ـ القسم الثالث ـ
د. يحيى رضا جاد(*)
وبعد، فقد سقطت أدلّة المحرِّمين، الدليل تلو الدليل، كالفراش المحترق، ولم يبقَ فيها، ولا منها، دليلٌ واحد يؤيِّد ما ذهب إليه المحرِّمون ـ بل فيها ما يدلّ على الإباحة والحلّ! ـ.
إذاً يبقى أمر مسألة الغناء والموسيقى على أصل الإباحة ـ ولو على وجه اللهو الفارغ من القصد، ما دام الاشتغال بها لا يفوِّت طاعةً واجبةً، ولا يوقع في معصية ـ؛ وذلك لعدم الناقل… ونحن من ثم لسنا في حاجة إلى إيراد الأدلّة على ذلك… فإن فعلنا ـ وسوف نفعل بعون الله ـ فهو من باب التبرُّع منّا بذلك؛ إذ الدليل إنّما يُطلَبُ من المحرِّم، لا من المبيح؛ لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة.
تاسعاً: أدلّة الإباحة والحلّ من القرآن الكريم
1، 2، 3ـ انظرها في ما تقدّم في القسم الأوّل من هذه المقالة في مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 22: 51، تحت عنوان: (مقدمات تأصيلية لمسألة الغناء والموسيقى).
4ـ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (الجمعة: 11)، فعن جابر بن عبد الله, أنّه قال: «كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرّون بالكبر والمزامير، ويتركون النبيّ| قائماً على المنبر، وينفضّون، فأنزل الله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً…خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾([1]).
ومن هذا الأثر الصحيح يتَّضح أنّه من غير المعقول أن يكون النبي| قد حرم الغناء والمعازف، ثم يُمَرُّ بهما بجوار المسجد يوم الجمعة! وقد عاتب الله مَنْ ترك رسول الله| ـ قائماً وحده ـ وخرج ينظر ويستمع إلى الغناء والمعازف، فلم يعاتبهم الله على استماعهم للمعازف، وإنّما عاتبهم على تركهم النبيّ قائماً يخطب. ولو كان الاستماع إلى المعازف ـ في ذاته ـ حراماً لنبَّه عليه الله ورسوله، وهذا لم يحدث، فدلَّ ذلك على إباحة الاستماع والاستمتاع ـ في ذاتهما ـ؛ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقّ الله ورسوله.
فضلاً عن أنّ سورة الجمعة من السور المدنية المتأخِّرة، التي نزلت قبل فتح مكة بقليل؛ إذ يقول تعالى في سورة الصفّ: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ (الصف: 13)، وسورة الجمعة إنّما نزلت بعد الصفّ مباشرة.
والخلاصة أنّ هذه الآية الكريمة دليلٌ على إباحة سماع المعازف؛ لأن العتاب والذمّ والتحريم الذي جاء فيها إنّما هو لكونهم تركوا رسول الله| يخطب يوم الجمعة وذهبوا لاستماع المعازف. فالتحريم إنّما جاء لمعنى تلك الساعة، لا لحرمة المعازف لذاتها.
عاشراً: أدلّة الإباحة والحلّ من صحيح سنّة سيّد الخلق|
الدليل الأوّل: عن عائشة1 أنّها قالت: دخل عليَّ أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار (وفي رواية: قينتان) تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، وتدفِّفان وتضربان، وليستا بمغنّيتين([2])، فقال أبو بكر: أمزمور الشيطان في بيت رسول الله|؟!، وذلك في يوم عيد. فقال رسول الله|: «دَعْهُما يا أبا بكر؛ إنّ لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا»([3]).
ففي هذا الحديث إباحةٌ صريحة للغناء والمعازف؛ إظهاراً للفرح والسرور والحبور يومَ العيد.
فضلاً عن أن الغناء المذكور في هذا الحديث هو ما اكتملت فيه شرائط الغناء المذكور عند العرب، وهو رفع الصوت المطرب به، بالشعر الموزون، والعزف المستعذب، يؤدّيه القيان المغنّيات المختصّات به، في مناسبةٍ مبهِجة وسرورٍ مفرِح.
فضلاً عن دلالة هذا الحديث البيِّنة على فسحة الشريعة وسماحتها ويسرها، فها هو العزف والغناء يقع في بيت رسول الله|، وبإذن رسول الله|. المغنيةُ فيه والعازفةُ امرأةٌ، والمستمع فيه لذلك عائشة الشابّة1([4])، والشاهد لذلك والمقرّ له رسول الله|!!
فضلاً عمّا يفيده هذا الحديث من أن إظهار السرور والفرح في الأعياد بالموسيقى والغناء هو من شعائر الدين ومظاهره.
لقد أراد سيّدنا أبو بكر, ـ بإنكاره على الجاريتين المغنّيتين العازفتين ـ أن يفرض طبيعته الجادّة والصارمة على المجتمع من حوله، وعلى الناس كافّة، وفي كلّ الأوقات، حتّى أوقات الأفراح والمسرّات والأعياد. ولكنّ رسول الله| ردَّه ردّاً جميلاً ـ حيث أنكر إنكاره ـ، وأرشده إلى طريق الصواب. فراعى النبي| الفِطَرَ والطبائع والنفسيّات والتطلُّعات، وأتاح لها ما يعتبره الصدّيق أبو بكر, خروجاً على الجادّة([5]).
وقد تمسَّك بعض المحرِّمين بقول أبي بكر «مزمور الشيطان»، وقالوا بأن النبيّ| قد أقرّ إنكار أبي بكر، وأقرّ إضافته المزمار إلى الشيطان، غير أنّه| رخَّص في المزمار (أي الغناء والمعازف) في ذلك اليوم خاصّةً؛ لأنّه يوم عيد، فإذا انتفت هذه العلّة ـ بزعمهم ـ، بأنْ لم يكن يوم عيد، لم يُبَحْ فيه الغناء والمعازف.
فأقول ـ وبالله التوفيق ـ:
1ـ سبحان الله العظيم، فكأنه ـ لأنه يوم عيد ـ تُباح فيه المحرَّمات والمنكرات ومزامير الشيطان؛ إظهاراً للبهجة والسرور، ثم تحرم بعد ذلك؛ إشاعةً للحزن والكآبة والملل والرتابة!
إذاً، وقياساً على ما يدّعيه المحرِّمون، فلنُبِحْ الخمر والميسر والقمار؛ لأنه يوم عيد؛ إشاعةً للبهجة والسرور. وهذا باطلٌ لا يقول به مسلم. وما لزم منه باطلٌ فهو باطل.
وكأنّ الغناء والمعازف مزمور شيطان في غير العيد، ومزمور ملاكٍ في العيد! وكأنّ أوقات الأعياد تبيح المحرمات، وتجيز المحظورات؛ فتنقلب فيها مزامير الشيطان إلى مزامير ملائكة مقرَّبين!
إنّ معنى موقف المحرِّمين هذا يفيد أنّ النبي| أقرّ ـ بزعمهم ـ أبا بكر على أنّ الغناء والمعازف مزامير شيطان ـ وبالتالي فهي حرام في زعمهم ـ، ثم يبيحها| في يوم العيد ـ مع أنها في ذاتها مزامير شيطان محرمة ـ! وهذا ـ لعمري ـ لغوٌ وعبث تتنزَّه عنه أقوال العقلاء، بل المجانين، فكيف بسيِّد العقلاء، سيّد الخلق أجمعين، سيد ولد آدم، محمّد|؟!
2ـ إنّ النبي| إنّما يقصد بقوله «دَعْهما يا أبا بكر؛ إنّ لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدنا» إنّما يقصد أن يقول ـ أي: كأنّما يقول ـ: «يا أبا بكر، لِمَ الإنكار؟! إننا في وقت بهجة وسرور، وفرح وحبور، وقتِ عيد، يبتهج فيه الكبير والصغير، يشدون ويغنّون ويعزفون؛ ترويحاً عن نفوسهم، وتجديداً لنشاطهم. يا أبا بكر، إنّما يصح إنكارك إذا كان الوقتُ وقتَ جدّ وعمل». هذا هو مقصود قول النبي|. فلسان حاله| يقول لأبي بكر: «إنّ مقام النبوة ومجالس الفضلاء لا يُمنَع فيها الفرح ومظاهره إذا عنَّتْ مناسبة تستدعيه. يا أبا بكر، إنّه يوم عيد، يوم سرور شرعيّ لا يُنكَرُ فيه مثل هذا ـ من غناء ومعازف ـ، كما لا يُنْكَر في الأعراس والمسرّات والمناسبات».
3ـ وممّا سبق يتَّضح أن ذكر العيد في هذا الحديث إنّما هو مراعاةٌ للمناسبة ـ مناسبة الفرح والابتهاج والسرور ـ، لا حصراً فيها. فإنّ العيد من الأوقات والمناسبات التي يُستحب أن نُدخِل فيها السرور والفرحة والتوسعة على النفس والأهل والأحباب، بل والناس جميعاً.
4ـ لقد غفل المحرِّمون في قولهم بالإباحة في العيد، والمنع في غيره، غفلوا عن أمرين مهمّين:
أـ إن العيد لا يباح فيه ما كان محرَّماً، وإنّما يُتَوَسَّع فيه في المباحات، من التزيُّن وأكل الطيبات وسماع الغناء والموسيقى ونحو ذلك.
ب ـ إن العيد يُستَحبّ فيه إدخال السرور والبهجة والفرحة على النفس والأهل والناس جميعاً.
وفي معنى العيد كلُّ مناسبة سارّة، من عرس، وقدوم غائب، وولادة مولود، وختان، وحفظٍ للقرآن، وحصول على مؤهل، وانتصارٍ على أعداء الإسلام، بل ومجرّد اجتماع الأصدقاء على طعام ونحوه، إلخ.
فاستماع السيدة عائشة للغناء والمعازف، وإقرار النبيّ لذلك، وإنكاره على مَنْ أنكره، إنّما كان لأجل أنّ العيد وقت سرور وفرحة. وهذا معنى يقع للإنسان في أحوال لا تعدّ ولا تحصى؛ لأن الله تعالى لم يمنع الإنسان من أن يفرح أو أن يكون مسروراً؛ فإنّ النفس تملّ الجدّ، فتحتاج إلى بعض الأنس. وحيث يحقِّق الغناء والموسيقى هذا المعنى ـ دون مواقعة محظور ـ أذن في الاستماع لهما رسول الله|، ليكون المسلم في سعة من أمره في إدخال السرور على نفسه وعلى مَنْ يحبَ ويصاحب ويصادق ويعايش.
5ـ إن تجويز شيءٍ ما في موضع واحد ـ من غير إكراهٍ ولا ضرورةٍ ولا حاجةٍ تنزل منزلتها ـ نصٌّ في الإباحة والتحليل، بينما المنع من ذلك الشيء في ألف موضع آخر محتمل للتأويل والتنزيل؛ إذ ما حُرِّم فعله إنّما يحلّ بعارض الإكراه أو الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلتها، بينما ما أُبيح فعله لذاته فإنّه يحرم بعوارض كثيرة.
وهذا ما أغفله المحرِّمون وأهملوه في مسألة الغناء والموسيقى؛ حيث إن الحديث الذي معنا ـ وغيره كثير ممّا سيأتي إنْ شاء الله ـ نصٌّ في الإباحة من غير إكراه ولا ضرورة ولا حاجة تنزل منزلتها. وهذا يدلّ على إباحة السماع تأصيلاً، فضلاً عن كونه موجباً تأويلَ ما عارضه من نصوص ـ على ضعفها روايةً ودرايةً، كما ثبت عند استعراضنا لأدلة المحرِّمين ـ. وهذا ما أهمله المحرِّمون، بل قاموا بخلافه؛ من تأويلٍ للنصوص الصحيحة الصريحة في الإباحة؛ فخالفوا الأصول، وأتوا بالعجائب!
6ـ إنّ مجرد إضافة شيء إلى الشيطان لا يفيد التحريم بأيّ حال من الأحوال؛ فهذا قول النبي|: «العطاس من الرحمن، والتثاؤب من الشيطان»([6]). وهو لا يفيد ـ لا عقلاً، ولا شرعاً ـ حرمة التثاؤب مطلقاً، وإنّما أقصى ما يفيده هو الحثّ على عدم الاستسلام لما يوحي به التثاؤب من الكسل والاسترخاء.
وهذا قوله|: «فراش للرجل، وفراش لامرأته، وفراش للضيف، والرابع للشيطان»([7]). وهذا لا يفيد حرمة الفراش الرابع مطلقاً، وإنّما أقصى ما يدلّ عليه هو كراهة ذلك ـ والمكروه هو ما يُحمد تاركه ولا يُذمّ فاعله ـ؛ لما يُنبئ عنه من التوسُّع في الأثاث والمتاع من غير حاجة، فإذا وُجدت أدنى حاجة زالت الكراهة يقيناً، بل استُحبّ اقتناؤه.
وبهذا يتَّضح أنّ إضافة الغناء والموسيقى إلى الشيطان لا يعني التحريم مطلقاً، بل ولا يعني الكراهة؛ لأنّ المقصود من نسبتها إلى الشيطان هو خلوّها من المنفعة الدينيّة، وما كان كذلك كان للشيطان فيه حظّ؛ باعتبار ما يحصل به من تفويتٍ للوقت بما لا فائدة فيه للعبد، فالقربة والعمل الصالح يغيظان الشيطان، واللهو ـ بكافّة أنواعه ـ واللعب ـ بكافّة أشكاله وصوره ـ والسماع يشغل عن القربة والعمل الصالح، ممّا يفوت مصلحة تحصيل الحسنات وإغاظة الشيطان، ومن أجل ذلك كانت نسبة اللهو واللعب والسماع للشيطان وإضافتها إليه.
وهذا لا يدلّ على الكراهة بحالٍ من الأحوال؛ لأن الشريعة قد أرشدت إلى اللهو واللعب والسماع؛ ترويحاً عن النفس، ودفعاً للسآمة والملل؛ يقول|: «يا حنظلة، ساعةٌ وساعةٌ»([8])، أي ساعة للجدّ والعمل والعبادة، وساعةٌ للهو والترفيه والترويح عن النفس وإدخال السرور والفرح على الأهل والأحباب.
وإذا تقرَّر ذلك ـ من أن مجرّد اللهو والسماع باقٍ على أصل الإباحة ـ فإنّ النية الحسنة إذا صاحبته ودخلته وتخلَّلته حوَّلته أمراً حقّاً: مستحبّاً فعله، ومندوباً إليه، ومثاباً عليه. فمَنْ نوى بالاستماع إلى غناء شريف المعنى، ومعازف طيبة اللحن، ترويحَ نفسه ليعينها على الجدّ، ويقوى بها على طاعة الله، فهو في ذلك محسن، وفعله هذا من الحقّ؛ ومَنْ نوى باشتغاله بالغناء والتلحين إسعاد الناس وإدخال البهجة في نفوسهم، وتفريج همومهم وأحزانهم، ودعوتهم إلى الفضائل وإرشادهم إلى الحقّ والخير والعدل والجمال، فهو في ذلك محسن غاية الإحسان، وفعله هذا حقّ؛ ومَنْ نوى بذلك دغدغة الحيوان الرابض تحت جلده بسماع أصوات خبيثة، وكلمات مسمومة، وألحان طرية مائعة، تُحَوِّل مَنْ يستمع إليها إلى حيوان هائج؛ مع خلاعة ومجون ورعونة وخفة، فلا يلومنَّ إلاّ نفسه؛ لأنّه بذلك عاصٍ مسيء، وفعله هذا هو عينُ الحرام.
7ـ الصحيح أن إنكار الصديق أبي بكر على الجاريتين غناءهما وعزفهما إنّما كان لأنه, رأى أن الغناء والمعازف ما هي إلاّ لهو ولعب من جملة المباح الذي ليس فيه عبادة، فغار باطنه الكريم؛ تعظيماً لحضرة النبوة، واحتراماً لمنصب الرسالة، ومراعاةً للمقام الخاصّ للنبي| وبيته. ويؤكد ذلك قوله في الحديث: «في بيت رسول الله؟!»، متعجِّباً ومستنكراً، فرأى أنّ الاشتغال بالذكر والعبادة في ذلك الموطن الكريم واليوم الشريف أَوْلى وأحرى، فزجر عن الغناء والمعازف؛ احتراماً لمقام النبوة، لا تحريماً.
ومع ذلك ردّ عليه النبي| إنكاره ـ كما سبق البيان ـ؛ توسعةً على الأمة ورفقاً بها، وإرشاداً لأبي بكر إلى الأَوْلى والأحرى في ذلك الموطن والوقت.
ولذلك نظائر؛ مثل: ما وقع مع الفاروق عمر في قصّة لعب الحبشة بحرابهم أيام العيد في مسجد النبي|، فزجرهم عمر وحصبهم، فأنكر النبي| إنكار عمرٍ وزجره، وقال: «دعهم يا عمر، أمناً بني أرفدة»([9]).
ومثل: ما وقع من عمر أيضاً حين قال ابن رواحة شعراً في الحرم المكي بين يدي رسول الله|، أثناء عمرة القضاء، فقال عمر: «يا ابن رواحة، في حرم الله، وبين يدي رسول الله|، تقول هذا الشعر!»، فأنكر النبي| على عمر إنكاره، وزجره بقوله: «خلِّ عنه، فوالذي نفسي بيده، لكلامه أشدّ عليهم (أي الكفّار) من وَقْع النَّبْل»([10]).
والمقصود من إيراد هذين المثلين أنّ إنكار عمر لم يكن بسبب حرمة ما كان ينكره، وإنّما كان إنكاره اجتهاداً منه في ملازمة الجدّ. فقد أراد أن يفرض طبيعته الجادّة والصارمة على المجتمع من حوله، وتعظيماً لمقام النبوة من ذلك اللعب واللهو.
فليس من الأسباب التي تعلَّق بها المحرِّمون في قصة أبي بكر شيءٌ إلاّ وله نظير في ما فعله عمر، ومع ذلك فلا يصحّ إنكار أيٍّ منهم في هذه المواقف، فقد أنكر رسول الله| عليهما في جميع هذه المواقف، وأرشدهم إلى طريق الصواب.
8ـ ما كان رسول الله| ليقرّ عائشة على سماع الغناء والمعازف لو كانت محرَّمة؛ بسبب كونها (مزماراً للشيطان)، بل ما كان| ليُقرّ فعل مكروهٍ في بيته لو كان السماع مكروهاً لمجرد كونه مضافاً إلى الشيطان ومنسوباً إليه؛ إذ فعل المكروه في بيت النبوة، بإقرار من النبي|، يتنافى مع مقام النبوة العليِّ، وجلال منصب الرسالة.
الدليل الثاني: عن السائب بن يزيد أنّ امرأة جاءت إلى رسول الله|، فقال: «يا عائشة، أتعرفين هذه؟» قالت: لا، يا نبيّ الله. فقال|: «هذه قينة بني فلان، تحبّين أن تغنّيك؟»، قالت: نعم. قال: فأعطاها طبقاً، فغنَّتها. فقال النبي|: قد نفخ الشيطان في منخرَيْها([11])»([12]).
وفي هذا الحديث كثيرٌ من الفوائد:
1ـ مداراة النبيّ| لزوجته عائشة1، وتلطفه بها، ورعايته لها، وذلك بمحاولته| إدخال السرور على نفسها؛ وذلك بسؤاله| لها: أتحبّ أن تسمع الغناء؟.. ومِن مَنْ؟!.. من قينةٍ (مغنّية) محترفة!
2ـ هذا الحديث نصٌّ صريح وقاطع في إباحة الغناء والضرب (العزف) معه بشيء. فالمرأة قد وُصفت بكونها (قينة تُغنّي)، ولا توصف بذلك إلاّ مَنْ كانت تحسن الغناء وتجيده، ومَنْ كان كذلك تهيَّأ له أن يضرب بأيّ شيء، كالطبق الذي أعطاها النبي إيّاه، يصدر صوتاً بالضرب عليه، فيأتي به ضرباً متناسباً ومتوافقاً وموزوناً مع غنائه. نعم، الطبق ليس بدفٍّ ولا آلةٍ ولا معزفةٍ في ذاته، ولكنّ الضرب به ـ مع الغناء ـ عَزْفٌ بلا مرية ولا جدال ولا شكّ، بل وعزف طيِّب مستعذب.
وهذا يؤكِّد ما تقدَّم ذكره ـ مراراً وتكراراً ـ من كون (المعازف) و(الآت الموسيقى) لا يتَّصل بها حكمٌ في ذاتها، وإنّما الحكم يتعلَّق بما تُستخدم فيه ولأجله هذه الأصوات؛ إنْ خيراً فحلالٌ، وإنْ شرّاً فحرام، وإنْ مباحاً فمباح.
وقد رأينا ـ وكثيراً ما يقع هذا ـ ذات يوم مَنْ أخذ عودَيْن ـ عصاتين صغيرتين ـ فصار يضرب بهما على صفائح معدنية، مُستخرِجاً بذلك أصواتاً لا تختلف عن أصوات المعازف وآلات الموسيقى بأنواعها.
والخلاصة أنّ هذا الحديث نصٌّ في إباحة الغناء والمعازف، بل والاشتغال بهما.
3ـ هذا الحديث نصٌّ في إباحة الغناء والمعازف في غير العيد والعرس؛ حيث إن الغناء والعزف المذكورَيْن فيه لم يقعا في أيٍّ من هاتين المناسبتين، كما هو ظاهر الحديث.
4ـ أفاد هذا الحديث وجود القينات المغنّيات في عصر النبوة، وإقرار النبي| لذلك، بل وطلب النبي| من إحدى هذه القينات أن تغنّي!. بل و:
5ـ أعطاها النبيّ| طبقاً لتضرب به، وتعزف عليه، لتُخرج ألحاناً وتقاسيماً تطرب النفوس. وهذا يدلّ على أنّ سماع العزف والموسيقى أمرٌ فطريّ ومستعذَب، وإلا فلِمَ أعطاها النبي| الطبق لتضرب به وتعزف؟!
6ـ أفاد هذا الحديث إباحة غناء وعزف المرأة بحضرة الرجال الأجانب.
وغير ذلك من الفوائد التي يمكن استنباطها منه. ويكفيك من ذلك دلالته على مدى يُسر وسماحة وفسحة الإسلام؛ فها هو الغناء والعزف يقع بإذن ـ بل وبطلب ـ رسول الله|، وفي بيت رسول الله|، المغنيةُ فيه امرأة محترفة، والمستمعُ فيه الشابّة عائشة1، والشاهد لذلك كلّه رسول الله|، يقع ذلك تودُّداً إلى الزوجة، ومراعاة لمشاعرها، وتجاوباً مع حرصها على اللهو والسماع. فهل بعد ذلك كلام؟!!
الدليل الثالث: عن عائشة1 قالت: «بينا أنا ورسول الله جالسان في البيت استأذنت علينا امرأة كانت تغنّي، فلم تزَلْ بها عائشة حتّى غنَّت، فلما غَنَّت استأذن عمر بن الخطاب، فلما استأذن عمر ألقَتْ المغنّية ما كان في يدها وخرجت، واستأخرت عائشة عن مجلسها، فأذن له رسول الله|، فضحك|، فقال: بأبي وأمّي، ممَّ تضحك؟ فأخبره| ما صنعت القينة وعائشة، فقال عمر: أما والله لا، اللهُ ورسولُه أحقُّ أن يُخشى يا عائشة»([13]).
فهذا الحديث نصٌّ صحيحٌ صريح في إباحة الغناء والعزف([14]). كما أنه نصٌّ في إباحة غناء وعزف المرأة بحضرة الرجال الأجانب. كما أنه نصٌّ في إباحة طلب الاستماع إلى الغناء: «فلم تزل بها عائشة حتّى غنَّت»؛ أي إنها1 جعلت تطلب من تلك المرأة ـ مراراً وتكراراً ـ أن تغنّي، وقد أقرّ النبي| ذلك، فلم ينهر عائشة أو ينكر عليها. ثم إن هذا الحديث نصٌّ في وجود القينات المغنيات في عصر النبوة، بل وإقرار النبي| لذلك الوضع. وقد أفاد هذا الحديث ـ كذلك ـ وقوع الغناء والعزف دون مناسبة معيَّنة، كالعيد والعرس، وإنّما كان الاستماع فيه تحقيقاً لمشتهى النفس، كما هو ظاهر الحديث، إلى غير ذلك من الفوائد.
الدليل الرابع: عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة قال: سمعتُ بريدة الأسلمي, يقول: «إنّ أمة سوداء أتت رسول الله| ـ وقد رجع من بعض مغازيه ـ، فقالت: إني كنتُ نذرتُ إنْ ردَّك الله صالحاً (أي سالماً) أنْ أضرب عنك بالدفّ. فقال|: «إنْ كنتِ فعلتِ (أي نذرتِ) فافعلي، وإنْ كنتِ لم تفعلي فلا تفعلي». فضربَتْ، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل غيره وهي تضرب، ثم دخل عمر، فجَعَلَت دفَها خلفها وهي مقنَّعة، فقال|: «إنّ الشيطان ليفرق منك يا عمر! أنا جالس هاهنا، ودخل هؤلاء، فلما دخلْتَ فَعَلَتْ ما فَعَلَتْ»([15]).
وفي هذا الحديث من الفوائد الكثير:
1ـ هو نصٌّ صريحٌ في إباحة الغناء والمعازف؛ لقوله|: «مَنْ نذر أن يطيع الله فليطِعْه، ومَنْ نذر أن يعصيه فلا يعصِه»([16])، وقوله|: «لا نذر في معصية الله»([17]). فلو كانت هذه المرأة نذرت مُحَرَّماً لما أَذِن لها النبيّ| بالوفاء به، وإنّما أَذِن لها النبي| بالغناء والعزف ـ واستخدامُ الدفّ مع الغناء عزفٌ لا شكّ فيه ـ لكونها نذرت مباحاً.
واعترض بعض المحرِّمين قائلاً: إنّ الضرب بالدفّ محرَّم أصلاً ـ كذا قال!! ـ، وإنّما اغتفر النبيّ| لها ذلك إظهاراً لفرحها؛ خصوصيةً له|.
وأقول: أين الدليل على تحريم الضرب بالدفّ؟! لا وجود له.
لاحِظْ أنّ النبي| جعل (النذر) هو علّة الإذن؛ ألم ترَ قوله|: «إنْ كنتِ فعلتِ (أي نذرتِ) فافعلي (أي لأنّه قد وجب عليك الوفاء بالنذر حينئذ)». فليس الإذن بالضرب لمقامه وشخصه، وليس خصوصية له|، وإنّما الإذن لكونها نذرت، فوجب الوفاء بالنذر.
إذا كان قول المعترض حقّاً فلماذا لم يخبرها النبي| بهذه الخصوصية المزعومة، وأنّ هذا الذي فعلته لا يجوز مع غيره|؟! فضلاً عن أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقّه|.
قول المعترض هذا قولٌ عجيب؛ فكأنّ الفرح به| لا يتمّ ولا يستقيم إلا بمزمور الشيطان المحرَّم في زعمهم، كيف ذلك يا قوم؟! هذا رسول الله| سراج الأمة المنير، ومخرجها من ظلمات المنكرات إلى نور الفضائل والطاعات، الذي بُعِث ليقضي على مكائد الشيطان وحبائله وآثاره ووسائله ـ ومنها الغناء والمعازف، كما يدَّعي المحرمون؛ لكونها مزامير شيطان ـ، هذا النبي العظيم بدلاً من أن يخبرها بأن ما تريد فعله لا يجوز ـ كما يدَّعي المحرِّمون ـ، ثم يرشدها إلى ما يجوز، بدلاً من ذلك يبيح لها المحرَّمات والمنكرات ـ التي منها الغناء والمعازف، كما يدَّعون ـ؟!. والسبب المبيح لذلك في زعمهم هو أن تُظهر هذه المرأة فرحها وسرورها بعودته| سالماً غانماً منتصراً؛ خصوصيةً له|، فليس هناك ما يُفرَحُ به كالفرح بالنبيّ|!. فهمٌ عجيب، وفقهٌ غريب!
لو كان الأمر خصوصيةً له| ـ كما يزعمون ـ لمنع النبي| أبا بكر ـ وغيره ممَّن حضر ـ من السماع، بل لمنعهم من الجلوس في المكان أصلاً؛ لأنّ ما تفعله هذه المرأة إنّما هو خاصٌّ به| لا يشاركه فيه أحدٌ. وهذا ـ بالطبع ـ لم يحدث، بل حدث عكسه تماماً، كما جاء في الحديث.
واعترض آخرون قائلين: إنّ الضرب بالدفّ حرام، وإنّما أباح لها النبيّ فعلها ذلك؛ مساءةً للكفار، وإرغاماً للمنافقين.
وأقول: أين الدليل على التحريم؟! هيهات أن يوجد.
ثم إن ادّعاءكم هذا مخالفٌ لظاهر الحديث، بل فيه ما ينفيه؛ وذلك في قول المرأة: «نذرتُ أنْ أضرب عندك بالدفّ»؛ أي في مسكنك، في المكان الذي تقيم فيه وتعيش. ويزيد ذلك تأكيداً ما جاء في الحديث أيضاً: «فدخل أبو بكر، ودخل غيره، ثم دخل عمر»؛ فالدخول هنا يقتضي الدخول في مسكنٍ أو بيتٍ أو منزلٍ، كما هو ظاهر. وبذلك تنتفي دعوى المحرِّمين هذه؛ لأنّ الكفار لم يطَّلعوا على ما حدث، فضلاً عن أن يسمعوه.
وقولُ النبي|: «وإنْ كنتِ لم تفعلي (أي لم تنذري) فلا تفعلي (أي فلا تضربي بالدفّ)» فيه ردٌّ قويّ على دعوى المحرِّمين هذه؛ إذ لو كان الأمر كما قالوا، مساءةً للكفار وإرغاماً للمنافقين، لحثَّها النبي| على الضرب بالدفّ ولو لم تنذر، ولما قال لها ما قال. أليس كذلك؟!
2ـ فيه ردٌّ بليغ على مَنْ يحرِّم الغناء والموسيقى في غير الأعياد والأعراس؛ حيث إن مناسبة هذا الحديث لم تكن عرساً ولا عيداً، وإنّما كانت مجرّد إظهارٍ للفرح والسرور والبهجة في موقف يناسبه.
3ـ الحديث نصٌّ في إباحة الغناء والمعازف من امرأة بحضرة الرجال الأجانب.
إلى غير ذلك من الفوائد.
الدليل الخامس: هو عينه الحديث رقم (7) الذي ذكره المحرِّمون كدليل لهم على تحريم الغناء والمعازف؛ إذ هو دليل لنا على إباحة الغناء والمعازف. راجع تعليقنا هناك، وخاصّة الفقرة ب.
الدليل السادس: هو عينه الحديث رقم (4) الذي ذكره المحرِّمون كدليل لهم على التحريم؛ إذ هو دليل لنا على إباحة المعازف. راجع تعليقنا هناك، خاصّة الفقرة ب.
الدليل السابع: هو عينه الحديث رقم (5) الذي ذكره المحرِّمون كدليل لهم؛ إذ هو دليل لنا على إباحة الغناء والمعازف، فضلاً عن كونه دليلاً على إباحة غناء وعزف المرأة بحضرة الرجال الأجانب. راجع تعليقنا هناك، وخاصّة الفقرات ج، أ، ب).
الدليل الثامن: عن الربيع بنت معوذ1 قالت: «دخل عليَّ النبي| غداة بُنِيَ عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك منّي، وجويريات يضربن بالدفّ، يندبن مَنْ قُتل من آبائهنّ يوم بدر، حتّى قالت جارية: وفينا نبيّ يعلم ما في غدٍ، فقال النبي|: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنتِ تقولين»([18]).
فها هو| يستمع إلى العزف والغناء. وإنْ كان العزف مقتصراً في كثير من الأحاديث لا كلِّها؛ إذ في غيرها الكبر والمزامير وغيرهما ممّا مرّ بك من قبل، على الدفّ؛ فإنّما ذلك لأنّه كان آنذاك الآلة الميسورة المشهورة الغالب استعمالها ووجودها على سائر الآلات؛ لسهولة اقتنائها وصناعتها([19])، فضلاً عن أنّ الدف مِعْزَف، والضرب به عَزْف، ولا يوجد شرعاً ولا عقلاً ما يفرِّق بينه وبين غيره من الآلات الموسيقية؛ إذ الكل يُحدث عزفاً مستعذَباً وأصواتاً جميلة شجية.
كما دلّ هذا الحديث على إباحة الغناء بكلّ شعر، إلا شعراً يتضمَّن معنى باطلاً أو محرَّماً.
الدليل التاسع: عن محمد بن حاطب الجمحي,، قال: قال رسول الله|: «فصل ما بين الحلال والحرام الدفّ والصوت في النكاح»([20]). فها هو النبي| يحضّ على الغناء والمعازف([21]) في الأعراس، لا مجرَّد إذنه في ذلك، بل إنّه| قد جعل الغناء والمعازف علامة شرعيّة فاصلة بين النكاح والسفاح؛ لما في ذلك من إعلان النكاح وإظهاره وإشهاره. وأقلّ ما يقال في حكم ما ورد في هذا الحديث أنّه مستحبٌّ استحباباً مؤكَّداً، فضلاً عن احتمال الوجوب. ولم أفرُغ بعدُ لتحقيق المسألة.
وهنا يجب التنبيه على أنّ الأعراس ـ كما الأعياد ـ لا يُباح فيها ما كان محرَّماً، وإنّما يُتوسَّع فيها ـ كما ذكرنا في ما سبق ـ في المباحات، كالتزيُّن وأكل الطيبات وسماع الغناء والموسيقى. كما يُستحب فيها إدخال السرور والبهجة والفرحة على النفس والزوجة والأهل والناس جميعاً.
الدليل العاشر: عن عائشة1 أنّها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي|: «يا عائشة، ما كان معكم من لهو؟ فإنّ الأنصار يعجبهم اللهو»([22]).
واللهو لغةً هو: ما لعبتَ به وشغلكَ، من هوى وطرب ونحوهما. وهو الطبل ونحوه، أي المعازف. وهو المرأة الملهوّ بها([23]).
ومن سياق هذا الحديث يتَّضح ـ بل يتعيَّن ـ أنّ معنى اللهو فيه هو الطرب والغناء والطبل والمعازف.
إذاً هذا الحديث نصٌّ صحيحٌ صريح في إباحة الغناء والموسيقى، بل وفي استحبابهما في الأعراس؛ فها هو النبي| يرشد عائشة1 إلى الغناء والموسيقى، بل ويعاتبها ويلومها على إقرارها لهذا الزفاف الصامت والعرس الأخرس!
وفي قوله|: «فإنّ الأنصار يعجبهم اللهو» الكثير من الفوائد:
1ـ مراعاة النبي| أعراف الأقوام المختلفة واتجاهاتهم المزاجيّة، ورفضه| لأن يُحكِّم المرءُ مزاجَه الشخصي في حياة كلّ الناس؛ فإذا كان القرشيون المهاجرون ـ أو بعضهم ـ لا يهتمّون باللهو (الغناء والموسيقى)، ولا يميلون إليه، فإنّ الأنصار يعجبهم اللهو.
ومن ثم ينبغي للأقوياء وأهل العزائم والآخذين أنفسهم بالشدّة والخشونة أن لا يحملوا الناس كلّهم على نهجهم ومزاجهم هذا؛ فإنّ الناس يتفاوتون في احتمالهم، كما يختلفون في أمزجتهم وميولهم؛ ففيهم القويّ والضعيف، والصبور والهلوع، والمنبسط والمنطوي، وذو المزاج الفني وذو المزاج العمليّ.
2ـ قول النبي| هذا يرشد ويشير إلى مراعاة الإسلام ـ في كلّ تشريعاته ـ لتباين ظروف الناس وطبائعهم وأمزجتهم وأعرافهم، ويؤكِّد على أنّ الإسلام رسالة عالميّة جاءت تخاطب الناس كافةً مِن كل جنس، وكل لون، وكل إقليم، وكل طبقة. فليست رسالةً للعرب دون العجم، ولا للشرق دون الغرب، ولا للأقاليم الحارّة دون الأقاليم الباردة، ولا للانطوائيين من الناس دون المنبسطين، ولا للأقوياء منهم دون الضعفاء، ولا للرجال دون النساء، ولا للشيوخ دون الشباب.
وإذا رأيتَ من الأحكام ما لا يصلح إلاّ لفئة معينة، ولبيئة خاصّة، ولا يمكن تعميمه، فاعلم أنّه ليس من الإسلام في شيء، وإنّما أُدخل فيه بالرأي والتأويل؛ إذ «كلُّ مسألة أُدخلت في الشريعة، ونُسبت إلى الإسلام، وليست من العدل ولا الحكمة ولا الرحمة ولا المصلحة، فهي ـ يقيناً ـ ليست من الشريعة في شيء، وإن أُدخلت فيها بالتأويل»([24])؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد راعى في تشريعاته وتوجيهاته الجميع، فلم يغلق الباب في وجه فئة من الناس دون الأخرى، بل فتحه للجميع، فشمل درجة الأقوياء، من المقربين السابقين بالخيرات بإذن الله، ولم ينسَ الأبرار، من المقتصدين من أصحاب اليمين، ولم يغفل المقصِّرين الظالمين لأنفسهم، من عوام الناس.
الدليل الحادي عشر: عن أنس بن مالك, قال: إنّ البراء بن مالك كان يحدو بالرجال، وأنجشة كان يحدو بالنساء، وكان حسن الصوت، فحدا، فأعنقت الإبل (أي أسرعت في السير)، فقال رسول الله|: «يا أنجشة، رويداً سوقك بالقوارير»([25]).
وفي هذا الحديث الكثير من الفوائد:
1ـ جواز سماع الغناء، ودون التقيَّد بوقت أو مناسبة معيَّنة.
2ـ جواز سماع المرأة لغناء الرجل الأجنبيّ عنها.
3ـ تأثُّر الإبل ـ على غلظتها ـ بالصوت الحسن، حتّى أعنقت، وأسرعت السير، واستخفَّت الأحمال، وقطعت المسافات الطوال في أوقات قصار، حتّى خشي النبي| على النساء من أن يَقَعْن من على الجمال؛ لشدّة سرعتها وحركتها.
الدليل الثاني عشر: عن سلمة بن الأكوع, قال: خرجنا مع النبيّ| إلى خيبر، فَسِرْنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تُسمعنا من هُنَيْهاتك (أي من كلماتك وأشعارك وأراجيزك)؟ وكان عامر رجلاً شاعراً حدّاءً، فنزل يحدو بالقوم، يقول:
اللهمّ لولا أنتَ ما اهتدينا |
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا |
|
فاغفر فداءً لك ما اتقَّيْنا |
وثبِّتْ الأقدام إنْ لاقينا |
|
وأَلْقِيَنَّ سكينةً علينا |
إنَا إذا صيح بنا أبينا |
وبالصياح عوِّلوا علينا |
فقال النبي|: «مَنْ هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع. قال|: «يرحمه الله»([26]).
وفي هذا الحديث إباحةٌ صريحةٌ للغناء بإقرار من النبيّ|، بل ودعائه| بالرحمة لهذا المغنّي!!.. كما أفاد هذا الحديث سماع الغناء دون التقيُّد بأوقات أو مناسبات معيَّنة.
الدليل الثالث عشر: عن عليّ بن أبي طالب, قال: «أصبْتُ شارفاً (والشارف هو الدابةً المُسنَّة) مع رسول الله| في مغنمٍ يوم بدر، وأعطاني رسول الله| شارفاً آخر، فأنختهما يوماً (فذكر قصةً بما وقع له من صنيع حمزة بن عبد المطلب)…، وحمزةُ يشرب، أي الخمر، في ذلك البيت معه قينة تغنّيه، فقالت: «ألا يا حمز للشرف النواء»، فثار إلى الناقتين فجَبَّ أسنمتهما وبَقَرَ خواصرهما. قال عليّ,: فأتيت النبي|، وعنده زيد بن حارثة، فأخبرته الخبر، فخرج ومعه زيد، فانطلقتُ معه، فدخل على حمزة، فطفق رسول الله| يلوم حمزة في ما فعل، فرفع حمزةُ بصره وقال: هل أنتم إلاّ عبيدٌ لآبائي!! فعرف رسول الله| أنه ثَمِلٌ، أي سكران، فرجع رسول الله| يقهقر حتّى خرج عنهم، وذلك قبل تحريم الخمر»([27]).
ومحلّ الشاهد من هذا الحديث أنّ اتّخاذ القينات كان واقعاً ومذكوراً ومشهوراً في حياة النبي| وصحابته، فها قد حرَّم الله الخمر، فأين تحريمه للقيان والغناء؟!([28]).
ولو كان اتّخاذ القيان واستماع غنائهم محرَّماً لنبَّه عليه عليّ,، كما نبَّه على تحريم الخمر بقوله: «وذلك قبل تحريم الخمر».
وفي هذا الحديث من الفوائد: إباحة استماع الغناء من القيان بإقرار منه|؛ إذ لو كان ذلك محرَّماً لنهى عنه|. كما دلّ هذا الحديث على وقوع الغناء دون تقيُّدٍ بوقت أو مناسبة معيَّنة.
حادي عشر: أدلّة الإباحة والحلّ من خلال مقاصد الشريعة
ذكرنا في ما سبق، تحت عنوان: (مقدّمات تأصيلية)، وبالتفصيل، أنّ سماع الغناء والموسيقى من خصائص الطباع البشريّة؛ فلكلّ حاسّة من حواسّ الإنسان مستلذّاتها؛ فالعين تستلذّ بالمناظر الجميلة، والأنف يستلذّ الروائح العبقة اللطيفة، واليد تستلذّ الملمس الرقيق الليِّن، والأذن تستلذ الأصوات العذبة الحلوة. فالسماع متَّصل بالطبيعة البشريّة اتّصالاً وثيقاً؛ بميلها إليه؛ استرواحاً من هموم الحياة وأثقال العيش، وتجديداً للنشاط والملكات والطاقات، ودفعاً للسآمة والملل من ملازمة الجدّ، وإدخالاً للبهجة والسرور على النفس، وترويحاً عنها؛ لتزداد كفاءة الإنسان في النهوض برسالته في عمران الحياة الدنيا.
ثاني عشر: انتقال حكم الغناء والموسيقى عن الإباحة
ينتقل حكم الغناء والموسيقى عن الإباحة إلى:
أوّلاً: الاستحباب؛ وذلك حين يتحقَّق بالسماع مقصود شرعيّ، كإظهار النكاح وإشهاره والإعلام به؛ ليكون ذلك حدّاً فاصلاً بين النكاح الحلال والسفاح الحرام.
ثانياً: الكراهة؛ وذلك حين يكون السماع مفوِّتاً لطاعة غير واجبة([29])، كأن تقطع الذكر والتسبيح الذي أنت عليه لأجل السماع، أو كأن تقطع صلاة ـ غير واجبة ـ كنتَ تصلّيها لأجل السماع.
ومثل هذا السماع ليس حراماً، ولا إثم على فاعله؛ لأنّ المكروه لا عقاب على فعله أو الإتيان به، ولكنّ العاقل مَنْ يجتهد في تحصيل الثواب والحسنات، وتعاطي السماع ـ والحال كذلك ـ مفوِّتٌ للحسنات، باطلٌ يحبّه الشيطان، وقد يجعل منه مصيدةً لضعيف الدين، فيوقعه ـ بسبب فعل المكروه ـ في حبائله وشِراكه.
ثالثاً: التحريم، وذلك:
1ـ حين يُستعمَل السماع في تزيين الفجور والفواحش والإعانة عليها، وفي كلّ ما يسبِّب تضييع الفرائض والواجبات أو تفويتها([30]).
2ـ أو حين يكون الغناء بكلامٍ ممنوع لذاته؛ كالحلف بغير الله أو ردّ القدر أو إظهار الجزع ممّا قسمه الله لك، إلخ.
3ـ أو حين يُستعمَل الغناء والموسيقى في معصية الله، أو في الدعوة إلى ذلك.
4ـ أو حين يَبْرُز المغنّي أو المغنّية في شكلٍ أو هيئة مثيرة للرغبات والشهوات الحرام؛ من إبرازٍ للعورات والمفاتن ما لا يتمالك معه الناظر ـ كما يُعَبِّر أستاذنا الجديع، مستخدِماً عدداً من جوامع كلم النبيّ| ـ أن يُرمَى بسهم مسموم من سهام إبليس الشيطانيّة في سويداء قلبه، فينكت فيه نكتة سوداء لا يمحوها إلاّ توبة وعمل صالح واستغفار وتدارك برحمة الله.
ثالث عشر: ضوابط مشروعيّة الغناء والموسيقى([31])
أوّلاً: سلامة مضمون الغناء وكلماته من المخالفات الشرعيّة
إذ ليس كلّ غناءٍ مباحاً، إلاّ أن يكون موضوعه متَّفقاً مع رسالة الإسلام وتعاليمه، وغير مخالف لعقيدته ولا لشريعته ولا لأخلاقيّاته. لابدّ أن يكون الكلام خالياً من الكفر، والحلف بغير الله، وردّ القدر، والفحش، والقذف، والطعن في الأنساب، ولعن الناس وسبّهم، والدعوة إلى الزنا والخمر، وذكر مفاتن النساء تغزُّلاً بهنّ والتذاذاً بأوصافهنّ؛ ممّا يثير كوامن الشهوات، ويستدعي خَفِيَّ الرغبات، كالشِّعر الذي يصف من المرأة ما لا يحلّ أن يُرى منها؛ ممّا يحرك الشهوة الممنوعة، وكالتغني بشعر الإغراء بالحرام؛ كالشعر المغري بالنظر المحرَّم، أي النظر الشهواني الجنسي، والمتعة المحرَّمة.
وذلك كقول أبي نواس في الخمر:
دَعْ عنك لومي فإنّ اللومَ إغراءُ |
وداوني بالتي كانت هي الداءُ |
وكذلك قول شوقي فيها:
رمضان ولّى هاتِها يا ساقي |
مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ |
وكأغنية محمد عبد الوهاب: «الدنيا سيجارة وكاس».
فكلُّ ذلك مخالفٌ لتعاليم الإسلام، التي تجعل الخمر أمّ الخبائث، والتي تعتبرها رجساً من عمل الشيطان، والتي تلعن شاربها وعاصرها وبائعها وحاملها وكل مَنْ أعان على ذلك بأيّ عملٍ كان. فضلاً عن أنّ السيجارة محرَّمة لا شكّ في تحريمها؛ إذ ليس وراءها إلاّ خراب البيوت والجيوب والأجسام؛ لكونها كتلةً متحرِّكةً من الأضرار المصيبة للجسم والنفس والمال.
وكغناء مَنْ يغنّي بتمجيد صاحب العيون الجريئة؛ لما في ذلك من مخالفته لأدب الإسلام الذي ينادي كتابه: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ (النور: 30)، ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ (النور: 31).
ثانياً: سلامة طريقة الأداء الصوتي من التكسُّر والإغراء والإثارة
إنّ طريقة أداء الأغنية لها أهميتها الكبيرة؛ فقد تكون الكلمات لا بأس بها ولا غبار عليها، ولكنّ طريقة أداء المغني (أو المغنية)، بالتكسُّر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة، ينقل الأغنية من دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة القطعيّة؛ فإن الله يخاطب نساء النبي| فيقول: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ (الأحزاب: 32)، فكيف إذا كان مع الخضوع في القول: الوزنُ والنغمُ والتطريبُ والغناءُ والتأثيرُ؟!!
ثالثاً: عدم اقتران الغناء والموسيقى بأمر محرَّم
يجب أن لا يقترن الغناء والموسيقى بشيءٍ محرَّم، كشرب الخمور، أو تناول المخدّرات، أو التبرُّج، أو الاختلاط الماجن بلا قيود ولا حدود ولا ضوابط، أو كشف العورات وإبراز المفاتن.
فيحرم السماع إذا كان في مجلس اختلط فيه الغناء والعزف بملابسة الخلاعة والفحش والفجور، وشرب الخمور، وقول الزور، وتلاعب القيان بألباب الحضور.
كما يحرم السماع إذا ارتبط بالمائلات المميلات، والكاسيات العاريات، المثيرات المضلاّت.
كما يحرم السماع إذا تحوَّل من شيءٍ يُسمَع إلى شيء يُرى. من شيءٍ تسعد بسماعه الآذان إلى شيء تنفطر له حزناً قلوب عباد الرحمن. فلا يُسمَع منه إلاّ صراخُ الغرائز وفحيحُ الرغبات الحرام!!
ولا عجب في تحريم ذلك؛ لأنّ الإسلام يكره الفنون الرقيعة، ويطارد الماجنين الذين يشيعون بين الناس الخنوثة والتحلُّل.
ولقد أصبحت الخنوثة والإباحية والتحلُّل ـ أقولها بأسفٍ ـ من الأمور الغالبة على الواقع الغنائي المعاصر ـ إلاّ من رحم ربك ـ، الذي يوغِل في الحرام، بل وينهل منه بنهم وشَرَهٍ والعياذ بالله. لقد أضحت بيئتنا الغنائية ـ بل والفنّية ـ المعاصرة تعيش في أرض الغرائز، وتحسن الطبل والزمر حدواً للعواطف الرخيصة والشهوات الدنيئة!!
رابعاً: تجنُّب الإسراف في سماع الغناء والموسيقى
الغناء والموسيقى ـ ككلّ المباحات ـ يجب تقييدهما بعدم الإسراف في سماعهما؛ فإنّ الإكثار من ذلك مذمومٌ، آكَد في ذمّه من الإسراف في الطعام والشراب؛ إذ الإسراف في الأخيرين قد يسهل فيه على الإنسان أن يدرك الضرر بالزيادة، بخلاف اللهو والسماع؛ لأنه إنْ خلا من تحريك النفس إلى معصية، فسيحرمها من طاعة ـ على أدنى الدرجات ـ.
إنّ الإسلام حرَّم الغلو والإسراف في كلّ شيء، حتّى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو، وشغل الوقت به ـ إنْ كنتَ من غير العاملين به والممتهنين له كحرفة؛ إذ سيأتي بيان حكمهم لاحقاً ـ، ولو كان مباحاً؟!
إنّ الإسراف في اللهو والسماع دليلٌ على فراغ العقل والقلب من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليلٌ على إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظّها من وقت الإنسان المحدود وعمره القصير. ولله در القائل: «ما رأيتُ إسرافاً قطّ إلاّ وبجانبه حقٌ مُضَيَّع».
إن الإسراف في السماع غير مرغوب ولا مطلوب؛ لأنّ الأصل في الحياة الجدّ، وأما اللهو والسماع فالأصل فيه أن يكون قليلاً، لا غالباً يطغى على الجدّ أو يضاهيه، بل ما يؤخذ به منه فإنّما هو لترويح القلب ودفع السآمة والملل؛إذ راحة القلب معالَجَةٌ له في بعض الأوقات، لتنبعث دواعيه، فيعود إلى الجد أقوى وأمكن ممّا كان عليه من قبل.
وأنبِّه ـ قبل ختام هذه النقطة ـ على ضرورة عدم الإسراف في جانب الغناء العاطفي ـ كما هو الحال في الواقع الغنائي المعاصر ـ، الذي يتحدَّث عن الحبّ والشوق؛ فالإنسان ليس عاطفةً فحسب، والعاطفة ليست حبّاً فقط، والحبّ لا يختصّ بالمرأة وحدها، والمرأة ليست جسداً وشهوةً لا غير. لهذا يجب أن نقلِّل من هذا السيل المنهمر من الأغاني العاطفيّة الغراميّة، وأن يكون لدينا في أغانينا توزيعٌ عادلٌ وموازنةٌ مقسِطَةٌ بين الدين والدنيا، وبين حقّ الفرد وحقّ المجتمع، وبين العقل والعاطفة، وبين الحبّ والكره، والغيرة والحماسة، والأبوّة والأمومة، والبنوّة والأخوّة، والصداقة والعداوة، إلخ.
أمّا الغلو والإسراف والمبالغة في إبراز عاطفة خاصّة، على حساب العواطف الأخرى، وعلى حساب عقل الفرد وروحه وإرادته، وعلى حساب المجتمع وخصائصه ومقوماته، وعلى حساب الدين ومثله وتوجيهاته، فهو أمرٌ منكَرٌ مَقيت.
خامساً: أمور خاصّة تتعلَّق بالمستمع ذاته، هو فيها مفتي نفسه
وبعد هذا الإيضاح والتفصيل السابق تبقى هناك أشياء خاصّة أو دائرة معيَّنة تتعلَّق بالسامع نفسه، لا تحيط بها فتاوى المفتين، ولا يُستطاع ضبطها بدقّة، بل تُوكَل إلى ضمير المسلم وتقواه، ويكون كلّ مستمعٍ فيها فقيه نفسه ومفتيها، فهو أعرف بها من غيره؛ فإذا كان نوعٌ معيَّن من الغناء أو الموسيقى يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويسبح به في شطحات الخيال، ويطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحيّ، فعليه أن يتجنَّبه حينئذ، ويسدّ الباب الذي تهبّ منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخُلُقه، فيستريح ويريح.
كما إذا وجد من نفسه أنه يُؤْثر سماع الغناء والموسيقى على سماع القرآن وقراءته، ويرقّ قلبه عندهما ما لا يرقّ عند القرآن، حتى إذا تُلي عليه ولّى مستكبراً كأنْ لم يسمعه، كأنّ في أذنيه وقراً، فعليه حينئذ أن يتوقَّف عن سماع الغناء والمعازف؛ لأنها ـ والحالُ كذلك ـ عليه حرامٌ؛ وما حالُهُ هذا إلاّ تمكُّنُ هوىً باطنٍ وغلبةُ شيطان([32]). وعليه أن يُكثِر من سماع القرآن الكريم: مأدبة المؤمنين، وقرة عيون المتّقين، فهو خير السماع وأجلّه وأنفعه، والسعيد مَن وُفِّق إلى أكبر نصيب منه، يسمعه من غيره، ويُسمِعُه غيرَه، يتعلَّمه ويعلِّمه، يتدبَّره ويتدارسه.
رابع عشر: مسائل متعلِّقة بالغناء والموسيقى
المسألة الأولى: حكم الغناء الدينيّ
الغناء الدينيّ هو الغناء الذي يدور حول الدين، فالدين موضوعه، والدين هدفه؛ فهو يدور حول حبّ الله، وحبّ رسوله، وحبّ الصالحين، والتعلُّق بالدار الآخرة ونعيم الجنّة، والحديث عن المعاني الإيمانيّة والربانية التي جاء بها الدين.
فغايته إنشاد القصائد المرقِّقة للقلوب، فيؤثِّر ذلك فيها، ويحدو بها إلى الدار الآخرة، ويحلِّق بالنفوس في رياض الأنس بالله، من خلال التغنّي بجميل الأشعار المتضمِّنة لذكر الله تعالى، وشكره، واستغفاره والابتهال إليه، والصلاة على نبيه|، ومدحه|، أو الأسف على الماضي المُضَيَّع في غير طاعة الله، إلخ.
ومن خلال التوصيف السابق تتَّضح مشروعيّة هذا الغناء الدينيّ؛ فإذا ما اقترن هذا الإنشاد باللحن المؤثِّر والعزف المستعذَب، زاده ذلك حُسناً وبهاءً. فمَنْ استمع لذلك؛ لينشط النفس ويعينها على طاعة الله، ويبقيها في ذكره، ويعلِّقها بكتابه ودينه، ويبعد عنها وحشة الدنيا، ويربطها بالآخرة، ففعله هذا من الحقّ، وهو في ذلك محسنٌ، وسماع ذلك خيرٌ ولا شكّ من سماع قصائد العشق والغرام وألم الفراق لمحبوب وفوات وصله ـ على جواز ذلك ـ.
أمّا ذكر الله بألفاظ التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد وشبهها، على سبيل التعبُّد، مع التغني بذلك ـ كما نتغنّى بالقرآن والأذان ـ فهذا مشروعٌ وحسنٌ، لا وجه لإنكاره البتّة.
وإنّما تُنكَر صورته ـ أي إذا فُعِل على سبيل التعبُّد وبنيّته ـ إذا ضُمَّت إليه المعازف والملاهي، من ضرب الدفوف والطبول والأوتار، ونفخ المزامير،إلخ، كما يفعل أتباع الطرق الصوفية، فإنّ هذا بدعةٌ مذمومة مقيتة؛ لأنّ الله لم يشرع التعبُّد بالمعازف مطلقاً. ولو كان الأمر مشروعاً لَمَا أهمل المصطفى| فعله، ولأَمَرَ أتباعه بذلك. وهذا لم يحدث مطلقاً. فإيّاكَ أن تعتقد أن فعله قربةٌ؛ لأنّه تَقَرُّب إلى الله بما لم يشرِّعه، وما كان كذلك فهو البدعة عينها. ولله در القائل:
دفٌ ومزمارٌ ونغمةُ شادنٍ |
فمتى رأيتَ عبادةً بملاهي؟! |
فلو كانت المعازف ممّا يجوز التعبُّد به، وممّا يقرِّب إلى حضرة رب العالميّن، لبَيَّن النبيّ| ذلك لأمّته، ولأوضحه تمام الإيضاح.
العبادات توقيفية، لا تؤخذ إلاّ من الشارع نصّاً، ولا تجوز فيها الابتداعات والإضافات؛ إذ هي حقٌ لله تعالى وشيءٌ خاصّ به، ولا يمكن معرفةُ حقِّه ـ لا نوعاً ولا كمَّاً ولا كيفاً ولا زماناً ولا مكاناً ـ إلاّ من جهته سبحانه، فَلْيَأْتِ بها العبد على ما رسم له سيده ومولاه؛ أليست حقَّه؟! أم تريد أن تنازعه فيه ـ بالإضافة والحذف، والتعديل والتطوير ـ؟! ذلك هو الضلال البعيد! وخاب كلُّ جبارٍ عنيد!
فلنؤمِنْ بما قاله الشرع، ولنقِفْ عند الحدّ الذي حدَّه، ملتزمين به غير متذمِّرين، بل راضين مغتبطين، وعُقْبَى الكافرين النار!
ونحن ـ فوق ما تقدّم ـ نقطع بتحريم (سماع العبادة) ـ أي الذي يُفعَل من قِبَل بعض جهلة الصوفية على سبيل التعبُّد بعينه ـ؛ لِما قطع القرآن به من تحريم نظيره الجاهليّ، «المكاء والتصدية»، اللذَيْن جعلهما المشركون عبادةً يتقرَّبون بها إلى آلهتهم!([33]).
ويضرب ابن تيميّة مثلاً ليزيد إيضاح علّة تحريم (سماع التعبُّد)، فيقول: لو أن رجلاً يعدو بين جبلين، على سبيل التريُّض أو اللعب، لما كان في ذلك بأساً. أمّا إذا جعل ذلك عبادةً ـ كحال شعيرة السعي بين الصفا والمروة ـ كان ذلك حراماً. فالحرمة عرضت للعدو والسعي، لا لذاتهما، وإنّما بسبب جعل ذواتهما مما يُتعبَّد لله به؛ أي بسبب جعلهما من شعائر الدين([34]).
المسألة الثانية: حكم سماع غناء الأجنبي أو الأجنبية
أوّلاً: القول بأن صوت المرأة عورة لا يعدو كونه شائعةً مكذوبةً في ميدان العلم الدينيّ؛ إذ لا دليل عليه من أثر ولا نظر، بل الأدلّة متواترةٌ على إباحة سماع صوت المرأة دون تحرُّج([35]).
ثانياً: الأصل في صوت المرأة كالأصل في صوت الرجل؛ وهو جواز إرساله بأيّ كلام كان، سواءٌ كان تدريساً أو محاضرةً أو محاورةً أو محادثةً أو قراءة قرآنٍ أو غناءً، إلخ.
ثالثاً: لقد ثبت استماع الرجال لغناء الأجنبيّات عنهم بإقرارٍ مِن رسول الله|. انظر: الأثر المذكور تحت الدليل الرابع من أدلّة القرآن على الإباحة، وانظر أدلة السنّة على الإباحة (1، 2، 3، 4، 7، 13).
رابعاً: لقد ثبت استماع النساء لغناء الرجال الأجانب عنهنّ بإقرارٍ من رسول الله|. انظر الدليل رقم (11) من أدلة السنّة على الإباحة.
المسألة الثالثة: القول في عدالة المغنّي والمستمع إلى الغناء
بناءً على ما تقرَّر يقيناً لدينا في مسألة الغناء والمعازف من القول بإباحة ذلك تأصيلاً فإنّ فعل المباح أو الاستماع إليه لا يقدح في العدالة؛ إذ القادح في العدالة ـ كما يقول أستاذنا الجديع بحقٍّ ـ إنّما هو الفسق، ولا يَفسُق الإنسان بمجرَّد فعل المباح أبداً.
فإنْ ذهبت إلى القول بحرمة الغناء والمعازف فإنّ صحّة وقوع الخلاف ـ كما يقول أستاذنا الجديع بحقٍّ ـ اجتهاداً في حكم هذه المسألة ـ المحتملة للاجتهاد؛ إذ ليست من القواطع ـ يمنع من القدح في عدالة المخالف بمجرَّد فعله ذلك؛ لجواز أن يكون يرى خلاف رأيك ـ أي الإباحة ـ، وإنّما الفسق لازمٌ لمَنْ يفعل ما يراه حراماً.
والذي نراه ـ كما يقول الجديع بحقٍّ ـ منعُ الطعن على المخالف في ما يجوز فيه الاجتهاد مطلقاً؛ إذ لو صحَّحنا ذلك لأنفسنا جوَّزْنا لمخالفنا الحكم علينا بمثل ما حكمنا عليه، فإنّهم يدَّعون علينا الخطأ كما ندَّعيه عليهم.
المسألة الرابعة: حكم احتراف الغناء والموسيقى والتكسُّب من ذلك
أوّلاً: لقد وقع احتراف الغناء على عهد النبيّ|، مع إقراره| لذلك. راجع الأدلّة (1، 2، 3، 13) من أدلّة السنّة على الإباحة، وراجع تعليقنا عليها.
ثانياً: الغناء والعزف في أصلهما تصرُّفان مباحان ـ سواءٌ وقعا على سبيل الهواية أو الاحتراف ـ. وكما لا يمتنع الاحتراف بمباحٍ سواهما، فلا يمتنع الاحتراف والتكسُّب بهما؛ لأنّ ما كان مباحاً تعاطيه جاز أخذ الأجرة عليه.
وقد ادَّعى البعض عدم صحّة هذا القول ـ «ما كان مباحاً تعاطيه جاز أخذ الأجرة عليه» ـ مستدلاًّ بحديث: «لا سبق إلاّ في نصلٍ أو خفّ أو حافر»([36]). وقالوا: ها هي المسابقة قد أُجيزت مع منع أخذ العوض عليها، إلاّ في ما استُثني في هذا الحديث.
والجواب ـ كما يقول أستاذنا الجديع بحقٍّ ـ: إنّ جواز المسابقات مع منع أخذ العوض عليها إنّما كان ذلك لما يقع في هذه لمسابقات من المقامرة. وليس في احتراف الغناء والعزف والتكسُّب بهما شيء من ذلك.
ثالثاً: ادَّعى البعض أنّه لا يجوز احتراف الغناء؛ لأنّه أكلٌ لأموال الناس بالباطل.
فأقول:
1ـ هذا مردودٌ بما سبق في النقطتين السابقتين: (أوّلاً؛ وثانياً).
2ـ التحقيق أنّ العوض يكون مقابل المنفعة، والمنفعة بالمباح حاصلة، والغناء والعزف إذا قُصِد به معنى صحيح مباح، كدفع السآمة، وتنشيط النفس، فضلاً عن إعلان النكاح، وإظهار السرور في أيام الأعياد، إلخ، فهذه كلّها مقاصد معتبرة، فيسقط عنه بذلك وصف الباطل.
ثم إنّ أكل أموال الناس بالباطل المقصود به أكله بالحرام، وليس الغناء والعزف ـ بمجرّدهما ـ كذلك.
ثم إنّ كثيراً من أبواب اللهو والترويح المأذون بها ممّا أصله جارٍ على الإباحة، كالتنزُّه في الحدائق وعلى الشواطئ، والتفرُّج على اللعب، والسبق بالخيل، والتمثيل، إلخ، قد لا يتهيّأ إلاّ ببذل مالٍ يتحقَّق لهم به أنس وابتهاج مشروعَيْن، وهذه منفعةٌ يزول معها ـ عن تلك الأفعال ـ وصفُ الباطل. وما الغناء والعزف إلاّ من هذه البابة.
خلاصة البحث
1ـ لا يوجد نصٌّ في القرآن الكريم يشير إلى تحريم الغناء والموسيقى، بل فيه ما يفيد الحلّ.
2ـ لا يوجد نصٌّ ثابتٌ عن رسول الله| في تحريم الغناء والموسيقى، بل ثبت عنه| ما يفيد الإباحة والحلّ يقيناً ـ في ما انتهى إليه اجتهادنا ـ.
3ـ الأصل في الغناء والموسيقى الإباحة والحلّ؛ إذ لا يعدوان كونهما من الأصوات، والأصل في الأصوات الحلّ، أداءً واستماعاً، والصوت الحسن بالنظر إليه ـ في ذاته ـ نعمةٌ.
4ـ يجوز الغناء والعزف للرجل والمرأة.
5ـ لا حرج في سماع النساء لغناء وعزف الرجال الأجانب عنهنّ، كما لا حرج في سماع الرجال لغناء وعزف النساء الأجنبيّات عنهم.
6ـ لا حرج في احتراف الغناء والموسيقى واتّخاذهما مهنةً للتكسُّب منها.
7ـ احتراف الغناء والموسيقى أو استماعهما أو هوايتهما ليس بمجرّده سبباً للطعن في عدالة فاعله؛ إذ القادح إنّما هو الفسق، ولا يَفسُق الإنسان بمجرّد فعل المباح أبداً.
8ـ سماع الأغاني الدينيّة ـ مقترنةً بالموسيقى وغير مقترنة ـ أمرٌ مباح جائز لا حرج فيه.
أمّا التعبُّد لله وذكره بألفاظ التسبيح والتمجيد والتكبير وما شابه ذلك، مع التغنّي بذلك، فذلك أمرٌ مباحٌ جائز لا حرج فيه، كالتواشيح التي نستمع إليها من إذاعة القرآن الكريم.
وإنّما يحرُم إذا ضُمَّت إليه ـ على وجه التعبُّد أو بنيّته ـ المعازف والملاهي؛ لأن الموسيقى ليست ممّا يُتعبَّد لله به. ومَنْ فعل ذلك فهو مسيءٌ؛ لأنّه قد ارتكب محرَّماً؛ لابتداعه في دين الله، كما يفعل أتباع الطرق الصوفيّة في حلقاتهم المسمّاة بحلقات الذكر.
9ـ يحرم استماع الغناء والموسيقى إذا استخدمتا كوسيلة للمعصية، أو للحضّ على الحرام، أو إذا اقترنتا بشيءٍ محرَّم.
وعليه، إذا كان الغناء والعزف يحمل إلينا ألحاناً جميلة، وأنغاماً راقية شجية، وكلمات مهذبة، وأصواتاً نقية، فذلك لا يرفضه الإسلام، بل يحضّ عليه، طالما كان في إطار المبدأ الأخلاقيّ؛ أي طالما كان الهدف هو السموّ بالإنسان ومشاعره وأحاسيسه ووجدانه، ودفع السآمة والملل، والخروج عن ثِقَل المداومة على الجدّ.
الهوامش:
(*) أستاذٌ وباحثٌ في علوم الشريعة الإسلاميّة، ومتخصِّصٌ في الدراسات الفقهيّة، له عدّة مؤلَّفات، من مصر.
([1]) أثرٌ صحيح. أخرجه الطبري في تفسيره 28: 105، عن جابر، به. وسنده صحيحٌ.
([2]) أقصى ما يدلّ عليه هذا اللفظ أنّهما غير محترفتين؛ أي ليستا من القيان اللاتي يتكسَّبن بالغناء. وهذا لا يمنع كونهما جاريتين معروفتين بالغناء؛ كما يدلّ عليه لفظ (قينتان)؛ فالقينة هي المرأة (أو الأَمَة) المغنّية.
([3]) أخرجه البخاري (987، 3529، 3931)؛ ومسلم (892)؛ وابن حبان (5871، 5877).
([4]) لقد ادَّعى البعض أنّ عائشة كانت صغيرة دون البلوغ. وهذا خطأ؛ لأنّ قدوم الحبشة ـ وقد ذُكر هذا في متن الحديث، ولكنَّنا لم نذكره خشية الإطالة؛ فانظره في البخاري ومسلم ـ كان سنة 7هـ، ولعائشة يومئذ (16) سنة؛ فهي إذاً كبيرة شابّة بالغة. (انظر: فتح الباري لابن حجر 9: 336 ـ 337).
([5]) فضلاً عمّا أفاده هذا الحديث من فوائد أخرى، مثل: إفادته وجود القيان المغنّيات في عصر النبوة، بل وإقرار النبي| لذلك. وإفادته إباحة غناء وعزف المرأة بحضرة الرجال الأجانب.
وقد ادَّعى بعض المحرِّمين أنّ الجاريتين كانتا صغيرتين. فأقول: هذا باطلٌ لأربعة أمور:
الأوّل: إنه لا يوجد في نصّ الحديث ما يدلّ على ذلك مطلقاً.
الثاني: لقد جاء وصفهما بـ «القينتان»، والقينة لفظ لا يُطلَق إلاّ على المرأة الشابة المحسِنة للغناء والمجيدة له.
الثالث: إنّ غضب أبي بكر وانتهاره لهما، وقوله ما قال ـ كما جاء في روايات صحيحة كثيرة ـ، يدلّ على أنهما لم تكونا صغيرتين؛ لأنّه لو صحّ ذلك لما استحقا كلّ هذا الغضب والإنكار من الصديق أبي بكر؛ فالجارية غير البالغ لا تُؤاخَذ؛ لأنّها غير مكلَّفة.
الرابع: هناك احتمالٌ وارد ـ بل وقويّ ـ وهو أن تكون هاتين الجاريتين من قرينات السيدة عائشة1، وسنّها يومئذٍ (16) سنة؛ إذاً فهنّ جميعاً شابّات بالغات كبيرات عاقلات مدركات مكلَّفات.
([10]) حديث صحيحٌ. أخرجه النسائي (2873، 2893)؛ والترمذي (2851).
([11]) قد سبق وأجبنا عن نسبة الغناء والمعازف إلى الشيطان، وبيَّنّا علّة إضافتهما إليه، فانظره في تعليقنا رقم (6) على حديث الجاريتين.
وهاهنا كتب أستاذنا وشيخنا الجليل د. محمد عمارة تعليقاً قيِّماً على هذا الموضع من كلامي، في نسخته الخاصّة من بحثي هذا: إضافةً إلى ما في التعليق رقم 6 يمكن القول بأنّ عبارة رسول الله|: «قد نفخ الشيطان في منخريها» كنايةٌ عن الإعجاب بالمستوى غير العاديّ الذي قدَّمته هذه القينة؛ فمن عادة العرب أن تنسب إبداع المبدعين إلى الشيطان؛ تعظيماً لذلك وإعجاباً به، كقولهم مثلاً: غلبه شيطان الشعر. وكتسميتهم للشخص الفذّ بالعبقري؛ نسبةً إلى وادي عبقر الذي كانوا يعتقدون أنّه مأوى للجنّ ودار لهم، انتهى.
([12]) حديث صحيحٌ. أخرجه أحمد (3: 449)؛ والنسائي في عشرة النساء (رقم 74). وسنده صحيح جدّاً، كأنه الدرّ المشبَّك بالذهب!
([13]) حديث صحيحٌ. أخرجه الفاكهي في أخبار مكّة (رقم 1740)، فقال: حدّثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة (وهو عبد الله بن أحمد بن زكريا بن الحارث بن أبي ميسرة المكي): حدّثنا أحمد بن محمد (وهو الوليد بن عقبة): حدّثنا عبد الجبار بن الورد: سمعتُ ابن أبي مليكة يقول: قالت عائشة:…، به. وسنده صحيحٌ. وإنّما نقلت الحديث بكامل إسناده؛ لعزّته.
([14]) فقد جاء في الحديث: «فلمّا استأذن عمر ألقت المغنّية ما كان في يدها»؛ وهذا يدلّ على أنّه كان معها شيء تعزف عليه وتضرب به لتُحدِثَ نغماً وطرباً، سيما وقد وُصفت في الحديث بأنها «امرأة كانت تغني»، وبـ «المغنية»، وبـ «القينة»، ومَنْ كان كذلك تهيّأ له أن يعزف على شيء؛ ليأتي بنغم متناسب مع غنائه.
([15]) حديث حسنٌ. أخرجه أحمد (21911) ـ والسياق له ـ من طريق زيد بن الحباب؛ والبيهقي (10: 77) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، كلاهما عن الحسين بن واقد، به.
وأخرجه أحمد أيضاً (21933)؛ وابن حبان (4386)، من طريق أبي تميلة يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، به (ولكنْ بدون: فدخل أبو بكر…إلى آخر الحديث).
وابن شقيق وابن الحبّاب أوثق من ابن واضح؛ فروايتهما أصحّ وأرجح.
وأسانيد الجميع حسنةٌ؛ لأجل الحسين بن واقد؛ فهو صدوقٌ حسن الحديث.
وأخرجه الترمذي (3691) بنحوه، وسنده ضعيف؛ لأجل علي بن الحسين بن واقد.
([16]) أخرجه البخاري (6696، 6700)؛ وأبو داوود (3289).
([17]) أخرجه مسلم (1641)؛ والنسائي (3812).
([18]) أخرجه البخاري (4001، 5147)؛ وأبو داوود (4922)؛ والترمذي (1090)؛ وابن ماجة (1897).
([19]) راجع في ذلك ما قلناه في (ثالثاً: تعريف المعازف). كما أنّه قد ثبت في بعض الأحاديث ذكر آلات أخرى غير الدفّ؛ راجع الحديث المذكور تحت الدليل الرابع من أدلّة القرآن على الإباحة، ففيه ذكر الكبر والمزامير، وكذلك الدليل الخامس من أدلّة السنّة على الإباحة، ففيه ذكر الدفوف والمزامير.
([20]) حديث حسنٌ. أخرجه أحمد (15451)؛ والترمذي (1088)؛ والنسائي (3369)؛ وابن ماجة (1896)؛ والبيهقي (7: 289)، كلهم عن هشيم بن بشير: أخبرنا أبو بلج (يحيى بن سليم)، عن محمد بن حاطب، به. وسنده حسنٌ.
([21]) لأنّ كلمة (صوت) تشمل الغناء والمعازف بأنواعها؛ إذ الغناء ما هو إلاّ صوت إنسان..، والعزف ما هو إلاّ صوت آلة..، والكلُّ داخلٌ تحت مدلول كلمة (صوت).
([22]) أخرجه البخاري (5162)؛ والحاكم (2749)؛ والبيهقي (7: 288).
([23]) انظر: المعجم الوسيط 2: 876.
([24]) مستفاد ـ بتصرُّف قليل ـ من كلمة شهيرة لابن القيِّم في كتابه إعلام الموقعين.
([25]) حديث صحيحٌ. أخرجه الطيالسي (2048)؛ وأحمد (3: 254، 285)؛ وعبد بن حميد (1343)، كلّهم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به. وسنده في غاية الصحّة والقوة.
وأخرجه البخاري (6209)؛ ومسلم (2323)، من طرق أخرى، عن أنس، بنحوه.
([26]) أخرجه البخاري (4196)؛ ومسلم (1802).
([27]) أخرجه البخاري (2375)؛ ومسلم (1979)؛ وأبو داوود (2986).
([28]) وقد سبق بيان ضعف كلّ ما استدلّوا به روايةً ودرايةً، بل وسبق بيان عدد من الأدلّة الصحيحة والصريحة في الإباحة والحلّ.
([29]) ولذلك كره النبيّ| سماع زمارة الراعي، فأعرض عنها. راجع مناقشتنا لهذا الأمر تحت (الدليل الرابع) من أدلّة السنّة ـ التي يستند إليها المحرِّمون ـ على تحريم السماع.
([30]) وذلك مثل الأثر المذكور تحت (الدليل الرابع) من أدلّتنا من القرآن على إباحة الغناء والمعازف. وانظر هناك تعليقنا على ذلك الأثر.
([31]) مستفاد ـ بتصرُّف كثير ـ من إحياء أبي حامد الغزالي، وفتوى علي الطنطاوي ـ التي سننشر جزءاً من نصّها ملحقاً بآخر دراستنا هذه؛ لعرضها الجيّد المركز للقضيّة ـ المتعلِّقة بالغناء والموسيقى، وفتوى شلتوت في ذات الأمر، وكتب القرضاوي وسالم علي الثقفي والجديع وعمارة، المتعلِّقة بالغناء والموسيقى.
([32]) والهوى والشيطان (نعوذ بالله منهما) قد يتمكَّنان من الإنسان في أيّ موقف من مواقف حياته؛ فليسا بـ (الوكيل المُعتَمَد) للغناء والمعازف ـ كما يحلو للمحرِّمين أن يصوِّروا للناس ـ!
([33]) راجع لزاماً مناقشتنا للدليل القرآنيّ السادس ـ آية رقم 35 من سورة الأنفال ـ الذي احتجّ به المحرِّمون للغناء والموسيقى.
([34]) مجموع الفتاوى لابن تيمية 11: 333.
([35]) ولا يتَّسع المقام لاستقصاء هذا الأمر.
([36]) أخرجه أحمد (10138)؛ وأبو داوود (2574)؛ والترمذي (1700)؛ والنسائي (3585).