تمهيد
يرتكز نمو الفكر الإنساني وتطوره على المداميك النقدية التي تساهم في التدقيق في المقولات والأفكار وصولا إلى ترسيخها وتعميدها، ثم تجيء في مرحلة لاحقة الدراسات التاريخية التحليلية لرصد تلك الأفكار وتحليلها من جميع جوانبها المحيطة للوصول إلى فهم أعمق لمناشئها ومدياتها.
ومن هنا جاء كتاب “نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي، التكون والصيرورة” للشيخ حيدر حب الله ليدرس نظرية السنة المحكية دراسة تاريخية متتبعا مفرداتها ومحللا محطاتها، وقد أثارت هذه الدراسة نقدا من قبل الشيخ عبد الجليل البن سعد في كتابه ” جواهر الكلم” وقد ناقشنا رأيه في مقالة سابقة، وبعدها طالعتنا مقالة نقدية حاولت تثبيت إدانة “نظرية السنة” للشيخ حب الله كان عنوانها: “مناقشة لمقالة التحليل التاريخي لـ(أحمد حسين) حول نظريتي الشيخ حب الله والبن سعد” لجواد علي، ونحن بدورنا نتناول أضلاعها بالمناقشة والنقد.
رفض أصل التحليل التاريخي عند البن سعد، تحقيق وتحليل في كلماته
استنكر الناقد ما استظهرناه من كلمات الشيخ البن سعد في إنكاره لأصل التحليل التاريخي واصفا كلام البن سعد بأنه كان يتحدث عن الخطأ في تطبيق منهج التحليل التاريخي ويأتي بنماذج لهذه المحاولات الخاطئة -بنظره-، وليس في كلامه ما يشير إلى دعوانا.
ولكن يمكن مقاربة ما ادعيناه في قول الشيخ البن سعد: “ولكن بدلا من أن يقف بالقارئ على حججه ويحاكمها كما هي نراه يتمسك بالجانب النفسي والظرفي الخارجي للكاتب، فيقول هذا من سيرته في مناوأة تراث التيار الآخر كذا وكذا من أجل أن يعزز احتمال كون هذه الآراء وليدة التعصب، وهكذا يضع القارئ أمام البؤس والشك!”
إن هذا المقطع من كلامه مطلق في جعل الشك والبؤس حكما إنكاريا لاستعمال التحليل النفسي والظرفي، كما لا يحصل عندنا شك في انعقاد الإطلاق لنتحول إلى القدر المتيقن من كلامه؛ إذ كان سياق كلامه استنكاريا جدا في نقد الأعمال العلمية التي سمى بعض أصحابها ب”الجيل الجديد” حيث قسمهم إلى أصحاب إثارة الشبهات وإلى متطرفين وجعل كتاب “نظرية السنة” بتحليلاته مصداقا للتقسيم!! (انظر: جواهر الكلم:ص47-46-45)
وقد يقال: إن البن سعد قد طالب كتاب “نظرية السنة” بمحاكمة الأدلة فيكون هذا قرينة تشكك في انعقاد الإطلاق، فالجواب أن هذا الكتاب مختص بالدرس التاريخي لا شأن له بدراسة الأدلة معياريا، فلهذا وذاك استظهرنا الإطلاق.
إلا أننا نأمل أن نكون قد أخطأنا الفهم وأن واقع رأي الشيخ البن سعد هو ما حاول الناقد إثباته.
جذور التحليل التاريخي في علم الأصول، استكشاف عناصر التحليل
رأى الناقد في بيان تجذر التحليل التاريخي في علم الأصول بحيث صار أصلا موضوعا ومسلمة بحثية أنه التباس وخلط لا يرتبط بالمقام؛ حيث إن القطع والظهور الذاتيين والموضوعيين مبحث إبستمولوجي معرفي لا شأن له بمحل كلامنا.
ولكن عند تشريح منهج التحليل التاريخي يبرز أن عنصري الذاتية والموضوعية أحد مقوماته وعناصره؛ فالتحليل التاريخي أعم مطلقا -بالتعبير المنطقي- من الذاتية والموضوعية؛ فيصح التعبير بالعام -التحليل- ويساق لأجله أحد أهم ركائزه -والتي هي بالحقيقة محل النزاع- وهما: الذاتية والموضوعية، فالمحلل التاريخي إذا أراد أن يدرس المناشئ النفسية والاجتماعية لتكوّن رأي الفقيه مثلا إذا كانت هناك وثائق مساعدة، فإنه ينطلق في شرعية تحليله من مبدأ الذاتية الذي وقع مسلمة بحثية في علم الأصول .
ولكن في الوقت ذاته لم نرَ تعليقا للناقد على تلك الشواهد الجريئة للفقهاء التي ترفع الغربة عن تحليلات الشيخ حيدر حب الله !!
شرعية مبدأ التحليل وهاجس الذرائع، حفظ المبدأ وبراءة المحلِّل
سجّل الناقد فيما ينقده ملاحظة على ممارسة التحليل التاريخي منهجا ذا مديات سلبية في بعضها؛ حيث لاحظ أن سلوك المنهج التحليلي الذي يؤدي إلى التسقيط يجب أن يحظر وتمنع ممارسته.
ولكن هذا الإشكال شبيه بفكرة سد الذرائع -التي تعني منع المقدمات التي يظن معها إلى مآلات محرمة وممنوعة-، فإذا قبلنا بمبدأ التحليل وشرعيته فإن الباحث لا يتحمل تصورات القارئ السلبية المحملة بذهنية الإلغاء والتسقيط، بل ذات القارئ قد وقع في مصيدة الذاتية، فعليه أن يقدّر الأمر بقدره ويضع المنهج التحليلي في سياقه الطبيعي في دائرة البحث التاريخي الصرف ما عدا ما له علاقة إنتاجية بالعمليات المعيارية الاستنباطية.
وفي إشكال آخر يحاول فيه أن ينقض كلامي بكلامي، إذ قلت: “لكن أي مانع أن نقول بأن المحدث البحراني رفض الفكرة الفلانية وكانت أحد عوامل رفضه هو قلقه من تلاشي المذهب أو خوفه من نفوذ الفكر السني في المذهب؟!” إن الناقد يرى أن هذا عين ما ينقده الشيخ البن سعد، حيث لا تعتضد بعض تحليلات الشيخ حيدر حب الله على وثائق ومستندات تبرر ممارسة التحليل.
ولكن الجواب أن هذه العبارة تختزن مقدمة مطوية مرتكزة في النص ويكشف عنها السياق وهي تقع شرطا لإجراء التحليل التاريخي وهذه المقدمة هي وجود الوثائق والقرائن الداعمة للتحليل، وهذا ما انضبط تحته الشيخ حب الله -خلافا لما يصادره الناقد- بل قد رفض بعض تحليلات الباحثين والعلماء؛ لافتقادها إلى هذا الشرط (انظر مثلا: نظرية السنة:235-234)
استخدام الشيخ البن سعد للتحليل، مفارقة مثيرة
ومن المفارفة الطريفة التي وقعت عليها مؤخرا أن الشيخ البن سعد مارس تحليلا على الشيخ حب الله بقوله: “لأنه وفي كتاباته الأخيرة صار يبدي تقربا من التراث ويكتفي بالملاحظات الفنية متلمسا الحجة والعذر لما سبقه من المدارس الشيء الذي يشي ببعض التحول في مساره الفكري ولو على المستوى التكتيكي” (هامش 8 في حواره في منتدى السهلة على موقعه الشخصي)
إننا نطالب الشيخ البن سعد بأن يطالعنا بوثائق وقرائن تفيد هذا التحليل، بل نريد تفسير دعواه بأن الشيخ حب الله يمارس انسحابا تكتيكيا!! إن هذه الدعوى مثيرة وتحتاج بالتأكيد إلى مقارنة فاحصة بين مؤلفاته لنستكشف مساره الحقيقي.
إنني أعتقد أن الشيخ حب الله يلاحق الحقيقة أينما كانت ولا يستنكف من أيٍّ جاءت ويتساوى عنده الجميع، وهذا ظاهر في مؤلفاته: فكما يقبل بفكرة من هذا الفريق أو هذا التيار أو ذاك المذهب كذلك يقبل من ذاك الفريق أو ذاك التيار أو ذاك المذهب ويرفض في أمر آخر كلا الفكرتين ويخرج بنتيجة متمايزة عنهم.
إن شهادتي هذه لا تعني أني أسلك معه في كل آرائه، بل لي ملاحظات نقدية على بعض الآراء لا تخرجه عن كونه عالما رائدا، فالبحث العلمي ذو مسطرة واحدة.
نماذج إدانة “نظرية السنة”، فحص وتحقيق
استعرض الناقد بعض النماذج التي -برأيه- تكشف عن تحليلات جزافية مارسها الشيخ حب الله في كتابه “نظرية السنة” :
1-وكان نموذجه الأول مفاده أن نظرية الشهرة تكتنف هيبة في نفس الفقيه تمنعه عن مخالفتها، فإذا سقطت استطاع الفقيه أن يتحرر باتجاه آراء جديدة. (نظرية السنة:205)
واعتبر الناقد أن هذا تحليل نفسي تعوزه الشواهد.
ولكن هذا النقد واضح البطلان، فحجية نظرية الشهرة بنفسها تخلق منجزية بل هاجسا عن مخالفة الأصحاب، أليس الكثير من الفقهاء يحتاطون وجوبا في كثير من فتاواهم في الرسائل العملية على خلاف آرائهم احتراما للمشهور رغم أنهم لا يرون حجية هذه النظرية كالسيد الخوئي، بل أحيانا يصرحون بهذا الهاجس ويمتنعون عن تصويب الرأي المخالف للمشهور بحجة أنه يلزم منه تأسيس فقه جديد كما حصل مع المحقق النائيني في بحثه حول شمول قاعدة لا ضرر للأحكام العدمية، فإنه أحجم عن الأخذ بذلك بقوله : “ويلزم عدم كون (الطلاق بيد من أخذ بالساق) لكونه أحياناً ضرراً على الزوجة، فيتولاّه الحاكم… وهكذا، وهذا يستلزم تأسيس فقه جديد” (رسالة لا ضرر:221)
وقد علق على كلامه الشيخ باقر الإيرواني قائلا : “إن ما ذكره ليس إلا مجرد شعار وإعلام” (دروس تمهيدية في القواعد الفقهية ج1،ص146)
وبقطع النظر عن ذلك فإن سقوط حجية الشهرة بمثابة سقوط العلة المانعة عن الأخذ برأي آخر، فهذا هو ما استند عليه الشيخ حب الله في تحليله لمخالفة المحقق الأردبيلي للمشهور قبل بضعة سطور مما نقله الناقد.
وأيضا فإن هذا التحليل يماثل تحليل الشهيد السيد محمد باقر الصدر لنشوء الإجماع والشهرة الذي نقلناه في المقالة السابقة، أليس حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد؟! فالقول في الشيخ حب الله كالقول في الشهيد الصدر فهل سيتمكّن الشيخ البن سعد من أن يصرّح بإدانة السيد الصدر في تحليله لنظريّة السيرة والاجماع والشهرة؟!.
2-وأما النموذج الثاني فهو قول الشيخ حب الله: “ومن الممكن أن يكون التفوق الذي جاء مع عصر الجايتو خدابنده عصر العلامة دورا في خلق إحساس الأمان عن الشيعة من فتح علاقة ثابتة ومتينة ونقدية من الطرفين” (نظرية السنة:229) وقد ذهب الناقد إلى أنه تحليل لا يستند على وثائق أو قرائن.
ولكن جوابه واضح إذا وقفنا على تاريخ ومصنفات العلامة الحلي نفسه، حيث إن اسمه ارتبط بالحادثة المشهورة جدا في كونه سببا لتشيع السلطان خدابنده واتخاذ الدولة الإلخانية -على إثر ذلك- التشيع مذهبا رسميا، بل الأوضح منه أن العلامة قد حظي برعاية السلطان في تأسيس المدرسة السيّارة التي تتنقل مع خدابنده في رحلاته، والأكثر من ذلك أنه ألّف بعض المصنفات لأجل السلطان خدابنده كالكتاب الشهير منهاج الكرامة في إثبات الإمامة وكتاب نهج الحق وكشف الصدق ورسالة استقصاء البحث والنظر في القضاء والقدر ورسالته في جواب السلطان محمد خدابنده عن حكمة النسخ في الأحكام الشرعية.
كل هذا يشير بوضوح إلى مقدار الأمان والاطمئنان الذي أتاح للعلامة الحلي أن يعمل ويصنف وينقد بدون أن يعاني أو يخاف من بطش السلطات الحاكمة.
إن هذا الأمر واضح لمن يطالع تاريخ العلامة الحلي ويقرأ بعض مقدمات كتبه، ولأجل ذلك أعتقد أن الشيخ حب الله لم يقف طويلا لتبيين هذا الأمر.
والأهم أنّ عبارة الشيخ حب الله أعلاه تفيد الإمكان ولا تفيد الجزم فهل إثارة الاحتمال شيء مرفوض أيضاً ما دامت له مبرراته؟!
3- وأما النموذج الثالث: “من هنا اعتقد الأخباري بلا جدوائية العقل؛ لأن العقل هو مفتاح التواصل مع الإخر أيضا” والنموذج الرابع: “وهكذا نحّى الأخباري القرآن لأنها لا تبدي الخصوصية عند الآخر مادام القرآن هو القاسم المشترك” والنموذج الخامس: “كما اعتقد بقطعية الكتب الأربعة ويقينيتها لأن حال رواياتنا غير حال روايات السنة”
فهذه النماذج جميعا من مقطع واحد أتى بها الشيخ حب الله كنتائج لما أحال إليه عند الدخول في الدراسة التفصيلية للحركة الأخبارية، حيث قال في المقطع الذي قبل ما نقل عنه الناقد : “وهذا ما يفسر -كما سنلاحظ مفردات ذلك- ذلك الانبعاث للخصوصية الشيعية في العقل الأخباري.. مقولات لطالما نطق بها العقل الأخباري الذي شكل ركن هذه الصيحة، وهي كلمات سنلمسها على الدوام في طيات مباحثنا القادمة”. (انظر: نظرية السنة:230)
4- وأخيرا النموذج السادس الذي جاء به من كتاب آخر للشيخ حب الله والذي ساقه الناقد رغم أنه ليس من كتاب “نظرية السنة” لأجل التأكيد على معاناة الشيخ حب الله لمشكلة التحليل الجزافي، ومختصر تحليل الشيخ أن القبول بالإجماع دليلا يسبب مشكلة نفسية في الحفاظ على الإجماع، فيورد الفقيه تشكيكات صغيرة على الأدلة بغية إرباكها. (علم الكلام المعاصر: 67)
والجواب هو أن الإجماع دليل وجداني -بحسب اصطلاح السيد الشهيد الصدر- أي: يقيني، فلا تعارضه الأدلة الظنية، فمن يعتد بالإجماع يحاول مهما استطاع أن يورد الاحتمالات على الأدلة تلك؛ لتحصين دليله الإجماعي، هذا مضافا إلى زخم الحالة النفسية تجاه الإجماع ومخالفة الجمهور -ومخالفة الجمهور يسبب قلقا نفسيا كما هو واضح جدا- وقد حلل السيد الشهيد الصدر نشوء الإجماع ودوره في تسكين قلق الفقيه، قد نقلناه عنه في المقالة السابقة.
كلمة أخيرة
إنّني أعتقد أنّ النقطة المركزيّة التي أختلف فيها مع الشيخ البن سعد ومع الكاتب جواد علي هي في أنّ طبيعة التحليل التاريخي والسياقي للفكر والمعرفة يقوم على إثارة الاحتمالات والفرضيات وترجيح بعضها على بعض، وهذا ما يثري تصوّرات الباحثين عن السياقات التاريخية للمعرفة البشرية، وأمّا الحديث عن مشهد البؤس فأعتقد أنّه حكم على المحلّل التاريخي من خلال الآثار النفسية التي عصفت بالقارئ، مع أنّ القارئ هو الذي يجب عليه أن يعرف أنّ التحليل التاريخي ليس حكماً معياريّاً على الأفكار؛ لأنّ الأشخاص الذين أتوا بهذه الأفكار لأسباب تاريخية مهما كانت منطلقاتهم فلن تلغي هذه المنطلقات مصداقية الفكرة نفسها إذا كانت مشفوعة بدليل، والعكس صحيح فالفكرة إذا لم تكن مرفقة بدليل فلن تكون لها قيمة حتى لو لم نقدّم في سبب ظهورها تحليلاً تاريخياً أو نفسيّاً.