السيد محسن فتاحي(*)
ترجمة: السيد حسن علي الهاشمي
بيان المسألة
قبل تأسيس الجمهورية الإسلامية كان نظامنا الجزائي تلفيقاً من عناصر من الأحكام الجزائية في الإسلام والقوانين الوضعية في البلدان الغربية. وبعد انتصار الثورة، وقيام الجمهورية الإسلامية، وتدوين الحقوق الجزائية الحديثة على أساس الأحكام الشرعية، وُضعت أمام المفكِّرين بحوث جادّة في دائرة تطبيق العقوبات الإسلامية، من قبيل: الحدود، والقصاص، والتعزير. إن الجلد، الذي هو من أبرز مصاديق التعزير، يثير مشاعر العالم ضدّ النظام الجزائي في الإسلام. وقد أدّى ذلك إلى طرح هذا السؤال القائل: هل يمكن استبدال العقوبات المنصوص عليها في النصوص الشرعية بعقوبات أخرى، من قبيل: الحبس أو الغرامات المالية؟ ومن ناحية أخرى فإنّ اتّساع رقعة النشاط الاجتماعي، وضرورة اعتبار بعض الجرائم في هذا النشاط رعايةً للحقوق الفردية والاجتماعية، تفرض علينا سؤالاً آخر وهو: هل يمكن اعتبار عقوبة السجن أو الغرامات المالية المصادق عليها حديثاً عقوبات تعزيرية أم أنها تختلف عنها اختلافاً ماهوياً؟
يبدو أنّ دراسة مفهوم المعصية، ودخالته في ماهية التعزير، يمكن له أن يقدم إجابة واضحة عن هذه الأسئلة.
بيان معنى المفردات
1ـ التعزير
إن المراد من التعزير هو التعزير الشرعي. والتعزير الشرعي: عقوبة لم يتمّ تحديد نوعها أو مقدارها من قبل الشارع غالباً. واعتبر ذلك من صلاحيات الحاكم الشرعي، بالالتفات إلى خصائص ومقتضيات الزمان ونوع المعصية وشخصيّة المُدان. يفهم ذلك من لسان الروايات. وهذا موضع إجماع واتّفاق من قبل الفقهاء، من الشيعة وأهل السنّة([1]).
2ـ الذنب
إن مرادنا من مفردة الذنب هو المصطلح الفقهي الذي يُطلق على المخالفة التي يرتكبها المكلَّف تجاه الأحكام الأولية الشرعية الإلزامية. وطبقاً للرأي المشهور فقهياً ينقسم الذنب في الشريعة إلى قسمين، يندرجان تحت عنوان: الذنوب الصغيرة؛ والذنوب الكبيرة. ومن خصوصيات الذنوب هي أنّ مرتكبها تترتَّب عليه حرمة تكليفية؛ وعقوبة أخروية.
إن المسألة التي يجب أخذها بنظر الاعتبار، وتشكِّل في الحقيقة فرضية هذا التحقيق، هي أن مخالفة الأوامر الحكومية لا تعتبر ذَنْباً بالمعنى المصطلح. بمعنى أن مخالفة الأوامر الحكومية وإنْ ترتبت عليها بعض العقوبات، بَيْد أنّ فاعلها لا يكون مرتكباً لفعلٍ محرَّم، ومن حيث العنوان الأولي وذات العمل لا يكون مستحقّاً للعقاب الأخروي.
3ـ المخالفات القانونية
إن المراد من المخالفات القانونية ما كان من قبيل الفعل أو ترك الفعل الذي تعتبره الحكومة الإسلامية ـ طبقاً للمصالح الاجتماعية ـ مخالفةً. وعليه فإن الذنوب التي أقرّت من قبل الشارع مباشرةً، ونطلق عليها تسمية المخالفات الشرعية، تعتبر خارجةً عن مصطلح المخالفات القانونية في هذا المقال.
التعزير ودائرة شموله للعقوبات القانونية
لا شكّ في أن بعض المخالفات القانونية هي مباحات شرعية، وقد عمدت الحكومة إلى حظرها واعتبارها مخالفة؛ رعايةً لمصالح المجتمع. ولكي نتمكن من اعتبار هذه العقوبات من نوع التعزير يجب علينا قبل كلّ شيء أن نثبت أن دائرة متعلَّق التعزير أوسع من الذنوب الشرعية. فهل الأمر كذلك؟
إن دراسة مساحة الجرائم التي يستحقّ مرتكبها التعزير ستلعب دور الدليل لنا في العثور على الإجابة عن هذا السؤال.
أـ بحث دائرة المخالفات الموجبة للتعزير
إن الآراء الفقهية تحكي عن وجود رأيين رئيسين في باب عقوبة التعزير:
فهناك مَنْ يعتقد بأن التعزير الشرعي يقتصر على الأفعال التي اعتبرها الشارع من الذنوب الكبيرة.
وأما الرأي الآخر فعمد إلى توسيع دائرتها، لتشمل حتّى الذنوب الصغيرة أيضاً. وعليه فإن مرتكب الصغيرة تطاله العقوبة التعزيرية أيضاً([2]).
قال الإمام الخميني& في تحرير الوسيلة: «كلّ مَنْ ترك واجباً أو ارتكب حراماً فللإمام ونائبه تعزيره، بشرط أن يكون من الكبائر»([3]).
وكما يلاحظ فإن الإمام& قد ضيَّق من دائرة المتعلَّق بعد اشتراطه أن يكون الذنب كبيراً. كما يمكن أن نشاهد هذا الرأي عند صاحب الجواهر أيضاً([4]).
بينما ذهب بعض العلماء الآخرين إلى تعميم الحكم، ليشمل حتّى الذنوب الصغيرة. فقد قال السيد الخوئي في تكملة المنهاج: «مَنْ فعل محرَّماً أو ترك واجباً إلهياً عالماً عامداً عزَّره الحاكم، حسب ما يراه من المصلحة»([5]).
1ـ أدلّة جواز التعزير على الذنوب الصغيرة
في هذه الفقرة نطالع جواز التعزير على الذنوب الصغيرة من زاويتين:
الأولى: الروايات.
الثانية: قاعدة متصيَّدة دالّة على «وجوب التعزير على كلّ معصية».
أـ الروايات
في رواية عن الإمام الصادق× سأل فيها أبا الصباح الكناني عن حكم من ينجِّس المسجد الحرام عامداً، فكان الجواب بوجوب تعزيره. وإليك نصّ الرواية: «قال الصادق×: ما تقول في مَنْ أحدث في المسجد الحرام متعمِّداً؟ قلت: يُضرَب ضرباً شديداً. قال: أصبْتَ»([6]).
وإنما يكون الاستدلال بهذه الرواية تاماً إذا اعتبرنا تنجيس المسجد الحرام من الصغائر، دون الكبائر؛ لأن الرواية تقول بعد ذلك بوجوب قتل مَنْ ينجّس الكعبة؛ وذلك إذ يقول: «ما تقول في مَنْ أحدث في الكعبة متعمّداً؟ قلت: يقتل. قال: أصبْتَ؛ ألا ترى أنّ الكعبة أفضل من المسجد؟»([7]).
ويمكن المناقشة والإشكال على تعميم الحكم بالتعزير الوارد في هذه الرواية ليشمل الصغائر أيضاً؛ إذ يحتمل أن يكون تنجيس المسجد الحرام من الكبائر أيضاً، غاية ما في الأمر أنّ الكبائر تتفاوت في درجاتها، ويمكن لقوله× «ألا ترى أنّ الكعبة أفضل من المسجد» أن يؤيِّد ذلك.
وقد يُشكَل علينا بأن الأمر إذا كان كذلك فإن الرواية ستكون أجنبية عن التعزير. فهي واردة في باب الحدود؛ لأنّ القتل بالنسبة إلى تنجيس الكعبة المشرَّفة إنما هو من الحدود قطعاً، ولا يدخل في دائرة التعزيرات. وعليه فإن قرينة السياق تقتضي أن تكون العقوبة الواردة بشأن تنجيس المسجد الحرام من الحدود أيضاً، دون التعزيرات.
وجوابنا عن ذلك: إن قرينة السياق لا حجّية لها. هذا أوّلاً.
وثانياً: إن الحدّ يجب أن يكون معلوم المقدار، في حين أنّ قوله: «يُضرب ضرباً شديداً» لم يبيِّن مقدار الضرب؛ [لأنّ الشدة بيان للكيفية، دون الكمية].
وهناك مجموعة أخرى من الروايات. ورغم اشتمالها على مشاكل في أسانيدها، فإنّه؛ بلحاظ تواترها الإجمالي، يمكن التمسُّك بمضمونها لإثبات مشروعية التعزير في الصغائر، من قبيل:
ـ رواية أبي مريم، عن الإمام الباقر× قال: «قضى أمير المؤمنين× في الهجاء التعزير»([8]).
ـ وفي رواية الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام الصادق×، قال: «إنّ رجلاً لقي رجلاً على عهد أمير المؤمنين× فقال: إنّ هذا افترى عليَّ. قال: وما قال لك؟ قال: إنه احتلم بأمّ الآخر. قال: إنّ في العدل إنْ شئت جلدت ظلَّه؛ فإنّ الحُلم إنّما هو مثل الظلّ، ولكنّا سنوجعه ضرباً وجيعاً؛ حتّى لا يؤذي المسلمين، فضربه ضرباً وجيعاً»([9]).
وقد ورد التعزير في باب الصغائر، من قبيل: موافقة المرأة زوجها على الجماع في شهر رمضان([10])، والجماع حالة الحيض([11])، وشهادة الزور([12])، وفي غير ذلك من الموارد الأخرى أيضاً([13]).
وربما قيل باقتصار عقوبة التعزير على هذه الموارد المنصوص عليها في هذه الروايات فقط، فلا يمكن أن نستفيد من هذه الروايات تعميم التعزير لكلّ صغيرة أخرى.
ويمكن القول: إن لسان هذه الروايات بحيث لا يُستظهر منها موضوعية نوع الذنب، بل الذي يفهم منها عُرْفاً هو أنّه حيث وقع حرام أو تمّ ترك واجب وجب تعزير المرتكب. وعلى حدّ تعبير الأصوليين فإنّ العرف يُلغي الخصوصية في مثل هذه الموارد، ويقول: إن نفس ارتكاب العمل المحرَّم ومخالفة الشرع يوجب استحقاق التعزير، دون أن تكون هناك خصوصية لنوع الذنب المرتكب.
ومع ذلك فإن استفادة التعميم من هذه الروايات يواجه إشكالاً آخر، وهو: إنّ أقصى ما يُستفاد من مجموع الروايات هو أن التعزير قد تمّ تشريعه في الجملة في موارد من الذنوب الصغيرة، دون أن يُفهم من ذلك انحصار العقوبة في مورد الصغائر بالتعزير فقط. والشاهد على ذلك هو أنه يتمّ ـ في عقوبة بعض الصغائر والمنكَرات([14]) ـ إعمال مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([15])، دون التعزير.
ب ـ قاعدة: «التعزير على كلّ معصية»، و«كلّ منكَر يُعزَّر مرتكبه»
لقد حاول البعض أن يشرّع جواز التعزير في الصغائر من خلال الاستناد إلى قاعدة فقهية تقول: «كلّ منكَر يعزَّر مرتكبه»([16]).
أدلة القاعدة
وسوف نستعرض أدلة قاعدة «التعزير على كلّ معصية» ضمن ثلاثة عناوين، وهي: الروايات الخاصة؛ والروايات العامّة؛ والدليل العقلي القائم على وجوب حفظ النظام.
1ـ الروايات الخاصة
ليس هناك بين أيدينا رواية مستقلّة في مضمون هذه القاعدة، بل هي قاعدة استظهارية من الروايات الواردة في التعزير على بعض المعاصي([17]). وفي ما يتعلق بالتمسك بهذه الروايات كانت هناك موارد أشرنا إليها في الفقرة (أـ الروايات)، وقد انتهينا هناك إلى نتيجة مفادها أننا لا نستطيع أن نستفيد التعميم من هذه الروايات. ولذلك فإنّ هذه الروايات لا يمكن لها أن تشكِّل مستنداً مقبولاً لتأسيس هذه القاعدة.
2ـ الروايات العامة
وهناك مضمون آخر يستفاد من عدّة روايات. فعلينا أن نرى ما إذا كان يمكن لهذا المضمون أن يشكِّل مستنداً لقاعدة «التعزير على كلّ معصية». فقد ورد في هذه الروايات تعابير من قبيل: «إنّ الله تعالى جعل لكلّ شيء حدّاً، ومَنْ تعدّى ذلك الحدّ كان له حدّ»([18]).
إشكال: هناك تشكيك في دلالة هذه الروايات. ومن ذلك أن كلمة (الشيء) مطلقة، فهي تشمل كلّ شيء، ولا تختصّ بالذنوب. وعليه طبقاً لهذه الروايات كلما تجاوز شخص حدود شيء وجب إقامة الحدّ عليه، في حين لا يمكن الالتزام بذلك. وبالإضافة إلى ذلك لم يتّضح ما هو المراد من الحدّ؟ فهل المراد هو «المقدار الذي يرسم حدود الشيء ويبيِّن بدايته ونهايته»، أم أن المراد من الحدّ هو «الرعاية المتعارفة للشيء»، من قبيل: أن يقال: «إنّ للمحبّة حدّاً أيضاً»؟([19]).
وقد تمّ الادّعاء بأن هذا الإجمال الدلالي يُسقِط صلاحية الاستناد إلى المضمون المتقدِّم.
والجواب: لا وجه لهذه التشكيكات؛ وذلك لاشتمال هذه الروايات الواردة في هذا المضمون على ما يحدّد أن المراد من الشيء هو الذنب، والمراد من الحدّ هو العقوبة الشرعية. ومن هذه الناحية يكون «كلّ شيء» عام يشمل جميع الذنوب، ومن ذلك ندرك أن المراد من «الحدّ» ما يشمل التعزير، وحتى التأديب أيضاً.
ورغم أن التشكيكات المتقدّمة لا تبدو صائبة، بَيْد أنّه من حيث إن لفظ «الحدّ» يُطلق على التأديب أيضاً لا يمكن لنا أن نحرز أنّ كلّ ذنب لا تكون عقوبته حدّاً يجب أن يكون تعزيراً؛ لاحتمال أن تكون عقوبته هي التأديب، دون التعزير، أو غير ذلك من مراتب النهي عن المنكر.
الإشكال الآخر: إن الاستدلال بهذه الروايات إنما يكون صحيحاً إذا كان حدّ كل فعل محرَّم منحصر بالحدّ والتعزير، في حين أن الحدّ في الجناية بالنسبة إلى البدن والنفس هو القصاص أو الدية، والحدّ في اغتصاب المال هو الإعادة أو التعويض، والحدّ في ارتكاب الكبيرة التي لم يرِدْ فيها الحدّ أو التعزير هو الحكم بالفسق وعدم قبول الشهادة([20]).
والجواب: إنّ هذا الإشكال غير وارد؛ لأن الموارد المذكورة قد حدَّد الشارع العقوبة فيها بشكل جزئي أو كلي، بحيث إنها إمّا أن تندرج تحت هذا المضمون أو أنها تخصِّصه. وإنّما يستدلّ بهذا المضمون في المورد المشكوك، بمعنى أنْ لا يكون بين أيدينا نصٌّ يبيِّن نوع عقوبته، ولذلك يمكن لنا التمسُّك بعمومية هذا المضمون لإثبات التعزير.
ومن هنا فإن الطريق المناسِب للمناقشة في صحّة الاستدلال بهذه الروايات هو الاستناد إلى عموم كلمة «الحدّ» بالنسبة إلى الحدّ والتعزير والتأديب، طبقاً للإيضاح المتقدِّم.
3ـ دليل حفظ النظام
لقد أبدى الإسلام أهمّية كبيرة للمحافظة المادية والمعنوية وتطبيق الأحكام في مجاريها. وعلى هذا الأساس فإن مقتضى حفظ النظام وصيانة قوانين الشريعة يستدعي معاقبة كلّ مَنْ يخالف نظام الشريعة([21]).
نقد: إن الإشكال الذي يرِدُ على هذه المقاربة هو أن صيانة الشرع وقوانينه، أو ضمان أهدافه، لا تستلزم تشريع التعزير في جميع مفردات الذنوب، كبيرها وصغيرها. كما أن العقل لا يرى ملازمة بين حفظ النظام وضرورة التعزير على الذنوب الصغيرة([22]). بل يكفي في ذلك إقرار بعض العقوبات الحدّية والتعزيرية في عدد ملحوظ من المنهيات الشرعية. وبطبيعة الحال فإن هذا ما قامت به الشريعة في قوانينها، وخاصّة أن الكثير من المصاديق تندرج تحت عناوين عامّة، من قبيل: الإيذاء، والظلم، وما إلى ذلك من الأمور التي وُضعت الحدود والتعزيرات بإزائها.
يُضاف إلى ذلك إمكانية صيانة النظام في مورد الذنوب الصغيرة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([23]) أيضاً، بمعنى أن نكتفي في الموارد التي تنصّ على تحديد المقدار بذلك المقدار المحدَّد. وأما في سائر الموارد الأخرى فيصار إلى «المقرَّر العام» في التعاطي مع الأخطاء، والذي يتمثَّل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([24]).
ولا بُدَّ من الالتفات إلى أن عدم القبول بتعميم هذه القاعدة ينسجم مع الاحتياط في الأعراض والدماء، التي تحظى بأهمية كبيرة في الشريعة أيضاً، وخاصّة إذا لم نحصر قاعدة درء الحدود بالشبهات([25]) على الشبهات الموضوعية، وعمدنا إلى تعميمها، لتشمل الشبهات الحكمية أيضاً([26]).
ب ـ بحث حصر أو عدم حصر التعزير بالذنوب
بالالتفات إلى البحوث السابقة يبدو للوهلة الأولى أنّه لم يبقَ هناك من مبرِّر لبحث حصر التعزير بالذنوب؛ إذ وصلنا من خلال البحوث المتقدِّمة إلى نتيجة مفادها أن التعزير على مطلق الذنوب الصغيرة يفتقر إلى الدليل. وعلى هذا الأساس إذا لم نتمكَّن من إثبات التعزير في مطلق الذنوب الصغيرة، مع فقدان الدليل على تسرية الحكم من الروايات المنصوصة إلى سائر الذنوب الصغيرة، لن يكون هناك دليلٌ على تسرية الحكم إلى غير الذنوب؛ بالأولوية. وعليه فإن نتيجة تلك الأدلة وتلك البحوث هي أن هذه الروايات ـ التي هي عمدة أدلّتنا في بحث التعزير ـ لا تقتصر على الموارد المنصوصة، وهي بطبيعة الحال موارد تندرج في دائرة الذنوب، ولذلك لن يكون هناك لطرح هذا البحث موضع من الإعراب.
بَيْد أن هذا الإشكال إنما يصحّ إذا كانت الأدلة محصورة بأدلة التعزير في الذنوب المنصوصة. ولكنْ ـ كما سيتّضح ـ هناك أدلّة يبدو من ظاهرها أنها تحكم بالتعزير على موارد من خارج دائرة الذنوب. فعلينا أن نرى هل يمكن تعميم حكم هذه الأدلّة من موارد غير الذنوب المنصوصة إلى سائر الموارد غير المنصوصة، والتي لا تعدّ ذنباً، ولكنْ ينبغي أن تشرك في هذا الحكم بلحاظ بعض الجهات؟ وعليه يجب علينا أن نستعرض كلاًّ من أدلة حصر وأدلة عدم حصر التعزير بالذنوب، على السواء.
1ـ أدلّة حصر التعزير بالذنوب
في ما يتعلق بحصر التعزير بالذنوب يجب الوقوف على بعض الروايات. ومنها:
ـ معتبرة سماعة، عن الإمام الصادق×، أنه قال: «إنّ لكلّ شيءٍ حدّاً، ومَنْ تعدّى ذلك الحدّ كان له حدّ»([27]). وقد ورد هذا التعبير وما يشبهه في روايات أخرى أيضاً، الأمر الذي يجعلنا نقطع بصدور مضمونه.
إنّ المراد من الحدّ في هذه الروايات هو حدود قوانين الشريعة، التي تمّ تحديدها وتعيينها في كلّ مورد من الموارد، وذكرت الروايات بعض مصاديقها. وقد سبق أن بحثنا هذه الطائفة من الروايات.
ويفهم من هذه الروايات مجرَّد مشروعية التعزير بالنسبة إلى ترك التكاليف الشرعية الملزمة، وهي القوانين التي تمَّ بيانها في الشريعة بشكلٍ محدَّد، ويعدّ التخلف عنها ذنباً.
وعليه ليس هناك دليلٌ على تسرية التعزير إلى سائر الأمور الأخرى.
اللهمّ إلا إذا قلنا بأن للفقيه ولاية على التشريع أيضاً، ليتمّ الحكم على القوانين الصادرة من ناحية الحكومة بوصفها حكماً شرعياً؛ أو نعتقد بأن الواجبات الحكومية ـ بعد الإذعان بأنها أحكام حكومية، وليست أحكاماً شرعية أولية ـ يتم التعامل معها كما لو كانت واجبة شرعاً، بحيث يعدّ عدم الالتزام بها ذنباً.
وأما سائر الأدلة التي يمكن إقامتها فهي ذات الروايات، والدليل العقلي الذي تقدّم في البحث السابق، فلا داعي للتكرار.
وعليه فإن الحكم بالتعزير في غير الذنوب يفتقر إلى الدليل. فالتعزير منحصر بالموارد المنصوصة فقط، وهي بأجمعها من الذنوب الشرعية([28]).
2ـ أدلّة جواز التعزير على غير الذنوب
في هذه الفقرة نشير إلى دليلين. ففي المرحلة الأولى سوف ننظر في الروايات؛ وبعد ذلك سوف نبحث في دليل حفظ النظام، ومقدار دلالته.
أـ الروايات
في مقابل الرأي المتقدِّم هناك طائفة من الروايات التي قد يدَّعى أنّها تحكي عن جواز التعزير على غير الذنوب أيضاً. من ذلك ما رُوي عن الإمام أبي عبد الله× أنه قال: «إن أمير المؤمنين× رأى قاصّاً في المسجد فضربه بالدّرة، وطرده»([29]).
ولكنْ يمكن المناقشة في دلالة هذه الرواية على التعزير؛ لاحتمال أن يكون الضرب من باب المقدّمة، تمهيداً لإخراج القاصّ من المسجد، وليس من باب أنه عقوبة على رواية القصص في المسجد.
مضافاً إلى أنه بالالتفات إلى مكانة المسجد وقداسته، التي تستوجب رعاية حرمته، وأنّه محلّ للعبادة، نحتمل بقوّة أنّ ما قام به أمير المؤمنين إنّما هو عملية تأديب، دون التعزير.
وعلى فرض ردّ هذه الاحتمالات يُصار في الحدّ الأدنى إلى إجمال هذه الرواية، وعدم صلاحيتها لتكون موضع استناد في محلّ البحث.
وجاء في رواية أخرى أنّ الإمام علي× كان يتوضّأ، فدفعه شخصٌ، وأسقطه أرضاً، فقام الإمام، وضربه بالسوط ثلاثاً، وقال له: «إيّاك أن تدفع، فتكسر، فتغرم»([30]).
ويمكن بيان الاستدلال بهذه الرواية على النحو التالي: رغم أنّ دفع شخص وإسقاطه على الأرض دون تعمُّد إلى ذلك لا يُعدّ ذنباً، بَيْد أنّ الإمام عليّاً× قد عزَّر الخاطئ؛ بسبب عدم رعايته لحقوق الآخرين.
ونحن هنا نعيد ذات المناقشة المتقدِّمة: تمّ تشريع الجلد في بعض الموارد من باب التأديب، دون التعزير.
ويضاف إلى ذلك أن هذه الرواية إنما تحكي عن فعل الإمام، والفعل ليس صريحاً في التعبير عن الوجه الشرعي.
هذا ويحتمل أن ذلك الشخص إنما قام بعملية الدفع عامداً، فيدخل فعله في دائرة الذنوب الصغيرة؛ لاشتماله على إيذاء المؤمن.
ولذلك حتّى إذا لم نقل بأنّ الجَلْد كان من باب التأديب، بل هو من باب التعزير، ولكنْ حيث نطبِّق عليه عنوان الإيذاء يجب القول: إن هذه الرواية إما هي أجنبية عن التعزير في غير الذنوب، أو هي في الحدَّ الأدنى مجملةٌ، فلا يمكن الاستناد إليها بوصفها دليلاً.
ولكنْ يمكن مناقشة هذا الاحتمال بأن يقال: إن ذيل هذه الرواية يشتمل على ظهور عرفي في التعليل. فإنّ الإمام من خلال قوله: «إيّاك أن تدفع، فتكسر، فتغرم» يروم أن يبيِّن للخاطئ سبب ضربه إيّاه. وعليه إذا كان الضرب بسبب الإيذاء كان على الإمام أن يقول مثلاً: «إيّاك أن تدفع وتؤذي الناس»، لا أن يذكر سبباً آخر.
كما يمكن النقاش في الاستناد إلى هذه الرواية من ناحية أخرى أيضاً، وذلك بأن يقال: يحتمل أن تكون الأحكام المذكورة إنّما صدرت عن حيثية مقام الولاية الثابة للمعصوم×، وليس من حيثية مقام إبلاغ الأحكام والرسالة. وبعبارة أخرى: إن هذه الأحكام هي أحكام ولائية، وليست أحكاماً أوّلية فرعية شرعية.
ومهما كان فإن وجود احتمال أن يكون ما قام به الإمام عملية تأديبية يكفي في إثبات عدم جواز الاستناد إلى هذه الرواية لإثبات عموميّة متعلَّق التعزير.
ب ـ دليل حفظ النظام
وفي معرض البحث في أدلة جواز التعزير على الذنوب الصغيرة أشرنا إلى دليل حفظ النظام. وهنا نرى استعراض هذا الدليل مجدَّداً. والسبب في إعادة هذا الدليل هنا هو الاختلاف بين طريقة الاستناد إليه على إثبات المطلوب في ما نحن فيه وطريقة الاستناد إليه في البحث السابق. وهذه النقطة كانت تستوجب إيراد هذا الإشكال على دليل حفظ النظام، وهو أن حفظ النظام لا يقتضي وجوب التعزير على كلّ فعل يدخل في دائرة الذنب، بل بالالتفات إلى تشريع الطريقة العامّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب القيام بمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مورد الذنوب التي لم يرِدْ فيها نصٌّ بالحدّ أو التعزير. وحيث إن الفتوى بالتعزير فيها تستلزم الولاية على التشريع، وهو غير ثابتٍ حتّى للمعصوم، لذلك لا يوجد أيُّ دليلٍ على إقامة التعزير في الذنوب غير المنصوص عليها. في حين أنّ محور البحث الراهن هو الأفعال التي هي في حَدِّ ذاتها، وبلحاظ الحكم الأوّلي، مباحة، ولا توجد عقوبة شرعية على فعلها، غير أنّ مصلحة النظام تقتضي بأنْ تفرض الحكومة بعض القيود عليها.
وعليه لا يرِدُ إشكال «الولاية على التشريع» على هذا البحث؛ وذلك لأنّ التقنين في دائرة الضرورات والمصالح الاجتماعية من مصاديق حفظ النظام، وهو موضع تأييد من قبل الشارع. وليس مرادنا من ذلك أنّ الشارع قد منحها الشرعية؛ لأن حفظ النظام دليل عقلي، ولا يحتاج في إثبات مشروعيته إلى تأييد أو إمضاء من الشريعة، بل تكفي بداهته وعقلانيته على إثبات مشروعيّته. وبطبيعة الحال فإن هذا الدليل إنّما يثبت مشروعية العقوبة بالعنوان الثانوي تجاه تلك المجموعة من الأفعال التي لا تعتبر ذنباً في حدّ ذاتها، ولكنّها تدخل في دائرة المخالفات بلحاظ الدور الذي تلعبه في انتظام الأمور. وبالتالي لا يمكن إثبات أنّ العقوبة عليها تدخل في باب التعزير؛ لأن هذا النوع من العقوبات التي يتمّ وضعها بالعنوان الثانوي تنسجم مع العقوبات الرادعة، أو مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً.
الاستنتاج
بالالتفات إلى ما تقدم، ومن خلال المقدّمتين التاليتين:
1ـ إنّ الكثير من المخالفات القانونية لا تدخل في دائرة الحرام بلحاظ عناوينها الأوّلية، كي تعدّ من الذنوب.
2ـ إن غاية ما تثبته مضامين الأدلّة الواردة في الشريعة بشأن التعزير هو التعزير في الأفعال التي تعتبر من الذنوب بلحاظ عناوينها الأوّلية.
ينتج من ذلك أنّ المخالفات المذكورة لا تشتمل على خصائص الذنوب التعزيرية. وعليه لا بُدَّ من اختيار عناوين أخرى لهذا النوع من العقوبات، من قبيل: العقوبات القانونية، أو الحكومية، وما إلى ذلك، وأن نرتب عليها أحكاماً غير أحكام العقوبات التعزيرية.
الهوامش:
(*) باحثٌ في الفقه الإسلامي، وعضو الهيئة العلمية في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.
([1]) انظر: الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية: 256، تحقيق: سمير مصطفى رباب، المكتبة العصرية، بيروت، 1424؛ الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7: 94، دار الفكر، بيروت، 1417؛ الأنصاري، شرح روض الطالب من أسنى المطالب 4: 161، المكتبة الإسلامية؛ المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 4: 136، تعليق: محمد علي البقّال، إسماعيليان، قم، 1408؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 14: 326، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، 1413؛ الخميني، تحرير الوسيلة 2: 477، دار العلم، قم، 1409؛ النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 41: 254، تحقيق وتصحيح: عباس القوجاني، دار إحياء التراث العربي؛ المرعشي النجفي، القصاص على ضوء القرآن والسنة (تقرير: السيد عادل العلوي) 1: 312، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1415.
([2]) من الجدير بالذكر أن هناك اختلافاً في الآراء بشأن تحديد معيار الكبيرة، وتمييزها من الصغيرة. وقد ذكر العلامة الطباطبائي عدّة أقوال في تعريف الكبيرة، وكيفية تحديدها. وفي نهاية المطاف توصّل إلى نتيجة مفادها أن الكبيرة تعرف من خلال تشديد النهي عنها في الشريعة، أو الوعيد عليها بالنار، وما إلى ذلك. ثم قام بنقل بعض الروايات التي تدلّ على هذا المعيار من الكافي ومَنْ لا يحضره الفقيه وتفسير العياشي عن المعصومين^، فقد اشتملت هذه الروايات على مصاديق للذنوب الكبيرة. إن هذه المصاديق قد استندت أوّلاً إلى الآيات القرآنية، وثانياً: هي بأجمعها من الموارد التي تمّ التصريح أو التلويح أو التلميح فيها بالغضب الإلهي والوعيد بالنار والعذاب، وكفر مرتكبها، وما إلى ذلك. ثم أضاف العلامة إلى ذلك قائلاً: «والدليل على كبر المعصية هو شدّة النهي الوارد عنها، أو الإيعاد عليها بالنار، أو ما يقرب من ذلك، سواء كان ذلك في كتاب أو سنّة، من غير دليل على الحصر». انظر: تفسير الميزان 4: 282، تفسير الآية 31 من سورة النساء، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 2006.
([3]) الخميني، تحرير الوسيلة 2: 477.
([4]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 41: 448.
([5]) الخوئي، مباني تكملة المنهاج، (بحث الحدود)، موسوعة الإمام الخوئي 41: 407، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، 1426.
([6]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة ج28، ح34987، مؤسسة آل البيت^، قم، 1409.
([8]) المصدر السابق، ح34570. وقد نقل هذا المضمون في رواية إسحاق بن عمار أيضاً. انظر: المصدر السابق، ح34571.
([10]) الكليني، الكافي 7: 242، ح12، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407.
([13]) انظر: محمد باقر المجلسي، الحدود والقصاص والديات: 60، تحقيق وتصحيح: علي فاضل، مؤسسة نشر الآثار الإسلامية، قم.
([14]) من قبيل: الكذب، والغيبة، والنظر إلى المحرَّمات، والتجاهر بالفسق، والغصب، والنشوز، والتأخُّر في سداد الدين، وما إلى ذلك.
([15]) مرادنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا هو معناه الخاصّ، الذي يقع قسيماً للعقوبات الشرعية.
([16]) نلاحظ هذه القاعدة بألفاظ مختلفة في أقوال الفقهاء وكتب القواعد الفقهية. انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 8: 69، تصحيح وتعليق: محمد باقر البهبودي ومحمد تقي كشفي، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، طهران، 1387؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 3: 535، دفتر انتشارات إسلامي، قم، 1410؛ المحقق الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 4: 155؛ ابن زهرة الحلبي، غنية النـزوع إلى علمي الأصول والفروع: 435، مؤسسة الإمام الصادق×، قم، 1417؛ العلامة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية 5: 410، تحقيق: الشيخ إبراهيم بهادري، مؤسسة الإمام الصادق، قم، 1420؛ السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل 16: 63، تحقيق وتصحيح: علي مرواريد وآخرين، مؤسسة آل البيت^، قم، 1418.
وقد عنون صاحب وسائل الشيعة الباب الخاصّ بالتعزير كالتالي: (باب أنّ كل مَنْ خالف الشرع فعليه حدٌّ أو تعزير). انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 28: 14، الباب الثاني من أبواب مقدّمات الحدود.
وقد ورد ذكر هذه القاعدة في كتاب القواعد الفقهية (العناوين)، و(تسهيل المسالك)، على الشكل التالي: (كلُّ ما لم يرِدْ فيه حدٌّ من الشرع من المعاصي ففيه التعزير)، و(كل مَنْ خالف الشرع فعليه حدٌّ أو تعزير). انظر: المراغي، العناوين الفقهية 2: 627، دفتر انتشارات إسلامي، قم، 1418؛ الكاشاني، الملا حبيب، تسهيل المسالك إلى المدارك في رؤوس القواعد الفقهية: 16، المطبعة العلمية، قم، 1404.
([17]) الكلبايكاني، الدرّ المنضود في أحكام الحدود 2: 151 ـ 152، تقرير: علي كريمي جهرمي، دار القرآن الكريم، قم، 1412.
([18]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج28، البابان 2 و3 من أبواب مقدّمات الحدود.
([19]) الخوانساري، جامع المدارك في شرح مختصر النافع 7: 98، 121، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1405؛ الكلبايكاني، الدرّ المنضود في أحكام الحدود 2: 156.
([20]) انظر: لطف الله الصافي، التعزير (أنواعه وملحقاته): 135، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1404.
([21]) انظر: الخوئي، مباني تكلمة المنهاج، (بحث الحدود)، موسوعة الإمام الخوئي 41: 408؛ حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 2: 309، قم، نشر تفكُّر، قم، 1415؛ لطف الله الصافي، التعزير (أنواعه وملحقاته): 138.
([22]) الخوانساري، جامع المدارك في شرح مختصر النافع 7: 98.
([23]) سبق أن ذكرنا أن المراد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الموارد هو المعنى الأخصّ الذي يقع قسيماً للعقوبات الشرعية.
([24]) الكلبايكاني، الدرّ المنضود في أحكام الحدود 2: 154 ـ 155.
([25]) انظر: الشيخ الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 74، باب نوادر الحدود، ح5146، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين، ط2، قم، 1404؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج28، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود، ح4.
([26]) هناك من كبار العلماء من شكَّك في اختصاص (قاعدة الدرء) بالشبهات الموضوعية. انظر: الخوانساري، جامع المدارك في شرح مختصر النافع 7: 3. وقد عمد بعضٌ آخر إلى تطبيق هذه القاعدة في موردة سرقة البضاعة إذا لم تكن لها ماليّة كبيرة. وإن موضوع هذا التطبيق هو الشبهة الحكمية القائلة: هل سرقة الشيء الفاقد للمالية توجب الحدّ أو التعزير أم لا تستوجب شيئاً من ذلك؟ انظر: المرعشي النجفي، السرقة على ضوء الكتاب والسنة (تقرير: السيد عادل العلوي): 204، قم، 1415.
([27]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج28، الباب 3 من أبواب مقدّمات الحدود، ح2.
([28]) من الجدير بالذكر أن التعزير في هذا البحث يتمّ التطرق إليه بوصفه واحداً من الأحكام الأولية في الإسلام. ونروم هنا أن نرى ما إذا كان موضوع هذا الحكم الأولي هو الأفعال التي تعتبر من الذنوب بالعنوان الأولي (الذنوب المنصوص عليها في الروايات) أم أنه يشمل غيرها أيضاً. وبعبارة أخرى: إن محور وموضوع بحثنا هو الأفعال بعنوانها الأولي. وعليه فإننا في هذا البحث لا نتطرَّق إلى دراسة حكم الموضوعات على فرض عروض العناوين الثانوية، من قبيل: المصلحة، وما إلى ذلك. ومن هنا لا يرِدُ الإشكال القائل بأن الحكم الحكومي من الأحكام الأوّلية، وهو مقدَّم على الأحكام الأولية لسائر الموضوعات، وبعد تطبيق الحكم الحكومي يعتبر الفعل ـ الذي لا يكون ذنباً في نفسه ـ ذنباً، ويكون التعزير عليه موافقاً للقاعدة؛ إذ يتبيّن من خلال ما ذكر أن هذه الرؤية وهذا الإشكال هو خروج عن محلّ بحثنا. وإن الإشارة إلى عدم كون المعصوم× مشرِّعاً ناظرة إلى هذه الزاوية من البحث، بمعنى أن المعصوم× ليست لديه صلاحية إصدار الحكم الأوّلي في العناوين الأوّلية للموضوعات، وإلاّ فليس هناك من شكٍّ في أن للمعصوم× أن يصدر الحكم بلحاظ الأحكام الحكومية.