نحن والتاريخ الإسلامي
بقلم:أ/غريبي مراد(*)
مدخل:
أين تقع أزمة المسلمين؟سؤال خطير وكبير وحساس بقوة، كل من يقرأه تبدو له أزمة المسلمين في إطار محدد ومن خلال موقف معين وحسب نظام تفكير ما، بديهي أن تتباين الإجابات والتحليلات حول أزمة المسلمين، إذ تتعدد وتتأثر بالآخر المسلم وغيره وتؤثر أيضا في طبيعة التصورات المزاحمة لها في أرض التحليل لأزمة المسلمين، لكن غالبية من يحاول بحث موضوع أزمة المسلمين،يذهب مباشرة للتاريخ، بالكاد هذا المنحى موضوعي لأن التاريخ يعتبر أرض الحقيقة التي تكتشف فيها خيوط الأزمات…
(1)
على كل حال، التساؤل السابق يشكل مدخلا عاما في التعامل الفكري مع الواقع الإسلامي وكل ما يكتنفه من غموض وضمور وتقوقع وفوضى وتخلف، وكذلك أمل وتطلع وطموح، حيث يلتقي في أول خطوة بمبحث التاريخ كمنهج بحثي عقلاني…
ومن الجميل أن ترقى نخبنا المثقفة لتباحث التاريخ وفق غاية سامية وإنسانية وبوسائل دقيقة وحضاريا تبعث وعيا جديدا لمفهوم التاريخ، ومن المفيد جدا أيضا، أن يسهم الإعلام في تفعيل نقاشات علمية حول التاريخ، تنهض بأدبيات الحوار وتخفف من التوتر الاجتماعي بين المسلمين وتعالج الاحتقان والحساسيات المفرطة الناجمة عن سوء التعاطي مع التاريخ، كل ذلك يمثل جوهر سلامة التغيير والتجديد…
لا يمكننا تصور أن دراسة التاريخ ومناقشة تفاصيل أحداثه والسببية التي صاغته،أمر محظور في ذاته، ولكن لكل حركة نحن بحاجة لمعرفة، وحركة مراجعة التاريخ الإسلامي وتنقيته بحاجة لاشتغال معرفي واسع، حتى لا يكون بحثنا للمواطن التاريخية الحساسة والخطيرة إثارة لفتنة من حيث ندري أو لا،.هنا مركز الثقل الذي إن فقد انتفت الغاية النبيلة من دراسة التاريخ وتمحيصه،.أقصد تحديدا، منهج التعامل مع التاريخ في واقعنا الثقافي العربي الإسلامي المعاصر، حيث إن البحث في أي حادثة تاريخية هو بحاجة لفلسفة ذات منطلقات وأدوات ومبادئ، تصقل موضوعيته وتحديدا الروح العلمية في بحث الحوادث التاريخية، ومقولة: إن أزمة المسلمين تنحصر في علاقتهم بتاريخهم، تشير إلى جزء كبير من الحقيقة، كون التاريخ هو عنوان ضاغط بقوة على حياة الإنسان كلها وفي بناء شخصيته، وبالتالي المجتمع ومستقبله، ففي واقع المسلمين هناك من يبحث التاريخ ليبرئ شخوصه وينتصر لها تعصبا وليس عدالة، أما الآخر فيبحث التاريخ ليثبت مظلوميته وثالث التقاطي -كما يسميهم الشهيد مرتضى المطهري – و آخرون، الالتقاطيون يعملون على إلغاء السببية في التاريخ وهم أخطر ما يكون في الانحراف بعلاقة أي مجتمع بتاريخه… وواقع حال المسلمين ثقافيا وخصوصا إعلاميا وسياسيا يثبت أننا فعلا ندمن الاستغراق في تاريخنا الإسلامي ونرفض التعامل معه كتراث قابل للتنظيف والتمحيص بروح علمية، وإذا سلمنا لضرورة التصحيح والمراجعة لا نتحرر من الهوى المذهبي أو الطائفي أو القومي أو الخبث السياسي، والحق يقال الغالب الأعم ممن حاولوا بحث منعطفات التاريخ الإسلامي الحساسة من أكاديميين وعلماء دين ودعاة ومثقفين (سنة وشيعة) سقطوا في شرك الهوى والشخصنة والجهوية والطائفية وما هنالك بنسب متفاوتة، بل أحيانا حاولوا كثيرا إخفاء هذه النقيصة أو المثلبة من خلال إضفاء تلك الخطابات التمويهية سواء الدعوية البراقة أو الأكاديمية الخفاقة، والتعليل بالتزامهم بالموضوعية والمنطق والعقل والحجة والبرهان وأدوات فلسفة التاريخ وما هنالك من مصطلحات روح البحث العلمي التي هي أصلا شبه غائبة تماما في واقعنا الثقافي الإسلامي،المهم الكثير منهم حاول بنية صادقة لإيصال الحقيقة وكشف الزيف والأساطير، لكنه تعثر ربما لقلة الزاد العلمي أو التقوى-حيث يبقى خير الزاد التقوى– !
بينما الأهم هي تلك الثلة من أهل الفكر الإسلامي الإستراتيجيين الذين استطاعوا أن ينبهوا أهل الإسلام لهذا المنهج الأعوج والسقيم في التعاطي مع التاريخ، لأن ثقافة الالتقاطية التي طالت قراءة التاريخ الإسلامي سواء فكريا أو إعلاميا جعلت حقائق عديدة ومفاهيم مركزية في النظرية الإسلامية العامة تتعرض للتأويل وللطمس وللتمويه، أضف إلى ذلك أن الفراغ العلمي أو كما عبر الصديق الأستاذ أحمد شهاب في أحد مقالاته «الهزال الثقافي» عشش في فضاءاتنا الثقافية، فكل من لديه حساب مع شخص أو جهة يذهب لكتب التاريخ ليبحث عن حادثة تسيء له ولطائفته أو أي شخصية أو وثيقة في التاريخ تخدمه في خدش كرامة هذا الإنسان أو تلك الجهة، هذا التعامل المصلحي الدنيء مع التاريخ لتسجيل النقاط على بعضنا البعض هو احد المسببات الرئيسية التي أفقدتنا الثقة الكاملة بإمكانية اللقاء على قاعدة تاريخية واحدة واضحة وممكنة،وللأسف بدلا من أن يكون التاريخ قاعدة صلبة لنهوض هذه الأمة، دخل نفس ذلك التاريخ في صدام مع المجتمع وتقمصت التيارات والأطياف مشاريع وتصورات وقراءات وتحليلات فصلها لهم الالتقاطيون حتى تبقى الأمة مشتتة معطلة لا تقدر على شيء تابعة تائهة في عالم اليوم… وقبل أن اختم هذه الإرهاصة الأولية التي سأتبعها ببعض النقاشات المفاهيمية، أشير باقتضاب إلى مفهوم متداول ألا وهو السببية التاريخية التي بقدر تركيزنا في معرفتنا لأركانها وآلياتها نكتشف ذلك المحرك الخفي –كما يقول مالك بن نبي رحمه الله- الذي دفعنا إلى ما ارتكبنا من خيانة لواجبنا الإسلامي وأخطاء في حق النهوض بوعي جماهيرنا، بل لقد اشترك معنا في فعلنا حتى شاع الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي…إنه ذلك الوجه المتخلف البشع لتاريخنا الذي مازال حيا وحاضرا فينا وبيننا،وهذا الوجه التاريخي هو رجل لم يكن طليعة في زمانه زحف إلينا بكل جراثيمه التي ولدت كل مشاكلنا الراهنة...
(2)
استكمالا لما سبق، لامناص من أن الاستغراق في التاريخ أدى عبر مراحل عديدة إلى تشوه الوعي الديني والاجتماعي لدى المسلمين، وتراكمت الأطوار والأحداث حتى وصلت إلينا بحمولاتها المتهافتة، على الرغم من محاولات المصلحين عبر الزمن الإسلامي كله، في مواجهة طوفان الحتمية التاريخية مما أنتج اللبس في مفاهيم عدة من قبيل ثنائية الدين-المذهب، حيث سنشير لاحقا إلى نقطة مفصلية: كيف نتعامل مع التاريخ (روائيا أو تحليليا أم الاثنين معا) حيث كلاهما منهج معتمد ونحاول معرفة، ماهو المنهج الأنجع في تحقيق الوعي التاريخي لدى المسلمين…؟
أما عن الاستغراق في التاريخ، خطورته تكمن في الحال التي يصبح فيها منهجا معتمدا من قبل وسائل صناعة الرأي العام، وفق الثقافة الالتقاطية التي تعطل الوعي وتشوه الحقيقة لدى الجماهير، لأن التاريخ ليس أحداثا منفصلة بل هو تسلسل زمني نفسي، بحثه لأجل تنقيته يستدعي حضور كل المعنيين به ولا يبدأ البحث إلا بعد الاتفاق على المنهج المراد اعتماده، ومشروع بحث التاريخ الإسلامي لإعادة كتابته، رأسا يتطلب عينات من باحثين مختصين يراعون المرحلة الحرجة للأمة ويتمتعون باستقلالية فكرية وتوازن نفسي ودقة علمية وتمويل مستقل عن السياسة ومخططاتها، وليس كل من يقول أنه قرأ التاريخ وبحثه قادرا على تنوير الأمة بآفاقه وسننه، إذا كنا نريد فعلا خيرا لهذه الأمة بكل تنوعاتها التي ندعي أننا نسعى لصياغة تصور جامع لها ضمن المشتركات.
لابد أن نتعمق في سؤال التاريخ، حيث علينا أولا أن نستوعب الفارق بين تفسير التاريخ وتأويل التاريخ، فالأخير يعني التضارب في التفكير بين المسلمين حسب الأمزجة الذاتية والمذهبية، وهذا الاختلال يعقد أزمة المسلمين، وبالتالي الضياع في التاريخ، ويزيد من التقسيمات والتصنيفات التي تحكم نظرتنا لبعضنا البعض كمسلمين.
وتماما لهذا السبب فإن تمييز الحدود بين التفسير والتأويل مهم لتشكيل وعي مشترك في التعامل مع التاريخ، وبعد التوصل إلى تمييز الحدود، علينا أن نحاول الكشف عن ماهية التجارب التي ترتبط بالتاريخ، بشكل عام نجد أنفسنا نتجه نحو ما نسميه التفسير، رغم أن هذا التعبير يتضمن مدلولين مختلفين: فالتفسير يعني استخلاص مفهوم معين من شيء ما. ولكن تفسير فعل إنساني يعني أيضا {استعراض} هذا الفعل. فنحن نستعرض حادثة تاريخية ما، خلال محاولتنا إضفاء معنى معين عليها، يوحي لنا بدوره أنه يبقى معنى سطحيا، أما إذا لم يكن البحث عن الجدوى هو أساس تعاملنا مع أحداث التاريخ، فإننا ننجو من الفشل الذي يمكن أن يواجهنا في بحثنا عن التفسير الأمثل للتاريخ الإسلامي…
فأي حادثة تاريخية ليس من السهل بحثها والحكم عليها، خصوصا إذا حاولنا التعامل معها بالمنهج التجريبي على أنها عينة تستخرج من تلك الكتلة والسياق التاريخيين.. لا… هناك منطلقات وتوابع وأبعاد نفسية واجتماعية وسياسية،يعني هناك نظام تفكير يحكم في حيثياتها، بالإضافة لمبادئ وآداب البحث العلمي وهنا أدعو المهتمين بالإطلاع على وثيقة للعالم باشلار عنوانها «المعرقلات الابستيمولوجية للروح العلمية»، لأننا للأسف ندرس التاريخ بعقلية الماضويين بالخلفية الذاتية وعدم التجرد من الشخصنة، وبأدوات القرون الماضية، حيث العديد من فروع العلم والمرتكزات الرئيسية في تطوير البحث التاريخي بعالمنا العربي والإسلامي لا يكاد يكون لها حضور في جامعاتنا «علم الآثار» «علم التوثيق» وتخصص «مناهج البحث» الذي يشهد تطورا مستمرا بالغرب، كل هذه الفروع إن وجدت عندنا فهي استعراضية لا أكثر ولا أقل…
دون أن ننسى مصداقية المعلومات والروايات ومناهج التدوين كمقياس والتي تترجم وفق خلفية ذاتية وهذا إشكال ابستيمولوجي حاصل في واقع البحث التاريخي عند المسلمين، لابد من مناقشته بما يجعل مراجعة وبحث التاريخ الإسلامي أمرا استراتيجيا مشتركا بين المختصين الواعين من المدرستين، أما إذا اجتهد كل في ملعبه وتحت لهيب هواه فلن نصل لنتيجة حاسمة بخصوص التعامل مع التاريخ وتنقيته من الصور السلبية…
بصراحة أقول: علينا أن نحرك مطلب مراجعة تاريخنا وتنقيته،بعيدا عن أسلوب تسجيل النقاط على بعضنا البعض، والمراوغة في المراجعة وسياسة المد والجزر التي يعاني منها الحوار الإسلامي – الإسلامي، لأن الحديث عن التاريخ الإسلامي ليس حديثا عن تاريخ بسيط،إنه ذاكرة رسالة عالمية لابد أن ينطلق الخطاب بصبغة محمدية وروحه تتقوى بأخلاق محمد(ص) وشخصيته العظيمة التي لا تخشى لومة لائم في إظهار الحق الإسلامي وكشف الزيف والأساطير في التاريخ كله، وأساس هذه الحركة هو النقد العلمي للذات المذهبية أولا للتمكن من تحصيل الذات الإسلامية السليمة وهذا ما سنبحثه مستقبلا.لأنه كما وصف زيغموند فرويد الـ «أنا» بأنها «مخلوق سطحي» أو بشكل صريح هي «مشروع للسطحية»، حيث الوعي ينمو ويكبر في ظل العلاقات الإنسانية السليمة…
(3)
عند مطالعة كتب التاريخ والاستماع لقصصه ومشاهده ونكساته من لدن الخطباء والدعاة وبعض المؤرخين، نجد إطنابا كبيرا حول بعض المحطات التاريخية والعناوين التاريخية التي منشؤها الأنا العميقة المسيطرة على القراءات التاريخية السائدة بين المسلمين، مما جعل العلاقة بين الإسلام والتاريخ والمجتمع متهافتة في العديد من الكتابات والخطابات والدراسات، فأصبح الحديث عن الإسلام التاريخي بدلا من وعي التاريخ الإسلامي،مما بات فهم الإسلام مقلوبا ورابطته بمفهوم التاريخ تقتصر على الفن الروائي دون الالتفات إلى الجانب التحليلي، الذي من شأنه بعث وعي عميق بالتاريخ الإسلامي في راهننا، وهنا تحديدا نرجع لمفردة المنهج التي يعاني منها واقعنا الثقافي في اغلب أبحاثه وتنقيباته عن سبل الخلاص وبخاصة التاريخية التي تفتقر معايير أسلمة القراءة التاريخية والتي تعني التحرر من القيود البيئية والأحكام المسبقة القومية والعرقية والدينية التي أدت مرارا وتكرارا إلى ما يسمى العداوات الموروثة وإلى النزاعات والتهجير والقمع وما هنالك عبر الزمن الإسلامي كله.
هكذا نلحظ أن المسلمين بحاجة إلى حد أدنى من الذكريات التاريخية المشتركة أولا، حتى يمكنهم تباحث المختلف حوله تاريخيا، وفي الراهن الإسلامي الوعي لا يمكن فرضه من الأعلى، بل يجب أن ينبت كالنبتة، وهذا غير ممكن إلا في مجتمعات مدنية تعددية متطورة قادرة على التعايش والتعامل حضاريا مع تاريخها.
هناك كلمة سبق أن قرأتها لهيغل يقول: «إن الشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يتعلمه من التاريخ هو أن الشعوب والحكومات لم تتعلم أبدا أي شيء من التاريخ» هذا التحليل الفلسفي الهيغلي بمثابة تنبيه من عواقب إطلاق الأحكام التاريخية المتسرعة، وهذا الحكم في واقعنا الثقافي والإعلامي والسياسي مبرر وصائب بامتياز هذا من جانب.
ومن جانب الآخر إذا فكرنا وفق هذا التحفظ، نجد أنه من الممكن أن يتعلم المرء من التاريخ، وهناك شواهد كبيرة حددها مصلحون كبار من النخبة في العصر الإسلامي الحديث أقصد ما بعد الموحدين على حد تعبير العلامة مالك بن نبي، مثل: العلامة المرحوم الشيخ مهدي شمس الدين في كتابه: الإمام علي(ع) وحركة التاريخ، وكتاب العلامة الإمام المجدد الشيرازي (فلسفة التاريخ) الذي يعتبر مرجعا علميا دينيا وأكاديميا وفيه تحليل رائع لمبحث الأسباب التاريخية، وكتاب العلامة الشهيد مرتضى المطهري (المجتمع والتاريخ) وكذا بعض الرؤى المتفرقة للسيد المدرسي والسيد محمد حسين فضل الله والسيد مهدي فضل الله حول مناهج بحث التاريخ، ناهيك عن الأطروحات الحضارية للعلامة الشيخ محمد الغزالي حول تراثنا الفكري التاريخي، هؤلاء العلماء والمفكرون وغيرهم من رواد الوحدة الإسلامية الكريمة قد فعلوا حقا بالتحفظ واستطاعوا صدقا وعدلا الاستفادة من التاريخ للتوجه نحو الرسالة الإسلامية الحضارية البريئة من التخلف والتعصب والعنف.
بصراحة: فان التاريخ لا يصنعنا ولكنه يضغط علينا ويؤثر فينا، بحيث لا يمكن إهماله من أجل المستقبل، لأنه ماضينا الذي يعتبر كاشف الثغرات في مشوار المستقبل، فعلينا الاهتمام به وبخاصة التجارب المشتركة وعوامل التأثير التي تشكل أساسا لا غنى عنه لنشوء ما نسميه «الوعي الجمعي الإسلامي» الذي ربى النبي الأكرم (ص) صحابته الكرام عليه في رحاب القصص القرآني، والذي يعرف بالعبرة والآية والسنن التي هدفها الحق والعدل وليس إجراءات وتطبيقات محددة تشتق من الصور التاريخية بل الاتجاه والتركيز على إعادة صياغة مشروع «الأمة الواحدة» بتجديد منهج التعامل مع التاريخ، بمداخل منهجية أخرى:
ماذا نريد من التاريخ؟ لماذا نبحث التاريخ؟ ماذا نتعلم من التاريخ؟
وبشيء من الاستغراق المشروع: هل كل ما يقال عنه تاريخ هو كذلك؟!
هذا التنامي في التساؤل العقلاني بعيدا عن المزاجية سيؤدي إلى ربط قراءة الوحدات التاريخية بالمهمات الحضارية المعاصرة…و بالتالي قراءة التاريخ بدون فلسفة إنسانية واقعية هي قراءة عمياء…
(4)
كثيرون أولئك الدارسون للتاريخ في بيئتنا العربية الإسلامية، فهناك الدراسات الروائية السطحية المحضة وأيضا الدراسات التحليلية المستغرقة، ولدينا الدراسات التعليلية التي يسعى أصحابها لإضفاء نوع من القدسية المبتكرة لمحتويات التاريخ ولا ترضى بالنقد، وهناك دراسات معاصرة تحاول غربلة التاريخ وفق التفكير الفلسفي الغربي الحديث دون معرفة منطلقات تلك النظريات والمناهج الغربية هل تتوافق وخصوصية تاريخنا وارثنا العربي الإسلامي ككل أم لا؟
هكذا ودواليك، عملية دراسة التاريخ في واقعنا تعاني من الانشطارية والتهافت والارتباك حسب اختلاف وتنوع الميول التي يحملها كل باحث أو دارس، وتفتقد كدراسة لفلسفة تجدد لها أدواتها وتحافظ على مرونتها التي تؤسس لواقع لا يتنازع (مع /حول) التاريخ كإرث إنساني لأمتنا.
والمهم في هذا السياق والذي لا يختلف عليه عاقلان، أن الواقع الإسلامي المعاصر بحاجة لدراسات حديثة لتاريخه، بل لا نبالغ إذا قلنا دراسات جديدة للإسلام تعتمد على تحليل تشريعاته وقيمه وتاريخه بأسلوب يتصل بحياة المسلمين راهنا والتحديات التي تتعرض لها الأمة من قبل التيارات والمذاهب الحديثة التي تدعي معالجة مشاكل العالم، بينما المذاهب الإسلامية غارقة في التراشق على مسرح تاريخها بلا وعي ولا مسؤولية على واقع العالم المعاصر.
كل مدرسة من مدارس كتابة التاريخ عندنا لديها أدواتها وممثلوها إلى اليوم، وفي ظل الصراع الحاصل بين أتباع كل مدرسة، أصبح على الإنسان المسلم البسيط صعبا جدا، أن يحدد رأيه في شخصية أو واقعة، هذا الحال هو نفسه ذلك الشعور بالملل والسأم الذي يحمله كل مسلم وهو يقرأ أو يشاهد أو يستمع لوسائل الإعلام يوميا فلا يعرف من يصدق ومن يكذب، وبعدها يأتي دور الانتماء والجمهور لاستقطاب هذا الإنسان الحائر نحو تفسير معين وفق أهداف معينة، وهنا تكمن الخطورة لأن الكذب يتساوى مع الصدق لدى إنساننا الحائر، لأن كل المادة التاريخية في وعينا الجماهيري تتحصن في الإطار العقيدي، فيصبح التاريخ مصدرا لقياس الكفر والإيمان في حياتنا المعاصرة وليس معمل صناعة الوعي الجمعي للمسلمين.
وعلى ضوء هذا، نشير لحقيقة تتعلق بمنهج دراسة التاريخ أو التراث بل الإسلام ككل، هناك ضرورة حتمية أو لنقل مصيرية للجمع بين المنهج التقليدي الذي أوجد علم الرجال أو علم التجريح والتعديل أو علم الدراية والمنهج الأكاديمي المعاصر الذي يراعي أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني كما ذكر ابن خلدون في مقدمته (ولم يلتزم به، يمكن مراجعة ذلك بالفصل الثالث من كتاب محنة التراث الآخر)، بالإضافة إلى نظام التفكير، لأن الحقيقة التاريخية لم تبق على أصالتها ونقاوتها بل حورتها أقلام البلاط وأهواء المتعصبة وغلمان اليهود، فضاعت في سيل من الأكاذيب والافتراءات والمؤامرات كما ذكر النبي الأكرم (ص) في عدة أحاديث مروية لدى المدرستين وبطرق صحيحة ورجالها ثقاة.
هنا يتجسم هول التمويه والتضليل الذي يحدث في الدراسات التاريخية في إبعاد الباحث عن الحقائق وجوهر السنن التاريخية، فبدلا من أن ننشر علوم الإسلام في العالم أصبحنا نفكر كيف نثبت أن الإسلام لم ينشر بالسيف، فقط لأن الآخر الجاهل والمعادي درس واقعنا وموروثنا التاريخي كما قدسناه بغثه وسمينه، فخرج بنتيحة مفادها أننا ندمن النزاع والسجال والتهميش لبعضنا ونرفض العقلانية التي هي من صميم شريعتنا بل إنها العنوان العريض في نظرية الوعي الإسلامي.
بصراحة: ما نطلبه كمشروع إصلاحي لتقدمنا الحياتي كمسلمين يحملون الإسلام فكرا وسلوكا وحضارة، أن تكون الأخلاق والتقوى والصدق هي أسس التعامل مع التراث وتنقيته، وليس الجهة والأشخاص والأهواء، معتمدين في ذلك على الثقافة القرآنية وأدوات البحث العلمي الصحيحة.
ونؤكد أن التطلع لغد إسلامي أكثر إشراقا وتعايشا ووحدة لا يمكنه التحقق بدون الابتعاد عن الشك الجاهلي بيننا كمسلمين والجدال البيزنطي الغالب على تباحث مشاكلنا التاريخية، بالطبع نأمل على المدى المتوسط تحقيق تغير ملحوظ وهادف في مشروع الأمة الواحدة، والمزيد من التطور في الدراسات التاريخية الجامعة لا المربكة، وذلك من خلال حملة ثقافية إعلامية وحدوية واسعة…
(5)
يذكر الأستاذ حسن بن فرحان المالكي في مقدمة كتابه «نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي»:التاريخ الإسلامي لا يجهل المسلمون أهميته، وإن اختلفوا في قراءته، وكتابته، وبحثه، وتصنيفه، وتقييمه، فمنه يستمد المسلمون العبر والدروس، وإليه يرجعون عند تفسير أسباب النصر وعوامل الإخفاق، لأنه الأرضية التي كان الإسلام في عصوره الزاهرة مبنيا عليها وكان التاريخ أيضا المرآة التي تعكس واقع المسلمين. لكن التاريخ الإسلامي ابتلي بكثير من أبنائه الذين لم يفهموا الأهداف الحقيقية من دراسته، ولم يقفوا على جواهر فوائده ولم يعرفوا المنهج الصحيح في الاستفادة منه، تلك الاستفادة التي تتصاحب فيها معرفة الأخطاء وبدايات الانحراف مع معرفة الايجابيات وجوانب الإشراق… التاريخ الإسلامي مبتلى بكثير من الصالحين، الذين يجمعون بين العاطفة الصادقة والجهل المركب وقديما قال بعض السلف: (لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث )… التاريخ الإسلامي مبتلى ببعض العلماء الذين يجازفون بإصدار الأحكام المستعجلة حول الأحداث والمواقف والشخصيات والنتائج…
التاريخ الإسلامي بحاجة إلى أن نحسن استخدام العلم، ذلك العلم الذي يهدي إلى الحق ويوصل إليه، وليس ذلك العلم الذي تسيره العواطف وتراكمات الأخطاء والظنون وتجره ردود الأفعال غير المدروسة ولا المسؤولة لاتخاذ مواقف متشنجة، تقلب الحقائق من اجل إرضاء الناس أو إغضاب الآخرين وتلوي أعناق الأدلة وتجمع الأضداد وتخضع المسلمات وتفرق بين الأمور المتفقة، من اجل الثبات على موقف خاطئ أو الحصول على ثناء جاهل.
نكتفي بهذا القدر من مقدمة كتاب الأستاذ الفاضل حسن بن فرحان المالكي والذي هو في الأصل مقالات نشرت بصحيفة الرياض كمحاولة من محاولات نقد سلبيات البحث في التاريخ الإسلامي، كما أن الأستاذ أورد عدة أمثلة لأحاديث وروايات تاريخية وقراءات، وهو المتخصص في علوم الشريعة، كما تطرق لمناهج البحث لدى العديد من الدكاترة والمؤرخين المعاصرين، ليوضح حقيقة منهج التعامل مع التاريخ وما سببه من صراعات وعلاقات متشنجة بين المسلمين رغم أحقية الآخر في التعبير عن رؤيته وقراءته لهذا التاريخ الإسلامي، والذي يستدعي منا إعادة كتابته وفق المنهج الصحيح الذي يخدم حاضرنا وينقي ماضينا من الكذب والافتراء والبهتان والتشويه والظلم الذي تناسل عبر الزمن ليجعل من المسلمين الموحدين كفارا وزنادقة وضالين وماهنالك من مسميات ظلم واضطهاد.
وهناك أيضا توضيح وتوجيه آخر في كتاب «فلسفة التاريخ» للإمام المجدد حيث يقول: يلزم على من يريد الوصول إلى فلسفة التاريخ، أن يتأنى في قبول التفسيرات العصرية للنصوص القديمة وهكذا التفسيرات في العصور السابقة للوثيقة، أو التفسيرات في العصور اللاحقة على الوثيقة، لأن في كل زمان اصطلاحات ومفاهيم خاصة به، وأحيانا تكون مستوعبة مما ذكره الأصوليون في مباحث التعادل والتراجيح بالنسبة للروايات المختلفة، فإن مثل ذلك أيضا، يأتي في مقام تحليل التاريخ، وفلسفة القضايا الكلية، أو الجزئية الشخصية أو الزمنية أو المكانية أو غيرها «ويذكر في مقام آخر: «إن معرفة فلسفة التاريخ تحتاج إلى استكشاف العلل والمعلولات والأسباب والمسببات، وذلك كما في الحديث: (أبى الله أن تجري الأشياء إلا بأسباب) …و من الواضح أن التعليل يجب أن يكون تعليلا لجملة من الأمور الكافية للاستكشاف لا أمرا جزئيا خارجيا كما هو حال التاريخ…».
هذا التنظير والتحليل السابق يمثل الأداة الأساسية في بناء منهج سليم لدراسة التاريخ الإسلامي بعيدا عن الحساسيات واستنادا على الموضوعية والروح العلمية القوية، كما أن واقع المسلمين يلح على أهل العلم والثقافة والدين لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، بمنهج رصين وصدق وأمانة وهذه مفاهيم يجب أن يعيها ويركزها في نفسه من يريد الاشتغال على توصيف وتفسير التراث الإسلامي ككل بما فيه التاريخ الذي يجمع الأبعاد الثلاثة للزمن.
نحن والتاريخ ثنائية شكلت مأزقا في طريق النهوض الإسلامي والوحدة الإسلامية والوعي الإسلامي الحضاري، لأن هناك من تصدى لقراءة التراث والتاريخ والفتن والوقائع عبر الزمن الإسلامي كله دون امتلاكه لأدوات القراءة الحضارية الرسالية. بل تحرك من خلفية جهوية حزبية وحالة نفسية مرضية أو نرجسية فئوية، حيث الدعوة لإعادة قراءة وكتابة التاريخ، أمر استراتيجي بالنسبة للأمة لكن ذلك بحاجة لقارئ وكاتب مؤهلين لهذه المسؤولية، وجميل ما قرأته للعلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: (إذا كان التاريخ الشائع الآن منقوصا من حيث «الكم» فهو منقوص كذلك من ناحية «الكيف» ثم يتساءل: (إن آثار التاريخ في صناعة الأجيال المقبلة لا يمكن إنكارها، فهل نترك تراثنا وأبناءنا للخراصين والحاقدين؟؟)… والله من وراء القصد.
(*)كاتب وباحث إسلامي