط الحكم يتعلق بمقام الإثبات والاستظهار من الدليل. ولهذا السبب فالعلة عبارة عن الشيء الذي يدور الحكم مداره واقعاً وثبوتاً، ووجوداً وعدماً؛ والمناط عبارة عن أن يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، ولكن في مقام الظاهر والإثبات، ومقام الاستظهار من الدليل. ومن هنا لا يمكن الحصول على علّة الحكم، والتي تعني المصلحة والمفسدة الواقعية؛ لأنه لا سبيل لنا إلى الواقع. إلا أنه يمكننا التوصُّل إلى مناط الحكم؛ لأنه يوجد لدينا سبيل للوصول إلى مقام الاستظهار من الدليل. ومن خلال هذا المخرج فقط يمكننا أن نفرّق بين إثبات الحكم عن طريق القياس ووحدة المناط، ونحكم ببطلان الأول، وصحة الثاني؛ لأن القياس يعني تعميم الحكم المتعلِّق بموضوع معين، والثابت بشكل قطعي عن طريق الدليل، على موضوع آخر يكون فيه ثبوت ذلك الحكم لهذا الموضوع عن طريق تلك العلة غير معلومٍ.
إذاً يستند القياس على استكشاف العلة. والعلة هي المصلحة الواقعية التي يعجز العقل عن استكشافها. إلا أن إثبات الحكم عن طريق وحدة المناط ليست كذلك؛ إذ إن وحدة المناط تستـند إلى استكشاف مناط الحكم عن طريق الاستظهار من الدليل ـ المتعلِّق بمقام الإثبات. ومن الواضح أن هذا المقام يمكن كشفه من قبلنا.
5ـ دراسة المصالح والمفاسد وحاجة المجتمع: بإمكان الخبراء بمسائل النصوص المقدسة الحصول ـ في بعض الحالات ـ على علة الحكم لموضوع معين، عن طريق دراسة المصالح والمفاسد، وحاجة المجتمع، بواسطة العقل، وتعميم ذلك الحكم على موضوع آخر، يرى المستنبط أنه يمتلك نفس تلك العلة. ويصطلح على هذا الفعل بـ «مستنبط العلّة». وعلى الرغم من أن علماء الإسلام الأصوليين لم يقولوا بذلك بشكل مطلق، إلا أنهم يقولون: لو تمّ إحراز علة الحكم في موضوع معين بشكل قطعي ويقيني فبالإمكان تعميم ذلك الحكم على موضوع آخر له نفس العلة؛ لأن حجيّة القطع ذاتية.
ومن المناسب هنا التذكير بمسألتين:
الأولى: إن تشريع الحكم على أساس المصالح والمفاسد، والذي يتم التوصل إليه عن طريق العقل، أمر شائع في الفقه السنّي؛ إذ إن علماء السنة في زمن الصحابة، الذي استمر مائة عام تقريباً، ومن ثم في زمن التابعين وتابعيهم، كانوا إذا أحرزوا مصلحة أو مفسدة عن طريق العقل يفتون بالأخذ بذي المصلحة، وترك ذي المفسدة، حتى أن بعضهم كان يستخدم هذا الأسلوب الاستنباطي في تشريع الأحكام بشكل مفرط على أساس المصلحة، حتى لو كان على خلاف النص.
الثانية: إن هناك فرقاً بين تشريع الحكم على أساس المصلحة والمفسدة وبين قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. والمقصود بقاعدة الملازمة أنّه لو حكم العقل في نفسه، دون أن يلحظ أي شيء آخر، بحسن أو قبح شيء ما فهل يحكم الشارع أيضاً بذلك الحكم بشكل قطعي؟ وبعبارة أخرى: هل أن حكم العقل على شيء بشكل يقيني يكشف لنا عن أن حكم الشارع هو نفس حكمه؟ ولو كان الأمر كذلك فبإمكاننا القول بهذا الكشف؛ لأن هذا الكشف واسع شامل، وكما أن حكمه في العقل النظري ليست له حدود معينة فإن حكمه في العقل العملي لا حدود له أيضاً.
6ـ تحرّي وجود العلة في المصاديق: تسمى عملية البحث عن وجود العلة في المصاديق فقهياً «تحقيق المناط». وتحقيق المناط عبارة عن التحري عن وجود العلة في المصاديق، بعد أن يقف المجتهد على علة الحكم بشكل كامل عن طريق النص أو الإجماع. ولا حاجة في هذا الطريق إلى معرفة أوصاف حكم الموضوع، ومناسبته والمصالح والمفاسد، للحصول على علة الحكم، بل نحن بحاجة فقط إلى معرفة وجود العلة في المصاديق لا غير، لكي نرتب الحكم عليها، من قبيل: الاجتهاد في مسألة القبلة؛ إذ إنها معروفة بالدليل، والاجتهاد في تشخيص القبلة من بين الجهات.
7ـ دراسة العلة المنصوص عليها في أصل النص: متى ما حصلنا على حكم معين عن طريق نصّ صحيح في المصادر، وكانت علة الحكم مذكورة بشكل صريح في ذلك النص المعبِّر عن حكم الشرع، فبإمكاننا تعميم الحكم ـ على أساس ذلك ـ إلى أي موضوع آخر توجد فيه العلة المذكورة. ويصطلح على ذلك فقهياً بـ «القياس منصوص العلة». إلا أن بعض العلماء يعتقدون بأن التعدّي من موارد منصوص العلة إلى سائر الموارد التي توجد فيها العلة هو عمل بمقتضى ظاهر عموم التعليل، ويعدّ العموم من نوع الظواهر، وحجية الظواهر ثابتة برأي العقلاء. إذاً فإن تعميم الحكم من مورد منصوص العلة إلى سائر الموارد الواجدة للعلة هو من باب اعتبار الظهور وحجّيته، وليس من باب حكم العقل. وفي مقابل هذا الفريق يرى بعض العلماء، الذي عاشوا في القرن الرابع، أنه لا يجوز التعدّي من موارد منصوص العلة؛ لأنهم أجروا عليه حكم قياس التمثيل والتشبيه.
8 ـ إجراء المقارنة بين حكم المنطوق مع الحكم في المفهوم: متى ما توصل الفقيه عند مقارنته بين الحكم في المنطوق والحكم في مفهوم الدليل إلى أن الحكم في المفهوم أقوى فإنّ باستطاعته تعميم ذلك الحكم على مفهومه أيضاً. واصطلحوا على هذا العمل بتسمية «قياس الأولوية». ويتم قياس الأولوية بشرطين:
الأول: أن يكون حكم المنطوق والمفهوم من سنخ واحد، من قبيل: أن يكون حكم المنطوق والمفهوم واحداً، كالوجوب أو الحرمة.
ثانياً: أن يكون ملاك الحكم في المفهوم أقوى من ملاك الحكم في المنطوق. وعلى سبيل المثال: لمّا ورد النهي عن قول «أفّ» للوالدين فإن دلالة هذا النهي على قول السوء وإيذائهم تكون من باب الأولوية؛ لأنه: أولاً: الحكم في المنطوق والمفهوم من سنخ الحرمة؛ وثانياً: ملاك الحرمة في قول السوء وإيذاء الوالدين أقوى من قول «أفّ» لهما.
وقد اعتبر بعض العلماء ذلك من باب حجية الظهور، وليس من باب الأدوات العقلية.
9ـ دراسة الأدلة الاستنباطية: إن دراسة الأدلة الاستنباطية؛ للحصول على الحكم الشرعي بواسطة العقل في غير الموارد المذكورة، هي من باب تنبيه الخطاب، ولحن الخطاب، ودليل الخطاب، وفحوى الخطاب.
يطلق أسلوب تنبيه الخطاب على الحالة التي يستفاد فيها ملاك الحكم من كلام الشارع المقدس، بدون أن يكون بحاجة إلى تصريح الشارع. من قبيل: مسألة النقصان المثارة في بيع الرطب بوصفه تمراً. فقد سألوا النبي الأكرم‘ حول بيعه، فقال: «أينقص إذا جفّ؟ قالوا: نعم، فقال‘: لا إذن»([16]). ويتضح من جوابه‘ أن السبب أو العلة في منع بيع الرطب بعنوان التمر هو النقصان الحاصل فيه بعد الجفاف.
ويستخدم أسلوب دليل الخطاب عندما يتعلق الحكم الشرعي بإحدى الصفتين اللتين لهما موضوع، كالدليل الذي يوجب الزكاة على الغنم التي ترعى (السائمة)([17]). فوجوب الزكاة هنا متعلِّق بوصف السائمة، وهي إحدى الصفتين الثابتتين للحيوان، وهما: السائمة؛ والمعلوفة (أي التي تأكل من علف المالك). وقد أطلقت كلمة الوصف على هذا المفهوم عند علماء الأصول. وهناك اختلاف في وجهات النظر بينهم حول اعتباره وحجّيته. فالشيخ الطوسي يقول باعتبار هذا الوصف؛ ولكن السيد المرتضى ينكره.
ويستخدم أسلوب لحن الخطاب عندما تكون إحدى الكلمات محذوفة، ويدلّ سياق الكلام على ذلك. وعلى سبيل المثال: إن كلمة «فضرب»، في الآية الكريمة: ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ﴾ (البقرة: 60)، مقدَّرة قبل كلمة «فانفجرت». ويعبّر سياق الآية هنا عن كلمة محذوفة. ومن هنا لا حاجة للتعبير عن شيء آخر محتمل. كما يطلق على لحن الخطاب مصطلح «معاريض الكلام»([18]).
وأما فحوى الخطاب فهو أن ملاك الحكم يتضح عن طريق العقل. ويقع ذلك عندما يكون لجملة ما مفهومٌ، ويكون ملاك الحكم فيها أقوى من ملاك المنطوق، وملاك حكم الاثنين من سنخ واحد. من قبيل: جملة: ﴿فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ…﴾ (الإسراء: 33). وقد مر شرح ذلك وتوضيحه.
أساليب الاجتهاد، رصد لمديات الفاعلية
لهذه الأساليب التسعة فاعلية مختلفة. فالأساليب الستة الأولى ليس فيها ذلك القدر من الفائدة، وليس في ذلك خلاف. وإنما الكلام في فاعلية الأساليب المتبقية، وهو ما سنتطرق له في هذه العجالة.
إن الأسلوبين السابع والثامن من أساليب الاجتهاد، وعلى الرغم من أنهما مفيدان في القضايا غير الحكومية إلى حدٍّ ما، غيرُ مرغوبٍ فيهما في القضايا الحكومية، كما هو الحال في الأساليب السابقة؛ لأن بعض العناصر، من قبيل: الزمان، والمكان، والعرف، والأحوال، وغيرها، لا اعتبار لها في تغيُّر وتبدّل الأحكام وموضوعاتها في هذه الأساليب.
إلا أننا نرى أن الأسلوب التاسع يُعدُّ أسلوباً ناجعاً، وراقياً، ومرغوباً للاجتهاد، والذي يمكن ـ باستخدامه في كافة ميادين المعرفة ـ وضع الحلول الشافية لكافة مشاكل المجتمع الإسلامي، وسدّ النواقص، وإزالة السلبيات. وينبغي للمجتهد الذي يستخدم هذا المنهج أن يتمتع بالخصائص التالية:
1ـ فهم الرسالة الخطيرة للفقه الاجتهادي، والرؤية الكونية للشريعة، وحقائق الزمان.
2ـ امتلاك الرؤية الكونية الواسعة، والدراية بالشؤون السياسية المعاصرة.
3ـ المعرفة بالمجتمع الذي يعيش فيه، والوقوف على متطلِّباته واحتياجاته.
4ـ الإحاطة بالمجتمعات الأخرى، وظروفها.
5ـ المعرفة الدقيقة بموضوعات الأحكام، ودراسة خصائصها المتغيِّرة بمرور الزمان. ويجب أن يتم هذا الأمر من قبل فريق متخصِّص، كلٌّ حسب اختصاصه؛ وذلك أن هذه التغييرات تخرج الموضوع من نطاق قاعدة شرعية معينة، وتدخلها في قاعدة شرعية أخرى لها حكم آخر.
6ـ عدم التأثر والتراجع أمام العوامل النفسية والخارجية، والسنن الاجتماعية الخاطئة، وآراء الماضين؛ وإلا فسيأخذ المجتهد بطريقتهم، ولا تعتبر نظريته اجتهاداً شرعياً.
7ـ عدم التقوقع داخل أسوار السذاجة، والخرافات، والتحجُّر، والجمود، والتشبُّث بالظاهر.
8ـ الابتعاد عن التأويلات السطحية للنصوص الاستنباطية.
9ـ استنباط الأحكام على أساس العناصر الأساسية للاستنباط، بعد مراجعتها وإعادة قراءتها، على أساس الأخبار الموضوعة والضعيفة، والمنقول بالإجماع، والشهرة التي لا أساس لها ولا سند.
10ـ العمل بالاجتهاد في مرحلة التنظير، وكذلك في مرحلة الفتوى.
11ـ فهم الروح العامة للشريعة من العناصر الأساسية للاستنباط، القائمة على أساس الصفح واليسر.
12ـ امتلاك القدرة على دراسة ملاكات الأحكام في المسائل غير التعبدية، كالمسائل الاجتماعية، والحكومية، عن طريق العقل؛ لأنه يمكن في بعض الحالات الحصول على ملاكات الأحكام، وتعميم الحكم على الحالات التي لم يصرَّح بحكمها، بمساعدة العقل فحسب.
إنّ النتائج المتمخِّضة عن الأسلوب الاجتهادي التاسع عبارة عن:
1ـ الإجابة القاطعة والواضحة عن التساؤلات في جميع ميادين الحياة، بما في ذلك الفردية منها، والتعبدية، والاجتماعية، والحكومية، وغيرها.
2ـ تخليص الفقه الإسلامي من تهمة العجز عن إدارة المجتمع الإسلامي الكبير.
3ـ خروج الفقه من حالة الركود، نحو الفاعلية والحركية والازدهار، وتوسُّعه في جميع الأبعاد.
4ـ إزالة أنماط الاحتياط، التي لا تمتلك سنداً ذا قيمة، والتي تؤدي إلى تشويه صورة الفقه. وقد سبق أن قلنا مراراً: إن العمل بالاحتياط من هذا القبيل إنما هو ضد الاحتياط.
فلو أن مجتهداً امتلك الشرائط الكاملة للاجتهاد، واستخدم الأسلوب التاسع، وكان محيطاً بظروف زمانه، ومدركاً بأن الشريعة تمتلك بعداً عالمياً، وأن أحكامها جاءت لجميع الأزمنة والأماكن والحالات، فإنّ بإمكان هذا الفقيه الإجابة عن التساؤلات في جميع الميادين: الفردية، والاجتماعية، وغيرها.
الهوامش
(*) أحد مراجع التقليد في إيران، وفقيه بارز، عرف عنه دراساته في الفقه المقارن وتاريخ الاجتهاد، ونظرياته التجديدية والنقدية.
([1]) العلامة الحلي، كشف المراد: 173.
([2]) القواعد والفوائد 1: 152.
([3]) المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 3: 436.
([6]) الإمام الخميني، صحيفة النور 21: 98.
([9]) المجتهدون في القضاء: 29.
([10]) رسالة بن عابدين 2: 123.
([11]) المدخل الفقهي العام 2: 924.
([12]) أصول الفقه الإسلامي 2: 1116.
([13]) وسائل الشيعة 27: 91؛ بحار الأنوار 2: 245.
([15]) شرح ابن أبي الحديد 17: 83.
([16]) المستدرك 13: 342، باب13.