حيدر حب الله[1]
1 ـ ليس سهلاً ـ في مقالة توصيفية تحليلية ـ تناول نتاج مفكّر كبير مثل الدكتور علي شريعتي؛ لأنّ ما قدّمه شريعتي من أعمال علمية وثقافية لم يكن سهلاً ولا ذا تأثير بسيط، فهذا المصلح الديني البارز في إيران هيمنت أفكاره على الساحة الإيرانية بشكل قلّ نظيره، ويؤكّد لنا هيمنة أفكار شريعتي على المثقف والكاتب الإيراني وعلى الحياة الثقافية الإيرانية:
أ ـ الإحصاءات التي تصرّ على أنّ ما كُتب حول شريعتي في إيران يساوي مجموع ما كتب حول الأفغاني ومحمد إقبال ومهدي بازركان وطالقاني ومطهري، وأنّ هناك مائة وخمسين دراسة عنه حتى عام 1997م حسب إحصاء الباحث المتتبّع محمد اسفندياري، وهذا معناه أن المثقف الإيراني كان مشغولاً في جزء كبير من اهتماماته الثقافية والكتابية في التأمل بعلي شريعتي وأفكاره ونظرياته، ليس المثقف المعاصر له فحسب، بل الجيل الذي أتى بعده، لأنّ ما كتب حول شريعتي في المكتبة والصحافة الإيرانية بعد انتصار الثورة عام 1979م كان هو الأساس في هذه الإحصاءات.
ب ـ الإحصاءات والمعلومات الكاشفة عن حجم تداول كتابات الرجل في الساحة الإيرانية، فمن المعروف إيرانياً أن العقد الستيني من القرن العشرين كان عقد المهندس مهدي بازركان، فيما العقد السبعيني كان عقد الدكتور علي شريعتي، أما عقد الثمانينات فكان عقد الأستاذ مرتضى مطهري، فيما عقد التسعينات كان للدكتور عبدالكريم سروش.
لقد هيمنت كتب وكراسات شريعتي على الحياة الإيرانية في السبعينات سيما ما بين عام 1978 ـ 1980م، وقد طبعت أكثر من مائة كراسة وكتاب في هذه الفترة ودفعةً واحدة من ناشرين مختلفين في وقت واحد، حتى صار معدّل نُسخ كل كتاب من كتبه يتراوح بين العشرة آلاف والمائة ألف نسخة، فيما كان معدّل عدد نسخ الكتب العادية آنذاك لا يتجاوز الألفين إلى ثلاثة آلاف نسخة، حتى بلغت بعض الإحصاءات أن أكّدت أن مجموع ما طبع لشريعتي في السبعينات لمجموع كتبه وطبعاتها وصل إلى خمس عشرة مليون نسخة وهذا ما يؤكّده شريعتي نفسه ـ من حيث المبدأ ـ إذ يقول: إن كتابه حول الولاية وصل إلى مليون نسخة، ويؤكّد هو نفسه أن عدد الطلاب الجامعيين الذين سجلوا اسمهم في درسه بلغ خمسين ألف طالب، بل تفيد بعض التقارير التي نشرت عن وثائق السافاك الإيراني أن حسينية الإرشاد في السبعينات كانت تطبع كل ثلاثة أيام كتاباً لشريعتي كان طُبِعَ من قَبْل.
وإذا حسبنا ـ كما يقول الأستاذ بهاء الدين خرّمشاهي، الذي كان رئيساً آنذاك للمكتبة الوطنية ـ حسبنا كتب شريعتي مع الكتب الأُخرى سنجد أن معدّل طباعة كتب شريعتي أكثر بمائتي ضعف من غيرها، ولا ننسى ما قاله المهندس مير حسين الموسوي إحدى الشخصيات البارزة في الحزب الجمهوري الإسلامي الذي كان يقوده الدكتور بهشتي، إذ يقول: إنهم وعبر ملئ استمارات لأكثر من ثلاثة مليون شخص من الحزب تبيّن أن 90% من أعضائه كانت الكتب التي يطالعونها ترجع إلى شريعتي. وصغر حجم كتب شريعتي ـ التي أخذت تجمع فيما بعد على شكل كتب جامعة ـ ساعد أكثر فأكثر على نشر كتبه وانتشارها.
ولا يفوتنا أيضاً أن عدد سكان إيران آنذاك كان حوالي الخمسة وثلاثين مليوناً فقط، فيما لم يكن عدد طلاب الجامعات ليتجاوز المائة وخمسين ألفاً حسب الإحصاءات. وقصّة الصورة التي نشرت في إيران عام 1979م لا تدع مجالاً للشك في خيالية المشهد، فهذه الصورة تبيّن وجود صفّ طويل من الناس يقفون أمام محل لبيع الكتب بشكل مزدحم؛ ليشتروا من مكتبة (كتابفروشي آذر) المقابلة لجامعة طهران.. ليشتروا كتب شريعتي، إنها تشبه صفوف الفقراء على المخابز وأمثالها، وهو أمر لم تشهد إيران له مثيلاً.
وإذا أضفنا الكتب التي حملت اسم مؤلف مستعار وعرفت أنها لشريعتي، سوف تتضح الصورة أكثر، فقد كان لشريعتي الكثير من الأسماء المستعارة قبل انتصار الثورة تبلغ حوالي 24 اسماً، ومنها: علي علوي، علي خراساني، علي شريفي، علي سبزواري، ع، شمع، مصباح..
نعم، بعد انتصار الثورة وإلى مجيء الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي حصل إعراض واسع ـ لأسباب متشابكة ـ عن كتب شريعتي، فالمسألة السياسية وتوظيف بعض المعارضين السياسيين لأفكار شريعتي في معارضة النظام الجديد للحدّ من سلطة المؤسسة الدينية كانت من جملة العناصر التي أحدثت ردّ فعل من طرف السلطة وحدّت من الاهتمام بكتب شريعتي؛ فصارت طبعاتها نادرة، حتى أنّك تجد في الأسواق الطبعات القديمة غير المصحّحة وفق قواعد التصحيح الحديثة، لكنّ مجيء خاتمي أعاد إحياء شريعتي وطباعة كتبه، وكتابة دراسات عنه، وعقد ندوات عديدة، وقد قام منظرو الحركة الإصلاحية بإعادة استحضار أفكاره وتحليلها، لاسيما من جهة مسألة الإصلاح الديني والسياسي، ومسألة العلاقة مع المؤسّسة الدينية. كما ظهرت في العالم العربي حركة ترجمة لنتاج شريعتي، طبع قسم مهم منها في بيروت.
2 ـ وإذا أردنا تحليل أعمال شريعتي، فلابدّ أن نعرف أنّ أحد الأسباب الرئيسية لهيمنتها على العقل الإيراني يعود إلى نزعة ثقافة الأيديولوجيا التي كان يحملها؛ لهذا تحوّل إلى قائد أيديولوجي يملك كاريزما نادرة، إضافةً إلى حركة النقد الداخلي التي مارسها شريعتي ضدّ الحياة الدينية الإيرانية، من كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي، إلى كتابه مذهب ضدّ المذهب، إلى كتابه معرفة الإسلام، إلى كتابه «أبي وأمي نحن متهمون» و… إن وجود ثورة عارمة ضدّ الواقع والمفاهيم في بلد صاخب كإيران يجعل حركة النقد قائمةً على قدم وساق، وسيكون هذا النقد مقبولاً طالما لا يصبّ في صالح السلطة (الشاه) والدفاع عنها وسط حياة غاضبة منها ومن أعمالها، وهذا بالضبط ما كان لشريعتي؛ حيث جمعت كتاباته بين اتجاهين نقديين في حياة القرن العشرين هما:
أ ـ الاتجاه النقدي الثائر ضدّ الطبقية والاستبداد، وهو اتجاه غذّته في العالم الإسلامي آنذاك الحركة الشيوعية واليسارية عموماً، لهذا وجدنا عند شريعتي مقولات تشبه اشتراكية أبي ذر الغفاري، وحضوراً لافتاً للاقتصاد في نتاجاته تمثل في رفض المنطق البورجوازي بتمظهراته في المجتمع.. فتحدّث عن زهد علي.. وفي سياق رفضه الشامل للطبقية، بلغ الحال بشريعتي أن طرح مقولة «إسلام بلا رجال دين أو بلا مؤسسة دينية» وهي المقولة التي أثارت غضباً عاماً ضدَّه في الأوساط الدينية في إيران، أي في مجتمع كانت تركيبته الاجتماعية قائمة على هرمية يقف المرجع الديني على رأسها.
وأظن بأن أطروحة شريعتي الداعية إلى «بروتستانتية إسلامية» والتي أفرزت الدعوة إلى إلغاء طبقة علماء الدين، كانت وراء الانتقادات الأخرى التي سجلت ضدّه، مثل قضية الصلاة خلف أبي بكر قبيل وفاة رسول الله’؛ لأنّ هذا التحليل لهذه القضية بالذات، والذي مارسه شريعتي من منطلق علم اجتماعي، وهو اهتمامه المعرفي الرئيس في كتاباته، لم يكن ليشكل بالضبط خوفاً على الحياة الشيعية المذهبية، فحركة نقد المقولات المذهبية في إيران آنذاك لم تكن لتشكل خطراً جدياً، وإن كانت موجودة مع أبي الفضل البرقعي وعبدالوهاب فريد وغيرهما، سيما عندما نأخذ بعين الاعتبار اهتمام الشيخ مطهري بهذه القضية بالخصوص في سياق نقده لشريعتي، وهو الذي كانت لديه انتقاداته المذهبية أيضاً.
إن الذي يعرف الحياة الثقافية والاجتماعية في إيران ويحلّل الخطاب الديني الإيراني لا ينتابه شك في أن المؤسسة الدينية ذات حضور بارز تحكي عن نفسها دوماً وترى أنها في موقع المؤامرة عليها، وأن الإسلام مربوط بها، وذلك بشكل أكبر مما هو موجود في العالم العربي، ولهذا من الطبيعي هنا أن يكون لهذه المقولة تأثير الصدمة في المجتمع الإيراني.
وفي سياق كسر الهيمنة الطبقية لرجال الدين ـ كما يراه شريعتي ـ وجدنا ظهور شريحة من رجال الدين في إيران، غير معهودة كثيراً في العالم العربي الشيعي، حيث لا ترتدي هذه الشريحة لباس رجل الدين، بل هناك ـ تحت تأثيرات وتداعيات مسألة الطبقية هذه ـ من خلع عمامته وجبّته دون أن يبالي بتداعيات هذا الأمر حتى صار أمراً سائداً إلى حدّ ما، وليس آخر من فعل ذلك ـ وهي إشارة معبّرة ـ الشيخ محمد مجتهد شبستري أحد أبرز رجال الدين الإصلاحيين في إيران الذي خلع مؤخراً عمامته وزيّه الديني كلياً، بعد عقود طويلة.
وهذا هو ما يفسّر ـ امتداداً لمسيرة شريعتي ـ نقد الدكتور عبدالكريم سروش لمقولة «وحدة الحوزة والجامعة» على أساس أنه ما دام رجل الدين هو صاحب السلطة ويقف في طبقة عليا فلن يمكن تحقيق وحدة أو تناغم بين الحوزة والجامعة، وهذا كلّه يرجع إلى المقول الطبقي الذي كان من أولويات عمل شريعتي، إلى غيرها من امتدادات هذه الجهود التي بذلها شريعتي، ليس آخرها نقد هاشم آغاجري لمسألة التقليد.
ب ـ الاتجاه النقدي الثائر ضدّ المقولات الدينية التي يعتقد أنها لعبت دوراً في تخلّف المسلمين، وهذه المادة النقدية التي قدّمها شريعتي في التشيع العلوي والتشيع الصفوي وغيره، شكّلت أحد المنطلقات التي صدرت على أساسها الفتاوى ضدّ كتبه التي اعتبرت كتب ضلال، حتى من بعض المرجعيات الكبيرة آنذاك، فطبيعة التشيّع السائد في إيران كانت ـ من وجهة نظر شريعتي ـ تاريخية، أي إنها من إفرازات ما يسمّيه شريعتي في بعض كتبه (الاستحمار) الذي تمارسه السلطة، إنه استخدام منطق الدين للتجهيل والاستغباء وتفريغ الوعي وتسطيحه.
3 ـ ورغم الحركة النقدية التي عرفتها كتب شريعتي، إلا أن أيديولوجيته وحماسته وثوريته كانت تساعده على تقديم شخصية ذات مصداقية على مستوى الرأي العام؛ لهذا نجد كتب شريعتي جماعاً من التفكير النقدي القائم على أسس سيسيولوجية من جهة، والمشروع النهضوي القائم على ثقافة الأيديولوجيا من جهة ثانية، والحركة الإصلاحية التي تمثلت في دعوته لبروتستانتية إسلامية، أي إعادة تمثل التجربة المسيحية واللوثرية.. من جهة ثالثة.
4 ـ لكنّ خطّ شريعتي تحوّل في التسعينات تحوّلاً جذرياً، فالتفكير النقدي لتياره لم يعد قائماً على أسس علم الاجتماع، بل على أساسيات علم المعرفة والإيبستمولوجيا مع الدكتور سروش و.. كما أن المشروع النهضوي تخلّى عن الإيديولوجيا بل ونقدها كما فعل سروش نفسه، ليستبدلها بحيادية العلم ـ ولو على مستوى الادّعاء ـ وصارت الثقافة الصوفية الإيمانية مشروعاً بديلاً لأدلجة الحياة، كما رأينا مع شبستري وملكيان وغيرهما، وهكذا ظهرت موجات نقد لبروتستانتية شريعتي، وتحدّث بعض كبار الباحثين مثل «نيكفر» عن استحالة الإصلاح الديني في الوسط الإسلامي، وأن نقل التجربة اللوثرية إلى عالمنا ـ كما أراد شريعتي ـ ضربٌ من الخيال.
هذه تحوّلات جذرية جادة في مدرسة شريعتي، لا ندري هل ستنمو أم ستعرض عليها ما عرض من مشاكل على تجربة شريعتي نفسه؟
5 ـ وأخيراً، ومهما تحدّثنا عن شريعتي المفكر العملاق فلا ينبغي أن نكون مقلّدةً له، كما يفعل كثيرٌ من مثقفينا، بل إنّ من حقوقه علينا أن ننتقده ونتخطّاه ونستفيد من تجربته تراثاً لنتقدّم نحو الأمام إن شاء الله، سيما وأنّ أكثر كتبه إنّما هو نتاج محاضرات وخطب، الأمر الذي يفسح المجال للعثور على ثغرات.
من هنا، نتحفّظ على الأسلوب الدعائي التهويلي الذي يستخدمه بعض الباحثين بهدف إحياء شريعتي، مؤجلاً نقده، أو مفترضاً أننا بحاجة إليه اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، فهذه الطريقة تناقض منهج شريعتي نفسه ومنهج أمثاله من الذين يرفضون ـ حدّ الإمكان ـ تعميم مقولة المقدّس.
اليوم، نحن بحاجة إلى إعادة قراءة شريعتي؛ لكن ليس لتوظيفه سياسياً ضدّ أحد، بل لاستخلاص العبر من تجربته في نقاط قوّتها وضعفها، وهذا ما يستدعي توازناً في مطالعة الرجل، لا ينحو منحى التبجيل ولا يتّجه ناحية التفسيق والتضليل، علّنا بذلك ـ سما مع تطوّر الدرس الديني اليوم ـ نستفيد من التراث بدل أن نستنسخه بحرفيّته.
__________________________
[1] – نشر هذا البحث في العدد العاشر من مجلة نصوص معاصرة، ربيع عام 2007م.