مقدمة:
تصدر بين فترة وأخرى مقالات وكتب سجاليه تنشر في بعض المواقع الإلكترونية ووسائل النشر الأخرى، تحمل دعوى مزاولة الإصلاح وكشف الزيف الذي وقع في بعض المدارس الفكرية المسلمة – حسب زعمها -. ولإيهام القراء – لاسيما غير المتابعين – يقوم بعضهم بالتواري خلف أقنعة أسماء مجهولة وإضافتها الى بعض العوائل المعروفة كالحسيني والموسوي وما شابه! ويقوم بعضهم باقتطاع كلمات جملة من الفقهاء السالفين وبترها وتحويرها وتحشيد أسمائهم وتكثير الهوامش والمصادر للإيحاء بأنهم يتبعون منهجا علميا ويلتزمون بأمانة النقل وقواعد التوثيق في البحث. ولا يفوتهم تقديمها تحت لافتة التقرب الى الله تعالى والأمانة للتاريخ والحماية للأجيال من الاستغلال والابتزاز! ولكن سرعان ما يتبين للقارئ بأنها كتابات متحاملة تتذرع بدعاوي التصحيح لتمتهن أساليب القدح ونسبة البذاءات إلى بعض المدارس الفكرية ورموزها البارزة ولأغراض باتت معروفة.
ويلاحظ ان من بين العناوين التي تستأثر اهتمام بعضها موضوعة الخمس وتسليمه للفقيه المجتهد. ولست في وارد مناقشة مقولات بعض هذه الكتابات بعد أن أبان بعض المختصين حقيقة هذا النهج وبينوا الموقف من مقولاتها. وسوف أكتفي بالإشارة اليها في هذه المداخلة ” بالكتابات المتحاملة “
ومن المؤسف، أن يقع في شركها بعض الطيبين فيندفعوا في تصديقها والاعتماد على مضامينها – سواء مباشرة أو عبر كتابات ثانوية – بطريقة أشبه بحذو القذة بالقذة!
لقد نشرت مؤخرا ” مقالة ” في سياق سجالي أيضا ولكن بدواع ولغة مغايرة بطبيعة الحال. والواقع ان المراجعات الفكرية في مختلف الحقول العلمية مطلوبة ومحمودة طالما تقيدت بقواعد البحث العلمي وأخلاقياته وانتهجت الدقة والرصانة في الخطاب وفي البحث. ولكن شتان بينها وبين الكتابات المتحاملة غير العلمية.
و لقد تفاجأت كثيرا، حين وجدت تطابقا لافتا للنظر – في جل الآراء التي نسبت الى بعض أعلامنا حول الخمس – بين المقالة المذكورة والكتابات المتحاملة! وإن تمايزت لغة المقالة عن أساليب الكتابات المغرضة بتركيزها على الجانب الفكري. وما عدا ذلك، فقد بدا التشابه بينهما واضحا حتى في الأخطاء الشكلية المتعلقة بأسماء بعض الرواة والعلماء وألقابهم وكتبهم وفي توثيق المصادر، بالإضافة الى المضامين المنقولة عنهم! وسوف أشير الى هذه المقالة في هذه المداخلة ” بالمقالة “.
و من أوجه التطابق الشكلي بينهما:
1- ورد في المقالة مثل الكتابات المتحاملة، اسم أحد الرواة على انه ضريس الكناني مع ان اسمه ضريس الكناسي، وورد اسم صاحب المدارك خطأ مثله، فهو محمد علي الموسوي العاملي، بينما ذكر بأنه محمد علي طباطبائي! وتردد مثلها حول اسم القاضي عبد العزيز بن البراج وما إذا كان مرددا بين الأخير أو ابن البهراج! مع ان المعهود انه ابن البراج.
2- تطرق في المقالة الى آراء جملة من العلماء، بذات المضامين بل التعابير التي وردت في بعض الكتابات المتحاملة مع تصرف محدود لا يمس الجوهر، والعلماء هم: المحقق الحلي جعفر بن الحسن، يحيى بن سعيد الحلي، الحسن بن المطهر الحلي، الشهيد الثاني،العلامة سلار، السيد محمد علي ” طباطبائي “، محمد باقر السبزواري، محمد حسن الفيض الكاشاني، جعفر كاشف الغطاء، محمد حسن النجفي، الشيخ رضا الهمداني. كما وردت فيها بعض الأسماء مع الألقاب وبعضها مجردا مثل الكتابات المتحاملة.
3-أغفل في المقالة مثل الكتابات المتحاملة ذكر أجزاء بعض الكتب واكتفى بذكر الصفحات فقط، مثل كتاب الشرائع وكتاب تحرير الأحكام وكتاب المسالك وكتاب المدارك وكتاب كشف الغطاء وكتاب مصباح الفقيه. وأِشار مثلها الى الجزء الثامن من كتاب المهذب للقاضي ابن البراج مع انه من جزئين! وذكر مثلها أسماء بعض الكتب بشكل غير دقيق، مثل كتاب المراسم العلوية لسلار ذكر بعنوان المراسيم، وكتاب مفاتيح الشرائع للفيض ذكر بعنوان مفتاح الشريعة.
و لعل بعضها بمثابة سهو القلم – وإن شئت – الإصبع في الطباعة – غير ان الغريب فيها انها متشابهة مع بعض الكتابات المتحاملة! وقد يقال ان بعض مصادر الكتابات المتحاملة من الطبعة الحجرية ولهذا لم يرد فيها ذكر الأجزاء، ولكن ماذا عن مصادر المقالة؟ وهل هي أيضا من الطبعة الحجرية ذاتها؟ أترك للقارئ تفسير هذا المستوى من التشابه بينهما!
التشابه المضموني بينهما:
أما التشابه في المضمون، فيتمثل في نسبة بعض الآراء غير الدقيقة حول الخمس الى جملة من أعلامنا منذ القرن السابع الهجري – في الغالب – وإحالتها غير الدقيقة أيضا الى كتبهم! ولتجنب التطويل، سأكتفي هنا بالإشارة الى بعض الأمثلة والتعليق عليها:
1-ذكر في المقالة ان جهابذة الرأي والعلم والاجتهاد من الأقدمين وما بعد الأقدمين رأوا بأن خمس المكاسب ليس تشريعا
و نقل من مجموعة الروايات وردت في بعض الكتابات المتحاملة، ثلاثة روايات من الكافي، مشيرا إلى وجود عشرات الروايات التي تبيح الخمس للشيعة وتسقط عنهم التكليف.
وهنا أرجئ التعليق حول الروايات المشار إليها وكيف تعامل معها الفقهاء لمناسبة أخرى، غير اني أكتفي بالإشارة بأن كاتب المقالة أغفل حقيقة وجود روايات أخرى معارضة لها، الأمر الذي يتطلب اتباع قواعد منهجية معينة للتعامل معها وصولا الى رأي معين حولها، وهو ما يفعله الفقهاء في العادة، وقد يتوصلوا، بعد ذلك الى نتائج متقاربة أو متخالفة بمقتضى تعدد المناهج البحثية السائدة وحركة الاجتهاد.
2-قال في المقالة: فقد صدرت فتاوى كثيرة المصرحة بإعفاء الشيعة من دفع الخمس وهي فتاوى من كبار الفقهاء.
و يلاحظ انه يشير هنا الى مسألتين: ان خمس المكاسب ليس تشريعا، ووجود فتاوى كثيرة بإعفاء الشيعة من دفع الخمس. ثم شرع في نسبة آراء معينة الى جملة من الفقهاء، وأترك للقارئ أن يلاحظ ما إذا كانت الآراء المذكورة تدل على أي من المسألتين أو تتطرق الى غيرهما، هذا فضلا عن مدى دقة النسبة!
3-قال في المقالة: الحلي نجم الدين فالمحقق الحسن من علماء القرن السابع قال: لا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منها. أنظر كتاب شرائع اﻹسلام ص 182-183 كتاب الخمس.
التعقيب: وهنا نتساءل: ما معنى العبارة المقتطعة السابقة أعلاه؟ هل تعني إباحة الخمس كله أو بعضه؟ أم تعني شيئا آخر يتعلق بالأنفال وما ينتقل الى أيدي الشيعة منها ومما أخذ في الحروب التي وقعت بغير إذن الإمام المعصوم (ع) ومما تعلقت به الحقوق الشرعية؟ ولنراجع كلمات المحقق في الشرائع ليتضح لنا رأيه.
نجد المحقق الحلي ذكر أولا ما يجب فيه الخمس، ومنها: ما يفضل عن مؤنة السنة، له ولعياله من أرباح التجارات والصناعات والزراعات.
نعم ذكر في المسائل الملحقة: الأول: في الأنفال. والثاني: في كيفية التصرف في مستحقه، وفيه مسائل، ذكر في الثالثة: ثبت إباحة المناكح والمساكن والمتاجر في حال الغيبة، وان كان ذلك بأجمعه للإمام أو بعضه، ولا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس.
و ذكر في الرابعة: ما يجب من الخمس يجب صرفه اليه مع وجوده (الإمام )، ومع عدمه، قيل: يكون مباحا، وقيل يجب حفظه ثم يوصى به، وقيل يدفن، وقيل يصرف النصف الى مستحقه ويحفظ ما يختص به بالوصاة أو الدفن، وقيل بل تصرف حصته (الإمام ) الى الأصناف الموجودين أيضا، لأن عليه الإتمام عند عدم الكفاية، وكما يجب ذلك مع وجوده، فهو واجب عليه عند غيبته، قال: وهو الأشبه. أي هذا هو ترجيحه وهو الأنسب في نظره من الأقوال المذكورة.
و في ضوئه نتساءل كيف يقول هناك: لا يجب إخراج حصة الموجودين ثم هنا يختار القول الأخير وهو صرف حصته (الإمام) الى الموجودين؟ ويعلل ذلك: لأنه عند حضوره (الإمام) يكملها اذا نقصت عن الحاجة، فكما يجب ذلك عليه في حضوره، يجب عليه حال غيبته. وهذا يؤيد بأنه هناك لم يكن بصدد الحديث عن خمس الأرباح والمكاسب المعتادة. والسؤال من يتولى ذلك حال غيبته؟ قال:
يجب أن يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين، من اليه الحكم بحق النيابة. (الشرائع، ج1/ 132- 136)
هذا هو رأي المحقق في الشرائع، فأين ما نسب اليه في الكتابات المتحاملة والمقالة المذكورة؟
4-قال في المقالة: الحسن بن المطهر الحلي الذي عاش في القرن الثامن أفتى بإباحة الخمس للشيعة واعفائهم من دفعه كما في كتاب تحرير اﻷحكام ص 75.
التعقيب: بمراجعة رأي العلامة الحلي في تحرير الأحكام، وجدناه قال: يجب الخمس في سبعة أصناف، وذكر منها: أرباح التجارات، والصنائع، والزراعات، وجميع أنواع الاكتسابات، وفواضل الأقوات، من الغلات، والزراعات، عن مؤونة السنة على الاقتصاد، يجب فيها الخمس إذا فضلت عن مؤونة السنة له ولعياله.
(ج1/ 438-439) وتطرق الى اختلاف العلماء حول الخمس في حال غيبة الإمام،
فذكر الأقوال السابقة ثم قال: ومنهم من يرى صرف حصته إلى الأصناف الموجودين أيضا، لأن عليه الإتمام عند عدم الكفاية، وهو حكم يجب مع الحضور والغيبة وهو أقوى. (ج1/444) وأضاف: يجب أن يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين من إليه الحكم بحق النيابة، كما يتولى أداء ما يجب على الغائب (العلامة، تحرير الأحكام، ج1/444)
هذا هو رأي العلامة في التحرير بل وفي غيره من كتبه في الجملة، فأين أباح الخمس بالجملة وأعفاهم عن دفعه كما ورد في بعض الكتابات المتحاملة والمقالة؟
5-قال في المقالة: الشهيد الثاني من علماء القرن العاشر ذهب إلى إباحة الخمس بشكل مطلق وقال: إن اﻷصح هو ذلك كما في كتاب مسالك اﻷفهام ص 68.
التعقيب: وبمراجعة كتاب الخمس في المسالك لم أجده تحدث عن إباحة الخمس ولم أجد فيه العبارة المذكورة أبدا والمنسوبة إليه في الكتابات المتحاملة والمقالة، خلافا لقواعد النقل!
بل شرح الشهيد الثاني، عبارة المحقق الحلي أعلاه والتي اقتطعت من الشرائع وفسرت في الكتابات المتحاملة بشكل غير صحيح.
قال: المراد بالمناكح السراري المغنومة من أهل الحرب في حالة الغيبة…و إن كانت بأجمعها للإمام (ع)، او بعضها على القول الآخر، وربما فسرت بالزوجات والسراري التي يشتريها من كسبه الذي يجب فيه الخمس، فانه حينئذ لا يجب إخراج خمس الثمن والمهر… والمراد بالمساكن ما يتخذه منها في الأرض المختصة به عليه السلام كالمملوكة بغير قتال ورؤوس الجبال، وهو مبني على إباحة مطلق الأنفال حال الغيبة، وفسرت أيضا بما يشتريه من المساكن بمال يجب فيه الخمس كالمكاسب..و بالمتاجر ما يشتري من الغنائم المأخوذة من أهل الحرب حال الغيبة…أو ما يشتري ممن لا يعتقد الخمس… مع وجوب الخمس فيها. وقد علل إباحة هذه الثلاثة في الأخبار بطيب الولادة وصحة الصلاة وحل المال. (الشهيد الثاني، المسالك،ج 1/ 475)
6-قال في المقالة: العلامة سلار قال: إن اﻷئمة قد أحلوا الخمس في الغيبة فضلا وكرما للشيعة خاصة زمان أنظر كتاب المراسيم ص 634.
التعقيب: بمراجعة كتاب المراسم للشيخ سلار، وجدناه يقول: في المأثور عن آل الرسول صلى الله عليه وآله -:
أنه واجب في كل ما غنم بالحرب وغيرها من الأموال والسلاح والرقيق، والمعادن، والكنوز، والغوص، والعنبر، وفاضل أرباح التجارات والزراعات والصناعات عن المؤنة، وكفاية طول عامه إذا اقتصد. (المراسم، 141)
ثم انتقل للحديث عن الأنفال فقال:
والأنفال له أيضا خاصة، وهي: كل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرض الموات، وميراث الحربي، والآجام، والمفاوز، والمعادن، والقطائع.
فليس لأحد أن يتصرف في شيء من ذلك، إلا بإذنه، فمن تصرف فيه بإذنه، فله أربعة أخماس المستفاد منها، وللإمام الخمس.
وفي هذا الزمان قد أحلوها مما نتصرف فيه من ذلك كرما وفضلا لنا خاصة. ( سلار، المراسم العلوية، 141-142)
هذا هو رأي الشيخ سلار في المراسم، ويلاحظ انه يؤكد على المفهوم الواسع للغنيمة.
كما يلاحظ إن عبارة ” قد أحلوا الخمس ” أضيفت الى كلامه ونسبت إليه في بعض الكتابات المتحاملة والمقالة، دون إشارة إلى ذلك حسب الأمانة العلمية!
بينما نجد ان كلامه ينصرف مباشرة الى الأنفال، ولهذا دعا بعض الباحثين الى التحقق مما ينسب اليه في بعض المصادر.
7-قال في المقالة: جعفر كاشف الغطاء المتوفى 1227 في كشف الغطاء ص264 ذكر إباحة اﻷئمة للخمس وعدم وجوب دفعه إليهم.
التعقيب: بالرجوع الى كلام الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المذكور وجدناه: تطرق الى ما يجب فيه الخمس، فذكر منها المكاسب. (ج2/359) وذكر أيضا: ما يفضل عن مؤنة السنة لنفسه ولنفقة عياله. (2/361) وتحدث عن الأرباح والمؤنة وما يجب فيه الخمس وما لا يجب حتى انه قال: وله الخيار إذا ظهر الربح بين الدفع في مبدأ العام وبين الانتظار احتياطا له ولو اتخذ من الدور أو الأزواج أو المراكب أو اللباس أو الفراش أو المأكل أو الظروف أو الكتب أو الآلات ما يزيد على حاله كما أو كيفا ادخل التفاوت فيما فيه الخمس… ولو حصل ربح من المال المخمس وجب إخراج خمسه، ولو اتجر بما أصابه من الخمس فربح زائدا على قوت سنة وجب عليه الخمس. (2/362)
و تحدث عن مسائل كل مورد، وعند حديثه عن غنائم دار الحرب، قال: كلما أخذ من الكفار الحربيين من محمول أو غير محمول أرض أو غيرها ولم يكن مغصوبا… بجهاد وعسكر مع النبي (ص) أو الإمام (ع) أو منصوبهما أو بإذن من أحدهما ففيه الخمس…و ما أخذ بالنحو الأول من غير إذن الإمام فالكل للأئمة (ع) وقد أحلوا عليهم السلام جميع ما هو مختص لهم من الأنفال أو مشترك بينهم وبين ذراريهم من الخمس لشيعتهم الاثني عشرية من عقارات أو مملوكين أو مملوكات أو أجناس أو نقود ملكوها بهبات أو بمعاوضات أو بغيرها من المملكات من الغاصبين لحقوق الأئمة الهداة ممن تفرع عليهم أو انتقل اليه ببعض الجهات. (كشف الغطاء، ج2/ 359)
و قال: وسهم الإمام يوصل اليه مع حضوره، وإمكان الوصول اليه، ومع عدم الإمكان لتقية ونحوها أو غيبة يعطى للأصناف الثلاثة على الأقوى، ويتولى أمره المجتهد، والأحوط تخصيص الأفضل. (جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء 2/ 363)
هذا هو رأيه في الموارد التي أحلوا (ع) للشيعة الحقوق المختصة بهم، فأين صرح بإباحة الخمس وعدم وجوب دفعه إليهم كما ورد في الكتابات المتحاملة والمقالة؟
8-قال في المقالة: أن هناك رأيا يذهب إلى أن القاضي ابن بهراج أو براج هو من طور أمر الخمس من اﻹستحباب إلى الوجوب وهذا منصوص عليه في كتاب المهذب 181/8.
التعقيب: لم يذكر لمن هذا الرأي؟ ولكنه ورد في الكتابات المتحاملة أيضا! وهو يعني ان الموقف الفقهي في حكم الخمس قبل القاضي ابن البراج (ت 481)كان هو الاستحباب وليس الوجوب وهو من طوره وحول الحكم من الاستحباب الى الوجوب وتابعه من جاء بعده من الفقهاء! غير ان آراء فقهاء الإمامية كالمفيد (ت 413) والمرتضى (ت436) وابن الصلاح (ت447) وسلار (ت 448) والطوسي (ت460) وهم من فقهاء القرن الرابع والخامس الهجريين وبعضهم عاصر القاضي ابن البراج، وكتبهم الفقهية موجودة وفي متناول الأيدي تدل على خلاف ما ذكر. ثم إن كان ثمة قول مخالف لهؤلاء فهل يعني أنه كان الموقف كله على الإستحباب وأن ابن البراج طوره إلى غيره؟
كما نسب اليه في الكتابات المتحاملة والمقالة. وحسب اطلاعي المتواضع ان كتاب المهذب لابن البراج يتكون من جزأين فمن أين جاء الجزء الثامن فيه؟
9-قال في المقالة: ولو رجعنا إلى كتاب الوسيلة في نيل الفضيلة ص 682 نرى أنه أول من مال بإعطاء الخمس للفقهاء كي يقسموه بين مستحقيه وكان ذلك في القرن السادس الهجري وهو الفقيه ابن حمزة.
التعقيب: ما ذكر في الكتابات المتحاملة والمقالة بأنه أول من مال الى ذلك ليس صحيحا، فقد سبق ابن حمزة الطوسي (ت 560) في النص على وجود دور للفقهاء في قبض وصرف الأموال الشرعية من زكوات وأخماس وغيرها بعض الفقهاء مثل الشيخ المفيد (ت413) وابن الصلاح الحلبي ( ت447) والقاضي ابن البراج الطرابلسي (ت481).
و أنقل هنا نصين فقهيين أحدهما للشيخ المفيد والثاني لابن الصلاح في هذا الشأن:
قال المفيد: فلما وجد النبي (ص) كان الفرض حمل الزكاة إليه، ولما غابت عينه عن العالم بوفاته صار الفرض حمل الزكاة الى خليفته، فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها الى من نصبه من خاصته لشيعته، فإذا عدم السفراء بينه وبين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته. (المفيد، المقنعة ص 252)
و قال ابن الصلاح: الحقوق يجب على كل من تعين عليه فرض زكاة أو فطرة أو خمس أو أنفال أن يخرج ما وجب عليه من ذلك إلى سلطان الاسلام المنصوب من قبله سبحانه، أو إلى من ينصبه لقبض ذلك من شيعته ليضعه مواضعه، فإن تعذر الأمران فإلى الفقيه المأمون، فإن تعذر، أو آثر المكلف تولى ذلك نفسه فمستحق الزكاة والفطرة الفقير المؤمن العدل دون من عداه. كما أوضح الموقف من صرف الخمس أيضا في هذه الحالة. (ابن الصلاح، الكافي ص 172 – 173)
10–قال في المقالة: ونختم بالشيخ رضا الهمداني المتوفى 1310 في كتابه مصباح الفقيه ص155 فقد أباح الخمس حال الغيبة والشيخ الهمداني متأخر جدا قبل حوالي قرن وربع قرن من زماننا.
التعقيب: ونظرا لأن المقالة ختمت به ما نسبته الى الفقهاء، وهو آخر مثال أردت إيراده في هذه المداخلة من الأمثلة المتشابهة بينهما، فيحسن أن أنقل ما كتب في الكتابات المتحاملة حتى يلتفت القارئ الى مستوى التشابه بينه وبين المقالة المذكورة.
قال في الكتابات المتحاملة: وأختم بالشيخ رضا الهمداني المتوفى سنة 1310 في كتاب مصباح الفقيه ص 155 فقد أباح الخمس حال الغيبة، والشيخ الهمداني هذا متأخر جدا قبل حوالي قرن من الزمان أو أكثر.
التعقيب: بمراجعة ما انتهى إليه نظر الشيخ الهمداني في كتابه المذكور، نجده يحمل أخبار التحليل على ظروف معينة فيقول: ومن هنا يظهر قصور تلك الأخبار في حد ذاتها عن إفادة إباحته على الاطلاق حتى بالنسبة الى مثل هذه الأعصار التي لا مانع عن إيصاله الى مستحقيه ولا مقتضي لإخفاء أمره. (3/ 126) وقال: والحاصل من تدبر في تلك الأخبار والتفت الى العوارض المقتضية للعفو من الخمس في عصر صدورها لرأى قصور أغلبها عن إفادة الإباحة المطلقة. (3/127) وو قال: قد عرفت في مبحث خمس الأرباح انه لا بد من حمل عمومات أخبار التحليل أما على حقوقهم المغصوبة في أيدي المخالفين كما هو منصرف أغلبها، أو غير ذلك من المحامل الغير المنافية لوجوب الخمس بالفعل على الشيعة مما يستفيدوه من أرباح التجارات وغيرها مما يتعلق به الخمس. (رضا الهمداني، مصباح الفقيه، 3/ 156)
هذا هو رأي الفقيه الهمداني المتأخر جدا كما عبر في بعض الكتابات المغرضة والمقالة معا، فأين صرح بإباحة الخمس حال الغيبة كما نسب إليه فيهما؟
و هكذا يتضح لنا بأن جل ما نسب إلى الفقهاء المذكورين في الكتابات المتحاملة وكذا في المقالة غير صحيح.
و إني أترك للقارئ تفسير هذا المستوى من التشابه في الشكل والمضمون بين الكتابات المتحاملة والمقالة المذكورة، وحسبي أني عرضت أمثلة من ذلك ولست معنيا بتقديم تفسير له.
و قبل ان أنهي هذه المداخلة، أود أن أشير الى الامور التالية:
1-إن من أبسط المبادئ المعروفة لدى المسلمين الإمامية، أنه مهما بلغ مستوى الاختلاف بين الفقهاء في أية مسألة فقهية ـ فإن المكلف العادي يعمل بموجب فتوى المرجع الذي اقتنع بالرجوع اليه وإن كان منفردا في بعض فتاويه.
2-لا يخفى على أحد بأن هناك اختلافا بين الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية ومنها المتعلقة بالخمس، وقد تمت الإشارة الى بعضها أعلاه، خلال بعض النصوص الفقهية، من قبيل الاختلاف في بعض موارده وطرق صرفه وما اذا كان أبيح بعضه أو كله زمن الغيبة وما شاكل، وقد تتبع بعض العلماء من المحدثين والفقهاء الأقوال المتداخلة فيها منذ زمن الغيبة الى العصور المتأخرة الحديثة فبلغت أربعة عشر قولا شأنها شأن بعض أبواب الفقه، وإن كان بعض الأقوال موضع جدل وغير معلومة القائل لها. وهذه الأقوال ليست خافية على المتابع، حيث ذكرها الفقهاء منذ القدم وهي محل بحث متواصل في البحث الفقهي، ولم يحجر على أصحابها مزاولة البحث الاجتهادي فيها.
3-ان الباحث في جملة من الأقوال الخلافية التي ذهبت إلى تحليل الخمس جزئيا أو كليا زمن الغيبة – والتي أرودتها بعض الكتابات المتحاملة والمقالة – يجد ان أصحابها – مع ذلك – قرروا فيها الاحتياط وصرح بعضهم بلزومه وعدم تركه، وذلك بناء على وجود احتمالات أخرى في تفسير روايات التحليل، وهو ما أغفلت الكتابات المتحاملة والمقالة ذكره، وفي ضوئه ذهب بعضهم بدفع سهم السادة كما عليه العاملي، أو بدفع السهمين لهم كما عليه الفيض والسبزواري، ويبدو كذلك من الأردبيلي، والأكثر على أن يتولى ذلك الفقيه لنيابته.
4-يجدر بالخطباء والمتكلمين عبر المنابر الدينية ان ينوروا الناس بثقافة التعامل مع حالة الاختلاف الفقهي، فلا يطرحوا نظراتهم واختياراتهم على انها تمثل الموقف الأوحد الذي لا يعارضه موقف، حتى يجنبوا المتابعين لهم من ردود فعل عكسية صادمة عند اطلاعهم على آراء مخالفة لما كانوا يعتقدون بأنها آراء مجمع عليها ولا خلاف فيها. وبهذا سوف يفوتوا الفرصة على الكتابات المتحاملة من التأثير على المجتمعات.
5- ثمة مفارقة منهجية يقع فيها بعض، ففي الوقت الذي يندفع بعض الى تبني أي رأي فقهي وان كان صاحبه منفردا ومخالفا للجمهور على اعتبار ان من حق المعاصرين ان يجتهدوا كما اجتهد السالفون وان التهيب من مخالفتهم ينتهي الى الجمود وتعطيل حركة الاجتهاد. ولكن في نفس الوقت ترى بعضهم قد يتكلف في تحشيد آراء لأعلام من قرون سالفة بغية مواجهة بعض الآراء المطبقة على خلافهم – حسب فهمه – أو التشكيك في مستندها، وكأنه يستبطن تساؤلا مفاده: من أين جئتم بهذه الآراء المخالفة للسالفين؟ أو يطالب تصريح أو تلميحا بالعمل بما كان عليه السالفون خلافا لشعاره الأول! والواقع لا حاجة الى تجشم كل ذلك العناء، لأن أي رأي اجتهادي صادر عن دراسة علمية سليمة ومستند على أدلة علمية رصينة جدير بالاهتمام.
6- لو نظرنا الى قضية أموال الحقوق الشرعية من الناحية التنظيمية البحتة، فمن المرجح أن نفضل أن يصار الى تنظيمها إداريا ومؤسسيا في عمليات التجميع أو الصرف، لا أن تترك عرضة لنظر الفرد المكلف في تحديد مصارفها وتنفيذها. ولهذا فإنن ا ندعو المرجعيات المعنية إلى إدخال التطوير الإداري والمؤسسي والمحاسبي لضبط وتدقيق عمليات التجميع والصرف لأموال الحقوق الشرعية بدلا من اتباع الطرائق التقليدية القائمة على الاستحسانات الفردية المتعارفة.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1-المصادر المذكورة في المتن أعلاه، لأعلام الإمامية.
2-الحدائق الناضرة، للشيخ المحدث يوسف البحراني.
3-بحوث في الفقه، كتاب الخمس، للسيد محمود الهاشمي.
4-لله وللحقيقة، الشيخ علي آل المحسن.
5-رسالة مفتوحة الى الشيخ إحسان، كتبها علي محمد سلطان بتاريخ 28/2/2015م،
و هي المعبر عنها في المداخلة بالمقالة.