في إدارة الخلاف المذهبي الإسلامي
جعفر محمد حسين فضل الله
شهدت الساحة الإسلاميّة مواقف حادّة تجاه السيّدة عائشة أمّ المؤمنين، أو صحابة رسول الله(ص)، صدرت عن بعض أصوات النشاز، أعقبتها ردود أفعال ومواقف، دلّت على أنّ المجال الإسلامي لا يزال هشّاً أمام أقلّ اختبار حقيقي لأصوات الفتنة؛ هذه الأصوات التي يبدو أنّها الأكثر تأثيراً أمام الأصوات العقلانيّة المستندة إلى المنهج الإسلامي في مقاربة الأمور والحكم على الوقائع، والموجودة لدى الفريقين، السنّة والشيعة، تاريخاً وحاضراً.. والمشكلة الكبيرة أنّ صوتاً واحداً سخيفاً كفيلٌ بإعادة الساعة إلى الصفر تجاه أيّ مشروع للوحدة الإسلاميّة؛ ما يشير إلى أنّ ثمّة مشكلة تربويّة عميقة، ساهمت فيها عوامل عديدة، ليس أقلّها العامل السياسي، قديماً وحديثاً، نتج عنها غلبة الحالة المذهبيّة على الانتماء الإسلامي العام، لتصبح «قيمة» الجماعة، هي التي تحكم منظومة القيم الأخرى، ونُصبح نحن تجسيداً لمنطق العصبيّة التي عبّر عنها الإمام عليّ بن الحسين(ع) حيث قال: «العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن أن يعين قومه على الظلم» (الكافي، ج2، ص 308 – 309).
ما نحاوله في هذه المقالة هو أن نقيس بعض ما نحن فيه على بعض ما ورد في القرآن الكريم، وهذا هو عمق اختبار إسلامنا، كسنّة وكشيعة.
نحن أكثر ميلاً في ما نسمعه، أو نقرأه، إلى التصديق بالسلب عن الطرف الذي يختلف معنا؛ بل ربّما وجدنا أنّه قد شكّل كلّ فريق منّا عن الآخر سلسلة من المعتقدات التي لا تزحزحها البراهين؛ فقد نجد لدى الشيعة من يقبل على بعض السنّة أيّ رواية، ولو كان راويها كذّاباً، لمجرّد أنّها تتّفق مع الهوى المذهبي لديه، وقد نجد لدى السنّة من يقبل أيّ رواية على الشيعة، ولو كان راويها منافقاً، لمجرّد أنّها تؤكّد وجهة النظر التي تجعلهم فئةً خارجةً عن الدين.. حتّى إنّنا لا نقبل – في ذهنيّتنا الشائعة – أن ننسب أيّ منقبة لمن نختلف معه، سواء من شخصيّات التاريخ أو الحاضر؛ لأنّ ذلك يُمكن أن يسجّل علينا، ونحن لا نريد أن نسجّل علينا أيّ نقطة حتّى لحساب الحقّ!. ولذلك دخل العقل المذهبيّ في الظُلم المعرفي للطرف الآخر، وربّما دخلنا في حالة من الاستكبار المذهبي، مع أنّ الله تعالى يقول صريحاً: (ولا يجرمنّكم شنآن) – أي بغض (قومٍ على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى) (المائدة، 8) ؛ فأين نحن من هذا المنهج، سنّةً وشيعة؟
ليست هناك مشكلة أن تنتمي إلى أيّ مذهب ما دامت هي قناعتُك بينك وبين الله، ولكنّ المشكلة هي أن تجعل الانتماء المذهبيّ صنماً تعبده من دون الله، فلا تقبل حقّاً خارجه، ولا تقبل ظلماً في داخله.
لا نسبّ ولا نلعن
يقول الله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علمٍ كذلك زيّنا لكلّ أمّة عملهم) (الأنعام، 108). بقطع النظر عن كون الآية متعرّضة لسبّ آلهة المشركين، فإنّها بصدد بيان منهج عام لا بدّ أن يأخذ به كلّ المسلمين الذين يُدركون أنّ لكلّ جماعة من الناس مقدّساتها ورموزها التي تعظّمها وتحترمها، وهذا ما يدفع إلى اعتبار الإنسان أيّ تعدٍّ على مقدّساته ورموزه تعدّياً عليه شخصيّاً، ما يدفع المجتمع الذي يأخذ بأسباب السباب إلى سلسلة من ردود الأفعال التي تجعل المجتمع يعيش حالة حدّة وشحن غرائزي قد ينسف كلّ المقدّسات والقيم. والإسلام أراد من المجتمع أن يعيش الموضوعية والعقلانيّة والمسؤوليّة عن المجتمع. ولعلّنا نلمح كلمة للإمام عليّ(ع) حينما قال لأصحابه وقد سمعهم يسبّون جيش الشام في صفّين: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به» (نهج البلاغة، الخطبة، 206)، وذلك يعني أنّه لا ينبغي أن تكون روح المسلم روحاً تدميريّة – كما يعبّر السيّد محمّد حسين فضل الله(ره) – بل روحاً إصلاحيّة هادية، وهي الروح التي لا تتّفق مع حالة الإلغاء التي يعبّر عنها السبّ..
ومع أنّ هذا يمثّل فلسفة هذا الخلق الإسلامي، فإنّ جملة من المرويّات عن النبيّ(ص) وأهل بيته قد رفضت صراحةً سبّ المؤمنين بعضهم بعضاً، فعنه(ص): «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر». «لا يكون المؤمن لعّاناً»، «إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنمّا بعثت رحمة»، و«لعن المؤمن كقتله»، وما إلى ذلك من روايات لا يُمكن للإنسان تجاوزها ببساطة كما شاع في بعض الأوساط.. ولذلك رأينا أنّ ما نُسب من اللعن إلى أهل البيت(ع) في ما يتّصل بالخلاف المذهبيّ ليس صحيحاً بحسب موازين التوثيق؛ لأنّ رواة هذه المضامين من الغلاة؛ حتّى إنّ كثيراً من المرويّات عن الإمام جعفر الصادق(ع) تشير إلى نقده الشديد لهذا المنهج الذي ربّما يكون قد ساهم فيه احتدام الصراع السياسي آنذاك، والذي لعب على الوتر المذهبيّ، ولا سيّما إذا لاحظنا ما كانت السلطة الأمويّة تمارسه من فرض سبّ الإمام عليّ(ع) على منابر الجمعة عشرات السنين، حتّى منعه عمر بن عبد العزيز بعد تولّيه السلطة..
أمّة التاريخ!
في منطق الإسلام، ترتكز علاقة المسلم بالتاريخ على أمرين: الأوّل ما بيّنه قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب) (يوسف، 111)؛ فالمؤمن يأخذ من التاريخ ما ينفع حاضره ممّا يمثّل العبرة له والقدوة له، وهذا يستوي فيه التاريخ الحسن والتاريخ السيّئ؛ لأنّ الإنسان يأخذ العبرة من كليهما. أمّا ما حقّقه كلّ فريق من انتصارات وما جناه من هزائم، أو ما اكتسبه من حُسنٍ أو قُبحٍ، أو من طاعة أو معصية، وما إلى ذلك، فلا دخل لنا به، ولا نُسأل عنه، وذلك هو مفاد قوله تعالى: (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون) (البقرة، 134 و141).
وإنّ أهمّ ما ندرسه اليوم – كمسلمين – في قضيّة الخلافة والإمامة، هو كيف أنّ المسلمين الأوائل قد جنّبوا الواقع الإسلاميّ الانزلاق في الفتنة، وكيف أمّنوا له الحماية والحصانة الداخليّة تجاه العدوّ المتربّص بالإسلام كلّه، ومن روائع كلمات تلك المرحلة التي ينبغي أن تكون شعاراً لنا في كلّ المراحل ما قاله عليّ(ع) في كتابه لأهل مصر: «فما راعني إلا انثيال الناس على فلانٍ – ويقصد الخليفة الأوّل – يُبايعونه، فأمسكتُ يدي، حتّى إذا رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوتِ ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه»(نهج البلاغة، ج 3)، أو مقولته الشهيرة: «لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، ووالله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة».
فليَرجع الخلاف المذهبيّ إلى موقعه الفكري والنقدي، حتّى في ما خصّ قراءة التاريخ وإعادة تقويمه؛ لأنّ منطق التاريخ يرفض التسويات في عالم التقويم. والموقع الفكري والنقدي هو الموقع الطبيعي لهذا الخلاف، وعندئذٍ سيكون الخلاف مصدر غنىً لا مصدر تفرّق، ومحطّ تراكم للعلم لا مصدر تنافر.
العقيدة ليست بالوراثة!
يبقى أنّه، في ما يتّصل بعقائدنا المذهبيّة، لا بدّ لنا أن نحاكم منهجنا في تشكيل عقيدتنا على ضوء ما قصّه الله علينا من منهج الكافرين والمشركين حينما كانوا يرفضون الإيمان معلّلين بأنّه يصطدم بما ورثوه من عقائد الآباء والأجداد، بحيث كان الإنسان يبني عقيدته تبعاً لما عليه الجماعة التي ينتمي إليها، من دون التدقيق فيها.
إنّ عدم الاحتكام إلى قواعد تشكيل القناعة من خلال البرهان والدليل من شأنه أن يؤدّي إلى تبنّي الأجيال الإسلاميّة المتعاقبة لعقائد قد لا تستطيع أن تقيم براهين منطقيّة عليها. هذا في بنائها العقيدي في ذاتها، فضلاً عمّا تبنيه من صور موهومة عن الطرف الآخر، ورثته من تاريخ الصراع الطويل الذي كان في عمقه صراعاً سياسيّاً حُمّل صفة الدين أو المذهب…
وهذا ما يجعلنا نجد اليوم – في الجامعات مثلاً، والتي ينبغي أن يبتعد طلاّبها عن العصبيّة وأن يكونوا أقرب إلى المنهج العلمي والموضوعي في فهم الأمور وتشكيل القناعات – أنّ الشيعي يتعامل مع السنّي الذي يجلس إلى جانبه في صفّ الدراسة من خلال الموروثات التي يحملها عنه، بما لا يجعله قادراً على رؤية كثير من التماهي في الحياة اليومية والعامّة، ويضيع كلّ التقارب الروحي في لحظة إعلاميّة مأزومة وكأّنّ الجهل التامّ قد أحاط بالزميل الذي كان أمس من أعزّ الأصدقاء، مع أنّه لم يصدر منه شيء في هذا المجال.. وكذلك الأمر في السنّي تجاه الشيعي.. وهذا يعني أنّنا لا نزال أمّة التاريخ التي غرقت في التاريخ بكلّ سلبيّاته، وأصبحت تتعامل مع الواقع من خلال الصورة المتبنّاة عنه، وليس من خلال الاختبار الواقعيّ له ولعناصره، وهذا ما سيُبقينا أمّة سهلة على كلّ طامع، يثيرنا أيّ موضوع، وتقيمنا كلمةٌ طائرة سيّئة من هنا أو هناك، لا نحمّل – بحسب تعميماتنا الظالمة – وزرها لصاحبها الذي صدرت منه، بل نجعلها ممثّلة للمذهب الذي ينتمي إليه، فنأخذ «الصالح بعزا الطالح» – كما يُقال -.
كما أنّ هنا نقطة مهمّة، وهي أنّ اعتبار العقيدة ممّا يتّصل بالقناعة التي يكوّنها الشخص من خلال اشتغاله بالأدلّة والبراهين على أيّ فكرة، من شأنه أن يُبعد حالة التقسيم العقيدي؛ لأنّ الغالب في اصطباغ العقيدة بالمذهبيّة هو الوقوف عند مسلّمات كانت ناشئة من تفكير سابق وتبانت عليها الجماعة جيلاً بعد جيل؛ بينما لو أبقينا الفكر متحرّكاً لأمكن التعويل على ما يختبره المسلمون من أنفسهم من فكرٍ مستجدّ، وحركة نقدٍ متراكم عبر الزمن، مع ما يتأثّر به المسلمون جميعاً – ولا سيّما جيل الجامعات – من روح العصر في مناهج التفكير العلمي وما إلى ذلك ممّا يلقي بظلاله على فكر الإنسان عموماً. كلّ ذلك من شأنه أن يقرّب المسافات بين المسلمين، ويغيّب الحواجز بين المذاهب..
إنّ المؤمن لا خيار له في مسألة الأخوّة الإيمانيّة، بل هي أمرٌ مجعولٌ من الله عزّ وجل. وربّما نفهم على أساس ذلك الحديث القائل: «إذا قال المؤمن لأخيه أنت عدوّي كفر أحدهما»؛ لأنّ نسبة المسلم إلى العداوة يضادّ جعل الله تعالى الأخوّة، وهذا كفرٌ عمليّ على الأقلّ.
كما أنّه يلزم من هذه الأخوّة، أن يعمل المؤمن على صونها وحمايتها من أيّ شائبة، وذلك من خلال الانفتاح الذي يعيشه المسلم تجاه أخيه، والممارسات الأخويّة التي تقوّي الوجدان الإسلاميّ الجامع، بحيث لا تبقى الأخوّة مجرّد شعارٍ نرفعه، بل هو حياة نعيشها، ووجدان نتحسّسه، وسلوك نسلكه. وقد ورد في الحديث: عن رسول الله(ص): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه».
ومن مستلزمات الأخوّة – بحسب الآية – أن ينبري المسلمون للإصلاح بين المسلمين إذا اختلفوا، أو تباعدوا، أو تنافروا، أو حتى اقتتلوا، كما قال تعالى: (وإن فئتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين) (الحجرات، 9).
هذه بعض مفردات تتّصل بالمنهج الإسلامي في التعامل مع الآخر، وهي مفردات لا تتطلّب أن نتماهى في ما بيننا، ولكنّها تصلح قاعدة لتقويم ذهنيّتنا وأساليبنا في الحاضر، بدلاً من أن نتلمّس لحاضرنا شيئاً من قداسةٍ أدمنّاها للتاريخ، بكل قيمه المعقّدة، والتي نأتي بها إلى الحاضر كلّما أردنا أن نُثبت للعالم أنّنا لا نزال أمّة ترفض أن تضبط ساعتها على القرن الخامس عشر الهجري، والقرن الواحد والعشرين الميلادي، لتحاكم قضاياها – من خلال القرآن والسنّة – بما نفهمه نحن من القرآن والسنّة، لا بما فهمه الآخرون حتّى لو تطابقت نتائج الفهم؛ والله من وراء القصد.