د. الشيخ محمد علي مهدوي راد(*)
مقدمة ـــــــ
تعتبر السنّة المصدر الثاني لمعرفة الدين الحنيف وأحكامه، بالإضافة إلى أنّها المرجع الأهم في تفسير الكتاب العزيز. قال الرسول الأكرم’: <ألا وإنّي أُوتيت الكتاب ومثله معه>([1]). وقال أيضاً: <فاستنطقوا القرآن بسنّتي>([2]).
ولقد واجه تدوين السنّة الشريفة وتداولها بين الأجيال على مدى الحقب الزمنية التي تلت رحلة الرسول الأكرم’ مراحل وظروفاً عديدة ومتباينة، في حين برز عليّ ابن أبي طالب كرجل لأوّل مرحلة من مراحلها ومنعطفاتها، عندما نصح الأُمّة وهداها إلى ضرورة تدوين الحديث النبويّ، وضرورة المحافظة على ما خلّفه النبيّ لأُمّته([3])، ولكن الذين عاصروا علياً في تلك المرحلة الحساسة أرادوا توجيه هذهِ المسيرة إلى وجهة أُخرى، وحرصوا على أن يسود جوّ آخر يتعكّر به صفوا المسلمين وحياتهم.
والذي نحرص عليه في هذه المقالة هو تقرير ما دوّنه الإمام عليّ من السنّة الشريفة، وعرض التراث النبويّ الذي حفظه× للأُمّة والإنسانية. ومن الأفضل قبل التعرض لذلك أن نورد بعض الأقوال والروايات عنه× التي تعرضت إلى ضرورة تدوين الحديث وحفظه.
أقوال الإمام عليّ× بضرورة تدوين السنّة وحفظها ــــــ
لقد وردت أقوال كثيرة وعظيمة جداً عن الإمام عليّ× يحثّ فيها الأُمّة على ضرورة تدوين الحديث ونشره، نورد هنا بعضاً يسيراً منها، وبالمناسبة فقد عقد الخطيب البغدادي فصلاً خاصاً من كتابه القيّم (تقييد العلم) في ذكر الصحابة الذين كتبوا الحديث، أو من رغّب إليه، أو أمر به منهم، فتجد في هذا الفصل أقوالاً كثيرة للإمام عليّ وبأسانيد مختلفة، منها قوله×: <قيدّوا العلم بالكتابة>([4]). وقال أبو الطفيل: سمعت عليّاً يقول: <حدّثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون>([5]). وقال× موحياً بحفظ السنّة النبويّة: <تزاوروا وتدارسوا الحديث ولا تتركوه يدرس>([6]).
وعنه× قال: قال رسول الله’: <اكتبوا هذا العلم [الحديث]، فإنّكم تنتفعون به إمّا في دنياكم وإمّا في آخرتكم، وإنّ العلم لا يضيع صاحبه>([7]).
ولهذا فقد كان الإمام× يكتب الحديث ويعرضه على الناس وأحياناً حينما يريد بيان عظمة وأهمية تلك العلوم كان ينادي: <من يشتري منيّ علماً بدرهم>([8]).
وعن الحارث الأعور، عن عليّ، أنّه قال: <من يشتري منّي علماً بدرهم؟> قال: فذهبت فاشتريت صحفاً بدرهم، ثم جئت بها([9]).
قال الراوي: فكتب له علماً كثيراً.
وحسب ما يرى الزمخشري([10]) فإنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الإمام كان يتّبع هذا السبيل في تبليغ الحديث وإيصاله إلى الأُمّة على طول سني خلافته في الكوفة، الأمر الذي يكشف وبجلاء اهتمامه× الكبير بحفظ الحديث والسنّة النبويّة، حيث كان يسعى لتأسيس وإنشاء قاعدة عريضة تهتم بنشر الحديث وتعليمه للأُمّة. لكن، وبعد أكثر من ربع قرن، اختلف الوضع تماماً حينما صار الحديث مادة خصبة للوضع والجعل والتحريف.
وهنا نشير إلى الحديث الرائع الذي نقله الإمام عليّ× عن أخيه وحبيبه المصطفى’ عندما قال: <اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي>([11]).
بناء على ذلك فإنّ المحدثين والرواة والمبلغين الحقيقيين لرسالة النبيّ وتعاليمه السامية تجمعهم عبارة واحدة وهي: (خلفاء النبي)، وكل ذلك يدلّ على الرغبة الحقيقية لدى الأئمة^ في التشجيع على بث ونشر الحديث النبويّ، وتعاليم السنّة الشريفة إزاء المحاولات التي وقفت ضد ذلك على ما هو محكي في التاريخ الإسلامي.
وهنا نشير إلى الحديث العلوي الذي يشبّه الإمام فيه الكتاب بالبستان عندما قال: <الكتب بساتين العلماء>، وهو يعني أنّ العلوم والمعارف الموجودة بين دفتي الكتاب هي بستان مملوء بالورد والرياحين والألوان الجميلة والخلابة وفضاء رحب للمشاهدة والمطالعة وتحصيل العلم والمعرفة، وهنا نضيف أيضاً لهذا الكلام الجميل كلاماً آخر له× عندما قال: <عقل الكاتب قلمه>([12]).
وهكذا فإن كلام الإمام× ووصاياه بالعلم وأهله، وأهمية تحصيله وتعلمه، وضرورة ضبط الحديث وتدوينه، وطرق المحافظة عليه، وأقواله في ضوابط وآداب ذلك أكثر بكثير مما يسعه هذا المقال، لذا فنحن نورد هنا حديثاً واحداً له× في كيفية التدوين، وضرورة توخّي الدقة والتركيز حين كتابة الحديث، وذلك ما جاء في وصيته لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: <ألِق دواتك، وأَطِلْ جلفة قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف، فإنّ ذلك أجدر بصباحة الخط>([13]).
الآن وبعد أن استعرضنا بعض وصايا وكلمات الإمام× في تدوين الحديث، وضرورة نشرة والتثبّت منه، وكيف أنّه× كان يؤكد ويرغّب في ذلك، نشرع في قراءة الموروث العظيم الذي تركه أمير المؤمنين.
التراث العلوي المكتوب ـــــــ
لاشك أنّ الإمام عليّاً من كتاب الوحي، بل هو أوّل من خط كلمات السماء بيمينه، وهو كاتب رسائل رسول الله’ التي بعثها إلى الملوك والأُمراء، ودليل ذلك أنّ الكثير منها كان بخطه وقلمه([14])، وهناك الكثير من النصوص التأريخية والروائية تدل على أنّ النبيّ كان يفرد وقتاً خاصاً في الليل والنهار له×، فيسرع إليه ليكتب ما يقوله’ في التفسير والأحكام والمعارف والعلوم الأُخر. وقد كتب العلاّمة والمحقق المتتبع أحمدي ميانجي& ما نصه: <الذي يُستفاد من الوثائق والمصادر التأريخية هو أنّ رسول الله’ جعل لعليّ أمير المؤمنين× وقتاً خاصاً بالليل ووقتاً خاصاً بالنهار يملي القرآن الكريم على عليّ× مع تفسيره وتأويله وناسخه ومنسوخه، كما أنّه يملي عليه الأحكام والمعارف وعليّ يكتب ذلك>([15]).
قال الشيخ الجليل الحر العاملي: <وقد تواتر النص بأنّ النبيّ’ أمر أمير المؤمنين× بكتابة جميع التنزيل والتأويل، بل بكتابة جميع السنّة وما ألقاه إليه من الأحاديث والأحكام الشرعية، بل بكتابة ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وأمره أن يكتب ذلك لشركائه، فقال: من شركائي؟ قال: الأئمة من ولدك>([16]).
قال عليّ×: <كان لي من رسول الله’ مدخلان: مدخل بالليل، ومدخل بالنهار، فكنت إذا أتيته وهو يصلّي تنحنح>([17]).
وقال× في خبر آخر: <كانت لي منزلة من رسول الله’ لم تكن لأحد من الخلائق، فكنت آتيه كل سحر فأقول: السلام عليك يا نبيّ الله، فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلاّ دخلت عليه>([18]).
وعن عائشة: <دعا رسول الله’ بأديم، وعليّ بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله’ يملي وعليّ يكتب، حتى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه>([19]).
وعن أُمّ سلمة قالت: <أقعد رسول الله عليّاً في بيتي ثم دعا بجلد شاة فكتب فيه حتى ملأ أكارعه>([20]).
كان هذا فيض من غيض، وهو يدلّ بوضوح على أنّ عليّاً كان هو أول من دوّن الحديث بأمر رسول الله’ من بين أقرانه ومعاصريه، وكان على درجة عالية من الدقة والضبط في كتابته وتدوينه، فتبوأ مكانة خاصة ومنزلة رفيعة في هذا المجال، الأمر الذي يحفّز فينا روح الفضول وحب الاطلاع على ما خطّه عليّ بيمينه، وهو أمير المؤمنين ووصيّ خاتم سيد المرسلين، مستعينين في ذلك بأُمّهات المصادر وأحسنها.
الإمام علي وتفسير القرآن ـــــــ
لا ريب أن عليّاً× أوّل وأفضل شخصية فسّرت القرآن الكريم في زمن الصحابة، وهو أعرف بحقائق العلوم والمعارف الدقيقة والعميقة، وأفضل من غار في بطون الكتاب العظيم بعد رسول الله’، كيف لا وهو الإنسان الذي ارتوى من زلال الوحي، وينابيع السماء، وعاش تفاصيل ومجريات الإعلان عن الرسالة المحمدية الأصيلة، عندما بدأ حياته مع رسول الله’ مذ كان صغيراً، عندما رافقه في السنين التي كان النبيّ يصغي فيها لألحان السماء في خلوة تجمعهما في غار حراء، ثم كان إلى جانبه طوال الوقت والظروف الحرجة عندما استمر نزول الوحي على صدره، وواكبه في سفره وحضره، حتى قال×: <كنت أتبعه اتّباع الفصيل لأُمّه>.
من هنا، كان عليّ× حيّاً بروحه وبقلبه من أوّل آية قرآنية تلقّاها النبيّ إلى آخر آية ختم الله تعالى بها كتابه العزيز، وهكذا امتزجت تعاليم القرآن وأسراره بلحمه ودمه، حتى نُقل عنه أنّه قال: <سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله ما في القرآن آية إلاّ وأنا أعلم في من نزلت؟ وأين نزلت؟ في سهل أو في جبل، وأنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً>([21]).
وقال أيضاً: <والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم نزلت؟ وأين نزلت؟ إنّ ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً>([22]).
وقال أيضاً: <ما في آية من القرآن إلاّ قرأتها على رسول الله’ وعلّمني معناها>([23]).
وقال أيضاً: <فلم ينزل الله تعالى على رسول الله’ آية إلاّ وقد جمعتها، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله’، وعلّمني تأويلها>([24]).
وقال: <إنّ الله تبارك وتعالى قد خصّني من بين أصحاب محمد’ بعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وذلك مما منّ الله به عليَّ وعلى رسوله..> ([25]).
وقال: <لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيراً>([26]).
ولا أروم هنا التعرّض إلى كل علوم أمير المؤمنين المتعلقة بالقرآن الكريم، والتي وردت في المصادر والنصوص القرآنية والروائية؛ لأنّ هذا يستلزم مجالاً أوسع، وما هذا القليل الذي عرضته بين يدي القارئ الكريم إلاّ مقدمة وتمهيداً للدخول في صلب الموضوع ولبابه، وهو: (مصحف عليّ×)، وبما أنّني بدأت هنا بعنوان (تفسير القرآن) أشعر بأنني ملزم للتعرض إلى هذا الموضوع وبيان حقيقته، فهو غاية في الأهمية؛ لأنّه يعكس عظمة وإعجاز الآيات القرآنية، ويبيّن السنّة النبويّة الشريفة، وتظهر فيه أقوال وكلمات عليّ نوراً ونبراساً يضيء درب المؤمنين، لذا أخذت هذه القضية صدى وبعداً فكرياً وعلمياً لدى الصحابة والتابعين، والعلماء والمحققين والمفكرين الإسلاميين([27]).
وكيف كان الأمر فإنّنا نورد حديثين في كيفية تدوين علم التفسير بإملاء رسول الله’ وخط عليّ× في أوّل مهد لهذا العلم، تمهيداً للوصول إلى الموضوع، الذي هو (مصحف عليّ)، ثم تركيز الحديث عليه.
قال عليّ×: <.. فما نزلت على رسول الله’ آية من القرآن إلاّ أقرأنيها، وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا…>([28]).
وعن الإمام الصادق× أنّ عليّاً× كان يقول: <سلوني عن كتاب الله عزّ وجلّ، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله في ليل ونهار، ولا مسير ولا مقام، إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله’، وعلّمني تأويلها، فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين فما كان ينزل عليه وأنت غائب عنه؟ قال: كان يحفظ على رسول الله’ ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا غائب عنه حتى أقدم عليه، فيقرئنيه ويقول لي: يا عليّ، أنزل الله عليَّ بعدك كذا وكذا، وتأويله كذا وكذا، فيعلّمني تنزيله وتأويله>([29]).
وهذان الحديثان جديران بالعناية والتأمل لجهات سنحاول لاحقاً بيان جملة منها والبرهنة عليها، حيث ثبت ومن خلال قراءة النصوص المتقدمة أنّ عليّاً كان كاتباً ومدوناً لآيات الله وأميناً عليها، مضافاً إلى أنّه كان قد جمعها ورتّبها، وهذا الجهد الكبير والعظيم نعتته المصادر التأريخية وكتب الحديث بـ(مصحف عليّ).
ما هي قصّة مصحف الإمام علي؟! ـــــــ
والمقال الذي بين يديك لا يسعه استعراض كل ما دلّت عليه وجاءت به تلك المصادر، فهي أكثر بكثير مما سنذكره ونتناوله. فقد عقد النديم في كتابه الفهرست([30]) فصلاً خاصاً لمن جمع القرآن من الصحابة بعنوان (الجمّاع للقرآن الكريم على عهد النبيّ’).
وقد ذكر أنّ عليّاً كان أوّل هؤلاء، فكان× يقول <…آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلاّ إلى الصلاة حتى أجمع القرآن..>([31])، حسب ما جاءت به روايات كثيرة.
لذا، فإنّ موضوع (مصحف عليّ) يدعو للتوقُّف والتأمل، فلماذا صار هذا المصحف محط أنظار العلماء والمحققين والمؤرخين؟ وفي ضوء الروايتين المتقدمتين فإنّ مصحف عليّ ليس نصّ القرآن فحسب، بل بالإضافة إلى ذلك فهو تفسير وتأويل له، وهو أيضاَ يحتوي على مواضيع ومسائل جمّة تتعلق بتبيين الوحي وعلوم الكتاب العزيز. من هنا عنونّا هذه الفقرة من المقال بـ(تفسير القرآن).
قال ابن سيرين: <فبلغني أنّه كتبه على تنزيله، ولو أُصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير>([32]). ويقول محمد بن شهاب الزهري: <لو وُجد لكان أنفع وأكثر علماً>([33]). وقال أبو عبد الله محمد بن جزي: <..ولو وُجد مصحفه لكان فيه علم كبير>([34]).
وليس امتلاؤه بالعلم وكونه أكثر فائدة وأنفع المصاحف إلاّ إذا كان شارحاً ومبيّناً لنصّ القرآن الكريم، ومحتوياً على علوم وأسرار قرآنية أُخر؛ إذ يدل القولان الأخيران بجلاء على أهميته، وحرص مثل هؤلاء العلماء وأسفهم لعدم وجوده بين أيديهم. ففي الحقيقة كان مصحفه× مؤلفاً تفسيراً حافظاً وضابطاً لنصّ القرآن الكريم دون زيادة أو نقيصة، وهو (الوحي القرآني)، وجامعاً لتفسيره وتأويله و… الذي كان يمليها عليه رسول الله’ فيكتبها بيده، وهذا هو (الوحي التفسيري والبياني).
وفي ضمن ردود الشيخ الصدوق& وانتقاداته لآراء بعض علماء السنّة عندما يتعرضون لاعتقاد الشيعة في كيفيّة حفظ القرآن الكريم وتأكيدهم على عدم تحريفه رفضهم زيادة أو نقص الآيات الشريفة يذكر أنّ هناك حقائق نزلت على رسول الله’ لم تكن من القرآن، وإنّما إرشادات الوحي أو بعض الأوامر الإلهية <بل نقول: إنّه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن، ما لو جُمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشر ألف آية…، ومثل هذا كثير، كلّه وحي ليس بقرآن، ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه، كما كان أمير المؤمنين× جمعه>([35]).
وبعد أن يرفض معلم الأُمّة الشيخ المفيد& نقص القرآن، ويبطل التحريف الخطر، يتعرض للإضافات الموجودة في مصحف عليّ: <وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حُذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين× من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ فسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف>([36]).
وهكذا عندما يتعرض ابن شهرآشوب لأول تصانيف المسلمين ومخطوطاتهم يرى أنّ <مصحف الإمام عليّ× هو أوّل تصنيف كتب لدى المسلمين>([37]).
وكتب الرجالي والفقيه الجليل السيد محسن الأعرجي الكاظمي تعليقاً على ذلك <قلت: كأنّه إنّما قد عدّ جمع القرآن المجيد في التصنيف؛ لأنّه أراد بالتصنيف مطلق التأليف، أو لأنّه× لم يقتصر في ما جمع وجاءهم على التنزيل، بل ضمّ إليه البيان والتأويل، فكان أعظم مصنّف>([38]).
وقال الشهرستاني في حديث جميل بهذا الخصوص: <وقد قيل إنّه كان في مصحفه المتن والحواشي، وما يعترض من الكلامين المقصودين كان يكتبه على العرض والحواشي، ويروى أنّه لما فرغ عن جمعه أخرجه هو وغلامه قنبر إلى الناس وهم في المسجد يحملانه ولا يقلاّنه، وقيل إنّه كان حمل بعير، وقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزله على محمد جمعته بين اللوحتين، فقالوا: ارفع مصحفك لا حاجة بنا إليه، فقال: والله لا ترونه بعد هذا أبداً، إنّما كان عليّ أن أُخبركم حين جمعته، فرجع إلى بيته قائلاً: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ وتركهم على ما هم عليه، كما ترك هارون× قوم أخيه موسى بعد إلقاء الحجة عليهم>([39]).
وعليه فإنّ حقيقة مصحف عليّ هو تفسير يحتوي على كل ما يحتاجه المسلمون من بيان وتوضيح لآيات الله البيّنات، الأمر الذي أيّده الكثير من العلماء والباحثين، واعتبروه أوّل أثر مخطوط في تاريخ الثقافة الإسلامية.
قال العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين: <وأوّل شيء دوّنه أمير المؤمنين كتاب الله عزّ وجلّ، فإنّه× بعد فراغه من تجهيز النبي’ آلى على نفسه أن لا يرتدي إلاّ للصلاة حتى يجمع القرآن، فجمعه مرتباً على حسب النزول([40])، وأشار إلى عامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيدّه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعزائمه ورخصه، وسننه وآدابه، ونبّه على أسباب النزول في آياته البيّنات، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات..>([41]).
ثم إنّ العلماء والباحثين بعدما أكدوا على احتواء هذا المصحف على حقائق وعلوم كثيرة مضافة إلى نصّ القرآن الكريم عطفوا البحث إلى نكتة مهمة، والتي نعتقد بعدم وجود أصل لها مع كونها مشهورة بينهم، وهي أنّ مصحف عليّ هل كان مرتباً ومنظماً على أساس النزول أو لا؟
ويعكف العلماء والمحققون والباحثون في علوم القرآن للتنقيب في هذه المسألة، آخذين بعين الاعتبار ما جُمع من المصاحف، وكيف يعبرون عنها ويصطلحون عليها، عندما يأتون إلى مصحف عليّ وطريقة جمعه وتدوينه يقولون: إنّ مصحف عليّ رُتّب على أساس النزول، ولا خلاف ظاهر بين الذين تداولوه.
وذكر السيدالخوئي عند تعرضه لمزايا وخصوصيات مصحف عليّ: <إنّ وجود مصحف لأمير المؤمنين× يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه، وتسالم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلّف لإثباته>([42]). وإلى ذلك ذهب الشيخ معرفت أيضاً فقال عند حديثه عن خصوصيات هذا المصحف: <امتاز مصحفه× أوّلاً بترتيبه الموضوع على ترتيب النزول، الأول فالأول في دقّة فائقة>([43]).
وقال الباحث القرآني الدكتور محمد راميار: <لا كلام في أنّ ترتيب مصحف عليّ مغاير لترتيب سور القرآن الكريم، ولا خلاف أيضاً في وجود إضافات أُخر في هذا المصحف، ولكن نحن نعلم أنّ هذه الزيادات ليست جزءاً من القرآن>([44]).
وقال المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي بعد نقل الأخبار المفصلة عن مصحف عليّ: <ويتضح من النصوص الآنفة الذكر: أنّ مصحف عليّ× يمتاز بما يلي:
1ـ إنّه كان مرتباً على حسب النزول.
2ـ قُدّم فيه المنسوخ على الناسخ.
3ـ إنّه كان قد كُتب فيه تأويل بعض الآيات بالتفصيل.
4ـ إنّه كتب فيه تفسير بعض الآيات بالتفصيل على حقيقة تنزيله، أي كتب فيه التفاسير المنزلة تفسيراً من قبل الله سبحانه.
5ـ فيه المحكم والمتشابه.
6ـ لم يسقط منه حرف ألف ولا لام، ولم يزد فيه حرف ولم يسقط منه حرف.
7ـ إنّ فيه أسماء أهل الحقّ والباطل.
8ـ إنّه كان بإملاء رسول الله’ وخطّ عليّ×.
9ـ كان فيه فضائح القوم، أعني المهاجرين والأنصار من الشخصيات التي لم تتفاعل مع الإسلام كما يجب>([45]).
كانت هذه طبيعة الآراء والبحوث المعاصرة في تعاطيها مع موضوع مصحف عليّ، والتي تكاد أن تكون متفقة حول ذلك، وكنّا قد اعتمدنا في إيرادها هنا على أخبار التراث الموجودة في المصادر القديمة، وقد رأينا أنّ جميع هذه الأخبار تدلّ على أنّ مصحف عليّ كان مرتّباً على أساس النزول، وهنا يقال: طبعاً إنّ المنسوخ كان مقدماً الناسخ في هذا المصحف و…، وإن كان مثل هذا القول غير موجود في الروايات والمصادر القديمة. والذي نعتقده أنّ هذه التفاسير والتصورات لا أصل لها في تلك المصادر والروايات الشريفة، وأنّ ترتيب مصحف عليّ لم يكن على أساس النزول بأيّ شكل من الأشكال، وهو ما سأحاوله الآن، وأذكر له بعض الأدلة والمؤيدات على وجه الإجمال، وأترك تفصيله إلى مجال آخر.
ما هي النصوص التاريخية المؤسّسة لفكرة مصحف الإمام علي؟ ـــــــ
أوّل خبر توفر لدينا بخصوص مصحف عليّ في مصادر أهل السنّة، والذي أخذت عنه المصادر السنّية الأُخر، هو خبر ابن سعد، عن محمد بن سيرين، أنّه قال <نُبّئت أنّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر، فلقيه أبو بكر، فقال: أكرهتَ إمارتي؟ فقال: لا، ولكنني آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلاّ للصلاة حتى أجمع القرآن، قال محمد بن سيرين: فزعموا أنّه كتبه على ترتيله. قال ابن عون: فسألت عكرمة عن ذلك [هل كان على أساس النزول؟] فلم يعرفه>([46]).
وجاء في مصدر آخر عن ابن سيرين أنّه قال: <قلت لعكرمة: ألّفوه كما أُنزل، الأول فالأول؟ فقال عكرمة: لو اجتمع الإنس والجنّ على أن يؤلّفوه ذلك التأليف ما استطاعوا>([47]).
وجاء ما نقله ابن سعد في هذا المصدر أيضاً، ولكن كان آخره مختلفاً عما أوردناه عن طبقات ابن سعد نفسها، حيث وردت هناك عبارة: (فزعموا أنّه كتبه على ترتيله)، في حين يقول ابن سيرين هنا: <ألّفوه كما أُنزل، الأول فالأول؟ فقال عكرمة: لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلّفوه ذلك التأليف ما استطاعوا>([48]).
وكما قلنا فإنّ هذا الخبر هو الأصل والأساس في المصادر السنّية، والذي اعتمد عليه علماؤها في إبداء آرائهم في هذا الموضوع، وينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الخبر لا يدل صراحة على ترتيب هذا المصحف في ضوء النزول، غاية الأمر أن ابن سيرين صرح بأنّهم زعموا أنّه كتبه على ترتيله، ولم يتسنَّ للباحثين إلى الآن معرفة من زعم ذلك. وما نقل عن عكرمة وغيره في نفي الترتيب النزولي لم يكن سوى اعتقاد وتصور، حيث لم يكن أحد من الرواة قد شاهد ذلك المصحف أو طالعه حتى يبدي نظره في ضوء ذلك، وهو الأمر الذي أورده العلاّمة مرتضى العسكري بعد أن تعرّض لأحاديث وروايات عديدة بهذا الشأن، فكتب: إنّ محتوى الروايات قد اتّفق بأنّ أحداً لم يرَ ما كتبه الإمام عليّ، فهي مجرد أقوال. وبناءً على هذا فإنّ ما يُنقل عن ذلك الكتاب من غير طريق المعصوم× فهو رجم بالغيب ولا أساس له([49]).
وعليه لا يمكن إثبات هذه الخصوصية لمصحف عليّ عبر الوثائق التأريخية، وحتى الروايات التي تحدثت عن ذلك لا يمكن الاعتماد عليها ولا الأخذ بها. من هنا كتب السيد مدرسي طباطبائي ما فحواه: يقال: إنّ مصحف عليّ كان مرتباً في ضوء النزول، فإنّهم وإن ذكروا روايات ونصوصاً متعددة من مصادر مختلفة تأييداً لذلك، إلاّ أنّها غير مقبولة([50]).
ونرى أنّ ما ذهب إليه السيد مدرسي كان دقيقاً، فإنّ الأخبار المتعلقة بترتيب السور وإن كان ينبغي تناولها في مجال آخر. ولكن ـ وبعد أن لاحظنا طبيعة الوثائق التأريخية وعدم إثباتها للمدعى ـ نريد الآن قراءة حال الروايات في ما يرجع لهذه القضية، فحسب تتبعنا نجد أنّ أقدم من نقل هذه المسألة ابن شهرآشوب في ما حكاه على الوجه التالي: <في أخبار أبي رافع: إنّ أبي قال في مرضه الذي توفّي فيه لعليّ: يا عليّ، هذا كتاب الله خذه إليك، فجعله عليّ في ثوب، فمضى إلى منزله، فلمّا قُبض النبيّ’ جلس عليّ فألّفه كما أنزل الله، وكان به عالماً>([51]).
وجاء هذا المضمون في روايات أُخر، من قبيل: ما ورد عن سالم بن أبي سلمة، عن الصادق×، أنّه قال: <..أخرجه عليّ إلى الناس حيث فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزل على محمد قد جمعته بين اللوحين، قالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن، لا حاجة لنا..>([52]).
وفي خبر آخر: <.. هذا كتاب الله قد ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله’ كما أنزل…>([53]).
وهناك أخبار أُخر ورد فيها أيضاً تعبير (كما أُنزل) أو (كما أنزل الله).
والمهم الآن هو الإجابة عن السؤال التالي: ما معنى عبارة (كما أُنزل) و(كما أنزل الله)؟ هناك إجابتان يمكن طرحهما هنا:
1ـ نقول إنّ المراد هو أنّ عليّاً× نظّم القرآن ورتّبه في ضوء النزول وتسلسل نزول الآيات القرآنية.
2ـ إنّ عليّاً× نظّم مصحفه بجمع كل ما نزل على صدر النبيّ’ من وحي إلهي، بحيث شمل الآيات القرآنية التي أُوحيت إليه وأعجزت البشر عن الإتيان بمثلها، وهو النصّ القرآني أو الوحي القرآني، والتفسير والتأويل لهذه الآيات النازلة التي كانت وحياً بيانياً، وذلك هو التفسير والوحي البياني.
وكنت قد انتبهت إلى هذا الأمر في السنوات الأخيرة عندما كنت أدرس تاريخ القرآن، وأبحث في موضوع جمعه وتدوينه، فما برحت حتى جمعت كل روايات هذا الموضوع، وتأملت فيها بدقة، حتى وصلت إلى حقيقة أنّ كل الأخبار التي تعرّضت له، لا تصرّح أبداً بمسألة الترتيب السابق ولا المتأخر آنذاك([54]).
علاوة على ذلك فإنّ الأخبار المتوفرة في مصادر أهل السنّة، وربما كانت قد جذّرت لهذه المسألة، مع كونها لم تصرّح بذلك، لم تبلغ درجة الاعتبار، وأمّا الأخبار التي تحدثت عن عدم بيعة الإمام× لأبي بكر لاشتغال الإمام بجمع القرآن، وكون الإمام معذوراً عن البيعة؛ لأنّه كان عاكفاً على جمع القرآن الكريم، هي روايات تفوح منها رائحة الوضع والتلفيق، وربما أراد صنّاع هذا الحديث تبرير الوضع الذي حدث بعد وفاته النبيّ’، وإخفاء وتعليل غياب الإمام عن الساحة السياسية بهذا الأمر، ليتمكنوا من رسم الخارطة السياسية، وإضفاء الشرعية على كل ما قاموا به، وأول من تنبّه لهذه النكتة الفقيه الراحل البروجردي&([55]).
وأمّا ما ذُكر في المصادر الشيعية، والتي أوردنا بعضها، فهي ليست خالية من الصراحة فحسب، بل توجد فيها قرائن تدل على ما ذهبنا إليه من خلال الروايتين المفصلتين في أول البحث، وهنا نورد بعض هذه القرائن:
1ـ محتوى الروايتين، وهو أنّ عليّاً دوّن القرآن الكريم مع تفسيره وتأويله بأمر رسول الله’ والوحي الإلهي، وهذا ما نريد إثباته في حقيقة مصحف عليّ×.
2ـ الرواية التي تضمّنت <هذا كتاب الله قد ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله’ كما أُنزل>. ونقول هنا: ما هو الأمر وما هي الوصية التي أوصى بها النبيّ’؟ وأين قال النبيّ’: اكتبه وفق ترتيب النزول؟! في حين أنّنا شاهدنا نصوصاً كثيرة تدلّ على الأمر بتدوين القرآن مع تفسيره وتأويله.
3ـ ما نقله جابر عن الإمام الباقر× أنّه قال: <ما من أحد من الناس يقول إنّه جمع القرآن كله (كما أنزل الله) إلاّ كذّاب، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلاّ علي بن أبي طالب، والأئمة من بعده>.
ألا يمكن وبحسب الواقع آنذاك أن يكون تدوين القرآن حسب نزوله مستنداً إلى بعض صحابة رسول الله الآخرين؟ ولاسيما أنّهم عاصروا زمن النزول، وتابعوا هبوط الوحي! لكن وفق معطيات الروايات المتقدمة وما يحكيه التاريخ الصحيح لم يكن أحد مثل عليّ× قد بلغ مرتبة رفيعة في جمع وتفسير وتأويل القرآن، ومعرفة علومه، والغوص في أسرار وبواطن آياته، حيث كان يستقي ذلك من النبيّ والوحي بصورة مباشرة.
4ـ إنّ دلالة ذيل الرواية على أنّ هذا الجمع ليس بمقدور أحد سوى عليّ وأبنائه من بعده يدلّ على أنّ المراد من ذلك هو علم الأئمة^ بتأويل القرآن وتفسيره، واطّلاعهم على أسرار آياته، ولباب علومه التي حواها مصحف عليّ عن الوحي الأقدس، وهو المصحف الذي لا زال محفوظاً لدى الأئمة^.
5ـ ما ورد في ذيل رواية أبي رافع عندما قال: <وكان به عالماً>. ومن الواضح أنّ الاطلاع على ترتيب النزول وتسلسل الوحي تأريخياً ليس أمراً يختص به عليّ×؛ لإمكان أن يقع ذلك لغيره، فلابدّ أن يكون المقصود شيئاً آخر، وليس ذلك إلاّ أن يكون عليّ× عالماً بـ(كما أنزل الله)، وهو الوحي البياني، ومطّلع على معاني وأسرار الآيات الشريفة حسب ما أفادته الروايات السابقة، والتي دلت على أنّه كان بإملاء رسول الله وتدوين عليّ×.
6ـ ما أورده الشهرستاني، وجملة من الروايات الأُخر التي من جملتها رواية سالم ابن أبي سلمة، عن الإمام الصادق، التي تدل على أنّ السلطة والساسة آنذاك رفضوا مصحف عليّ الذي قال عنه: <هذا كتاب الله كما أنزل الله على محمد قد جمعته بين اللوحين..>، فلماذا رفضوه؟ وهل أنّ ما دعاهم لرفضه كونه مرتباً على أساس النزول ليكون ذلك معنى عبارة: (كما أنزل الله)؟! أو أنّ رفض الحكام والسياسيين الذين خططوا منذ وقت سابق لتأسيس وضع آخر للخلافة، وحرفها عن وضعها الطبيعي الذي كان رسول الله قد رسمه لها، وهم الذين يعلمون مكانة الإمام جيّداً ويعلمون أيّ شيء أرادوا؟ وبماذا تشبثوا؟ من هنا يتضح أنّ عبارة (كما أنزل الله على محمد) تعني العلوم الخفية في هذا المصحف، وتعني احتواءه على التفسير والتأويل، وبيان معاني هذا الكتاب العظيم لهذه الأُمّة، وتعني بيان أسرار كثيرة، وحلّ لعقد كثيرة، والكشف عن بعض الوجوه المقنّعة، تجد السلطة الجديدة حرجاً شديداً في تعريفها للأُمّة، الأمر الذي حدا بهؤلاء إلى منع تدوين الحديث ونشره([56]).
كانت هذه جملة من القرائن على الرأي المختار، ونترك الأخرى إلى مجال آخر، ولكن الذي نود التأكيد عليه هو أنّ مصحف عليّ كان مرتباً على أساس المصحف المتداول بين المسلمين على عهد رسول الله’، حيث نعتقد أنّه جمع ودوّن على عهده’، ولذا يقول السيد المرتضى&: <إنّ القرآن كان على عهد رسول الله مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن>([57]).
ويبدو أنّ أوّل من تعرض لمسألة ترتيب مصحف عليّ في ضوء النزول القرآني من علماء الشيعة هو الشيخ المفيد عندما قال في ذلك: <وقد جمع أمير المؤمنين القرآن المنزل من أوله إلى آخره، وألّفه بحسب ما وجب من تأليف، فقدّم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في محله>([58]).
وقد أخذ هذا التصريح مداه في الوسط العلمائي الشيعي، وأصبح محطّ أنظارهم، لينتهي الأمر إلى إقرارهم بذلك، ولكن ما نعتقده غير ذلك تماماً، وإنّ كل ما فهموه وما استظهروه يبدو أنّه لا أصل ولا أساس له، وقد بيّنا وجه ذلك في ما تقدّم.
حفظ المصحف عند أئمة أهل البيت^ ـــــــ
لاحظنا عبر الرواية المتقدمة أن الإمام× بعدما عرض المصحف على القوم ولم يقبلوه، قال لهم: <والله لا ترونه بعد هذا أبداً>([59]).
وهذا التعبير ورد في المصادر الحديثيّة الشيعيّة أيضاً، ومن جملتها ما ورد في ذيل رواية سالم بن أبي سلمة: <أما والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً>([60]).
وتفيد بعض الروايات الواردة أنّ المصحف محفوظ عند الأئمة؛ لأنّ الإمام عليّاً أخفاه عن القوم، ولم يظهره بعد تلك الواقعة لأحد، حتى ـ وبحسب قول العلامة العسكري ـ لا يصيبه ما أصاب مصاحف سائر الصحابة من الحرق، كما في رواية سالم بن أبي سلمة: <..حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه عليّ..>([61]).
وحسب هذه المصادر وغيرها فإنّ المصحف كان وما يزال محفوظاً عند الأئمة، وهو الآن عند الحجة المهدي #([62]).
والأمر الذي لا ننفيه هو بعض أوصاف ومزايا هذا المصحف التي جاءت في رواية أبي عمر الكشي، التي من جملتها التصريح بأنّه مشتمل على بعض الأسماء، ويحتوي على بعض الأسرار والحوادث، وهذا المصحف هو الذي كان عند الإمام الرضا×([63]).
وفي ختام هذه المقالة لا بأس بالإشارة إلى إحدى القراءات التي تناولت مصحف علي أو تفسير القرآن كما عنونّاه في المقالة، فقد قال الدكتور حسين نصر في مقالة له بعنوان: <نشأة التصوف الإيراني وتطوره>، معتمداً في مقالته هذه على التفاسير الصوفية للقرآن الكريم: <لقد مثلّت هذه المرحلة ذروة النمو والازدهار للتفاسير الباطنية الصوفية الإيرانية للقرآن، وفي ضوء العقيدة الإسلامية أن علي بن أبي طالب أول أئمة الشيعة ورابع خلفاء أهل السنة هو رائد هذا اللون من التفسير، حيث إن ما يتطابق مع الروايات السنية والشيعية هو أن علي× شرح القرآن شرحاً باطنياً، من هنا ذهب بعض مستشرقي الغرب خطأً أن هناك رواية أخرى عن نص القرآن لدى الشيعة، وهم بذلك يسعون جادين دون مساءلة أو تفحص لإلحاق النقص بالقرآن ويدّعون أن الشرح المذكور كان قرآناً، وأن الشيعة لا تقبل القرآن الذي كان متداولاً بين المسلمين، ويبدو أن شيئاً من ذلك كان اعتقاداً قديماً أشارت إليه بعض الوقائع التأريخية المتعلقة بالتفسير المنسوب للإمام علي×، ولكن مما يؤسف له أن هذا التفسير لا يزال مفقوداً إلى الآن>([64]).
ولا أدري إلى أية أحاديث وروايات يشير الدكتور نصر بقوله: إن هذا الأمر متطابقاً مع أحاديث السنة والشيعة؛ لأنني أجزم بعدم وجود رواية واحدة تشير إلى أن لعلي شرحاً باطنياً للقرآن الكريم، هذا أولاً، وثانياً: إن ما كتبه المستشرقون لا أساس له من الصحة حتى يستحق رداً أو نقداً، وما ذكره الدكتور نصر في آخر مقالته من أن لعلي شرحاً باطنياً للقرآن، واعتماده في ذلك على الوثائق التأريخية حيث يبدو منه قبولها أيضاً، لا صحة له، وثالثاً: إن الاعتقاد القديم الذي تناولته المصادر التأريخية هو خصوصيات ومزايا مصحف علي وموقف السلطة إزاءه وليس غير ذلك، ولا يعتقد أحد من الشيعة أكثر من ذلك، وما قاله المستشرقون لا أصل له، وحتماً سيبدو الدكتور حسين نصر متعجباً من كلام هؤلاء عندما يطالع المصادر الروائية والتأريخية الشيعية، وهو أهل لذلك.
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، وباحث مختصّ بعلوم القرآن والحديث، رئيس مجلة (آيينه پژوهش)، له مساهمات فكرية عديدة.
([1]) الجامع لأحكام القرآن 37:1. وللرواية تتمة، وهناك نكتة مهمة تناولتها كتب الحديث وتدوينه، سأُشير إليها في مجال آخر. راجع: تدوين الحديث عند الشيعة الإمامية: 13.
([3]) وكنت قد فصّلت هذا الموضوع سابقاً راجع: سلسلة مقالات في (تدوين الحديث)، مجلة علوم الحديث، العدد: 1ـ9، الطبعة الفارسية؛ وكذا: تدوين الحديث عند الشيعة الإمامية: 1ـ135.
([5]) كنـز العمال 304:10، ح29523.
([6]) المصدر السابق؛ بحار الأنوار 151:3؛ مستدرك الوسائل 288:17.
([7]) كنـز العمال 262:10 ح29389.
([10]) ربيع الأنوار 294:3؛ مسند الإمام عليّ× 85:1 و142:2.
([11]) من لا يحضره الفقيه 302:4؛ وسائل الشيعة 91:27.
([13]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 530، الرقم 315.
([14]) كان يدوّن في آخر بعض الرسائل كاتبها، فكان عليّ× يدوّن اسمه في آخر الرسائل التي يكتبها يأمر النبيّ بعبارة: (وكتب علي بن أبي طالب) انظر: مكاتيب الرسول 464:3؛ أو (وكتب عليّ) انظر: المصدر السابق: 70 و458.
([16]) الفوائد الطوسية: 243؛ وراجع أيضاً: الأمالي للطوسي 56:2، ط. النجف؛ علل الشرائع: 208؛ الإمامة والتبصرة: 183؛ مكاتيب الرسول 1: 403ـ404؛ وعن مصادر مختلفة أخر.
([17]) سنن النسائي 17:3؛ سنن ابن ماجه 206:4 ح3708؛ مكاتيب الرسول 405:1، وجاء هذا الحديث على اختلاف المصادر التي ورد فيها متحّد المعنى مع تفاوت يسير في ألفاظه، فمثلاً وردت كلمة (لي) في آخره في كتاب مكاتيب الرسول؛ كفاية الطالب: 199. ونقل الكنجي الشافعي الحديث بهذه الصورة: <كنت أدخل على رسول الله’ ليلاً ونهاراً، فكنتُ إذا سألته أجابني، وإن سكت ابتدأني..>، ملحقات إحقاق الحق 511:6؛ السنن الكبرى 351:2 وغيرهما من المصادر الأُخر، ونقل البيهقي <كانت لي ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله’…>، مكاتيب الرسول 405:1. وفي مصادر كثيرة، وكما أشرنا إلى أنّ ألفاظ الحديث فيها تفاوت يسير، وغالباً ما يكون المعنى والمحتوى واحداً.
([18]) سنن النسائي 17:12؛ السنن الكبرى 351:2؛ ملحقات إحقاق الحق 512:6، وذكر الكثير من المصادر؛ معالم المدرستين 305:2؛ مكاتيب الرسول 409:1.
([19]) تقييد العلم: 71؛ المحدث الفاضل: 601؛ محاسن الاصطلاح: 366.
([20]) الإمامة والتبصرة من الحيرة: 174؛ بصائر الدرجات: 163.
([21]) أنساب الأشراف 99:2؛ غرر الحكم: 563:2.
([22]) أنساب الأشراف 99:2؛ حلية الأولياء 67:1؛ تاريخ مدينة دمشق 397:42؛ شواهد التنـزيل 43:1.
([24]) كتاب سليم بن قيس 581:2؛ الاحتجاج 207:1.
([26]) المناقب 43:2؛ ينابيع المودة 209:3.
([27]) وكنت قد تناولت هذا الموضوع في مناسبة أخرى بشيء من التفصيل والإطناب معتمداً في ذلك على قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد: 43)، وكذا القول المشهور: <علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض>، المعجم الصغير: 255:1 و…، وأقوال بعض صحابة النبي’، يدل كل ذلك على أن علياً كان أعلم الصحابة وأدراهم بعلوم القرآن الكريم وأسراره دون منازل أو نظير، وأحسن ما نقل في ذلك هو قول ابن عباس الصحابي الجليل والمفسر لكتاب الله العزيز: <… فقمت وقد وعيت كل ما قال، ثم تفكرت فإذا علمي بالقرآن في علم علي× كالقرارة في المثعنجر> النهاية: 212:1؛ سفينة البحار 2: 414؛ قاموس الرجال: 448:6؛ مقالة طويلة بعنوان: <علي قدوة المفسرين>، مجلة آيينه پژوهش، العدد 66، آفاق التفسير: 70 ـ 120.
([28]) شواهد التنـزيل 284:1؛ ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق: 467:2، الكافي: 64:1؛ الخصال: 257؛ كمال الدين: 284؛ تفسير العيّاشي 14:1؛ تحف العقول: 196؛ كتاب سليم بن قيس 624:2، وما نقلناه كان من شواهد التنـزيل، وهكذا في المصادر الأخرى مع اختلاف يسير.
([29]) الأمالي للطوسي: 523، ح1158؛ بشارة المصطفى: 219.
([31]) طبقات ابن سعد 338:2، وجاء معنى هذه الرواية في مصادر كثيرة: الكافي 18:8؛ الفهرست: 30؛ حلية الأولياء 67:1؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7:1؛ معرفة القرّاء للذهبي 28:1.
([32]) الاستيعاب 253:2 (في حاشية الإصابة)؛ الصواعق المحرقة: 128؛ حقائق هامة حول القرآن الكريم: 158؛ تأسيس الشيعة: 137؛ الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: أحمد زمري: 155؛ ونقل في جامع بيان العلم وفضله 193:2: إن الوحي كان ينـزل على رسول الله’ ويخبره جبريل× بالسنة التي تفسر ذلك، وكان هذا القول محل عناية بعض التابعين.
([33]) فواتح الرحموت (بهامش المستصفى) 12:2.
([34]) التسهيل لعلوم التنـزيل 6:1.
([35]) رسالة الاعتقادات (المطبوعة ضمن مصنفات الشيخ المفيد 86:5، وسنرجع إلى حديث الشيخ الصدوق مرّة أخرى).
([36]) أوائل المقالات (المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد): 81.
([37]) معالم العلماء (تحقيق السيد صادق بحر العلوم، طبعة عباس إقبال) 2: 1.
([39]) مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار 120:1، وانظر: كتاب سليم بن قيس 581:2؛ بحار الأنوار: 266:28 (طبعة دار التعارف 172:1).
([40]) وسنذكر لاحقاً أن ما استظهره البعض من النصوص من أن تدوين مصحف علي على ضوء النـزول ضعيف حسب ما وصلنا إليه من التحقيق.
([41]) المراجعات (تحقيق حسين راضي): 411.
([42]) البيان في تفسير القرآن: 223.
([45]) حقائق هامة حول القرآن الكريم: 160ـ161، ويذكر أن دراسة السيد جعفر مرتضى العاملي بلحاظ جمع النصوص جديرة بالعناية والتأمل، ولكن رأيه في <هكذا أنزلت> ونحوها لم يكن على النحو الذي ذهبنا إليه، ولم يلتفت لما ذكرناه، وبالجملة فبحثه جدير بالقراءة.
([46]) طبقات ابن سعد، 338:2، طبعة دار صادر.
([47]) فضائل القرآن، لمحمد بن الضريس: 35.
([49]) القرآن الكريم وروايات المدرستين 403:2.
([51]) مناقب آل أبي طالب 50:2.
([52]) إثبات الوصية: 154؛ بحار الأنوار 195:28.
([53]) بصائر الدرجات: 193؛ الكافي (الأصول) 633:2؛ بحار الأنوار 88:89.
([54]) وفي تلك الأيام طرحت هذه المسألة في مقالة وكتبت: لم أشاهد وفي حدود اطلاعي البسيط أحداً من المحققين في المجال القرآني نبّه على هذه النكتة (آفاق التفسير: 103)، وأنا اليوم مسرور جدّاً حيث أصبح لهذا الموضوع صداه، وصار له رواج بين الباحثين في علوم القرآن، فكتبوا بين مؤيد وناقد مقالات وكتباً عديدة.
([55]) نهاية الأصول: 484؛ آفاق التفسير: 102.
([56]) وقد ذكرت قرائن أخرى مع شيء من التفصيل.
([57]) مجمع البيان 15:1، نقلاً عن المسائل الطرابلسيات.
([58]) المسائل السروية: 79 [مصنفات الشيخ المفيد: ج7]؛ أوائل المقالات: 80، المصنفات: ج8.
([59]) مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار 120:1.
([61]) القرآن الكريم وروايات المدرستين 408:2.
([62]) بصائر الدرجات: 193؛ الكافي (الأصول) 633:12.
([63]) اختيار معرفة الرجال: 589، وراجع: المحجة البيضاء 264:2.