د. السيد محمد الثقفي(*)
الإحساس بالحرّية ـــــــ
بما أنّ الحرّية جزء من ذات الإنسان وجوهرة وجوده فإنّ أيّ تعريف لها ينبغي أن يشتمل على تشخيص لوجودها، ويجب أن يشعر الإنسان بالحرّية في كلّ وجوده. ففي البداية يشعر بها ويدركها في داخله، وبعد ذلك يبحث ويسعى إلى تحقيقها عمليّاً في المجتمع.
لعلّ أفضل تفسير وتبيين عُرِض في معرفة الحرّية هو التمثيل الجميل لنقولا حدّاد ـ أحد أساتذة جامعة القاهرة ـ، فهو يذكر في كتابه «الديمقراطيّة، مسيرها ومصيرها» ما معناه: لا يدرك الحيوان الوحشي ـ الذي يعيش في الغابة ـ بأنّه حرٌّ مطلقاً؛ لأنّه يشعر بأنّ هناك موانع تمنعه من الحرّية، كالصيّادين.
لكنّ الذئب المسكين يشعر دائماً بأنّ حرّيته محدودة؛ لأنّ في قِباله الأسد الجارح، ودائماً يظهر الجدال والمنافسة والصراع من أجل الفريسة بين الأسد والذئب.
فالذئب يلمس هذه المحدوديّة، ودليل إدراكه هو الخوف. إذاً الأسد يَحُدّ من حرّية الذئب.
كذلك هو الإنسان البدائي الذي يعيش وحده في أقاصي الأرض أو في الغابات أو الكهوف لا يشعر بالحرّية ولا يفهم معناها؛ لأنّه لم يحتكّ في محيطه بأشخاص يقيّدون حرّيته، أو يمنعون وصول رزقه إليه، أو يزاحمونه في صيده، أو يأخذون صيده من يده.
فهذا الإنسان البدائي ـ كالأسد الجارح ـ لديه حرّية مطلقة، ولا يوجد شيء يمكن أن يحدّ من حرّيته إلاّ الطبيعة، كالجبال، والبحار، والأنهار، والصحاري، والحرارة، والجفاف، و…
أمّا عندما تجتمع مجموعة في محيط معيّن يريدون العيش بهدوء وراحة وسكينة فإن حرّيتهم تتحدّد شيئاً فشيئاً، فالفرد القوي في ذلك المحيط يقضي على الضعفاء، ويُطلق لنفسه العنان، ويسيطر على المحيط، ويصبح هو فوق الكلّ، وبلا محدوديّة، يعيش في انفراد وانزواء.
إنّ الفرد القوي لا يستطيع أن يُخرج الآخرين من محيطه لسببين:
1ـ ظهور المنافسة والعداوة فيما بينهم، وبالنتيجة يسلب منهم حلاوة الحياة.
2ـ أنّ هؤلاء يبدأون بالعيش سويّة، وبصورة متعاونة، وبالنتيجة يحدّون من حرّيتهم، مع أنّهم لا ينطقون بتلك المحدودية.
ومن أجل البحث أكثر نفرض هذا الفرض:
لو أنّ المجموعة المذكورة آنفاً قسّمت بقعة الأرض التي تعيش عليها فيما بينها فمن الطبيعي أن تكون حرّية كلّ فرد ضمن حدود منطقته التي رُسمت له، فتكون حدود حرّيته هي حدود منطقته. فإذا تعدى أحدهم على حدود منطقة غيره، أو استثمر تلك المنطقة، فإن ذلك يعني أنّه قد تعدى على حرّية الآخر، وإذا لم يستطع صاحب الأرض منع المعتدي، بل كان مجبوراً على التسليم والخضوع له، ورضي بغصب حقه من الحرّية، أو توافق مع المعتدي، فإن المعتدي يسيطر أكثر على حرّية غيره؛ لأنّه يتمتّع بحرّيته وحرّية غيره. ومن الممكن أن نطلق على الحرّية في الفرض الثاني بأنّها تعاون أو توافق مشروع، وليس تعدّياً عل حرّية الغير؛ بدليل أنّ المفهوم في الفرض الثاني يُعتبر من المسلَّمات، وهو: لا مانع من التمتّع بالحقّ في الحرّية أكثر، والاستفادة منه من أجل كسب القدرة والقوّة. لذلك فإنّ الحقّ الكثير في الحرّية مقابل زيادة في القدرة، أو أن أولئك لا يعرفون الحقّ أساساً إلاّ بالقدرة فقط.
فعلى سبيل الفرض لو أنّ الفرد القويّ في المجموعة تصدّى لقيادتها، وتسلّط عليها، وفي نفس الوقت حقّق العدالة، والأمن، والرخاء، ففي النتيجة حدود حرّية ذلك الشخص تزداد بقدر ما ينقص من حدود حرّية أفراد تلك المجموعة. ولا شكّ أنّ حرّية الشخص المتسلّط تزداد على حساب حرّية المجموعة؛ لأنّ من الطبيعي أنه كلّما ازدادت حدود الحرّية فهي تسلب من حقّ حرّية الآخرين.
هنا يصبح الضغط على حياة المجموعة في ظلّ اتّساع حرّية المتسلّط، وهذا هو الذي يُطلق عليه الاستبداد([1]).
ومن هذا المثال الواضح نستنتج أنّ البشر، بل حتّى الحيوان الوحشي، عندما يصطدم بمانع فهو يقرّ ويعترف بذلك الواقع، وهذا الواقع هو الذي يُعرف بالحرّية. فالإنسان ينبغي أن يعرف ويدرك وجوده، فوجوده هو جوهرته الذاتيّة، وعليه أن يفهم في مسيرة حياته ما سيلاقيه من موانع، أو يفهم ما هي أهدافه وميوله التي عليه أن يحقّقها. ينبغي أن يكون تحقيقها على مرحلتين:
1ـ رفع الموانع عن الطريق.
2ـ تشخيص الميول والأهداف، وكيفيّة تحقيقها.
تعريف الحرّية ـــــــ
إنّ أغلب الذين عرّفوا الحرّية وصفوها بعدم وجود المانع. وأكثر الفلاسفة من العصر الحالي قبلوا بهذا التعريف، من هابز إلى منتسكيو وهارولدلاسكي الفيلسوف الإنجليزي.
يقول توماس هابز ـ أحد فلاسفة القرن السابع عشر ـ في كتابه Leviathan لوياتان: «الحرّية هي عدم وجود المانع، والمقصود من المانع هو الحركة الخارجيّة التي تقف أمامه. ولذلك يمكن إطلاق الحرّية على الكائنات الحيّة غير العاقلة، وحتّى على الموجودات غير الحيّة أيضاً؛ لأنّ الشيء المقيّد والمكبّل الذي لا يستطيع الحركة إلاّ في محيطه الخاص الذي فرضه عليه الخارج نقول له: فاقد الحرّية.
وعندما لايكون المانع للحركة خارجيّاً، بل يكون المانع داخليّاً، فعند ذلك لا يمكن أن نقول: غير حرّ، بل نقول: سُلبت منه قدرة الحركة، كصخرة واقعة في محلّ ما من الأرض، أو رجل مريض طريح الفراش([2]).
يقول الحكيم الإنجليزي جان لاك jhan Lock في الرسالة الثانية للحكومة المدنيّة: «إن الحرّية موجودة في طبيعة الإنسان ـ إذا لم تكن قدرة على وجه الأرض تسيطر عليه، ولم يكن تابعاً لقانون وإرادة آخرين ـ، والقانون الوحيد الذي يحكمه هو قانون الطبيعة.
فحرّية الفرد في المجتمع هي أن لا ينصاع لحكومة أي حاكم أو قانون، إلاّ إذا كان عن توافق أو رضا، وأن لا ينصاع أيضاً لأية إرادة، ولا يتبع أي قانون، إلاّ إذا توافقت هذه الإرادة أو القانون معه عن طريق الوكالة([3]).
هذه الحرّية ـ من القدرة المستبدّة ـ ضروريّة لبقاء الإنسان؛ لأنّها ملازمة لحياته، وله اتّحاد معها، لا يستطيع أن يتخلّى عنها بدون أن ينقص من حقّ حياته شيئاً([4]).
يقول هرالدلاسكي في كتاب «الحرّية في دولة اليوم Liberty in the Modern state»: «أقصد بالحرّية عدم وجود المانع في الأوضاع الاجتماعيّة الموجودة في الحياة المدنيّة الحاليّة، فهي ملازمة لسعادة الفرد»([5]).
إنّ الظاهر من المانع المقصود في رأي هذا العالِم ليس المانع الذي يسلب الحرّية، بل المقصود به المانع الذي يسلب ويؤثّر على حرّية الفرد والمجتمع، ويدمّر سعادتهما.
فيمكن القول: إنّ الحرّية هي عدم وجود المانع في طريق نموّ وتكامل وتجلّي شخصيّة الإنسان.
في مثل هذه التعاريف تشكّل الحرّية شيئاً سلبياً. فعدم وجودها يكون شرطاً أساسيّاً في تحقّق شخصيّة الإنسان، وهذا العالِم فسَّر الحرّية من بُعدها السلبي.
ولكن من جانب آخر تمثّل الحرّية جزءاً من شخصيّة الإنسان، وجوهرة وجوده، فالحرّية في الأساس هي إحدى خصائص الإنسان وخصاله الذاتيّة، تتجلّى وتظهر في محيط خاص، كالبيان، والإرادة، والفكر، والاختيار، وغيرها. وهذه الخصوصيّات هي الحقّ الطبيعي للإنسان.
وبعبارة أخرى: عندما يولد الإنسان يولد ومعه كلّ هذه الخصوصيّات والأمور الفطريّة والطبيعيّة؛ ليضع قدمه في هذه الحياة.
الحقوق الطبيعيّة للإنسان ـــــــ
تعتبر مدرسة الحقوق الطبيعيّة أنّ للإنسان امتيازات منذ لحظة ولادته، وخصوصيّات تولد معه، كالحقّ والحقوق.
إنّ جذر ومنبع الحقّ في وجود الإنسان يتبع ويجيب الاحتياجات والمتطلّبات التي تكون جذورها في الإنسان.
فالله تعالى خلق الإنسان مع خصوصيّات، وهذه الخصوصيّات تتطلّب الإجابة عنها وتلبيتها.
فمثلاً: هل أنّ للصخرة حقّ التعلّم؟ قطعاً لا؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يضع في وجود الصخر استعداد التعلّم، الذي يسهّل تلبية احتياجه بفنّ التعليم.
أو هل للإنسان الحقّ في أكل الشوك؟ لا؛ لأنّ فك الإنسان وفمه غير مستعدّين لأكل وهضم الشوك، خلافاً للجَمَل.
من هنا فالحقّ الطبيعي وتلبية متطلّباته له جذور في وجود الإنسان.
فالإنسان موجود متفكّر، إذاً له الحقّ في حرّية العقيدة والفكر وبيانهما.
﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 4): أ
الله تعالى أودع تبيين وفهم الحقائق في وجود الإنسان.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31): إذاً الإنسان له حقّ البيان، الإنسان له حقّ اختيار العمل، والسكن، ومكان العيش، وغيرها. فمن مجموع هذه الاحتياجات والمتطلّبات والخصوصيّات تتولّد الحقوق الطبيعيّة للإنسان، والتي أخذ أتباع مدرسة الحقوق الطبيعيّة على عاتقهم تفسيرها.
مدرسة الحقوق الطبيعيّة ـــــــ
الحقوق الطبيعيّة ـ مقابل الحقوق الوضعيّة، التي توضع من قِبل الدولة، ويجب على الناس تنفيذها ـ: هي مجموعة القواعد والقوانين التي يحكم بها العقل البشري، وهي أصل حقوق الإنسان.
هذه الحقوق ملازمة لشخصيّة الإنسان، وتكون معه دائماً، وهي الحقوق الفطريّة التي تعيّن مصير الإنسان، وممزوجة معه، ولا يستطيع أي شيء أن يفصلها عنه، أو ينقلها إلى إنسان آخر.
يقول «روسو»: إنّ الإنسان وُلِدَ في الدنيا حرّاً، ويجب أن يعيش فيها حرّاً. بلا شك أنّ العيش في المجتمع يحدّ من حرّية الفرد، لكن هذه المحدوديّة مشروعة فيما إذا استندت لرضا نفس الفرد أو باتّفاق مجموعة يكون هدفها حماية هذه القواعد والحقوق التي تمثّل شخصيّة الإنسان.
أخذت الحقوق الطبيعيّة بالانتشار والاهتمام قبل القرن العشرين. ففي مقدّمة إعلان حقوق الإنسان أعلن البرلمان الفرنسي أنّ كلّ المآسي والمصاعب في المجتمع هي نتيجة التعدي على الحقوق الطبيعيّة للبشر. وفي متن ذلك الإعلان أشير إلى مسألة عدم إمكانية انتقال الحقوق بمرور الزمان([6]).
ولقد أُجريت تعديلات على تعريف «الحقوق الفطريّة» في القرن العشرين، وكان نتيجتها أن اعتُرِفَ بها رسميّاً، وأصل الحرّية والعدالة هما ركنان أساسيان من الحقوق الطبيعيّة، وذلك أيضاً أصبح رسميّاً»([7]).
وقد أيّد الدين المسيحي هذه الحقوق. فهذا سان توماس واكن ـ الفيلسوف المسيحي في القرن الثالث عشر ـ يُعرّف القوانين الطبيعيّة قائلاً: إنّها نورانيّة من المشيئة الإلهيّة التي ينبغي على الإنسان إيجادها([8]).
الدين الإسلامي ـــــــ
أُيّدت هذه الحقوق في الإسلام، وكذلك مذهب التشيّع، بعنوان «المستقلاّت العقليّة»، فقاعدة «التلازم بين العقل والشرع» من باب الأصول الطبيعيّة تبيّن هذا المعنى. يقول المحقّق القمّي&، صاحب قوانين الأصول، في إثبات هذا الأمر ـ وهو كون «المستقلات العقليّة» أيضاً من جملة الأحكام الشرعيّة، ومن مصادر الحقوق ـ: «إنّه تعالى طلب منّا الفعل والترك بلسان العقل. فكما أنّ الرسول الظاهر يبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهيّاته فكذلك العقل يبيّن بعضها. فمن حكم عقله بوجود المبدئ الحكيم القادر العدل الصانع العالم فيحكم بأنّه يجازي العبد القوي؛ بسبب ظلمه للعبد الضعيف، بالعقاب، وكذلك الودعي الذي ائتمنه عبد من عباده، سيّما إذا كان العبد محتاجاً غاية الاحتياج؛ بسبب ترك ردّها إليه، ويجازي العبد القويّ الرفيع؛ برأفته بالعبد الضعيف العاجز المحتاج، بالثواب»([9]).
استعمال المصطلح بمعنيين ـــــــ
من هذا الممرّ تُطرح مسألة الحرّية في معنيين: «النفي؛ والإثبات». وبتعبير أفضل: استعمال مصطلح الحرّية بلا معنى، وفاقد للمفهوم، فلو استعمل المصطلح بهذا المعنى ـ كونه فاقداً للمفهوم والمعنى ـ فيجب أن يقترن هذا اللّفظ بنفي، مثل: «مِنْ»، أو بإثبات، مثل: «في».
فعندما نقول: الحرّية يتبادر السؤال: الحرّية مِنْ أي شيء؟ أو الحرّية لمَنْ؟ أو عندما نقول: الحرّية يتبادر السؤال: الحرّية في أيّ موضوع؟.
فاستعمال مصطلح الحرّية في السؤال الأوّل هو «نفي الحرّية»، وفي السؤال الثاني هو «إثبات للحرّية».
رأي إيزايا برلين ـــــــ
يبيّن إيزايا برلين العالم الأمريكي، الروسي الأصل، استعمال هذين المفهومين للحرّية بصورة جميلة في كتابه (أربع مقالات)، فيقول: «في البداية أطرح من المفهومين السياسيين للحرّية «المفهوم السلبي» ـ والذي أعتبره اتّباعاً للآخرين ـ، فالجواب عن هذا الطرح هو: ما هي حدود الشخص أو المجموعة ـ التي هي حرّة، ويجب أن تكون كذلك ـ التي تعمل ما تشاء من دون تدخّل الآخرين، وتكون كما تُريد هي؟.
أمّا المفهوم الثاني للحرّية، والذي أُسمّيه «المفهوم الإيجابي»، ففي الجواب عن هذا السؤال يطرح مفهوم السيطرة أو المراقبة، والتي يمكنها إجبار الشخص على عمل ما تريد هي، أو تعيّن الأسلوب والطريقة حسب ما تريد هي، ماذا ومَنْ؟.
فإنّ التفاوت بين هذين السؤالين واضح، مع أنّه يمكن أن تكون الإجابة عنهما في بعض الموارد متطابقة»([10]).
يسعى الإنسان دائماً في رفع الموانع التي تعيق طريقه في الحياة، وكذلك نموّ شخصيّته. ومن هذه الموانع: الاستبداد، الاستعمار، الاستحمار. وهذه الموانع كالأعشاب الضارّة التي تمنع نموّ الأعشاب المفيدة. هذه الموانع الاجتماعيّة والثقافيّة ـ في رأي راجربيكن ـ هي أصنام ذهنيّة، تسلب الحرّية من الإنسان، وتجعله عبداً.
لقد تنفّر الإنسان في طول تاريخ حياته من هذه القيود والسلاسل. فقد عانى وقاسى منها الأمرّين، حتّى شرع في هذا العصر بمقارعتها، فانتصر على بعضها، ولا زال يكافح للتخلّص من الباقي.
يقول الدكتور علي شريعتي: إنّ مثلث الشؤم، المتمثّل بـ (الجهل والجور والجوع)، يخنق الإنسان دائماً، ويمنعه من التنفّس.
ففي مثل هذه الموارد يَصْدُق أن يكون تعريف الحرّية بعدم وجود المانع، وهذا الذي يعطي المعنى الواضح والصحيح للحرّية، ومكان استعمالها.
المفهوم السلبي للحرّية ـــــــ
يمكن القول ـ حسب رأي برلين ـ: إنّ الإنسان يكون حرّاً إذا لم يتدخّل الآخرون في شؤونه. فالحرّية السياسيّة يمكن القول عنها ببساطة: هي الحدود التي في داخل الشخص، ويستطيع فيها عمل ما يُريد، في حين أنّ الآخرين عاجرون أن يعملوا مثله، ولا يستطيعون منعه.
فإذا كنتُ لا أستطيع أن أعمل ما أريده؛ بسبب تدخّل الآخرين، أكون قد فقدت من حرّيتي بقدر ذلك التدخّل من الآخرين، وإذا لم يتدخّل الآخرون فحرّيتي تتوسّع ـ على أقلّ تقدير ـ ضمن حدود إتمام ذلك العمل الذي أريد القيام به.
فيمكن القول: أنا الفرد أكون مجبوراً أو عبداً، ومع ذلك فالإجبار ليس مصطلحاً يشمل كلّ الذي لا أستطيع عمله. فعلى سبيل المثال: أنا لا أستطيع أن أصعد أكثر من عشرة أقدام، أو لا أستطيع القراءة بسبب العمى، أو لا أستطيع أن أفهم بعض معضلات فلسفة هيغل، فليس من الغريب أن أعتبر نفسي مجبوراً أو عبداً؛ بسبب تلك الموانع، فالإجبار يستلزم التدخّل العمدي من الآخرين في شؤوني، فيكون الشخص فاقداً للحرّية السياسيّة إذا منعه الآخرون من الوصول إلى هدفه المنشود([11]).
لكن حرّية الإنسان لا تكتمل برفع الموانع التي هي شرط في ظهور جوهر الشخصيّة الإنسانيّة، بل يُطرح هذا السؤال: ما هو العنصر الأساسي لجوهر الشخصيّة الإنسانيّة؟
الإنسان هو كائن موجود لديه الإرادة وحقّ الاختيار، وله أمانٍ وأهداف مستقبليّة، وهو حيوانٌ سياسيٌّ وطاغٍ، يمكنه أن يُغيّر نفسه ومحيطه، ويمكنه أيضاً أن يتمرّد ضد الأوضاع التي يعيشها، ويمكنه أن يهيّئ جوّاً على مزاجه، ويمكنه أن يُخلّد نفسه في التاريخ والمجتمع، ويمكنه أن يوسّع من فكره وعقيدته وأهدافه، وكذلك طرحها.
كيف لا والإنسان ـ كالربّ ـ «خلاّق»، ومن هنا فهو مخلوق من صورة الله، وهو خليفته في الأرض.
فهنا يُستعمل مصطلح الحرّية مع القيود، يعني حرّية الإنسان في ماذا؟ وأين؟ وأيّ موضوع؟ وأية حدود؟ وتبيّن الحرّية في الفكر، الحرّية في البيان، الحرّية في الإرادة، الحرّية في الاختيار، و…، وهذا النوع من الحرّية يسمّيه العلماء «الحرّية الإيجابيّة».
المفهوم الإيجابي للحرّية ـــــــ
وحسب رأي إيزايا برلين أيضاً فإنّ المعنى الإيجابي للحرّية هو أن يكون الفرد سيّد نفسه، ومختاراً في النهوض. فأمنيتي أن تكون حياتي وتصميمي باختياري، وأن لا أكون تابعاً لأية قوّة خارجيّة. أريد أن أكون آلة لفعلي، وليس آلة لأفعال الآخرين. أريد أن أكون عاملاً، وليس معمولاً. أريد أن أشخّص أهداف عملي بنفسي، وأن لا تؤثّر عليّ العوامل الخارجيّة وغيرها. أريد أن أكون؛ وليس أن لا أكون. أريد أن أكون فاعلاً ومصمِّماً، ولا أريد أن يُصمِّم لي الآخرون. أريد أن أختار بنفسي، لا أن يختار لي الآخرون طرقاً لا أريد السير فيها.
لا أريد أن أكون كالشيء الذي بلا روح، أو الحيوان، أو العبد غير القادر على فعل أي شيء له، ولا يستطيع أن يتحمّل أي دور إنسانيّ.
وفي الخلاصة: أريد أن أنتخب هدفي وأسلوبي وأحقّقه. أريد على الأقل أن أكون جزءاً من المفهوم من قول: «حيوان عاقل»، فعندما يقال: آدمي ينبغي أن يكون لي شيء يميّزني عن الحيوانات، وبقيّة الموجودات في الدنيا.
ومن وراء كلّ هذه أتمنّى أن أعرف بأنّي «موجود مفكّر»، وأن أتحمّل مسؤولياتي بنفسي، وأستطيع أن أبيّنها في تفكيري وأهدافي. فكلّما استطعتُ أن أحقّق هذه الأماني أشعر بأنّي حرٌّ بمقدار ما حقّقته، وما لا أحقّقه من الأماني أشعر بالعبوديّة فيه([12]).
الكرامة الإنسانيّة ـــــــ
إنّ مفهوم الكرامة الإنسانيّة ـ التي جعل الله الإنسان يفتخر بها ـ هو مصداقٌ للآية: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء: 70) في تحقّق هذه المفاهيم، وتعيّن الحرّية الإيجابيّة.
ويستطيع بها الإنسان أن يبيّن جوهرته، ويحقّق إرادة الله تعالى التي تمرّ عبر الإرادة الإنسانيّة.
إلاّ إذا كان شعار المطالبين بالحرّية والإصلاح من المسلمين هو: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: 11). وكان هذا هو نداء المنادين بالحرّية، من السيّد جمال الدين حتّى إقبال اللاهوري، وشريعتي، ومطهري. واليوم يطلب ذلك كلّ أقسام المجتمع المنادين بالإصلاح؛ لتحقيق الأهداف الإنسانيّة الشريفة. ويعترفون بالحرّية كونها جوهرة الشخصيّة الإنسانيّة، وبالديمقراطيّة بأنّها أسلوب لتحقيق الأهداف المقدّسة للإنسان المسلم، ويسعون بجدٍّ إلى تحقيق الأهداف، ويتناولونها بالخطابة والكتابة والمؤتمرات، وأحياناً يدفعون الثمن غالياً جزاء عملهم هذا.
إنّ مفهوم الحرّية يتفرّع من الاستبداد، بفرعَيْه: السياسي؛ والديني، الذي ينحصر في هذا الحدّ، فالمصلحون المطالبون بالإصلاح ومرجعيّة القانون يعرفون حدودها، ويسعون إلى تحقيقها.
التيارات المخالفة للحرّية ـــــــ
لو سُلِبت الحرّية من الفرد والمجتمع فالنتيجة تكون ضياع الفرد، وذبول الشخصيّة، ويتحجّم الفكر، وتنحطّ الثقافة والمدنيّة. ولكن مع الأسف في المجتمع مجموعتان سلبتا من الناس هذه النِّعَم الإلهيّة، وجعلوهم رعيّة وعبيداً لهم. وهاتان المجموعتان هما:
الأولى: هذه المجموعة كبَّلت الناس بواسطة القوّة والسيف، فكسبت الطاعة؛ بسبب خوف الناس منهم على أرواحهم، حتّى سلبوا من المجتمع قوّة المقاومة.
الثانية: هذه المجموعة هي من أرباب الديانات، استغلّت الجانب الديني. فبدلاً من أن يفسّروا للناس الدين تفسيراً عقلانيّاً ونورانياً، يتماشى مع العقل، سلكت طريق التكفير، وتحميل الدين مزاجاتهم الشخصيّة، وأوردوها في أذهان وعقول الناس، بدلاً من حثّهم على البحث والتدقيق، واستعملوا الجزم والإصرار في سلب التفكير من الناس. ولعل مثل هذه المجموعة لا يقلّ وطأة عن المجموعة الأولى؛ لأنّ صاحب السيف يمرّ ويمضي في وقت معيّن، وأفكاره كلّها تكون سطحيّة عادة، ولا تنفذ داخل الفرد.
أمّا ظلم المجموعة الثانية فإنه يتغلغل إلى روح الإنسان، ويكبّله، وآثاره عميقة وواسعة، كما وصفهم رسول الله| بقوله: «صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت أمّتي»، فقيل: يا رسول الله، ومَنْ هم؟ قال: «الفقهاء؛ والأمراء»([13]).
شرط تحقّق الحرّية تأسيس حكومة شعبية ـــــــ
إنّ محبّي الإنسانيّة والداعين إلى الحرّية والعلماء في علم السياسية يريدون التمتّع بالنِّعَم الإلهيّة، وكذلك تحقيق الخصال الداخليّة للإنسان، كالكرامة والحرّية. ويدركون أنّ علاج مرض رفع الموانع من الحياة الاجتماعيّة هو تشكيل حكومة وطنيّة شعبية، تكون حارسة ومراقبة لتنفيذ القانون، ومدافعة عن الحقوق الحقّة للناس.
لكن الذي يحفظ الحرّية والحكومة الشعبية هو:
1ـ ينبغي أن يعرف الناس ما هي الحرّية؟.
2ـ أن يطلب الناس الحرّية بأرواحهم وأموالهم.
3ـ يجب أن يمتلك الناس الهمّة والشجاعة ليهبّوا في سبيل حفظ حرّيتهم والدفاع عنها.
فالمدافع الحقيقي عن الحرّية هو الحارس الشجاع والمدافع الدائم عن الناس. وإذا لم تتوفّر هاتان الخصلتان فأيّ قانون يكتب ـ حتّى إذا كان من أفضل القوانين ـ فليس له أية قيمة، ويكون حاله كحال ورقة نقديّة فقدت قيمتها.
ومن شرائط الحرّية الأخرى أن يبتعد الناس عن الاضطرابات، والجدل، والنقاش، وتضييع الإنصاف؛ الابتعاد عن استعمال الحِراب المادّية، كالسكاكين والأحماض التي تُرشّ على وجوه الناس، وكذلك عدم استعمال الحِراب المعنويّة كالسبّ والشتم والافتراء والبهتان، بل عليهم أن يجتمعوا فيها بينهم، يسمع أحدهم قول الآخر، ويشخّصوا الجيد من الرديء، عليهم احترام ما يريده المجتمع حسب القيم المقبولة فيه.
فعندما تكون أرضيّة المجتمع هكذا تكون تربيته تربية وطنيّة، الغرض منها تربية أفراد المجتمع على العيش المشترك، ومن أجل معرفة قدر الحرّية، والتعرّف على حقوقه، واحترام حقوق الآخرين، والنفرة من التملّق والمتملّقين، وعشق الإنصاف والعدالة([14]).
أنواع الحرّيات ـــــــ
من أنواع الحرّيات: الحرّية السياسيّة؛ حرّية الاجتماعات؛ حرّية المنظمات العلميّة والمدنيّة. وأهمّ تلك الحرّيات حرّية الفكر والبيان. فإذا لم تتوفّر مثل هذه الحرّية بالإمكان القول: إن البشر لا زال يعيش في العهد المظلم من التاريخ.
لا يوجد أحد محفوظ من الخطأ، فإذا كانت العقائد مخالفة لعقيدتنا ليس لنا الحقّ أن نُطفئ مخالفينا؛ لاحتمال أن يكونوا أقرب إلى الحقيقة من عقائدنا.
إن عقيدة المسيح×، ومحمد|، وبقيّة كبار التاريخ، حملُ الناس على النهوض من واقعهم المرير الذي كانوا يعيشونه، في الوقت الذي كان السائد في المجتمعات آنذاك هو إطفاء ومحاربة كلّ جديد يطرأ عليها. وقد حُرِمت تلك المجتمعات من تعاليم أولئك الأفذاذ. وبالنتيجة أدّى هذا الإطفاء والمحاربة إلى عدم تقدّم التمدّن المعنوي للبشر.
فالذين سقوا سقراط كأس السمّ، وصلبوا عيسى×، كانوا يعتقدون بجدٍّ أنّهم يحاربون الكافر والعدوّ الفاسد في المجتمع.
أمّا اليوم فنحن نعرف بأنّ تلك العقائد كانت نابعة من الجهل، وخالية من النخوة، وغير محفوظة من الخطأ.
ومن أنواع الحرّيات: حرّية المطبوعات ـ الصحف، والمجلاّت، وغيرها ـ؛ لأنّ المطبوعات الحرّة هي أحد الأركان الأساسيّة للدولة الشعبية ـ الديمقراطية ـ، فلو كانت المطبوعات تابعة للدولة، وتنشر أفكار الحكومة، وأساليبها، وتعكسها للناس، والشعب لا يعرف ما يدور حوله في العالم، فلن يجد ذلك المجتمع الطريق نحو الثقافة والتقدّم الاجتماعي أبداً.
وكما أنّ استقلال القضاء هو أحد أركان الحكومة الشعبية فحرّية المطبوعات لها أهميّة كبرى، وهي أساسٌ لسيادة المجتمع.
الحرّية للكاتب بمثابة التنفُّس ـــــــ
إنّ شرط إدامة الحياة للكاتب هي الحرّية. فهل يتوقّع من شخص أن يبقى حيّاً ويُمنع من استنشاق الهواء؟ فالحرّية بالنسبة للكاتب كالتنفّس؛ ليستمرّ في الحياة.
إذاً يجب أن يكون القلم حرّاً، بل ينبغي أن تكون الحرّية في الحياة وفي المجتمع محترمة ومقدّسة؛ حتّى يستطيع كلّ فرد لديه فكر بنّاء أن يطرحه بحرّية، في الكلام، أو الكتابة من خلال الصحف والمطبوعات. يجب أن تُبيّن ـ من خلال المطبوعات ـ نقاط ضعف الدولة واحتياجات الشعب. ينبغي أن تكون المطبوعات مخبرة بكلّ الخطط، وأن تكون كالمرآة تعكس الحياة اليوميّة للمجتمع. وكذلك ينبغي أن تكون الصحف في كلّ دولة ساحة تُعرض فيها الأفكار الإيجابيّة للمجتمع.
يجب أن تبقى المطبوعات بعيدة عن المراقبة، بشكل مباشر أو غير مباشر. فبواسطة هذه المطبوعات تُعدّل الكثير من العلاقات بين المجتمعات؛ لأنها تعهّدت أمام مجتمعاتها أن تراعي القوانين الأساسيّة والفرعيّة، وكذلك لا تخالف تلك العهود التي قطعتها على نفسها.
رسالة الكتّاب الثقيلة ـــــــ
إنّ أيّ كاتب يحمل رسالة ثقيلة أمام مجتمعه. فيجب عليه أن يشخّص آلام المجتمع واحتياجاته، ويبيّن أهدافه وأمنيات الطبقة المحرومة فيه. وينبغي أن يكون قلمُه أداةً لحلّ المشاكل، وأن يُميط ويجلي ظلمات الجهل والخرافات عن حياة البشر، وأن ينمّي مستوى المعلومات الثقافيّة في المجتمع، وأن يهيئ الأرضية للإصلاحات في محيطه.
إنّ الكاتب والمؤلِّف الحقيقي يُسرّع في تكامل مجتمعه، ويحفظ ويقدّس العدالة والفضائل الإنسانيّة، ويعادي الرياء والظلم وكلّ الموبقات في المجتمع، ويحاربها، ويدافع عن حقوق المظلومين والمقهورين في المجتمع، كما قال الشاعر الفارسي ما معناه: قدرة القلم مستندة على الحقّ والعدالة، وهي أقوى وأقدر وأقطع من أي سلاح([15]).
إنّ حرّية القلم هي العامل على بقاء سلامة وقدرة الحكومة. ولا يمكن لأية حكومة سالمة أن تحارب الكتّاب والمؤلّفين، ولا أن تضع السيف أمام القلم؛ لأنّ القلم لو كُسِر، وكُمّت أفواه الداعين إلى الحقّ، سينمو الباطل والرذيلة، بدل الشرف والفضيلة، وسيُباع الحقّ ويُشترى، وسيكون الإنصاف والمروّة بتصرّف أوباش المجتمع.
في التاريخ شواهد ودلائل كثيرة على هكذا مجتمعات. فلو حرست هذه جبال الذهب الخالص فلا تستطيع مقاومة البركان الهادر، ويذهب سعيها كالدخان في الهواء، فكيف إذا انفجرت المجتمعات؛ بسبب انتشار ونموّ المداهنة وعبادة الأشخاص من جانب، وضغط التعدّي والظلم من جانب آخر؟ فلقد مرّ بلدنا قبل الثورة بمثل هذه الأوضاع.
علاقة الحرّية بالدين ـــــــ
إنّ الثورة الفرنسيّة، وكذلك ثورة أُكتوبر الروسية، قامتا بسبب التمرّد ضد الظلم والاستبداد من المذهب الحاكم. ففي هاتين الثورتين تمرّد أصحاب الفكر والداعين إلى الحرّية على الدين الذي استعمرهم واستثمرهم سنوات متمادية. فقد قام المذهب بأعمال لا يمكن السكوت عنها. ومنها: تفتيش عقائد الناس المخالفة له، كبت الحرّيات، محاربة المفكّرين والعلماء ومحاكمتهم.
فكانت نتيجة هذه القرون المظلمة أن طلع فجر الحرّية في الثورة الفرنسية، فقد قوّت وأثبتت هذه الثورة حقوق الإنسان، وأثّرت حتّى على دول العالم الثالث، وصدّرت التحوّل إلى العالم كلّه.
إن التحوّلات التي طرأت على اليابان، وروسيا، والدولة العثمانية، ومصر، وإيران أثناء المشروطة، قد تأثّرت كلّها بالثورة الفرنسية الكبيرة، فقد نهضت هذه الثورة ضد الاستبداد، ونادت بتدوين القانون، وإنشاء مجتمع مدني.
فإذا كانت الثورة الفرنسية، وكذلك ثورة أكتوبر الروسية، قد قامتا ضد الممارسات الدينية فلقد أخذت الثورة الإسلاميّة في إيران إلهامها من الدين، ورفعت من عميق التعاليم الإسلامية شعار: الاستقلال، الحرّية، الجمهورية الإسلامية.
لقد كان شعار الحرّية في بداية الثورة الإسلامية يحمل معنى سلبياً، يعني الحرّية من الاستعمار، والاستبداد، والاستقلال من الحكومة العميلة.
فالقانون الأساسي ـ الدستور ـ للبلاد ينفي الاستعمار، واستثمار الإنسان للإنسان، ويبشّر وينادي بالعدالة والمساواة للجميع.
والآن نُشير بصورة مجملة إلى جذور الحرّية في الإسلام، والتي تبلورت في الثورة الإسلامية.
الحرّية المعنويّة ـــــــ
ليس الإنسان في الفكر الإسلامي حرّاً من السلطة العميلة والمحقِّرة وأداة الاستثمار الأجنبي فحسب، بل هو حرّ بالمعنى العرفاني للحرّية أيضاً، حرّ من سلطة النفس الأمّارة، وحرّ أمام المغريات الشيطانيّة، بل هو حرّ من كلّ شيء لا يجعله محترماً ومصوناً، كما قال الإمام علي×: «من ترك الشهوات كان حرّاً».
هنا الإنسان المسلم لا يتخلّص من سيطرة الشيطان الداخلية عليه فقط، بل يتخلّص من الشياطين الخارجيّة أيضاً، ويرتقي قمّة العالم القدسي.
ففي بعض الأحيان يشير الإمام الخميني& في بياناته السياسيّة إلى الحرّية بمعناها العميق المعنوي والعرفاني فيقول: مَنَحَكم الله تبارك وتعالى بعنايته الحرّية، ويمتحنكم فيها؛ لينظر ماذا نفعل؟ كيف نتعامل مع الذين بعهدتنا مسؤوليتهم؟ وماذا نفعل مع إخواننا وأخواتنا؟ فالحرّية ليست هي سعادة الأمّة، بل الاستقلال وحده هو سعادة للأمّة، الماديّات وحدها ليست سعادة للأمة، بل الماديّات مع المعنويات سعادة للأمّة([16]).
رفعت الثورة الإسلاميّة شعار «لا إله إلاّ الله»، وقالت للسلطات العميلة: لا، ورفعت شعار «لا شرقيّة ولا غربيّة، جمهورية إسلاميّة».
نعم، فعلاقة الدين معجونة بمفهومَيْ الحرّية: السلبيّ؛ والإيجابيّ؛ ولذلك استطاع الدين أن يلوي حركة پهلوي المتهرِّئة والمتصدّئة، ويضع مكانها أساساً لنظام جديد مستقرٍّ، وأثبت ـ وبجدارة ـ هذه الحقيقة.
فالدين ليس عاملاً للركود والخمول، بل بإمكانه أن ينهض بالإنسان، وينظّمه، ويُحدث ثورة عظيمة.
رفض الاستبداد السياسي والديني ـــــــ
يقول العلامة النائيني في كتابه القيّم «تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة»، الذي ألّفه دفاعاً عن مشروعيّة المشروطة: وبالجملة فإنّ أساس النوع الأوّل من السلطنة مبني على الاستعباد واسترقاق الأمّة، وفرض التحكّم والأهواء عليها، وعدم مشاركتها ـ فضلاً عن مساواتها ـ للسلطان، ويتفرّع على ذلك عدم مسؤوليّة السلطان عمّا يقوم به.
كما أنّ النوع الثاني مبنيّ على أصل تحرير الأمّة من هذه العبودية، ومشاركة أفراد الأمّة ومساواتها مع شخص الوالي في جميع الشؤون، ومن ذلك مسؤولية الوالي عمّا يقوم به.
وفي موارد عديدة من كلام الله المجيد، ونصوص المعصومين^، نجد الشرع يعبّر عن المقهوريّة للحرّية المطلقة. وقد حذّر المعصومون^ المسلمين من الوقوع في هذه الهلكة، كما أرشدوهم إلى طريق الخلاص من الذلّة([17]).
وبعد ذلك يورد العلاّمة النائيني الآيات القرآنية التي تتحدّث عن كيفيّة استيلاء فرعون وسلبه حرّية بني إسرائيل، وكذلك كيفيّة تسلّط بني أميّة على الحكومة الإسلاميّة، ودعاء رسول الله| عليهم، وثورة سيد الشهداء× ضد الاستبداد السياسي، كلّها، بعنوان شواهد، من صفحة 109 ـ 112 من كتابه.
ويُكمل كلامه في خصوص الاستبداد الديني، الذي هو أسوأ من الاستبداد السياسي، في استعباد عباد الله، وتحميق العوام، واحتيال رجال الدين، فيقول: يظهر من الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ (التوبة: 31) أن عبادة النصارى لأحبارهم ورهبانهم هي بمعنى الانقياد الأعمى لهم، فكما أنّ ألوهية السلطان ومعبوديته هي الأخرى عبارة عن هذا المعنى من الخضوع لمالكيّة السلطان وإرادته التحكُّميّة كذلك يكون الانقياد والخضوع الأعمى لرؤساء المذاهب والأديان عبوديّة محضة لهم، عندما يؤتى بذلك على أنّه من الدين.
والرواية المرويّة المتضمّنة ذمّ التقليد الأعمى لعلماء السوء، الساعين وراء الرئاسة الدنيوية، تفيد هذا المعنى أيضاً. والفرق بين عبودية السلطان وعبوديّة علماء السوء والأحبار أنّ النوع الأوّل مبنيٌّ على القهر والغلبة، والثاني مبنيٌّ على الخدعة والتدليس. ولذا اختلف التعبير عن النوعين في الآيات والأخبار، حيث عبّرت النصوص عن النوع الأوّل بـ ﴿عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الشعراء: 22) و«اتخذتهم الفراعنة عبيداً»، وعن النوع الثاني بـ ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ﴾ (التوبة: 31). والحقيقة أنّ منشأ الاستعباد في النوع الثاني هو تملّك قلوب الأمّة لا غير([18]).
التلازم بين الاستبداد السياسي والديني ـــــــ
إنّ الاستبداد السياسي والديني متلازمان، لا يفترق أحدهما عن الآخر، في رأي خبراء السياسة. ففي أي مكان يظهر الاستبداد السياسي يظهر أشباه العلماء الساعين وراء تلبية رغباتهم، يؤيّدون مثل هذه الأنظمة، ويعطون لتأييداتهم صفة دينية، فيصحّحون الأعمال الخاطئة للحكومات.
يُصدِّق الشيخ النائيني ـ الذي يُعتبر من العلماء والمفكّرين الإسلاميين النوادر في القرن الأخير ـ هذا التلازم بين الاستبداد السياسي والديني. ففي كلّ مكان يظهر الاستبداد السياسي تُشمّ رائحة الاستبداد الديني أيضاً. فهو يقول: ومن هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفنّ عندما قسّم الاستبداد إلى: استبداد سياسي؛ وآخر ديني، وربط كلاًّ منهما بالآخر، واعتبرهما توأمين متآخيين، يتوقّف أحدهما على وجود الآخر.
وقد اتّضح أيضاً أنّ قلع هذه الشجرة الخبيثة ـ الاستبداد السياسي ـ، والتخلّص من هذه الرقّيّة الخسيسة، لا يكلّفنا أكثر من الوعي والانتباه. وهو في النوع الأوّل أسهل منه في النوع الثاني ـ الاستبداد الديني ـ، الذي يصعب علاجه، وربما يؤدّي أيضاً إلى صعوبة العلاج في النوع الأول أيضاً([19]).
وأمّا بقيّة الحرّيات، كحرّية البيان، والعقيدة، وحرّية البحث والتدقيق، فهي من المصاديق الأخرى للحرّية الإيجابيّة. والدليل على الحرّية الإيجابيّة هو الحوادث التي صدرت في تاريخ صدر الإسلام، واحتجاجات الأئمّة الأطهار مع مخالفيهم، وحتّى حرّية المخالفين السياسيين، كالخوارج، أثناء حكومة الإمام عليّ× النموذجية، كلها شاهد صدق على تلك الحرّية التي كانت تُمارس بمفهوميها: السلبي؛ والإيجابي. وكانت النتيجة مؤثّرة في ثبات شخصيّة الإنسان.
ولقد وردت هذه المفاهيم في خطابات الإمام الخميني& بصراحة. ففي إحدى خطاباته السياسيّة الدينيّة يقول: ليس لدينا النيّة أن نُحمّل الأمّة، ولم يعطِنا الدين الإسلامي مجوّزاً لكي نصبح دكتاتوريين. نحن نتّبع آراء الأمّة، فالأمّة إذا أعطت رأيها فنحن نتَّبع رأيها، فليس لدينا الحقّ أن نحمّلها شيئاً ما، فالله تبارك وتعالى لم يُجزْ لنا ذلك، ولا نبيّ الإسلام|([20]).
فالإمام الخميني& يأخذ بعين الاعتبار الحرّية المدوّنة في الدستور، الذي دُوِّنت فيه جميع الحرّيات بصراحة، ويؤكّد عليها. ويعتقد الإمام الخميني& أن الحاكم الحقيقي هو القانون. فالكلّ في حماية القانون، وفي ظلّ القانون. فالناس والمسلمون أحرار ضمن دائرة المقرّرات الشرعيّة، بمعنى أنّه لو عُمِلَ حسب المقرّرات الشرعيّة فليس من حقّ أحد أن يقول: اجلس هنا، أو اذهب هناك. فلا يوجد مثل هكذا كلام هنا.
ليست الحرّية والحكومة العادلة الإسلاميّة مثل بقيّة الحكومات التي تسلب الأمن من الناس، وتجعلهم يرتجفون في بيوتهم دائماً؛ خوفاً من أن يهجموا عليهم في البيت، ويفعلوا ما يفعلوا، كما سُلب الأمان من الناس في حكومة معاوية، والحكومات التي مثلها. فلم يكن للناس في ظلّ تلك الحكومات أمن، وكانوا يُقتلون على التهمة والظِّنة، وكانوا يُبعدون ويُحبسون على أساس التهمة فقط، تلك الحبوس الطويلة في زمانها. وقد كان ذلك لأنّ الحكومة الإسلاميّة لم تكن موجودة. وعندما تؤسَّس الحكومة الإسلاميّة يكون الكلّ في ظلّ القانون، ويعيشون بأمان كامل، وليس لأيّ حاكم الحقّ في العمل خلاف ما أقرّه القانون والشرع.
ومن هذا الطريق، وعلى أساس التعاليم الإسلاميّة، أثمرت وانتصرت الثورة الإسلامية.
لكن الذي يبعث على الأسف هو: هل أنّ كلّ الثورات التي تحدث تبقى محافظة على نفس ما وعد قادتها بتحقيقه؟! هل تنحرف مع مرور الزمن، وتبقى بعيدة عن أهدافها؟
لعل الخلاف بين طالبي الحرّية مع الدين ليس مع التعاليم الدينية الحقّة، تلك التعاليم الإلهيّة والنبويّة للإسلام، بل خلافهم مع الانحرافات والاستبداد والتعصُّب الذي يُمارَس باسم الدين، والذي أورد الدمار على المفكّرين الأحرار.
العوامل التي تؤدّي إلى انحلال المدنيّة ـــــــ
لقد كان حديث رسول الله|: «الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم» دقيقاً في هذا المعنى.
يطرح مطهري& علل تمرّد الغربيين ضد الدين الحاكم، وهي الظلم والإجحاف الذي يُمارس باسم الدين، والإرهاب الذي يُمارس من قِبل أرباب الكنائس بصورة «التفتيش عن العقائد»، وذهاب عدد كبير من العلماء ضحيّة عوامل الإلحاد المادّي للغرب. يقول& ما معناه: إنّ أحد العوامل الماديّة الأخرى هو عدم مسؤوليّة الحاكم قِبال الشعب. فالشعب أو الأمّة كانوا يعتقدون بأنّ الطبقة الحاكمة غير مسؤولة أمام أمّتها، بل هي مسؤولة أمام الله، لكنّ الناس مسؤولون أمام الطبقة الحاكمة.
ليس من حقّ الناس أن يسألوا أحداً من الطبقة الحاكمة لماذا فعلت كذا؟ وليس للناس حقٌّ في عنق الطبقة الحاكمة، لكن للطبقة الحاكمة حقوقاً يجب على الناس أداؤها([21]).
يُشاهد اليوم وقوع مثل هذه الحوادث الخشنة في المجتمع الإيراني. فإنّ الحوادث التي تقع في المجتمع ترجع إلى تهاون أولياء الأمور في تحقيق الأهداف التي رسمتها الثورة، ونسيان مبدأ العدالة التي تنبع من نهج بلاغة عليّ×، الذي احترم شعبه أيّام خلافته، وهو الذي وعد عندما بايعه الناس أن يحترم شعبه.
ولقد أخذ مبدأ «الهيمنة» مكان «المشاركة»، وأخذ فكر العلماء وأقلام الكتّاب والمؤلِّفين بالاصطدام بموانع متعدّدة. فمجرّد إظهار الرأي ـ حتّى وإنْ كان في المجال الفقهي ـ الذي لا يوافق الرأي الحاكم يُعتبر ذنباً، ومخالفة للقانون. فلقد انتُهِكت حرمة العلماء وأصحاب الرأي المخالف. اختلطت الحدود، وتبدّل البرهان والمنطق بالقوّة، وفُسِّر الإسلام على رأي ضيّق، في الوقت الذي تُشحن المصادر وكتب العلماء المسلمين بالتفاسير والنظريات المختلفة. فأسلوب الخشونة ضيّق الخناق حول رقاب أصحاب الفكر، حتى أنهم يُتّهمون أحياناً بـ «الارتداد والإلحاد».
وعلى قول الفيلسوف المعروف توين بي: عندما يكون التمدّن في حالة مدافعة، وحرّاس الثقافة مشغولون بالدفاع عن قيمهم، تُعرف هذه الفترة بفترة وصول الضعف المدني.
العامل الذي يبعث على الأمل ـــــــ
إنّ الذي يبعث على الأمل، ويُهدّئ القلوب، هو ذكاء وانتباه الأمّة الإسلاميّة، التي تشخّص الخطأ من الصواب. وقد قطعت الطريق على طول التاريخ على هؤلاء، وفرضت إرادتها دائماً وبوضوح، وأجلست غير الكفوئين في أماكنهم.
فإعادة انتخاب رئيس الجمهورية ـ في الانتخابات الثانية ـ أوضح هذا الانتباه للأمّة. فالأمّة التي رأت فيه الصداقة والطهارة قبلت بندائه ورسالته، فقد أعطوه آراءهم من قلوبهم، وأثبت مرّة أخرى أنّ الإيراني مريدٌ للإسلام، ومحبٌّ للوطن، ولديه علاقة برجال الدين أيضاً. لكن إسلام المحبّة، وليس إسلام الخشونة؛ السياسي الصادق، وليس السياسي الدبلوماسي صاحب السياسة المفتوحة. وبهذا الدليل لا زالت الأمّة وفيّة لأهداف الثورة.
الهوامش:
(*) أستاذ علم الاجتماع الديني في الجامعة الإسلامية الإيرانية الحرة ـ طهران.
([1]) نقولا حدّاد، الديمقراطية مسيرها ومصيرها: 3 ـ 4.
([2]) توماس هابز، لوياتان، الفصل الثاني، القسم الأوّل، نقل من «الحرّية والتربية»، للدكتور محمود صناعي: 9 (فارسي). وتُرجم كتاب لوياتان أخيراً من قبل الدكتور محمود صناعي.
([3]) جان لاك، حرّية الفرد وقدرة الدولة (فارسي): 22، ترجمة: الدكتور محمود صناعي.
([4]) محمود صناعي، الحرّية والتربية (فارسي): 10.
([6]) ناصر كاتوزيان، مقدّمة علم الحقوق: 8 ـ 9.
([9]) المحقّق القمّي، قوانين الأصول 2: 1 (الطبع الحجري).
([10]) إيزايا برلين، أربع مقالات في الحرّية (فارسي): 236 ـ 237، ترجمة: محمّد علي موحّد.
([12]) المصدر السابق: 249 ـ 250.
([13]) الحرّاني، تحف العقول: 42.
([14]) محمود صناعي، الحرّية والتربية (فارسي): 13.
([15]) إميل زولا، نقل من كتاب الإسلام والحقوق الطبيعية للإنسان، لداوود إلهامي: 38 (فارسي).
([16]) صحيفة الإمام 7: 533 ـ 534.
([17]) النائيني، تنبيه الأمّة وتنـزيه الملّة: 109، طبع مؤسسة أحسن الحديث.
([18]) المصدر السابق: 113 ـ 114.
([21]) مرتضى مطهري، علل انحرافات الماديّة: 85، 201 ـ 202 (فارسي).