مطالعة في القضايا الفكرية المعاصرة
ـ القسم الثاني ـ
أ. نبيل علي صالح(*)
(a) منهجية السيد فضل الله في دراسة التاريخ الإسلامي
لا شك أن تاريخ أية أمة من الأمم أو أي شعب من شعوب الأرض يشكل ذاكرة توثيقية حية في الراهن والمستقبل لمجمل نشاطاتها وفعالياتها وأدوارها ومختلف مراحل نموها وتصاعدها الحضاري الطويل، كما وأن له ـ أي للتاريخ ـ دوراً حيوياً في نموها وتطورها في الحاضر والمستقبل؛ لأنه يوجد في التاريخ الكثير من الأحداث والذكريات والتجارب الحقيقية الحية يمكن أن تجنب أية أمة أو مجتمع كثيراً من المزالق والمخاطر والأخطاء، بما يقدّمه لها ذلك التاريخ ـ الموثق والمضبوط بموازين العقل والمنطق والموضوعية والأمانة التاريخية ـ من تجاربها الماضية في مراحل نموها الأولى، وما تحمله تلك التجاربمن دروس عملية كثيرة، تستطيع بها أن تضع يديها ـ بوعي ـ على مواطن الضعف ومواطن القوة في شخصيتها التي عاشتها في تلك الأدوار والمواقع الماضية. وهناك يكون الطريق أكثر إشراقاً وأرحب آفاقاً مما لو انطلقت فيه على غير هدى التاريخ.
وإذا كان من الطبيعي جداً أن تهتم كل أمة من الأمم بتاريخها وحضارتها الماضية، وتنشئ لنفسها المتاحف التاريخية الضخمة؛ لتعرض فيها أهم مكتشفاتها وكنوزها الأثرية، وتهتم بالبحث والتنقيب الأثري في بواطن أرضها، وترصد لهذه الأعمال الميزانيات الضخمة، وترسل البعثات للدراسة والبحث للنهوض بهذا القطاع، وتعمل على استثماره في حركتها السياحية بما يعود بالفائدة على مستقبل شعوبها، فإن الأَوْلى الاهتمام بتحليل ودراسة ونقد تاريخنا الراهن، غير البعيد زمنياً عنا، حيث لا تزال معطياته وأحداثه ومفاعيله ومختلف مواقعه تؤثر علينا إيجاباً أو سلباً، وترهن وجودنا الروحي والمفاهيمي للكثير الكثير من الأخطاء والانحرافات الفكرية والعملية الناجمة عن القراءات المنحرفة والمتحيِّزة لأحداث وقضايا ورموز تاريخنا الإسلامي..، بحيث تحول هذا التاريخ ـ تحت وطأة سيطرة تلك القراءات الخاطئة والانحرافات والتحريفات الفادحة ـ إلى ما يشبه الوثن الفكري المقدَّس، غير القابل للتحليل والدرس والنقد.
ولا نغالي كثيراً إذا قلنا هنا بأن العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله& هو من العلماء المسلمين القلائل الذين اشتغلوا على قضية النقد التاريخي، من موقع دراستهم للتاريخ بالعقل والوعي والقراءة الناقدة التحليلية، ولم يؤخَذوا بما يقدم هنا وهناك من تلاوين زاهية لأحداث التاريخ المشبعة بالخرافات والتخيلات والأوهام والتزوير والتزييف الروحي والمفاهيمي، التي تعتبر عند الكثيرين غيره مقدَّسة ومغلقة على العقل والفهم. كما أن للمرجع الراحل دوراً مهماً ومؤثراً واضحاً في تأثيره العملي المباشر على مستوى إعادة تحليل ودرس ونقد كثير من معطيات وأفكار ومواقع تاريخنا الإسلامي، فهو لا ينظر إلى هذا التاريخ كمقدَّس واجب الاتباع بالمطلق، ولا كصنم مطلوب منا أن نتعبد في محرابه ليلاً ونهاراً، ولا كنصّ مغلق غير قابل للتحليل والتأمل وأخذ العبر والدروس، ولكنه يعتبر التاريخ مجموعة أفكار وأحداث ورموز، فيها المصيب وفيها المخطئ، فيها الغثّ وفيها السمين، فيها الميت وفيها الحي الدائم الحضور بفكره ومنهجه وملاقاته لفطرة الإنسان الساعية والمنطلقة دوماً وأبداً إلى الحق والعدل والحرية…. ولذلك فهو يدعو ـ في منهجيته التاريخية ـ إلى اعتبار أن أمتنا الإسلامية، التي انطلق مجدها من خلال العنوان الديني الإسلامي، إلى جانب العوامل الأخرى، كانت لها أدوارها الحيوية الرسالية ومكتسباتها ومواقعها المتميزة السابقة التي لن تعود أبداً، ولكنْ نحن ـ أبناء هذا العصر ـ علينا أن ندرس تلك المواقع والمراحل التاريخية من تاريخ أمتنا من خلال وجودنا الإسلامي، كأمّة إسلامية واعية أنشأت حضارة عظيمة، يمكن اعتبارها ـ بمعنى من المعاني ـ أمّ الحضارات الحديثة. إذاً يريد السيد فضل الله أن يقرأ التاريخ على هديٍ من وعيٍ وعمق ومعرفة في هذه المرحلة التي نحاول فيها العودة إلى الشوط من جديد، بعد أن غبنا عنه مدة طويلة؛ لنحمل مشعل الكرامة والعدالة الإنسانية في رسالة السماء إلى الأرض. وهذه المحاولة التي يدعو إليها السيد فضل الله ليست مجرّد ترفٍ ذهني، ودراسة مجردة، وإنما هي ضرورة حتمية، وواجب حيوي لمرحلتنا الحاضرة. إنّها من أبرز الواجبات الملقاة على عاتق المفكرين والنخب الواعية وكل المسؤولين عن قضية الإسلام، بالنظر إلى أنّ ذلك التاريخ سجّل للمعركة التي خاضها الإسلام ضد خصومه وأعدائه، وقد علق به ما علق بكثير من مفاهيم وأحداث وأفكار الإسلام من شوائب وألوان دخيلة؛ بسبب ما حلَّ بالمسلمين من ارتباك واضطراب، ولذلك فقد وصل إلينا وهو يجرّ خطواته في وهنٍ وضعف، حاملاً أثقال الفترة المظلمة والعهود السُّود.
ضمن هذا الإطار، وبالاستناد إلى ما تقدم، ومن أجل فهمٍ ووعي أكثر عمقاً ونفعاً لتاريخنا الإسلامي، يقدِّم السيد فضل الله ـ في ضوء منهجيته التاريخية، وموقفه من التاريخ، ووعيه له ـ مجموعة ملاحظات أساسية؛ في سبيل الوصول إلى أفضل الطرق لدراسة تاريخنا الإسلامي بروحٍ علمية عميقة، تقرأ تاريخنا من جديد قراءة واعية، وتحاول أن تدرسه وتفلسفه وتتعرّف على جذوره الأصلية، ومعطياته الخصبة، على ضوء من هدى الإسلام وأسلوبه. ويمكن إيجاز تلك الملاحظات بما يلي:
1ـ يعتبر العلامة فضل الله أن التاريخ ليس مجرد تسجيل حرفيٍّ لقضية من قضايا الماضي، بل أصبح أداة فاعلة تسهم في عملية صنع الحاضر، والتأثير الإيجابي المثمر في استحقاقات المستقبل؛ بطبيعة ارتباطه بها وارتباطها به، تماماً كارتباط الشجرة بجذورها وعروقها الضاربة في أعماق الأرض.
2ـ ينبغي على كل باحث ومفكر وقارئ ودارس لحركة التاريخ العربي والإسلامي ـ وقبل كلّ شيء ـ أن يتخلّى عن الهالة القدسيّة ـ باستثناء ما ثبت من سيرة الرسول| والمعصومين^ـ التي يحاول الكثيرون أن يحيطوا بها هذا التاريخ بكل ما فيه من انحرافات وأخطاء؛ لأننا لن نحصل على فائدة من دراستنا له بدون ذلك، بل القضية تكون عكسية؛ لأن هذا الأسلوب يؤدي إلى تقديس الأخطاء، وفي هذا ما فيه من الانحراف عن الغاية التي نسعى إليها، والهدف الذي نهدف إليه.فتاريخنا ـ ككلِّ تاريخ ـ كان حصيلة أدوارٍ مختلفة من حياة الأمة بين ارتفاع وانخفاض، فهو الصورة التي تنعكس عليها الحياة بما فيها من ارتباكات، فإذا أردنا أن نفهمه على أساس واقعييجب علينا تعريته من كل لون من ألوان الخيال والدعاية والزهوّ، وملاحظته كمادة خام لدراسة عملية واقعية عميقة.
3ـ يعتقد السيد فضل الله أن كثيراً من القضايا والملابسات، التي حدثت في الصدر الأول في الإسلام، والانقسامات التي ابتلي بها المسلمون، أثّرت على سير هذا التاريخ في عصر الرسالة؛ لأن تلك القضايا خلقت عندنا كثيراً من المؤرّخين المرتبطين والمرتزقة، الذين كانوا يعيشون على موائد الملوك والسلاطين؛ ليخلقوا لهم المآثر والفضائل والأحاديث التمجيدية المزيفة، ويصوّروها بصورة جذابة تلفت الأنظار في أيِّ موضوع شاؤوا وأرادوا، حسب الحاجة السياسية والشخصية. ولذلك لن نستغرب ـ كما يؤكد السيد فضل الله ـ إذا قرأنا كثيراً من الوقائع التاريخية في صورتين متناقضتين، تعكسان الانقسامات الموجودة بين المسلمين، وتبرز كلٌّ منهما الواقعة التاريخية على ضوءٍ من اتجاهاتها وغاياتها. تماماً كما يحدث في عصرنا الحاضر عندما تتضارب الصحف السياسية في تصوير بعض القضايا التي نعيشها بأنفسنا نتيجة تضارب الرأي أو الاتجاه الذي تمثله هذه الصحيفة أو تلك. وهنا يكون المطلوب من أي باحث وناقد لهذا التاريخ أن يراعي هذا الواقع الذي عاش فيه التاريخ العربي والإسلامي؛ ليسير في بحثه بهدوء وحذر ويقظة متناهية؛ لئلاّ يقع في الخطأ من حيث لا يعلم، وينحرف عن الدرب من حيث لا يريد.
4ـ يشير السيد فضل الله إلى أن بعض دارسي التاريخ الإسلامي ـ المستشرقون منهم على وجه الخصوص ـ اعتبروا أن كثيراً من التصرفات والأعمال التي تقوم بها بعض أو كثير من الجماعات التي تدين بالإسلام هي الوحيدة الممثّلة لوجهة النظر الإسلامية، مهما كان لون تلك التصرفات، ومهما كان نوعها وطابعها. وهذا خطأ فكري وتاريخي كبير، له تداعياته السلبية على مستقبل الإسلام، والنظرة إليه من قبل باقي الأديان والحضارات؛ فإن الجماعات الإسلامية والمسؤولين المسلمين ـ الذين عاشوا في التاريخ الإسلامي ـ ليسوا إلاّ أناساً كبقية الناس، لهم أخلاقهم الخاصة، ولهم طبائعهم وأذواقهم المعينة، ولهم أخطاؤهم البشرية كبقية البشر، وليست تصرفاتهم إلا كتصرفات بقية إخوانهم من بني الإنسان، وليس لها علاقة بالإسلام إلا بمقدار قربها من مبادى ء الإسلام ومفاهيمه. ولهذا فإننا لا نستطيع اعتبار أي تصرف من تصرفات المسلمين ـ باستثناء المعصومين^ ـ مرتبطاً بالإسلام إلا بعد مقارنته بالمفاهيم والمبادى ء الإسلامية، لنعلم مدى موافقته لها. ولذلك فإن مبادى ء الإسلام ومفاهيمه هي المقياس الصحيح الذي نقيس به تصرّفات المسلمين، لا العكس.
5ـ يؤكد السيد فضل الله أنه لا يمكن للأمة والمجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة أن تنهض من كبوتها وتخلفها الحضاري الراهن شبه المقيم، الذي يلفها من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحالة الضعف العلمي التي جعلتهم في حالة عزلة تامة عن المشاركة والإسهام الحي في عملية صنع التاريخ الحاضر، ما لم تمارس عملية نقدٍ علمي موضوعي لتاريخها وماضيها القديم؛ لأن عملية النقد التاريخي وإعادة تقييم ودراسة تلك المراحل في التاريخ الإسلامي تتصل بالمرحلة الأولية من مراحل العمل والبناء، وهي مرحلة الإعداد والتكوين، إعداد الخطط التي يسير عليها العمل، وتكوين الأسس والمبادى ء العامة التي يرتكز عليها البناء.
6ـ يعتقد السيد فضل الله أن نقد التاريخ لا يمكن أن يستقيم أو يتم على أصوله العلمية والموضوعية ـ على مستوى استثمار إيجابيات مواقع التاريخ المضيئة، والانتفاع الإيجابي بها في حاضر الأمة ومستقبلها، وهي تخوض غمار بحثها عن موقع ودور رئيس لها في الحياة ينطلق من كونها أمة مسؤولة وشاهدة بحسب التعبير القرآني ـ ما لم نفهم ونَعِي طبيعة ونوعية المعرفة التاريخية التي تقدمها لنا دراسة التاريخ، وعلاقتها بالواقع الحياتي الذي نعايشه في الحاضر وفي المستقبل؛ لأن الزمن كلٌّ متكامل ومتفاعل بأبعاده ومستوياته الماضية والحاضرة والمستقبلية، التي لاتنحصر فيها الفكرة النافعة والجيدة والعبرة الحسنة الصالحة، بل تبقى صالحة للقادم من الأيام والدهور، وبالتالي فإن على المثقفين والدعاة، وحاملي لواء الفكر والمعرفة العلمية، أن ينطلقوا لفهم طبيعة المشكلات والتحديات الحاضرة التي يتخبط فيها الواقع الإسلامي، انطلاقاً من المشاكل العقيدية التي تتمّثل في اختلاف المذاهب والمدارس الفكرية والإسلامية في تفاصيل العقيدة وفروعها، وفي نوعية الطرق التي تصلنا بها، وتوصلنا إليها. ولن نستطيع التعرّف على طبيعة هذه المشاكل، وعلى الحلول العلمية التي نقدمها أمامنا لمعالجتها، وبالتالي لن نصل إلى نتيجة ذات جدوى، إذا حاولنا الوقوف أمام المظاهر السطحية البارزة، من دون أن ننفذ إلى أبعد منها؛ لأن ذلك لن يهيِّى ء لنا الوقوف أمام واقع المشكلة، وبالتالي لن يستطيع أن يخطو بنا خطوة واحدة نحو الحلّ الجذري الصحيح. ولذلك لا بدّ لنا من النفاذ إلى الأعماق، لنتلمّس بأيدينا جذورها وأسبابها البعيدة والقريبة التي تمتد إليها هذه المشكلة أو تلك؛ لأن لكل مشكلة، وكل قضية، مؤثراتها وعللها، وجذورها الأصلية في حياة الأجيال السابقة.
7ـ يرفض السيد فضل الله إخضاع التاريخ الإسلامي لقراءات نقدية تحاول قسر التاريخ لصالح أفكار حديثة، لتخرج الأحداث والمواقع التاريخ من سياقها وإطارها الطبيعي، بما يجعلها عاجزة تماماً عن فهم طبيعة الحدث التاريخي، وقاصرة قصوراً نظرياً وعملياً عن الاستفادة منه في الحاضر والمستقبل: فالإسلام ـ كما يعتقد العلامة فضل الله ـ كان وليد الأمة التي عاش في أرضها، وربيب البيئة التي نشأ فيها؛ وتأثر بها، وأثَّر فيها، ولذا فإنه يحمل رسالة هذه الأمة وعبقرية هذه البيئة، ويمثِّل آمالها وآلامها أصدق تمثيل، وبهذا كان دور الإسلام في هذا التاريخ ـ من خلال هذه النظرة ـ هو دور الأمة التي كان الإسلام أصدق تعبير عنها، وأصفى مرآة لروحيتها وتطلعها وظمئها إلى السموّ والإبداع. ويسجل السيد فضل الله هنا النظرية المادية ـ المادية الديالكتيكية ـ كمثال بارز على تلك القراءات الخاطئة لتاريخنا الإسلامي، والتي تُخضع كل التطورات التاريخية والحياتية للعامل الاقتصادي، الذي يتمثّل في تطور وسائل الإنتاج، والذي يعيّن طبيعة العلاقات الاقتصادية في كل مرحلة من المراحل، التي تعيّن بدورها كل الأوضاع الفكرية والروحية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع البشري بشكل عام. وهكذا يصبح التاريخ خاضعاً لحتمية هذا التطورالذي يزعمونه، من دون أن يستطيع الفكاك عنه. أما طبيعة ارتباط هذه النظرة بمعرفتنا التاريخية فتتمثَّل في أنها تحاول إخضاع تاريخنا لهذا المنطق، وفرض تلك المراحل الحتمية على هذا التاريخ، كما شاهدناه في بعض الدراسات، التي حاول فيها بعض الباحثين الذين يتبنون هذه النظرة أن يفسر التطورات الحياتية التي حدثت قبل الإسلام وبعده بالتفسير الذي ينسجم وهذه النظرية. ويرفض السيد فضل الله أيضاً نوعاً ولوناً آخر من تلك القراءات التاريخية المنحرفة والزائفة، وهي القراءة التي يحاول منتجوها أن يجعلوا من التاريخ الإسلامي مرحلة من مراحل تاريخ أمة معينة أو شعب معين، حتى كأنّ في انطلاق هذا التاريخ في حياتها ما يبرِّر اعتباره تراثاً قومياً ينبع من طبيعة العوامل والمؤثرات القومية. وامتدّ هذا الاتجاه في هذا المجال حتى حاول أن يجعل من الإسلام مجداً من أمجاده القومية الخاصة، فقد كان وليد الأمة العربية، لا رسالة إلهية تمتدّ من السماء لتحتضن البشرية جمعاء في آلامها وآمالها. وقد أصبح لكلٍّ من هذين الاتجاهين دراساتهما المعينة، ومناهجهما المحددة، حتى عاد القارى ء العصري يلتقي بكلٍّ منهما في أكثر من كتاب، وفي أكثر من محاضرة. وأما اللون أو الاتجاه الثالث، الذي يحاول أن يفسّر هذا التاريخ من خلال دور الإسلام فيه كدين، فلا تجد له خطاً معيناً، ولا منهجاً محدَّداً، وإنما هي كلمات وآراء متناثرة تلتقطها من هنا وهناك، ممّا يكتبه بعض الكتّاب المسلمين، من حيث يقصدون ومن حيث لا يقصدون. إنها كلمات عابرة وآراء سريعة، ولذا فإنها لن تترك في نفس القارئ أيّ أثر لو التفت إليها، ولذا لا تبدِّل في ذهنيته أيّ شيء. وقد يبدو غريباً أن ندرس التاريخ من خلال تأثير الإسلام فيه كدين، أو أن نعتبر ذلك اتجاهاً آخر في دراسته، ولكن هذه الغرابة ترجع إلى غموض هذا المنهج الذي ندعو إليه، ونحاول التعرّف إلى ملامحه وآثاره، ولذلك فإنها ستزول ـ حتماً ـ عندما نوفَّق إلى رسم الصورة المضيئة لما نحاوله.
8ـ يربط السيد فضل الله في منهجيته التاريخية ربطاً جوهرياً بين التاريخ والإسلام، حيث إن هذا الدين ـ الذي ختم الله تعالى به الرسالات ـ غيّر حياة الشعوب التي دانت به وانتسبت إليه، وحاول أن يطبعها بطابعه، ويربط حركتها وأفكارها وعلاقاتها العامة والخاصة بمفاهيمه العامة التي جاء بها لتنظيم الحياة. ويطرح السيد فضل الله هنا سؤالاً مهماً حول المستوى أو الحدّ الذي وصل إليه هذا الجهد المبذول، وما هو مقدار نجاح هذه المحاولة التي حاولها الإسلام؟! ويجيب بأننا لا نستطيع أن ندّعي استيعاب هذا التغيير لجميع نواحي الحياة، ولا يمكن القول: إن تلك الشعوب مثّلت صورة صادقة عن الإسلام، وتجسيداً حياً لمفاهيمه. إننا لا نستطيع هذه الدعوى ولا هذا الزعم؛ لأننا واجدون في هذا التاريخ ما يضع أيدينا على كثير من الانحرافات والتحريفات عن مفاهيم الإسلام وخطوطه العامة، وهنا تبدأ مهمة البحث والنقد التاريخي، وتتجلّى طبيعة المنهج الحركي لفهم وقراءة التاريخ الإسلامي باعتباره تجربة عملية للإسلام، وامتحاناً لقدرة مفاهيمه وتعاليمه على أن تعيش في حياة الناس وتؤثر فيهم، وملاحظة عوامل الضعف في هذه التجربة من حيث نشوئها داخل هذه المفاهيم ـ كما يدَّعي الأعداء ـ، أو عن الظروف التي أحاطت بالتجربة الزمنية، ومنها: الظروف الاجتماعية، أو عن الوعي القلق لواقع هذه المفاهيم وحقيقتها الأصيلة. وعندما يصرّ السيد فضل الله في منهج بحثه التاريخي على ضرورة وأهمية دور الدين والرسالات السماوية، وبخاصة الإسلام، في هذا التاريخ فهو يستهدف من وراء ذلك إثارة وعي القارىء للتاريخ ـ وهو يقرأ ـ بحركة الدين في هذا التاريخ، بحركة مفاهيمه، بحيوية روحه، وبأصالة حلوله. ومن الطبيعي لهذا الوعي أن يلتقي بالأمة التي كانت أول مجال عملي لاختبار قدرة الدين على التأثير، وأول راشد عاش هذا الدين في أفقه، وانطلق يتحدث إلى العالم بلغته. ذلك هو الهدف الأساس الذي يبتغيه السيد فضل الله من هذه المحاولة، وهو لا يريد بذلك المنهج اختراع تاريخ جديد، وإنما محاولة فهم هذا التاريخ من حيث هو تجربة عملية للدين، وبالتالي حفظ هذا التاريخ من الفهم المزوَّر والمنهج الخاطى ء، الذي وقع فيه الكثيرون من القارئين والدارسين له، والابتعاد به عن طبيعة السرد الحرفي، من سير وتراجم ونصوص حكواتية رثّة، إلى الطريقة التي تجعل منه معنى يتحرك في داخل حياة الناس؛ ليحرك الحياة من حولهم، بما يؤدي إلى تجنيب الأجيال الإسلامية الطالعة الانحرافات التاريخية، وأخطاء المناهج المتعدّدة التي تدرس هذا التاريخ.
(b) أمثلة عملية على منهجية السيد فضل الله في قراءة التاريخ
تحفل كتب ومحاضرات وندوات وخطب ومواعظ العلامة فضل الله بالكثير الكثير من النماذج الفكرية العملية والتجسيدات الواقعية للكيفية العلمية والموضوعية التي يتعاطى من خلالها مع أحداث وقضايا ورموز وشخصيات التاريخ الإسلامي. ويكاد لا يخلو كتاب أو طرح أو موقف أو رؤية معينة للسيد فضل الله من ذكر أو إشارة تعبيرية (للدرس والموعظة الحسنة) إلى أهمية وعي دور تاريخ الرسل والأنبياء والرسالات، بما فيها ـ وفي مقدمتها ـ تاريخ وفكر وحياة الرسول| والأئمة، محاولاً ربط التاريخ الماضي بالحاضر والمستقبل بسلاسة ويُسْر من دون تكلُّف أو قَسْر، بما يشعرك ـ وأنت الموجود في الزمن الحاضر، والمنفصل جسدياً عن الزمن الماضي ـ أن القضية واحدة، والهدف واحد، مع تعدد الأدوار والممارسات، واختلاف الأشخاص، وتنوع الأساليب، وتقادم الأيام والأزمان. وهي قضية الوجود الحي والفاعل والهادف والخلاّق للإنسان في الحياة.
وكمثالٍ واضح ونموذجٍ بارز على طريقة التعامل مع التاريخ: يتحدث السيد فضل الله عن تجربة الرسول الكريم|، حيث إنها تجربة فيها دروس وعبر كثيرة مطلوب منا دراستها ووعيها والاقتداء بها؛ لأن تجربة النبيّ محمد بالذات شريعة إسلامية، وعمله رسالة ومصدر تشريعي، كما أنّ قوله رسالة ومصدر للشريعة، انطلاقاً من الآية الكريمة التي تدعونا إلى التأسيّ به والاقتداء بعمله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة حَسَنَة لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾(الأحزاب: 21).
ولكن الملاحظ على هذا الصعيد ـ صعيد دراسة تاريخ الرسول ـ أن الكثير من المفكِّرين وعلماء الدينيدرسون التاريخ الخاص به| بشكل تقريري جامد، ينقل القصة من خلال استيحاء قداسة الرسول، لا قداسة الرسالة، أو بالأحرى من خلال شخصية صاحب الدعوة، دون التفات إلى حركة الرسالة في حركته وشخصيته وممارساته العملية على مستوى التطبيق. ويدعو السيد فضل الله هؤلاء إلى البدء بدراسة تاريخ الرسول| كسيرة ذاتية للرجل، لا للرسول، تصل إلى حدّ تمثّل فيه الرسالة عن طريق العرض حدثاً من أحداث حياته الخاصة، أمّا أخلاقه وأساليبه في العمل فهي من مميزاته الفريدة التي لا يمكن لأحد أن يبلغ شأوها أو يقترب من مستواها، فلذا لا مجال لدى هذا الاتجاه للاحتجاج على تأسيّ المسلمين بأخلاق النبيّ وأعماله؛ لأنَّ تلك المميزات من خصائصه الذاتية، وليست ميزة إسلامية يمكن للمسلمين أن يقتدوا بها في حياتهم العامّة؛ للتدرج في مدارج الكمال.
ويشير السيد فضل الله إلى أن هذا الاتجاه في فهم ودراسة تاريخ الرسول| قد شارك في تركيز العلاقة بين الأنبياء وأتباعهم على أساس شخصيّ، ما جعل التقديس الروحي يتجه إلى الأشخاص أكثر ممّا يتجه إلى الرسالة، فنراهم ينصرفون إلى ممارسة الطقوس التي تمثّل الإخلاص للنبيّ، والاحتفال بذكراه، وزيارة قبره، بينما لا نجد مثل هذا الاهتمام بممارساتهم لواجبات الرسالة وطقوسها والتزاماتها ـ وقد تدرَّج هذا الوضع إلى مرحلة إنشاء نوع من أنواع المدح النبوي الذي يتغزل فيه المادح بحسن النبيّ وجماله، ويقف ليثبت فيه وجده ولوعته وشوقه، تماماً كما يتغزَّل أيّ حبيب بحبيبه.
(c) التوازن بين حبّ الرسول وحبّ الرسالة
ويبدو لنا أن أمثال هذه الأجواء توجد نوعاً من الانفصام وعدم التوازن بين حبّ النبيّ الشخص وحبّ النبيّ الرسول والرسالة من جهة أخرى، لأنَّك لا تشعر بالرسالة في هذه الأجواء إلاّ من خلال الجانب الذاتي، الذي يثير الحبّ المنفصل عن حبّ الرسالة، أي إنّ هذا الأسلوب التقريري التقليدي في فهم علاقاتنا بالرسول هو الذي أدّى إلى هذه النتائج الفكرية أو العملية؛ لأنَّنا لـم نشعر بالرسالة وهي تتحرّك في مراحل القصّة وأدوارها، بل كان كلّ شعورنا يتركز على الرسول، وهو يتحرّك، فتتحرّك الرسالة من خلاله، لتفهم تبعاً لفهمه.
ويتحفظ العلامة& ـ إلى حدّ الرفض الكامل ـ على هذا المنهج الذاتي اللاموضوعي في دراسة التاريخ؛ انطلاقاً من منهج القرآن الكريم الذي كان يتحدّث عن الرسول من خلال الرسالة، سواء في أخلاقه أو محاوراته، في حربه وسلمه، وفي علاقاته بالناس وبأهل بيته وأزواجه. ثمّأطلق الفكرة الإسلامية الواضحة التي تدفع المسلمين إلى الانتماء إلى النبيّ من خلال صفته الرسالية؛ ليكون الانتماء إلى الرسالة بالذات، وذلك في قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(الأحزاب: 40)، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران: 144).وهكذا نجد أنَّ القرآن عندما يتحدّث عن الأنبياء الذين تقدّموا على النبيّ| في الزمان ينطلق من الفكرة التي لا تخرجهم من إطار البشرية، إلاّ في نطاق الرسالة وارتباطهم المباشر بالـله من طريق الوحي، فيمرون في حياة الناس مروراً خفيفاً، بحيث تبقى الرسالة وتخلد، أما هم فسيموتون كما يموت سائر الناس، وهذا ما جعلهم يعملون لتحقيق ارتباط الناس بالرسالة، فلم يتحدثوا عن أنفسهم إلا من خلالها، كما جرت عادة البعض ولو في كلمة أو إشارة عمل ليستحدثوها بعدهم من دون أن يكون لهم دخلٌ في ذلك.
ويؤكد السيد فضل الله ـ في هذا الإطار النموذجي ـ على بعض أهم جوانب التجربة العملية لتاريخ الرسول|، المتجسدة في قيمة الصبر والصمود، من خلال تصوّر الأوضاع الصعبة والظروف القاسية، وألوان العذاب والاضطهاد والتنكيل، وما استخدم من أساليب الحرب النفسية، التي تمثّلت بالسخرية والاستهزاء والتخويف والتهويل، وغير ذلك من الأمور التي اتّبعها الطغاة ضدّ الأنبياء وأتباعهم. ويشير السيد فضل الله إلى أنه من الممكن أن نخرج ـ في تركيزنا على هذا الجانب الحيوي والمهم ـ بفوائد ثلاث:
الأولى: التركيز على قيمة الدين في إغناء المؤمنين بالرصيد الروحي الكبير المتصل بالـله، الذي يمدّهم بالقوّة ويشحنهم بالقدرة على مجابهة مواقف الاضطهاد بالصبر الهادئ والنفس المطمئنة، كما أنَّه يرتقي بالمشاعر فوق حدود المأساة، فلا يتجمدون عندها، بل تمتلئ قلوبهم بالرضا، وعيونهم بالفرح الروحي، ومواقفهم بالإصرار على تحويل المأساة في واقعهم الذاتي إلى تجربة تتحرّك لمنع حدوث المأساة في حياة الآخرين.
الثانية: الإيحاء للدعاة المسلمين بواقعية المواقف الصامدة الصابرة، وقدرتها على تحقيق النتائج الإيجابية في نهاية المطاف، على أساسٍ من التجربة والإيمان.
الثالثة: إغناء التاريخ الرسالي الحركي بالأبطال في حركة النبوات، سواء ما يتمثّل منه في بطولات الأنبياء أو في تلك التي قام بها أتباعهم من المؤمنين، حيث إننا نشعر بالحاجة الملحة إلى الأبطال التاريخيين الذين يمتزج فيهم جانب البطولة بجانب القداسة، أو الذين تجتمع فيهم معاني البطولة ومواقف التضحية في نطاق العقيدة، لئلا نحتاج ـ في أساليبنا التربوية التي تعتمد في بعض مجالاتها على أسماء الأبطال، ومواقف البطولات ـ إلى استعارة أسماء أبطال آخرين لا يمثّلون خطّ الرسالة؛ ليجتمع للأمّة عنصر القدوة إلى جانب عنصر الفكرة.
أما أهل بيت الرسول^ فقد كان للسيد فضل الله معهم وقفات فكرية طويلة، وقد انطلق في تحليل سيرهم ومواقفهم وتاريخهم، باعتبارهم يمثلون القرآن الناطق، حاملاً أقوالهم وفعلهم وتقريرهم على محمل العبرة والموعظة والتأسي الحسن، ليصل من خلال ذلك إلى تبيان وإظهار حقائق المعاني الكبيرة والدلالات العملية الغنية والإيحاءات الخصبة لسلوكياتهم وممارساتهم، بما يضفي على تلك الأفعال والمواقف والأقوال صفة البقاء والديمومة ما دام الزمن حقلاً واسعاً يزخر بكنوز عظيمة. وهذا ما يفرض ـ كما يحدثنا العلامة فضل الله ـ على عاتق العلماء والمفكرين مسؤولية دائمة لاستثمار مختلف جوانب وفعاليات ذلك التاريخ في تكوين الرؤية والمفهوم، وتصويب الموقف والدور، ونصب المعايير والنظم العملية الحاكمة في ميزان التقويم والتقييم.
انطلاقاً من هذه النظرة الحركية لموقع أئمة أهل البيت^ ودورهم التاريخي المتواصل والمستمر أنشأ السيد محمد حسين فضل اللهخطاباً مميزاً حول أئمة الهدى، يمكن استلهامه ووعيه في تأسيس العقيدة، وبناء التشريع، وصياغة الشخصية، وتكاملها المعنوي والروحي، وكذلك على مستوى النتائج، من خلال ما يمكن استفادته من أسلوب السيد فضل الله في الدعوة والحوار، وكيفية خوض الصراع، وتحمُّل الشدائد، والصبر على التضحيات، وكلّ ذلك قائمٌ على ركائز حكيمة، تقدم سيرتهم^ كنموذجٍ للأسوة الحسنة والقدوة القائدة، حتى لا تتجمَّد في التاريخ، بل لتتحول إلى مفاهيم وخطط عملية، ترسم معالم الطريق، وتوجِّه حركة الواقع.
ويتحدث السيد فضل الله أيضاً ـ كمثال على التعاطي الفعّال والمنتج مع التاريخ ـ عن الآيات التي تشير إلى حوار نوح× مع قومه، حيث نلاحظ أنَّه وقف أمامهم وقفة الرسول الناصح الأمين، الذي يبلّغهم رسالات ربِّه، ولا يملك لنفسه أيّ شيء خارج هذا الإطار، ولا يستطيع أن يغيّر أو يبدل في مهمته، وفي التعليمات الموجَّهة إليه؛ لأنّه يخاف من المسؤولية، ومن العقاب، تماماً كأيّ مسؤول آخر يتجاوز حدود مسؤوليته أو يتمرّد عليها: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَة مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(هود: 25 ـ 31).
ويلاحظ السيد فضل الله، من خلال هذه الآيات، أنّ نوحاً لـم يحاول أن يربط النّاس بذاته من خلال أيّ شيء غير عادي، بل حاول أن يبعدهم عن احتمال أيّ شيء من هذا القبيل، ممّا اعتاد الناس أن يظنّوه أو يرغبوه أو يزعموه للأنبياء من قوة خارقة مادية وروحية، ثمَّ انطلق يدافع عن موقفه من أتباعه الفقراء من موقع الرسالة التي تحترم أتباعها، ومن مركز الرسول الذي لا يخذل المؤمنين، بل من الموقع الذي يخشى فيه الله، لا القوى المسيطرة في المجتمع.
والواضح هنا أن القرآن الكريم ـ وباعتباره أحد أهمّ المصادر التي تتحدث عن تاريخ الرسل والرسالات، وبخاصة تاريخ النبي| والرسالة الإسلامية، ليؤكد لنا عمق هذه التجربة ودورها الكبير، حيث كان يرعاها ويوجِّهها بالتأييد تارة، وبالنقد أخرى، وبالتوجيه الروحي والعملي في بعض المجالات، بما جعلهيتحول إلى وثيقة مقدسة للتجربة الإسلامية الرائدة ـ ينطلق من نفس الفكرة، ونفس الروح، ونفس الأسلوب، أي من فكرة وروحية تأصيل الجانب الرسالي في شخصية الرسل والأنبياء والأئمة، وعدم ربط الناس بجوانبهم الذاتية الشخصية. وهذا ما يمكن تعلمه على الدوام من تاريخ ومدرسة الرسول وأهل البيت^، كما ورد في كتاب السيد فضل الله «في رحاب أهل البيت»، وهو أن الرسول| أو الإمام× أو الزهراء÷ أو… ليسوا كلمة نهتف بها، بل رسالة نعيشها، وموقفاً نلتزمه، ونوراً نستضيء به في مواجهة جحافل الظلم والكفر والجهل المطبقة على الأمة([1]).
(d) موقفه من الحداثة الغربية
يدرك السيد فضل الله&؛ باعتباره أحد أبرز مراجع ومنظري الفكر الإسلامي المعاصر، الذين هم على تواصل واحتكاك دائم بواقع الحياة الراهنة بكل تعقيداتها ومستجدّاتها ومتغيراتها، يدرك أن هناك أهمية قصوى في عالم اليوم ـ حيث أضحى العالم قرية صغيرة بحكم التطور العلمي والتقني، وأصبحت له شبه لغة واحدة هي لغة المعرفة والقوة والسلطة والثروة ـ لانخراط عالم العرب والمسلمين، والثقافة الدينية المتأصلة عربياً وإسلامياً، في شتى ميادين وحقول الحياة المعاصرة، بتنوعاتها وتعابيرها ومعانيها الواقعية الواسعة والشاملة. ولكنه يربط عملية التفاعل الديني مع العصر والانفتاح على الحياة بما يمكن أن تحققه عملياً من نتائج إيجابية على مستوى تأصيل هدفية وجود الإنسان في الحياة. فالإنسان خليفة الله في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة﴾، ولابد له من بناء حياته ووجوده عليها استناداً إلى قاعدة الإيمان بالله تعالى، والعمل الدائم لنيل رضاه. ورضا الله ـ بحسب ما يفهمه السيد فضل الله ـ لا يعني الانغلاق على الذات، والاختباء في الكهوف والجبال، والانعزال عن العصر، كما هو المعنى السلبي للزهد، بل يكون في خدمة قيم الله، ومحاولة تجسيدها على الأرض، وهذا ما يمكن فهمه من خلال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾، وقول الرسول الكريم|: «تخلقوا بأخلاق الله»، و«تشبهوا بصفات الله». فالله تعالى قادر وعالم وقويّ ورحيم وكريم و..، ولذلك فالمطلوب من «الإنسان ـ الخليفة» أن يتحرك فكرياً وعملياً ليكون عالماً وقادراً وفاعلاً ومنتجاً ومؤثِّراً في وجوده وحياته، متمثِّلاً ومستهدياً بمبادئ وقيم وأخلاق الدين والأنبياء والأئمة الصالحين.
ومن أجل تجسيد وتحقيق تلك القيم المبنية على رؤية دينية تكاملية هادفة لا بد من منهج عملي تطبيقي، يمزج بين الفكر والممارسة، بين الرؤية الكونية وبين الإرادة العملية. وفي هذا السياق يبني السيد فضل الله منهجه في التعامل مع مسألة الحداثة على رؤية دينية قرآنية، تقوم على ضرورة تركيز واعتماد التفكير العقلي والمنهج العلمي في مجتمعاتنا، باعتبارهما من أهم الأسس اللازمة للبناء والتصاعد الحضاري المطلوب. ومن المعروف أن العقلانية هي من أهم مرتكزات ومعايير الحداثة التي انبثقت في العالم الغربي. يقول سماحته في رؤيته التأسيسية المعرفية، رافضاً الفصل بين العقل والدين أو بين العلم والدين: «عندما نريد أن نتحدَّث عن المنهج العلمي والعقلي في القرآن فإن علينا قبل ذلك؛ لنبرر هذا الحديث، أن ننفتح على كل هذا الجدل القائم الذي يستهلكه الكثيرون من الناس، من مثقفين وغير مثقفين، استهلاكاً يحمل في داخله الكثير من الانفعال بدلاً من أن يحمل الكثير من الفكر. فما هي قصة الدين؟ ما هي قصة الإيمان في الإنسان؟ هل هي شيء فوق العقل؛ لينحني العقل أمامه، فلا يحاول أن يقترب من أية مفردة من مفرداته أو من أي موقع من مواقعه؟ هل تطور العلم الذي انفتح الإنسان فيه على أسرار الكون ليفتح المجال للصراع بين العلم وبين الدين، على أساس أن الدين يمثل اللاعلم، ليقف العلم إلى جانب فكرة اللادين. ولا نزال نتناقش ونتناظر حتى في المسألة السياسية بين العلمانية والدينية، فالدين ـ كما يدَّعون ـ هو شيءٌ من الغيب، هو شيء لله، وكذلك فإن عليه أن لا يقحم نفسه في عالم الشهود والحضور وفي عالم الناس. وهذا ما تنطلق به الكلمة المعروفة التي نستهلكها كثيراً: «الدين لله، والوطن للجميع»، ليكن له دينه هو أولى به، وليترك الله الوطن لنا، ولا يتدخل في أموره من قريب أو بعيد. وهناك اتجاه يقول: إن الإيمان فوق العقل؛ لأن الإيمان يرتبط بالغيب، والغيب شيء لا يملك العقل أية وسائل للنفاذ إليه، ولا تملك التجربة ـ وهي خط العلم ـ أية مقومات للانفتاح عليه. إذاً لا بد للإنسان الذي يريد أن ينفتح على الإيمان ـ كما يقولون ـ أن يعيش الإيمان بروحه وإحساسه، فالإحساس يجعلك تؤمن، لا العقل، والروح تنفتح بك على آفاق الإيمان لا العلم. ولكن هل المسألة كذلك في الإسلام؟ وهل المسألة كذلك في القرآن؟
وينفتح لنا ونحن نريد أن نقترب من الموضوع أفق آخر، وهذا الأفق هو أن قصة الإنسان في الإسلام كيف هي صورته؟ هل أن صورة الإنسان في الإسلام هي صورة الإنسان العقلاني الذي لا يؤمن بشيء إلا بعد أن يتعقَّله، ولا يتحرك في شيء إلا بعد أن يعقلنه؟ ما هي صورة الإنسان في الحياة؟ هل هي صورته التي تبتعد عن حركة التجربة في الواقع أم أن هناك شيئاً آخر؟ ربما استهلكنا زمناً طويلاً من التخلف كان يخيَّل للإنسان فيه أنه بمقدار ما يقترب من العقلانية أكثر فإنه يبتعد عن الدين أكثر، وبمقدار ما ينفتح على العلم أكثر فإنه يبتعد عن الغيب أكثر، وهذا هو الذي صنع مسألة الصراع بين العلم والدين، وهو الذي جعل الكثيرين من المتدينين يتنكرون للعلم وللعقل في أنفسهم وفي أولادهم؛ لأنه يخيل إليهم أنهم إذا فتحوا لأولادهم أبواب العلم وأبواب العقل فمعنى ذلك أنهم سينحرفون عن الدين. هذه أفكار قد نحتاج أن نثيرها قبل أن ننفذ إلى الفكرة الأساسية»([2]).
ويصرّ السيد فضل الله في معظم بحوثه على أن الإسلام دين العقل والعلم والمعرفة. ويقسِّم طريق المعرفة التي ينتجها الإنسان من خلال فكره وعقله وتجاربه إلى خطين: الخطّ الأول هو الخط العقلي، وهو الذي ينطلق من خلال معطيات العقل وحركيته في الأفكار التي تمثل الأفكار العقلية الفطرية التي اختلف فيها الفلاسفة بين الطريقة الأفلاطونية، التي تتحدث عن وجود مُثل كان الإنسان يعيشها عندما كان في عالم المثال، ثم تذكرها بعد ذلك، أو ما يسميه العقلانيون الإسلاميون بالأفكار الأولية الفطرية التي لا تحتاج إلى أية مسبقات؛ لأن الإنسان يدركها بالفطرة، مثل: «النقيضان لا يجتمعان»، و«الضدان لا يجتمعان»، و«الكل أعظم من الجزء»، وما إلى ذلك من الأحكام العقلية التي تموّل كل الأحكام الأخرى. والطريقة العقلية هي الطريقة الفلسفية التي يحلِّق الإنسان فيها في عالم العقل من دون أن يلاحق مفردات الواقع، ولذلك يتحرك من موقع الفرضيات، وليس من الضروري أن تكون حركته من موقع الواقع. وأما الطريقة العلمية فهي الطريقة التجريبية التي كان يعبر عنها المناطقة القدامى بالطريقة الاستقرائية، حيث تتعرف على الكثير من الأفكار الاجتماعية، أو الأفكار الصحية، أو الأوضاع الكونية، أو ما إلى ذلك، من خلال عملية استقراء لمفردات الظاهرة، لتنطلق من خلال ذلك مسألة التأمُّل التي تجمع كل مفردات الاستقراء، وتجمع كل مفرداتها الظاهرة، ليكون الحكم منطلقاً من التحديق في الواقع، ومن التأمل في مفردات الواقع، وهذه هي الطريقة التجريبية، التي هي أساس الطريقة العلمية، التي أمكن لها أن تطور العالم من حيث اعتمادها على العلم.
وقد أخذ المسلمون بهاتين الطريقتين؛ لأن القرآن الكريم ركز على الطريقتين معاً، ولم يجمد على طريقة واحدة. فنحن نلاحظ مثلاً بالنسبة إلى الطريقة العقلية أن الله تحدث مع الناس الذين يشركون، فقد واجه الإسلام هذا المجتمع الذي كان ينظر إلى مسألة الشرك باعتبارها مسألة نفسية معقدة لا يستطيع الفكاك منها. ويمكن أن نلاحظ فارقاً كبيراً بين منطق المشركين في انفعالهم بالفكرة وبين منطق الإسلام والقرآن في ذلك. لقد قال المشركون، وهم يستنكرون على النبي محمد| دعوته: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَة إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّة الآخِرَة إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ﴾(ص: 5 ـ 7). لم يقولوا إن فكرنا يرفض المسألة، بل أثاروا علامات التعجب، وقالوا: إن المسألة هي مسألة الدفاع عن آلهتكم، ما سمعنا في آبائنا بهذا، والإنسان بهذا المنطق يهرب من ذاته، فهو لا يدافع عن فكر، ولكنه يدافع عن تراث، وعن عادة ورثها. هذا هو منطق الشرك، فما هو منطق القرآن؟ ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَة مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء: 21 ـ 22). إن التعددية تفرض إمكانية الاختلاف، فإذا كان هناك إلهان، وكل واحد منهما مطلق القدرة، وأراد هذا شيئاً وأراد ذاك شيئاً آخر، فإما أن يتغلب أحدٌ على الآخر فلا يكون المغلوب إلهاً؛ لأن الإله لا بد أن يكون كلّيّ القدرة، وإما أن لا يتغلب أحدهما على الآخر فلا يتحقَّق شيء في الكون؛ لأن هذا يريد شيئاً والآخر يرفضه، ولا يمكن أن يتحقَّقا معاً؛ لأن النفي والإثبات لا يمكن أن يتحقّقا في صعيد واحد.
والله تعالى يقول: انظروا إلى الكون، فإنكم سترون أن هذا الكون منظّم يسير على قاعدة منظمة ليس فيها أي خلل أو اضطراب في كل مواقعه: ﴿لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(يس: 40). إذاً الدليل على نفي الشرك هو أن الشرك يستتبع الفساد في الكون، وحيث لا فساد في الكون إذاً لا شرك هناك في الإلهية. إنه انطلق من خلال المنطق العقلي؛ ليردّ ذلك المنطق الانفعالي.
فالقرآن إذاً ينطلق ـ كما يؤكِّد السيد فضل الله ـ من خلال المنطق العقلي في هذا المجال. وعندما تحدث القرآن عن مسألة (المعاد)، الذي هو اليوم الآخر، فإنه تناوله في خطين: الخط الأول: هل هو ممكنٌ أو مستحيل؟ الخط الثاني: هل هو واقعٌ أو ليس بواقع؟ كانت فكرة أنه هل هو ممكنٌ أو مستحيل تلحّ على واقع الناس الذين كانوا في عهد الدعوة، وربما ما زالت تلحّ على أناس كثيرين الآن؛ لأن هناك خلطاً عندهم بين ما هو معقول وما هو مألوف. ما هو معقول هو الشيء الذي يحكم العقل بإمكانه، بحيث إن العقل لا يجد هناك أيّ مانع من الموانع العقلية في الفكر تحول بينه وبينه، أن لا يلزم وجود الشيء وعدمه في آن واحد، وهذا من الموانع العقلية. أما ما هو مألوف فأن يكون الشيء غريباً، أي لأننا لم نألف وجوده، على اعتبار أننا لم نلاحظه في تجاربنا في الواقع رغم وجوده.
وهكذا نجد أن الله أراد أن يركز الفكرة التوحيدية من خلال نقطتين؛ النقطة العقلية من جهة، والنقطة الحسّية التي تدخل في الجانب التجريبي من جهة أخرى. فنلاحظ في المسألة العقلية أنه أثار سؤالاً أمام الإنسان، وهذا السؤال هو: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾(الطور: 35). كيف؟ إنك تواجه واقعاً، ادرس نفسك، هل أنت خُلِقْتَ من غير شيء؟ وخلقك لا يحمل في داخله بذوراً حتمية، فكيف وجدت من غير شيء؟ هل خَلَقْتَ نفسك؟ إذا كنت عدماً فكيف تستطيع أن تؤكد الوجود؟ إذاً لا بدّ من خالق. ولا شك أن الذي يوجد من غير شيء هو الذي يحمل في داخله حتمية وجوده، بحيث لا يحتاج وجوده إلى شيء خارجي يعطيه الوجود، وهو الله الذي لا بد من وجوده في تبرير وجود الكون. أما أنا وأنت فلو وجدنا لما كانت هناك مشكلة، ولو لم نوجد لما كان هناك مشكلة، إذاً الإنسان الذي يتساوى طرفا العدم والوجود في وجوده هذا إنسان يحتاج إلى أن يستعير الوجود من الآخر؛ لأنه لا يحمل في داخله الوجود. لذلك فأن توجد من غير شيء ذلك ليس وارداً، وأن تخلق أنت نفسك فمعنى ذلك أنك وجدت قبل أن توجد، والإنسان لا يمكن أن يكون موجوداً في حال كونه معدوماً، ولذلك فإن المسألة من الناحية العقلية لا معنى لها.
وعندما نلاحظ أن القرآن الكريم يريد أن يدخل في المسألة التجريبية؛ ليركز المسألة الإيمانية التوحيدية من خلال حركة الواقع، على أساس أننا عندما نرصد الظاهرة فإننا نؤمن بنتائجها. كل الظواهر التي انطلقت من خلالها النظريات العلمية تمثل وجوداً معيناً يدل على نتائج أخرى، فنرصد الظاهرة، ونرصد النتائج من خلال هذه الظاهرة، ونأخذ الفكرة. يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(البقرة: 164). إن معنى ذلك أن الكون تحوّل إلى أن يكون كتاب الإيمان، فعندما تقرأ الظواهر الكونية، وتدرس ما في داخل هذه الظواهر من أسرار، تستنتج أنه لا يمكن للأشياء الخاضعة لتنظيم دقيق، حتى في الأشياء الصغيرة الجزئية منها، أن تكون منفصلة عن قوة يمكن أن تنظم ويمكن أن ترعى هذا النظام.
ويستنتج السيد فضل الله من تلك الآيات أسس المنهج العقلي والعلمي الإسلامي، التي تقوم على الرصد والمتابعة والرؤية والتحليل والاستنتاج. فالآيات السابقة تركز على دراسة الظواهر الكونية في خطين: خطّ ينتج له المسألة العلمية، وخطّ ينتج له المسألة العقلية. أما الخط الذي ينتج المسألة العلمية فهو أن تدرس الظاهرة لتعرف أسرارها ولتستفيد منها، تدرس السحاب المسخَّر بين السماء والأرض، تدرس نزول المطر، تدرس كيف رفعت السماء بغير عمد، تدرس ذلك حتى تعرف السرّ فيه، لتأخذ منه النتائج التي تستفيد منها في حياتك، من حيث إن الله سخّر لك هذا الكون لتنتفع به على أساس ما تستنتجه منه، ثم بعد أن تدرس الظاهرة تستنتج منها عقلياً أنه لا يمكن أن يكون الشيء المعقول من غير قوة عقل تجعله معقولاً، ولا يمكن أن يكون الشيء المنظم من غير قوة تنظمه، ولا يمكن أن يكون الشيء مستمراً ما دام لا يملك قوة تحفظ استمراره وترعاه.
يعني أن الدنيا لا بد لها عندما تريد أن تنطلق في حركتها وسكونها من قوة تنظم لها هذه الحركة وهذا السكون. ولذلك نجد أن هناك إلحاحاً على الجانب التجريبـي، بالإضافة إلى الجانب العقلي: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾(يونس: 101). تطلعوا في كل الظواهر الكونية؛ لتدرسوها، ولتحركوها، ولتنطلقوا من خلالها؛ من أجل أن تعطوا حياتكم فكراً جديداً، ومن أجل أن تطلعوا على منافع جديدة: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران: 191). إنك تستطيع أن تصل إلى الإيمان من خلال دراستك لنفسك، ولعقلك، كيف يتحرك، وكيف ينطلق، ولكل أجهزة جسمك في كل مجالاتها الصغيرة والكبيرة. إننا نلاحظ أن هناك تركيزاً على الجانب التجريـبي الذي يرصد الظاهرة ليستنتج منها، والجانب العقلي الذي يرصد الظاهرة من أجل أن يحاكمها، ومن أجل أن يقارن بينها وبين فكر آخر حتى يستنتج منه.
ويتحدث السيد فضل الله عن إيحاءات المنهج التجريـبي في بعض الآيات التي تتحدث عن العبرة: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾(الحشر: 2)، سائلاً: ما هو معنى الاعتبار؟ أن تعمل على أساس أن ترصد ظاهرة لتأخذ منها درساً، أو لتأخذ منها فكرة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَة لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾(يوسف: 111). عليك أن تعيش تجارب الآخرين حتى تستطيع أن تستنتج من تجاربهم فكراً يمكن أن تتحرك من خلاله لاستنتاج فكر آخر أو لإغناء فكر آخر: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَة لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾(النور: 44). وهكذا نجد أنه عندما يتحدث عن التجربة التاريخية، وكيف نستطيع أن نحصل منها على ما يهمنا من الأفكار، يقول: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى﴾(طه: 128)، ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة﴾(الروم: 9)، ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ﴾(آل عمران: 137)، ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ﴾(الأنعام: 11). هذه كلها توحي لنا بمتابعة الظاهرة، ومتابعة التجربة، سواء كانت تجربة الإنسان الآخر أو كانت تجربتنا بالذات([3]).
وهكذا نجد أن دور الحسّ في عملية المعرفة (النظرية والعملية) أساسي وجوهري، حيث ينطلق السيد فضل الله على هذا الصعيد ليؤكد على النقطة الرئيسية في المنهج عندما تحدث الله لنا عن الناس الذين لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها: إنه أراد للناس أن يستخدموا أعينهم كوسيلة من وسائل المعرفة، من حيث هي وسائل الرصد، وأن يستعملوا آذانهم كوسيلة من وسائل المعرفة، من خلال تجربة الآخر، كما يحركون عقولهم. معنى ذلك أن القرآن يعتبر أن للحسّ دوراً في عملية المعرفة، كما أن للعقل دوراً في هذه العملية، وبذلك يجمع بين المنهج العلمي الذي يرصد الظاهرة ليستنتج منها وبين المنهج العقلي الذي يحرك الفكرة ليقارنها بفكرة أخرى، أو ليحاكمها؛ ليستنتج منها فكراً آخر. ونحن عندما ندرس حركة الإسلام في حركة المسلمين فإننا نجد أن المجتمع الإسلامي قد استطاع في مدى أقلّ من مئة سنة أن يأخذ بأسباب المعرفة وبأسباب العلم، وأن ينطلق في خط التجربة وفي خط الجدال. وبذلك رأينا أن الواقع الإسلامي انطلق إلى عدة تيارات عقلية على مستوى المسائل الفكرية العقدية، أو على مستوى المسائل الفلسفية، ورأينا أن العلماء استطاعوا أن يستنتجوا الكثير من الظواهر، سواء على المستوى الفلكي أو على المستوى الطبي أو على مستوى الكيمياء أو ما إلى ذلك.
ولكن هناك سؤال أساسي، يتعلق بواقع حياتنا المعاصرة المتحولة والمتقلبة، والمليئة بالتغيرات، والحافلة بكمٍّ كبير من المتناقضات، حول وجود إمكانية فكرية وعملية في داخل ثقافتنا الدينية القديمة المهيمنة يمكن أن تهيئ المجال لحدوث توافقٍ ما أو انسجامٍ معين ومحدد ومضبوط بين الدين ـ كهوية فكرية حضارية تقوم على المعنى والتأويل، وتستنجد بالتاريخ لمقاربة الحاضر والمستقبل ـ، والحداثة ـ كواقع اجتماعي واقتصادي متحرك ومتغير، يقوم على العقل والتجربة، وينتج خطاباً ثقافياً تنويرياً متجدداً، يقترح على الوعي العربي والإسلامي عموماً رؤية للعالم والمجتمع والثقافة مغايرة للرؤية الدينية التقليدية ـ. ألا يمكن الجمع بين الرؤيتين في بوتقة واحدة؟!
ينطلق العلامة فضل الله في مقاربته للموضوع من تأكيده على أهمية ودور العقل والعلم والحس والتجربة في مجمل الوعي والحراك الفكري الإسلامي. وقد رأينا فيما مضى كيف يؤسِّس السيد فضل الله قرآنياً للمنهج العقلي، وللمعرفة العقلية والحسية في الإسلام ـ وهي من أهم معايير الحداثة، كما ظهرت في أوروبا([4]) ـ، مشدِّداً على الأهمية الكبرى لهذا المنهج في تقدم الإسلام، وتطور حياة المسلمين. وبالتالي فإن المشكلة ـ كما يحدِّدها السيد فضل الله ـ لا تكمن في النص الأصلي، أو في المعرفة التأسيسية التي تفسح المجال لقبول أيّة فكرة جديدة أو أيّ تقدم علمي ومعرفي حديث يتناسب إيجاباً مع الهدف والغاية السامية التي وجدت الحياة على أساسها، وإنما جذر العطالة وأصل الداء ينحصر في مجمل السلوكيات والعادات والتقاليد البالية والرثّة التي ورثناها من عهود التخلف القديمة التي مررنا بها([5])، فأصبحت تلك العادات والأنماط التفكيرية التقليدية الحاكمة تشكِّل في العرف الاجتماعي العام ديناً قائماً في حدّ ذاته، له دعاتُه ورموزه وأفكاره التي أضحت بديلاً عن الدين والمعرفة الدينية الصحيحة. وقد تسببت هذه التقاليد ـ ومجمل الموروثات الفكرية والعملية التاريخية التي أنتجتها ـ في خلق حالة قَسْرٍ تاريخي عملي، جعلت مجتمعاتنا العربية والإسلامية تنوء تحت عجز تاريخي كبير وفاضح في وعيها للذات وللآخر، وفي ممارستها لدورها الطبيعي في الحياة والعصر. ويظهر لنا أن هناك دوراً تعطيلياً تقوم به معظم المفاهيم والمعتقدات الدينية السائدة والمسيطرة على تلك المجتمعات الغارقة في تخلُّف فكري واجتماعي يعاد اجتراره وإنتاجه على الدوام، حيث إنه من المعروف ـ في هذا المجال ـ أن الفكر والمعرفة المختزنة في داخل كل فرد هي القاعدة الأساس والمحرِّك المحفز لكل سلوكياته وتصرفاته ومشاركته في صنع أحداث ووقائع حياته اليومية، أي إن رؤية هذا الفرد وفلسفته في تسيير الوجود الخاص والعام هي المنطلق الجوهري لأي طموح أو رغبة لديه في بناء عالمه وتحقيق كماله الممكن له. ويمكننا أن نطلق على تلك الرؤية أو المعرفة بكل بساطة «فلسفة الإنسان»، وهي متكونة من خلاصة تجاربه، وتراكم خبراته، وتجسد رؤيته المنطلقة من ذاتيته المعرفية المختلطة بما يحيط به من أحداث وتحولات شاركت في تكوين وانبثاق تلك الفلسفة التي اكتسبها من وجوده في هذه الحياة، لتسمو وتتطور في سلم الوجود، عبر حواراته وتفاعلاته واتصاله بباقي المكونات الإنسانية في مجتمعه، ما قد يجعل هذا الفرد مدركاً للأحداث، ومتفاعلاً معها سلباً أو إيجاباً. وهذا الكلام لا يعني عدم وجود بديهيات فكرية عقلية، وتصورات أولية، أعطت المسيرة البشرية الدفع الأكبر في تطورها وترقّيها في الوجود.
من هنا كان الإسلام ـ كحالة في الفكر والإحساس والممارسة، وكرؤية للكون والوجود والحياة، وكفلسفة كونية ـ هو مصدر وأساس الديناميكية التاريخية، المؤسسة لمجمل القيم والمبادئ المحركة للإنسان المسلم عموماً في كل المراحل التاريخية التي قطعها هذا الدين، منذ البواكير الأولى وإلى اليوم.
وإذا كانت الغاية المقصودة في كل حراكنا المعرفي والعملي هي في دفع الإنسان المسلم إلى التطور في عصره، من خلال سلوك طريق العقل والعلم، وتغيير كثير من أدوات ومناهج التفكير والمعرفة التلقينية القائمة، أي في بناء أسس حداثة إسلامية عصرية صحيحة، لا ترفض الجديد لمجرد كونه جديداً أو حديثاً، ولا ترمي القديم لمجرد فواته التاريخي، ففي التاريخ أفكار صحيحة يمكن أن تساهم في تحريض طاقات الإنسان على العمل والتفكير والمشاركة الفاعلة والمؤثِّرة في بناء واقعه وحاضره وتأمين مستقبل أجياله الطالعة واللاحقة، فإنّ المدخل الطبيعي إلى ذلك لابدّ وأن يمر عبر دراسة القوى المحركة لهذا الفرد شبه الضائع حالياً، وخصوصاً في ظل تطورات الحياة والوجود، بين واقعه النظري المفاهيمي (الإسلام كعقيدة وانتماء وهوية ثابتة مقولبة وجامدة على نصوص ومقدَّسات) وبين واقعه العملي الخارجي المتغيِّر والمتحوِّل باستمرار.
وهذه القوى النظرية غير المنظورة هي مجموعة القيم والمبادئ الأساسية المحررة والمحفزة والدافعة لهذا الفرد إلى العمل والإنتاج والإبداع في كل حركة واقعه. وليس هناك من وسيلة لتحقيق ذلك إلا ممارسة النقد والتحاور الفكري مع النص والنظرية المؤسسة، فبهذا الثمن يمكن أن يستعيد المسلمون هوية سابقة كانت في لحظة تشكُّلها الأولى فكرة إيجابية، وقيمة معطاءة، ومحفزة للعمل والنشاط الحضاري، أو يجددوا هوية هرمت وفقدت بوصلتها ووعيها الذاتي والموضوعي، لعلهم يستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة، وأولويات الاندماج في العصر، وبالتالي الارتقاء بممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها بالعمل والإنتاج، أي أن يكون لهم دور وأثر محقق، من خلال إثبات فاعلية الحضور في المتن، وليس في الهامش المتجسِّد من خلال اجترار التقليد والتبعية للآخر، في استجلاب ونقل حداثته إلى داخل حدودنا الجغرافية من دون وعي معاييرها وبناها التحتية، ما يجعلنا نكيل لها التهم والشتائم، من دون أن نعيها وندرس تطوُّرها لدى الآخر، ليس لأنها سلبية في حدّ ذاتها، وإنما لأن ظروف تشكلها ومناخات نشوئها وعملها مختلفة عن ظروفنا وسياقاتنا الحضارية بصورة وبأخرى.
من هنا يمكن التأكيد على أن تقدُّم مجتمعاتنا العربية الإسلامية مرهونٌ أساساً ـ وإلى حدٍّ بعيد ـ بتطوُّر وتقدُّم الفكر المؤسِّس لإنساننا المسلم، عن طريق تقبله وقناعته الكاملة بضرورة العيش زماناً ومكاناً، عقلاً ووعياً، في عصره الراهن، ومشاركته فيه من موقع التوازن والندّية الحضارية، وتكوين حداثته الفكرية والعلمية، لا أن يكون حاضر الجسد مغيَّب العقل، ومهمَّش الحضور. وهذه القناعة الذاتية لن تتولد أو تنبثق عنده إلا بنقد الفكر المؤسِّس، وتجديد المعرفة والهوية؛ ليكون إنساننا قادراً على ممارسة معيشته إنتاجاً وعملاً في زمانه من خلال تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه.
والحداثة التي يدعو إليها السيد فضل الله في عالمنا العربي والإسلامي لا تقطع مع الماضي، ولا تواجه الحاضر أو ترفض المستقبل، بل هي خطاب ثقافي جديد أو رؤية مفاهيمية جديدة، مختلفة عن مفاهيم الخطابات القديمة، وتهدف إلى تشكيل وتنظيم مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً على معايير تأسيسية جديدة تأخذ بعين الاعتبار أولوية وجود الإنسان الفرد الحرّ (بعقله وسلوكه) على أي شيء آخر، مستفيدة من أجمل ما في تراثنا وماضينا من قيم ومبادئ تلحظ تفعيل دور ونشاط الإنسان الإيجابي في الحياة.
ومن المعروف أن الحداثة قد انبثقت خلال مرحلة الزحف السياسي والعسكري الأوروبي على عالمنا العربي والإسلامي، الذي امتد زمنياً منذ غزوة نابليون بونابرت لمصر في أواخر القرن الثامن عشر إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ما رتّب عند كثيرٍ من الباحثين العرب استنتاجاً يقضي بالشك في أصالة ميلاد فكرة الحداثة، وفي شرعيتها التاريخية.
وأما عن تمظهرات الحداثة في مجالنا الحضاري الإسلامي ـ بعد أن حدثت عملية التفاعل والتعرف على حداثة الغرب ـ فإننا نلاحظ وجود تيارين: الأول: تيار الليبرالية؛ والثاني: تيار الإصلاحية الدينية. وكانت الليبرالية العلمانية في ذلك الوقت حادّة، وجامحة، ورافضة كلياً للواقع السائد، وقد حاولت نقل الحداثة الغربية ـ كما هي في عالم الغرب ـ إلى مجالنا المعرفي والديني الإسلامي. أما أتباع الخطاب الإصلاحي فقد سلّموا بأهمية وجاذبية الحداثة والنموذج الأوروبي، ودعوا إلى ضرورة الأخذ به، إلا أنهم في الوقت نفسه حذّروا من الإذعان والتسليم لمنطقه، وأوحديته المرجعية، ورفضوا وجود أيّ تفوق له على النموذج الإسلامي. وفي اعتقادي فإن معظم المثقَّفين الروّاد، الذين ذهبوا في القرن التاسع عشر إلى أوروبا، واحتكوا مع تياراتها ونظمها الجديدة، لم يدركوا عمق هذه الحداثة الغربية، أو القطيعة التاريخية التي تمثِّلها تلك الحداثة، فخلطوا بين مفهوم الحداثة وبين الثقافة الغربية، فبدت في نظرهم تعبيراً عن نظام آخر، هو نظام الغرب الفكري والاجتماعي. ولا نزال نحن نعيد ونكرر ونجترّ هذه الأفكار عندما نربط بين الحداثة والغرب أو ثقافته وخصوصياته، ولا نفرق بينهما. هكذا رأوا في ما هو حداثة نظاماً غربياً وقارنوه مع نظامهم الشرقي. وبسبب ذلك لم يبحثوا في أصل هذه الحداثة، فبقي التاريخ الذي أوصل الغرب إلى ما هو عليه، أي تاريخ الحداثة، كلّه مغيَّباً عنا جميعاً.
بعد ذلك حدثت جملة من التغيُّرات السياسية والاجتماعية؛ نتيجة حصول معظم بلدان المشرق على استقلالها بعد حروب التحرير الوطنية فيها، ونجحت النخب الحاكمة المنتصرة في معارك التحرير والاستقلال في تكوين وإرساء أفكار شمولية، ونظم قمعية تسلُّطية أمنية في مجتمعاتها، تكبح الحريات وتمنع الرأي المختلف، ما آذن بانتقال دراماتيكي في الفكر والسياسة إلى حقبة تقهقر وتراجع وانحسار، وتقدم خطاب الهوية والأصالة والثوابت والشعارات الفحولية، على حساب تراجع وانكماش خطاب الحداثة والعقل التجريبي، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من انسداد في آفاق العمل والتغيير والإصلاح؛ نتيجة هيمنة شبه كاملة للتيارات الدينية والعقائد والخطابات الاصطفائية والنخب والنظم الشمولية، التي تكره الحرية، وتحارب التنوع والتعدد الفكري والديني والاثني والقومي، على حياتنا العمومية، التي لم نحقِّق فيها أية حداثة عصرية صحيحة بالمعنى «المعرفي ـ العملي»، بل كل ما هناك لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد حداثة قشرية، تعنى بالشكل والمظهر أكثر من عنايتها بالمضمون والجوهر.
إن ما نعيشه لا يعبِّر عن كوننا ـ كعرب ومسلمين ـ لا نزال خارج دائرة الحداثة ـ سلباً أو إيجاباً ـ، كما يقول أكثر من مستشرق مستغرب، وإنما على العكس يجسِّد عمق أزمة هذه الحداثة العربية الرثّة، كما يسميها برهان غليون، أو النسخة المشوَّهة منها، التي وصلتنا من نخبنا الفكرية والعسكرية السياسية. وهنا مكمن العطل وجذر الخلل، إنه هنا بالذات في نمط الحداثة الرثّة الذي اخترناه وأنتجناها، وأدت إلى توليد مناخ «ثقافي ـ ديني» عام، متعصب لحرفية النصّ على حساب الواقع بكل تغيراته واستحقاقاته.
وبالعودة إلى طبيعة فهمنا التاريخي النمطي لمقولة الحداثة، الذي لا يزال مسيطراً على التفكير والعقول العربية عموماً حتى الآن، نؤكد على أن الحداثة مسار تاريخي طويل وغير مكتمل، وتطور متواصل، له بداية معينة بتواريخ وأحداث وتحولات كبيرة لم تكتمل ولم تنجز بعد، وفي الأصل ليس المطلوب أن يكون لها حالة من الثبات والنمطية المحددة، وإنما قيمتها وأهميتها وفائدتها هي في تحولها وسيرورتها. إنها طريق مستمرّ معقَّد ومركب، يتضمن عناصر عديدة وكثيرة، متماثلة أو متباينة، من التحولات التاريخية والمستويات، تنطوي على مراحل تقدم ومراحل تراجع، على خطوات قوية وأخرى ضعيفة، على أخطاء وتراجعات، على كوارث وإبداعات فذّة، في الوقت نفسه. هي تاريخ مليء بالتناقضات والالتقاءات، والنزاعات والتوافقات، والحروب واتفاقيّات التفاهم والسلام.
وباختصار ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الفكرة التي تظهر الحداثة كما لو أنها نظام ثابت وكامل متكامل، ومتَّسق بين مستوياته العقلية ومستوياته السياسية والاجتماعية ومستوياته الاقتصادية، لنرى بأنه يوجد في عمق الحداثة رؤى وورشات تاريخية مفتوحة، أي إنها عملية بناء مستمرّ ومتواصل لا يكتمل، يمارسه الإنسان بعقل مفتوح على الحياة، ليتفاعل من خلال ذلك مع عوامل متعددة: البيئة، البشر، التراث، الموارد، الوضع والسياق الجغرافي والسياسي، الفرص التاريخية والمعيقات،…إلخ. وعندما نقول: إن الحداثة فكرٌ مفتوح فإننا نعني أنها تنطوي على عوامل تتغير وتتحول. وقد تكون حركتها تقدُّمية أو تراجعية على مستوى العلم، أو على المستوى التقني، أو على مستوى النظم الاجتماعية.
والإسلام ـ كدين وفكر إنساني حيّ ودعوة حضارية للتكامل والتصاعد البشري ـ لا يتعارض ـ في تعاليمه ومبادئه وأسسه وتشريعاته ـ مع التحديث والتطوُّر، كما يذهب إليه السيد فضل الله، وذلك إذا ما فهمنا الدين فهماً إيجابياً صحيحاً، فإنه الحق الذي على أساسه بُنيت الحياة ونظامها، وهو الإيمان بالخالق وأنبيائه ورسله ورسالاته، وشريعته، والسير وفقها. وهذا مما لا يتعارض مع الحياة في تطورها وأساليبها ووسائلها وتقنياتها ونظريات الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغير ذلك، ما دامت لا تتعارض مع مبادىء الدين وأهدافه، وإلاّ كان موقف الدين منها الرفض، لا رفضاً للتحديث والتجديد والتطور والنمو بما هو كذلك، بل لأجل تبيّن بطلانه فيما خالف الحق الثابت.
ولذلك فإن الإجابة الواضحة والصريحة عن إشكالية الإسلام والحداثة، بما هي تطوُّر وتكامل ورقي فكري وعلمي وتقني، هي أن الإسلام ـ كدين حاكم على القلوب ومهيمن على الأفئدة عندنا ـ يمتلك القدرة الفكرية والعملية للتكيُّف مع ما ذكر سابقاً من معايير ومقتضيات الحداثة، وضرورة الانخراط الجدي العملي في عملية الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في عالمنا العربي والإسلامي. فنحن في الواقع لا نزال نعيش حالياً في كثير من جوانب مجتمعاتنا العربية والإسلامية حياة حديثة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، من حيث التعاطي الشكلي الخارجي مع آثار ونتائج ومقتضيات تلك الحداثة. وقد فرضت الحداثة نفسها على الجميع، ودخلت من الأبواب والشبابيك، ومع موجات الهواء، وأشعة الضوء الكونية، فنحن نتعامل مثلاً مع الإنترنت، ونسافر بالطائرات، ونعمل وفق قوانين حديثة، ونتواصل تفاعلياً وتبادلياً مع مختلف بقاع الأرض، وتخضع كثير من حكوماتنا ونظمنا السياسية لمؤسسات وهيئات ومنظمات دولية اقتصادية وسياسية وثقافية متعدِّدة…إلخ. إذاً نحن لسنا متخلِّفين في أساليب الحداثة ووسائلها وطرقها. ومجتمعاتنا العربية لا تعيش حياة القرون الوسطى، بل هي مجتمعات خاضعة بشكل أو بآخر لقوانين ونظم الحداثة العالمية ذاتها. ولكن الخطر والخطأ في الموضوع هو أننا فهمنا الحداثة فهماً ضيقاً، واعتبرناها مجرد نقل لمنجزات الآخر وتقنياته وصناعاته واختراعاته الكبيرة إلى مجالنا الجغرافي فقط، ومن دون أن يكون لنا دور في صنعها واستنباتها في داخل تربتنا المحلية، وإنما فهمناها استهلاكاً وشراءً. وهذا لا شكّ أمر مهمّ وجيد، ولكنه غير كافٍ لصنع الحضارة والحداثة العلمية. وهذا ما ندعوه بالحداثة القشرية، أو الحداثة الكسيحة. إنه منطق التناقضات والتشوهات المرتبطة بهذه الحداثة من جهتنا نحن، لا من جهة الغرب. فنحن لا نزال نعيش على استهلاك متزايد لثمرات الحداثة الناشئة والمتطورة خارج دائرتنا الحضارية الإسلامية، على الرغم من أننا ساهمنا في الماضي في التأسيس لها بصورة وبأخرى. كما أننا عجزنا حتى الآن عن زرع شجرة الحداثة عندنا، وبما يناسب مجالنا وسياقنا الحضاري الإسلامي. فلم نفتح ورشات لها خاصة بنا، وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، البحث العلمي، التطور الفكري الحرّ، ولا ورشة الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون والعدل والمؤسَّسات، بل كل ما لدينا هو مجتمعات حديثة تخضع لسلطة الأعيان والأتباع، وكل مظاهر العشائرية والقبلية البغيضة، التي رفضها وحاربها الإسلام ذاته. ولم نطوِّر أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرّة والمسؤولة.
وقد يسأل أحدهم عن تحديد مسؤولية هذا التأخُّر والتقهقر الذي تعاني منه مجتمعاتنا منذ عقود طويلة، حيث معدلات البطالة مرتفعة ومتزايدة، وحيث الإصلاح السياسي متعثِّر، والخلل الرهيب في توزيع الثروة والمداخيل لا يزال معياراً وقانوناً يعمل به.
في الواقع لا بدّ من التأكيد هنا على أن الإنسان الطبيعي المتوازن يقبل التطور والتحضر والحياة الحرة المسؤولة، ولا يمكنه أن يقف في وجه تغيُّرات وتطورات الحياة الإنسانية، ولكن القضية هي في توفر الإرادة العقلية والعملية الحقيقية لدى أفرقاء وتيارات هذه المجتمعات؛ للبدء بمسيرة الإصلاح والتطوير والتغيير.
ومن هنا نؤكد على الحقائق التالية، في سياق ضرورة قبولنا وتبنّينا لأفكار الحداثة التي تنسجم مع ذاتنا الحضارية:
1ـ إن الإصلاح الداخلي المنطلق من ترتيب أوضاع بيوتنا الداخلية أفضل وأقوى وأمتن من أي إصلاحٍ خارجي مفروض، لن يأتي إلينا إلا نتيجة الغياب المتعمد لانطلاقة مناخ الإصلاح الطبيعي في المجتمعات والشعوب بما ينبع منها، ويتفق مع تقاليدها، ويرتبط بهويتها التاريخية المنفتحة والمتجدِّدة.
2ـ الإصلاح الحقيقي المطلوب، الذي يستمر ويبقى، هو فقط الإصلاح الذي يتمّ بالطرق السلمية الديمقراطية، مع رفض كامل لمنطق الثورة في العملية السياسية الإصلاحية؛ لأن مفاجآتها كثيرة، وردود فعلها معقدة، ونتائجها غير مضمونة. بينما الإصلاح التدريجي المدروس، وفقاً لخطة زمنية معلنة، هو السبيل الأفضل للانتقال نحو غايات الأمم وأهداف الشعوب. وتستطيع نظم عربية كثيرة أن تتواءم مع التطورات المقبلة بشرط أن تستوعب حقائق العصر، وأن تمضي نحو المستقبل بخطى ثابتة، بدلاً من ترديد شعارات خادعة للاستهلاك المحلّي وتسويف التغيير وإجهاض الإصلاح.
3ـ إن المؤسسة الدينية الحاكمة ـ سرّاً أو علانية ـ في العالمين العربي والإسلامي مطالَبة أكثر من أيّ وقت مضى باعتماد طريق العقل والحوار والانفتاح على الآخر، وإطلاق خطاب ديني عصري واضح، يعتمد على عنصر النقد الفاعل البنّاء، وليس التلقّي والقبول والتسليم الكامل.
ومن أجل وعي المعايير الثلاثة المطروحة آنفاً في مجالنا الديني الإسلامي نتساءل: كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال على مسألة النقد، وإشكاليات النصوص، والتأويلات الدينية لها، والهادفة إلى تجديد الفكر والهوية؛ لتصبح منفتحة مستوعبة تواصلية مع الذات ومع الآخر، من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي سوف تحكم إعادة بناء المجتمعات الإسلامية المفكَّكة أو اجتماعاتها السياسية؟!
في الواقع من المعروف تاريخياً أن الثورة التقنية والصناعية، وما رافقها من إنجازات علمية هائلة، انطلقت عملياً نتيجة انبثاق تراكم معرفي وثقافي تنويري كبير قادته مجموعة كبيرة من العلماء والفلاسفة والنخب الفكرية المعرفية الغربية. ولئن حدث هذا التحوُّل الذي عرفته مجتمعات الغرب الأوروبي بفضل ذلك المناخ الثقافي التنويري والفضاء الفكري المفتوح فإننا نسأل: هل يمكن لثقافتنا العربية الإسلامية أن تتمثل وتستفيد وتستثمر ما أنجزته الثقافة الأوروبية؛ حتى تتمكن من إحداث النقلة النوعية المتوخّاة داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟! وإذا كان لكلّ أمة ثقافتها الخاصة فلا يعني هذا أن مستوى الثقافة واحد لكل الشعوب، لكن هذا المستوى يختلف من شعب إلى آخر؛ لتعدُّد درجات الثقافة في مراتب الرقيّ. فعلى مستوى عالمنا العربي والإسلامي شاع سابقاً ـ في بعض المفاصل الزمنية القليلة ـ تأويل منفتح عقلاني للدين، منسجم مع ذاته، ومتفاعل مع الحضارات الأخرى. ولكن بدءاً من عصر الانحطاط أخذ يسود التأويل الآخر، أي الفهم الجامد، المنغلق، المتعصب. والجدير بالذكر هنا أن الثقافة العربية الإسلامية هي بطبيعتها ثقافة تأصيلية، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلا أن حاجتها إلى التجدُّد في عالم التحوُّل والتغيُّر والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة؛ لتتمكن من أداء دورها الريادي بغية تنوير المجتمعات وترشيدها، بما يكفل لها الارتقاء في سلم الرقيّ والتقدُّم، كباقي الشعوب والأمم. أي إنه لا يكفي أن نؤمن نظرياً بقدرة ثقافتنا على البناء والنمو والتصاعد، بل لا بد من الاعتقاد أن شرط النمو هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوار ونقد مع مسبِّبات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أولاً قبل الآخر؛ إذ لم يعد مقبولاً أبداً اليوم أن تراوح هذه الثقافة الإسلامية في مكانها، ليجترّ أصحابها مقولات ومفاهيم خارج نطاق الحياة والعصر، أو أن تكتفي بترداد أغاني الماضي التليد، وإنجازات العصور القديمة، بل عليها أن تواكب حركات التقدم الذي وصلت إليه الثقافات الأخرى، وأن تتفاعل بشكل خلاّق ومبدع مع كل الإنجازات العلمية والفكرية التي ساهم بها مثقَّفو الأمم الأخرى.
وهنا نؤكد دائماً على أن تجاوز هذه الإشكالية قائم على مسألة نظرية بسيطة، لكن معقَّدة، وهي أن نعمل على الاستفادة من ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية([6]) بما يتلاءم ويتناسب مع حاجات مجتمعاتنا الراهنة المتغيرة، ومن دون أن نكون أسرى لقيم الماضي، ومستغرقين في مناخاته القديمة، وأن نأخذ بمعطيات الحاضر، ونساهم في تطويره بما يمكننا من استشراف المستقبل، وأهم ما نحتاج إليه هو الثقافة الحديثة؛ حيث لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالنشاطات الثقافية الشكلية التي لا تمتّ إلى الجوهر، بل علينا أن نساهم في عملية البناء الفكري الذي يصوِّب سهامه إلى مكامن الجهل في زوايا مجتمعاتنا المتعطِّشة إلى نور العلم والمعرفة، وهذا ما يتطلب توفير كل المقومات والإمكانات، عن طريق إيجاد مناخ يكفل حرية البحث العلمي والإنتاج الأدبي والنقد السياسي، بما يؤهل مجتمعاتنا لأن تكون رائدة في ثقافتها، منسجمة مع ماضيها، مترقبة لمستقبلها الواعد.
وتلك هي مسيرة الثقافات عبر التاريخ وخلال العصور. فالتواصل الثقافي بين الأمم أشبه بسلسلة ذات قنوات متداخلة، كل قناة تأخذ مما قبلها، وتعطي ما بعدها. هكذا كان حال ثقافات الأمم الغابرة، من مصرية ورومانية وفارسية ويونانية وعربية إسلامية، مروراً بثقافة أوروبا في عصر النهضة والتنوير، وانتهاءً بالثقافة المعاصرة التي نعيش في رحاب نتاجها، الذي يرفد الإنسانية بعوامل الرقيّ والإبداع؛ لما فيه خير البشرية جمعاء.
ولذلك فلا بديل لنا ـ كعرب ومسلمين ـ عن الانخراط في الواقع المعاصر، والاهتمام بكل أحداثه ووقائعه وأحداثه وشؤونه المختلفة. وهذا يتطلب البحث الجدّي منا عن مضامين معرفية جديدة، بما يؤهلنا لـ «التكيّف الإيجابي» مع معطيات ومواقع هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي علينا دفع أثمانها نتيجة فواتنا التاريخي، ريثما تتوفر شروط عامة للتحرُّر والانعتاق في المستقبل.
فنحن لسنا وحدنا في هذا العالم، كما أننا لسنا مركزه، أو غايته، أو منتهاه، بل نحن أمّة مثل باقي الأمم والحضارات، لها ما لها وعليها ما عليها. إننا أمّة من جملة أمم وثقافات، تريد أن تتطور وتتكامل في سلم الحياة والوجود، ولذلك لا يمكن لها أن تنكمش أو تتقوقع على ذاتها، لتبقى من دون جيران وأصدقاء ومصالح وتوترات ومناخات باردة أو ساخنة وغيره، ولا تستطيع أن تنعزل عن أية تأثيرات وتطورات قد تحدث في العالم الذي نعيش فيه.
ونحن عندما ندعو إلى تبني خيار الحداثة العقلانية الإسلامية النافعة، المتناسبة إيجاباً مع فضائنا الروحي والمفاهيمي الإسلامي، وبالتالي تحسين ظروف واقعنا ومتطَّلبات عيشنا واحتياجاتنا في الحياة، فإننا نحاول ـ من خلال ذلك ـ تقديم صيغة فكرية وعملية معاصرة؛ لإعادة تجديد، ومن ثم تفعيل، مبادئ الحداثة ذاتها، وعلى رأسها معيار العقل والعلم، الموجودة أساساً في منظومة الفكر الإسلامي، بما يتلاءم مع الخصوصيات العلمية والثقافية للواقع الراهن. فالعملية ليست رفضاً للحداثة؛ بذريعة الحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية، كما أنها ليست قبولاً لها بشكل يتلاءم مع تحديث الإسلام، وجعله أكلة مهضومة بالنسبة للإنسان المسلم المعاصر.
والصيغة التي نريدها هنا تتوقَّف على أمرين، الأول: إجراء تحولات نوعية في مجمل التراث التاريخي الماضي؛ والثاني: وجود قراءة جديدة واعية ومنتجة، وإعادة بناء شاملة للمعرفة الدينية. فالربط بين الحداثة والفكر الإسلامي الجديد يكمن في النظر إلى الحداثة على أنها عملية استكشاف حركة الدين، وقيمه الكونية المطلقة، وأبعاده الممتدة في الحياة الإنسانية والأوساط الإبداعية، ثم تحديث الإسلام داخلياً بتلك القيم والأبعاد المكتشفة، من خلال ملء منطقة الفراغ، واستثمار الجانب المتغير للحكم والعقيدة والمبدأ، وتوظيف ذلك كله من أجل ازدهار المجتمع، والارتقاء بوعيه، وتنضيج قدراته، واحتضان تطلعاته([7]).
وقد عمل السيد فضل الله& على هذا الصعيد الفكري والمفاهيمي، مؤكِّداً على ضرورة وعي ومعرفة الزمانأو الأيام، وأخذ العبر والدروس منها، على كافة المستويات والأصعدة. فعلى المستوى التاريخي نرى السيد فضل الله يقرأ الماضي ـ بأحداثه ومواقعه ورموزه ومختلف معطياته ووقائعه ـ بعيون الحاضر والمستقبل، ويحاول دوماً وعي قيم تلك الأيام وعِبَرِها، وملاحظة سير قوانينها التاريخية وسننها التي تنتظم الظواهر والأفكار والأحداث، تلك القيم والقوانين والسنن التي تعيد إنتاج نفسها في كلّ ظرف يعاد فيه إنتاج شروطها بحركة الإنسان في مسار التاريخ والزمن.
ويعتبر السيد فضل الله أن الإحاطة بهذه السنن الفكرية والتاريخية الجارية ـ التي تحملها الأيام ويخبـّئها الزمان ـ هي المحرِّك للاستعداد الحاضر والتخطيط الواعي للمستقبل، وأن هناكأسراراً كامنة سوف تكشفها الأيام، فينبغي الإعداد لها؛ ليكون الإنسان فاعلاً فيتوجيهها، لا منفعلاً بجريانها.
وعندما يدعو السيد فضل الله إلى ضرورة انفتاح الفكر الإسلامي على الحداثة والتطور، والأخذ بالفكر العقلاني([8]) وبأسباب العلم والمعرفة والتقدم العلمي، فإنه ينطلق من عمق وعيه للنصّ المقدَّس، الذي قد يكون محدود المعنى في الإطار اللفظي والشكل الخارجي، ولكنه قد يحمل الكثير من الإيحاءات العملية التي تعطي الحركية الحيّة في حركة المعنى في الواقع. وهذه هي ـ كما يؤكِّد السيد فضل الله ـ مهمة الفقهاء في الأفق الواسع الذي ينفتحون فيه على الفقه في أبعاده الإنسانية، ومهمة المفكِّرين والمرشدين والواعظين في تحريك الفكرة والحكمة والجّو نحو دين منفتح على الآخر، بدلاًمن الانغلاق عليه، لتكون القضية ـ في هذا المجال ـ قضية الدينفي الوعي الإنساني، والتي تتمثل بالحاجة الطبيعية إلى الخروج من الجمود المادي الذي يحاصرالفكر، ويجمّد الروح، ويبتعد بالإنسان عن التحليق في الآفاق الواسعة للفكر والإنسان والحياة؛ لأن الإيمان بالله يفتح فكر الإنسان على المطلق، ويدفع به إلى التزام القيم الروحية والأخلاقية في بعدها الإنساني الواسع، ويقف به على قاعدة متينة ثابتة لا تهتز أمام انفعالات الغريزة، ولا تسقط أمام ضغوط الواقع؛ لأنها تحدّق بالله الذي يرعى الإنسان في امتداد وجوده كما رعاه في بدايته. وفي هذه الرحابة الروحية المنطلقة إلى الأبعد من مادية الحسّ يمكن للفرد أن يضحي للمجتمع بذاتياته، وللمجتمع أن يرعى الفرد في حاجاته، من مواقع الالتزام، لا من مواقع الحالات الطارئة. ولعل التجارب التي عرفتها الإنسانية في الاجتماع الديني في مرحلة قوّة القيمة، وصلابة الالتزام، توحي بالخير الكثير، وبالضرورة الملحة للعمل في سبيل ذلك.
الهوامش
________________________
(*) باحث وكاتب في الفكر الإسلامي، من سوريا.
([1]) يراجع في هذا الخصوص: موقع السيد فضل الله على شبكة الإنترنت http: //arabic.bayynat.org.lb
([2]) راجع مجلة المعارج، الأعداد 28…31، آب ـ أيلول ـ تشرين الأول ـ تشرين الثاني 1997م.
([4]) يمكننا هنا أن نحدد طبيعة البناء الفكري للحداثة، التي نشأت تاريخياً في الغرب الأوروبي، بالمعطيات والمعايير التالية، التي تبلورت ونضجت عبر زمن طويل من الصراعات والسجالات والديناميات والتغييرات الهائلة التي حدثت منذ ما قبل عصر النهضة الأوروبي:
المعيار الأول: أولوية العقل على النقل. وتتجسد الرؤية الحداثوية ـ من خلال هذا المعيار ـ في رؤيتها لجميع الأشياء الحقيقية انطلاقاً من العقل، والإنسان يعكس تلك الأشياء والمدركات بواسطة العقل، الذي يشكل المنطلق والقوة الأساسية الحاسمة في الرؤية والتقدير والحكم، بما يساعد الإنسان على كشف ماهية وجوده، ومحاولات فهم أسرار عوالمه المتعددة؛ ليصبح لديه كامل الحرية في الاختيار، وتحقيق المعرفة، والتفريق بين الخطأ والصواب. والعلم الحديث طبعاً تطور ونشأ على أساس منطق التفكير العقلي النسبي في بناء مناهج البحث العلمي، وتنظيم التجربة، وشيئاً فشيئاً حصلت خطوة تجريد المعرفة من بعدها السحري والأسطوري، حيث أصبحت المعرفة العلمية زمنية، صناعية، بنائية وتراكمية، ليست مستقلة عن المعرفة الدينية أو متميزة عنها في أسس بنائها فحسب، ولكنها أيضاً مستقلة عن جميع المعارف المنقولة والحكم المقدسة والأساطير الموروثة الماضية.
المعيار الثاني: تغير معنى الحق واكتشاف معنى القانون. حدث في الغرب تحول كبير في مفهوم الحق والحقيقة، قاد إلى إعادة اكتشاف الحق: le Droit. وقد تأسس هذا البعد الجديد على رؤية قانونية جديدة في سياق عملية بناء العدالة الاجتماعية، فأصبح معنى الحق مغايراً لمعنى الشريعة والعرف الديني السائد، الذي كان يطلب من أتباعه التسليم والخضوع والانصياع لأحكام منصوص عليها، أو مطلوب تطبيقها من قبل سلطة إلهية عليا فكرت في العدالة مرة واحدة وإلى الأبد. ولكن مع التحول باتجاه نسبية الحقيقة، وإعطاء القيمة الأكبر للواقع المنظور على حساب النص المكنوز، اختلف الوضع، وأصبح الإنسان ـ بحسب الرؤية الحداثوية ـ قادراً على بناء رؤى جديدة، ونظرات فكرية متنوعة، غير نهائية، بل متحوِّلة وسيالة، كجزء من التفكير الدؤوب والمستمر في معنى العدالة الإنسانية، أي تفكير المجتمع نفسه بعدالة أسسه ونظمه، وصلاحيتها ومدى فعاليتها. إنه نابع من المجتمع المسؤول عنه وعن تطويره وتطبيقه، لا من مصدر آخر.
المعيار الثالث: القيمة العليا للفرد. المعيار هو الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد، أي إعادة الاعتبار والقيمة الحقيقية للفرد بما هو ذات واعية حرة، مريدة، وبالتالي أيضاً قابلة للصياغة والتكوين والمساءلة القانونية والأخلاقية. فأنا إنسان، أي ذات عاقلة وقادرة، مثل الآخر الإنسان، وأشخاصنا يتساوون في الحقوق والواجبات. هذا يعني اعتراف الجميع ببعضهم كأنداد، لا كأسياد أو أزلام ومحاسيب، وهذا هو مظهر الاعتراف الرسمي، القانوني، بالمساواة المطلقة في الإنسانية.
المعيار الرابع: الديمقراطية السياسية وحكم القانون. في مسارها التاريخي الطويل توصلت البشرية إلى تثبيت قيم ومبادئ الديمقراطية السياسية بديلاً عن حكم الاستبداد والديكتاتورية واحتكار الحقيقة وادعاء الحكم المقدس. وهذا التعميم لا يغني عن بعض التخصيص الضروري في هذا المجال؛ ذلك أنّ مبدأ فصل السلطات ربما كان أهم ما في الديمقراطية، بصفتها طريقة في التدبير السياسي والحاكمية. لا بل إنّ مونتسكيو رأى أنّ العلامة الفارقة للمستبد هي ـ بالضبط ـ، أنه يدمج السلطات جميعاً، ويتولاها بنفسه.
إنّ فصل السلطات، في شكله الحديث، هو ما عُرف أساساً عبر كتابات مونتسكيو، خصوصاً «روح القوانين»، ومؤدّى نظرية الفصل تلك أن ثمة ثلاث سلطات ينبغي أن لا تتداخل في ما بينها لدى ممارستها الحكم، وهي: التشريعية؛ والتنفيذية؛ والقضائية. الأولى تصوغ السياسة وتنفذها بوصفها قانوناً. والثانية تتولى تطبيقها وتنفيذها في الحيّز العملي. والثالثة تفضُّ النـزاعات طبقاً للقانون وتبعاً لمعايير العدالة.
([5]) لا ننسى هنا الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من التسليم بدور ومسؤولية العامل الخارجي في ما وصل إليه حال العالم العربي من تردٍّ وانقسام وتدهور سياسي واقتصادي، إلا أنّ هناك وعياً متزايداً بأن الكوارث التي تعيشها مجتمعاتنا ليست كلها ناجمة عن الأطماع والتدخلات الأجنبية وحدها، وأن الكثير منها يعود إلى الأسباب الداخلية، والتي يقف على رأسها بنية تلك المجتمعات المغلقة، وعجز النخب السياسية عن إيجاد الحلول الملائمة لهذه التناقضات الكامنة في صلب المكونات الثقافية لتلك المجتمعات ونظم الحكم العربية القائمة. وقد ترتب على إهمالها وتراكمها نجاح القوى المعادية في تعميقها واستغلالها، إلى أن وصلت إلى نقطة الانفجار، أو انفجرت بالفعل، كما هو الحال في دول عربية وإسلامية كثيرة. وقد تحدث السيد فضل الله عن هذا الموضوع مرات عديدة، مؤكداً على «أننا لا نريد تحميل الغرب بشكل خاص مسؤولية مشاكلنا، ولكننا نقول: إنه استغل نقاط ضعفنا، واستطاع أن يشغلنا عما نحن فيه، بحيث أصبحنا نفكر في قراراته أكثر مما نفكر في أنفسنا، كما قال لي بعض السفراء الفرنسيين: «إن مشكلتنا مع اللبنانيين أنهم يحدثوننا عما نريد، ولا يحدثوننا عما يريدون»، فنحن نفكر في ما تريد أمريكا أو أوروبا، وليس في ما نريده نحن. وهذا ما نلاحظه الآن في الأزمة المالية العالمية الكبرى، فنحن نفكر كيف يمكن لأمريكا وأوروبا أن تعالجا أزمتهما؟وكيف تخطط روسيا لإنقاذ نفسها؟ بينما لا نتحدث في العالم العربي إلا عن خسائرنا، أما كيف يمكن أن نخطط لتفادي تأثيرات الأزمة؟ فهذا ما لا نجد أحداً يفكر فيه بشكل فاعل» (راجع: موقع السيد فضل الله على الإنترنت، المصدر السابق، وهذا النص من حوار له مع مجلة الشراع، بتاريخ: 27/10/2008م).
([6]) لقد استطاع الإسلام في السابق استنهاض الهمم والإرادات؛ لإحداث كثير من التغيرات الكونية الكبرى، بما حمل من عظمة وقوة وانفتاح على الحياة واستيعاب واعٍ لأسباب العلم والتقدم والحضارة. وتمكن هذا الدينـ خلال فترة قصيرة نسبياً ـ من إحداث تأثير نوعي، روحي ومفاهيمي، عميق وكبير، في مجتمعات البداوة المتخلفة التي دخلها، وبلغ بها خلال مدة قصيرة أعلى مراتب التطور والتقدم. ولا حاجة بنا هنا إلى إعادة التذكير بكوكبة من علماء وفلاسفة هذه الأمّة، ممَّن حملوا رايات العلم والمعرفة والتسامح والانفتاح الديني إلى العالم كله، الذي دان واعترف لهم بالاحترام والإجلال والأسبقية العلمية. كما استطاع الإسلام النهوض بالواقع الاجتماعي في مجتمعات كان يسحق فيها الإنسان تحت وطأة الطبقية والعنصرية واحتقار النوع البشري إلى مجتمعات تعطي للإنسان أعلى قيمة، فهو خليفة الله في أرضه، أكرمه الله تعالى بالعلم والمعرفة، وسخـَّر له ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة. وحتى عندما انطلقت الفتوحات الإسلامية لم يُلْغِ الإسلام ثقافات وحضارات الشعوب التي سيطر عليها، ولم يدمّر مدنيتها ونواظمها الفكرية، ولم يغلق أبوابه أمام الفكر العالمي للتجدد والاستيعاب والتأثر والتأثير المتبادل والتفاعل الخلاق معها. والإسلام في كل ذلك لم ينطلق من فراغ، وإنما من نصوص ثابتة، ومعطيات وقواعد معرفية منفتحة تدعو الإنسان إلى التعقل والتدبر والتأمل والتقدم والتطور، فكان منها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق: 1 ـ 5)، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾(الزمر: 17 ـ 18)، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آل عمران: 190)، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت: 53)، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ﴾(الأنعام: 11)، ﴿فامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾(الملك: 15)، «الحكمة ضالـّة المؤمن»، «العلم يزكو على الإنفاق»، «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة »، «اطلبوا العلم ولو في الصّين»، وغير ذلك من مئات النصوص الثابتة، التي تؤكد على ضرورة التدبر والتعقل والوعي، والأخذ بأسباب الوجود، والبحث والتقصي المعرفي والعلمي في الكون والوجود والحياة والإنسان، والانفتاح على كل ما هو جديد ومفيد ونافع لحياة الإنسان، حتـّى تجد أنّ القرآن كلـّه دعوٌة لاكتساب العلم واتباع الحكمة والمعرفة.
([7]) طبعاً لن يقف دعاة الفكر المتطرف وأصحاب العقول الحارة ـ من النصوصيين والتقليديين والأخباريين والظاهراتيين والسلفيين المنغلقين، ومن لفّ لفهم ممَّن يفرطون في تبني الماضي، وعدم الخروج منه ـ مكتوفي الأيدي، متفرجين على دعاة الحداثة الإسلامية وهم يمارسون عملية النقد، وإعادة التأسيس للمعرفة الدينية الحديثة، بل سيواجهون عملية التحديث المطلوبة بكل ما أوتوا من قوة، وسيعملون على زعزعة أركان كافة المباحث الحديثة التي تحتاج إلى إجابات واضحة في الدفتر الإسلامي. ومثل هذا اللون من التقليدية نجده لدى من يعتبرون الفكر الإسلامي المعاصر ـ صراحة ـ عبارات خالية منالمضمون، وعناوين بدون معنون، وهم بالتالي ينكرونه من باب أن «الناس أعداء ما جهلوا». وعلى هذا الأساس فلابدّ لنا من ايجاد حلٍّ عصريّ في مواجهة أتباع هذه النـزعة، ويتمثل بالنظرة التأصيلية التي توفِّق بين النقل والعقل، والماضي والحاضر، والفعل والانفعال.
([8]) والعقلانية ـ في منظور السيد فضل الله ـ هي الطريقة الموضوعية للتفكير، التي تعمل على أساس دراسة أية قضية أو أية فكرة أو أي واقع من خلال عناصرها الذاتية وخصائصها الموضوعية، في ما يحيط بها من أجواء، وما يتحرك في آفاقها من ظروف (راجع: غسان بن جدو، خطاب الإسلاميين والمستقبل، حوارات مع السيد فضل الله: 23، دار الملاك، بيروت 1995م).